:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، مايو 03، 2025

أسفار الرومي/1


"نحن منسوجون من العدم، نجوم منثورة كالغبار".

في حوالي عام ١٢١٢، سافر الصبيّ جلال الدين الرومي مع عائلته من بلخ إلى سمرقند. ووصلوا إلى المدينة في قافلة والده الشيخ بهاء الدين "أو سلطان العلماء كما كان اتباعه يلقّبونه" عبر سلسلة جبال زرافشان، ومنها الى منطقة يحكمها القراخانيون، إحدى السلالات التركية المتنافسة على حكم المنطقة.
في قصائد الرومي اللاحقة، غالبا ما يظهر هؤلاء المحاربون الأتراك متجمّدين في الزمن بشكل رومانسي؛ بدواً في السهوب يمتطون خيولا برّية، كما في إحدى قصائده الرمضانية: داخل هذا الشهر قمر مخفيّ كالتركي داخل خيمة الصيام".
ومع ذلك، وبحلول الوقت الذي وصل فيه مع والده وعائلته إلى سمرقند، كان حكّامها الأتراك الجدد، مثل العديد من العشائر المتجوّلة، قد تخلّوا منذ زمن طويل عن ممارساتهم الشامانية القديمة من أجل حياة أكثر حضرية وعالمية، مع تبنّيهم للإسلام السنّي.
كانت سمرقند تقع أيضا على مفترق طرق شعريّ، فقد أُلّفت فيها القصائد المبتكرة وغُنّيت لأوّل مرّة قبل قرنين من الزمان باللغة الفارسية التي تتحدّثها عائلة جلال الدين، بدلاً من الشكل الكلاسيكي الأقدم.
كان شارستان، الحيّ القديم المهيب، الذي يطلّ على أعلى أرض فوق أسوار المدينة المبنية من الطين في عصور ما قبل الإسلام هو أوّل ما تراه أيّ قافلة تعبر نهر زرافشان وتشقّ طريقها عبر بساتين الخوخ المحيطة وأشجار السرو الباسقة المرويّة من قنوات عدّة. ومن المرجّح أن عائلة الرومي استقرّت في حيّ شعبي يقع على ضفّة النهر وتغمره المياه أحيانا في الربيع عند ذوبان الثلوج في الجبال.
بعد خمسين عاما، استحضر جلال الدين هذا الحيّ التجاري بشكل خافت في القصّة الافتتاحية لكتاب المثنوي، قصّة صائغ سمرقند، التي لا تُروى فقط كمثل روحي، ولكن أيضا مع إحساس بنسيج محيطها والشعور بالمكان الذي ينبع من كونك مقيما لا مجرّد زائر.
تدور القصّة حول جارية جميلة يعشقها ملك أكبر منها سنّا. ولأنها لم تستجب لمحاولاته التقرّب منها، أرسل الملك طبيبه الموثوق لتشخيص مرض مفاجئ ألمّ بها. وبذكاء، يقيس الطبيب الملكي نبضها ويطرح أسئلة موجّهة. كان نبضها يدقّ بشكل طبيعي، وفجأة تسارعَ، وتحوّل وجهها إلى اللون الأحمر عندما ذكر لها اسم صائغ من سمرقند. وعندما اكتشف الطبيب سرّ كلّ هذا الألم والبؤس سألها: وأين شارعه وأيّ طريق تقود إليه؟" أجابت: بجانب الجسر في شارع كذا".
كان رواة القصص وسحَرة الثعابين ولاعبو الطاولة ما يزالون يتجوّلون في مساءات سمرقند على ضوء مصابيح الزيت. وكانت منتجات المدينة كثيرة ومتنوّعة. كانت الأنوال تنسج القماش الأحمر والفضّي، بالإضافة إلى الديباج والحرير الخام. وكان النحّاسون يطرقون أواني النحاس الضخمة، والحرفيون يصنعون الركائب والأحزمة والكؤوس، والفلاحون يزرعون الجوز والبندق.
وكان ورق حرير سمرقند، وهو في الأصل منتج صيني، مشهورا عالميّا. كان الورق الناعم، المصنوع يدويّا من لحاء أشجار التوت المصبوغ بألوان عديدة باستخدام الحنّاء أو ماء الورد أو الزعفران، يتمتّع بلمعان نادر وغريب. وكانت قصائد الرودكي، شاعر سمرقند، ما تزال تُغنّى في الساحة وتُقرأ بشغف من ورق سمرقند الفاخر عندما كان الرومي يكبر ويدوّن أشعاره.


ويقال إن الرودكي اخترع شكل الرباعية بناءً على أنشودة كان قد سمعها من أفواه الأطفال وهم يدحرجون الجوز في شوارع بخارى، المدينة التوأم القريبة من سمرقند والمشهورة بمكتبتها، والتي ذكرها جلال الدين الرومي في شعره أيضا: يأتي السكّر من سمرقند، لكن شفتيه وجدت الحلاوة في بخارى". لذلك ظلّت كلمات الرودكي ترنّ في ذهن جلال الدين طوال حياته، مثل أغاني الطفولة.
بعد وصول جلال الدين وعائلته بفترة وجيزة، حوالي عام ١٢١٢، واجهوا أوّل حصار مرعب شنّه شاه خوارزم الذي شعر بأنه مستعدّ وقويّ بما يكفي لضمّ هذه العاصمة الأكثر جاذبية في آسيا الوسطى الى ملكه. وقد تذرّع الشاه بسوء معاملة ابنته؛ إحدى زوجات الحاكم القراخان، وحشدَ جنوده عند أسوار المدينة وبدأ حصارا قاسيا استمرّ ثلاثة أيّام.
كانت هذه أقدم ذكريات الرومي المدوّنة، وقد استعاد الأحداث بعد سنوات في حديث مع طلّابه، متأمّلا تلك المحنة ومفسّرا المشهد بأثر رجعي: كنّا في سمرقند، وكان شاه خوارزم قد حاصر المدينة بجنوده في صفوف. في ذلك الحيّ، كانت هناك سيّدة فائقة الجمال، لا مثيل لها في المدينة كلّها. ظللتُ أسمعها وهي تقول: يا إلهي! كيف تركتني أقع في أيدي هؤلاء الطغاة؟ أعلم أنك لن تسمح بمثل هذا أبدا، أثق بك".
ونهب جند الشاه المدينة وأسروا الجميع، بمن فيهم جواري تلك السيّدة، لكن لم يصبها شيء. ورغم جمالها الفاتن، لم ينظر إليها أحد. لذا، يقول جلال الدين "يجب أن تعلم أن من يتوكّل على الله سينجو من كلّ مكروه".
كان الانطباع الذي تركَته سمرقند في شعر جلال الدين الرومي دافئا وحنونا: إجمع شظايا عقلك بالحبّ حتى تصبح حلوا كسمرقند ودمشق". وكثيرا ما كان يتحدّث عن وطنه بأكمله باسم "خوارزم"، بما في ذلك سمرقند التي أصبحت الآن جزءا من خوارزم. كما علّق أكثر من مرّة على جمال أهلها: هناك الكثير من الجمال في خوارزم الذي بمجرّد أن تراه ستُفتن به".
كان الشابّ جلال الدين يسمع قصص الأنبياء من القرآن والتي ستشكّل المادّة الخام لصلواته وأحاديثه، وبالتأكيد شعره. وكان من بين أصحاب القصص المفضّلين لديه إبراهيم الذي نجا من فرن نمرود الناريّ دون أن يحترق، ونوح الذي مات ابنه المضطرب في الطوفان، ويوسف الذي قطعت بعض نساء مصر الجميلات أيديهنّ بسكاكين العشاء وهنّ يحدّقن في جماله بذهول.
كما أُعجب بقصّة موسى الذي تحوّلت عصاه إلى ثعبان ابتلعَ عصيّ السحرة، ومريم التي وضعت رضيعها تحت شجرة نخيل أسقطت عليها رطبها الناضج، والطفل يسوع الموهوب بالكلام في مهده والقادر على إعطاء الحياة للطيور بأنفاسه، وسليمان بخاتمه السحري. وفيما بعد، تخيّل جلال الدين القرآن الكريم كقماش ديباج فاخر.
في حوالي عام 1216، عندما كان جلال الدين الرومي في التاسعة أو العاشرة من عمره، انطلقت قافلة الجمال التابعة لوالده مرّة أخرى، هذه المرّة باتجاه مكّة. وكان عليهم اجتياز العديد من المدن والأنهار والصحاري، قبل أن يبلغوا مسقط رأس النبيّ محمّد عليه السلام ومدينة الإسلام المقدّسة.

الخميس، مايو 01، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • حكى أحد الحكماء قصّة ذات مغزى فقال: على صخرة في أعالي الجبال، يعيش سربان مختلفان من الطيور، أحدهما أبيض والآخر أسود. لكلّ سرب موقع خاصّ يقيم فيه أعشاشه. فلا يطير طائر أسود إلى موقع يعشّش فيه طائر أبيض، والعكس صحيح. أي أن الشبيه لا يجذب سوى شبيهه.
    الطيور كأفكار البشر. يمكننا أن نعتبر الطيور البيضاء أفكارنا الطيّبة المفعمة بالحبّ والتسامح، والطيور السوداء أفكارنا الشرّيرة المشبعة بالانتقام والكراهية. ومن المهم جدّا كيف نتعامل معها. ففي نفوسنا وقلوبنا أيضا أعشاش ومنافذ تستقرّ فيها الأفكار الطيّبة أو الشرّيرة. وبطريقة تفكيرنا، نجعل هذه المنافذ بؤرا مريحة للأفكار الإيجابية أو السلبية، تماما مثل أعشاش الطيور.
    وكلّما راودتنا فكرة شرّيرة فإنها تنطلق باحثة عن مسكن مناسب في روح أحدهم أو قلبه. فإذا لاقت الفكرة شخصا مستعدّا لاستيعابها، فإنها تتوقّف عنده وتستقرّ في المكان المجهّز جيّدا وتكتسب طاقة. أما إذا لم تجد الفكرة مكانا في روح أحدهم لعدم وجود مسكن شاغر لها، فإنها تعود إلى مرسلها فتفقد بذلك جزءا من طاقتها الشرّيرة. وكلّما أطلقنا فكرة جيّدة فإنها تبحث عن مكان مناسب لها كالطيور التي لا تسكن إلا في مكان مهيّأ لها.
    في أذهاننا تتجلّى صورة رائعة عندما نتخيّل كثرة الأفكار الجيّدة كطيور تحلّق وتجد لها مكانا في نفوس الناس وقلوبهم. الأفكار الرائعة تجلب تفاؤلا وسلاما وطاقة إيجابية، فتتغلّب المحبّة على الكراهية والخير على الشر.
  • ❉ ❉ ❉

  • داس ابن قرويّ على ذيل ثعبان بالصدفة، فانقلب عليه وعضّه فمات. وثار أبوه غضبا، فأخذ فأسه وطارد الثعبان وقطع جزءا من ذيله. فانتقم الثعبان ولسع عددا من ماشية القروي، مسبّبا له خسائر فادحة.
    فكّر المزارع في الأمر ورأى أن من الأفضل أن يتصالح مع الثعبان، فأحضر طعاما ووضعه عند جحره وقال له: لننسَ ونسامح، فربّما كان معك حقّ في معاقبة ابني والانتقام من ماشيتي. لكنني كنت محقّا في محاولة الانتقام منك. والآن وقد رضينا، فلماذا لا نعود أصدقاء؟". فردّ الثعبان: خذ هداياك، لن تتمكّن أبدا من نسيان موت ابنك، ولن أنسى أنا فقداني لذيلي!".
  • ❉ ❉ ❉

  • تحوّلات صغيرة، لكنها مهمّة للنموّ الشخصي:
    عندما ينتقدك شخص، تريّث قليلا قبل أن تبدأ الدفاع عن نفسك.
    امشِ بلا هدف أحيانا ولاحظ كيف تنمو الأشياء بلا جهد.
    ليس كلّ شيء يحتاج لرأيك. الصمت قد يكون بحدّ ذاته حكمة أحيانا.
  • ❉ ❉ ❉

  • توفّر هذه اللوحة الجماعية الكبيرة من العصر الذهبيّ الهولندي فرصة استثنائية للاستمتاع بنوع من الرسم الذي نادرا ما يُرى خارج هولندا. وفيها يخلّد الرسّام بارثولوميوس ڤان دير هيلست الرجال الذين أداروا مبنى كان بمثابة مكان لتجمّع المسؤولين الحكوميين في أمستردام وقادة ما نسمّيه الآن مؤسّسات المجتمع المدني.
    ڤان دير هيلست الذي يُعتبر أحد أهمّ رسّامي البورتريه في منتصف القرن السابع عشر رسم هنا مجموعة من أربعة مسئولين يجلسون الى طاولة مغطّاة بسجّادة شرقية، وهم يشربون ويومئون بأيديهم بحيوية ويعصرون الليمون الطازج على المحار. وفي الجانب الأيمن، يظهر ثلاثة خدم يحملون المزيد من الطعام والشراب، بينما تتناثر أصداف المحار على الأرض.
    ربّما كان الرجال الذين يستمتعون بالمحار في اللوحة يشعرون بسعادة لأن الحياة كانت وقتها أفضل. فقد نالت هولندا استقلالها للتوّ بتوقيع معاهدة مونستر عام 1648 مع إسبانيا، ومعها جلبت المزيد من السلام والازدهار والاستقرار. الشخص الجالس في الوسط يستدير ليواجه الناظر مباشرة وكأنه يقول: وأنت ماذا تفعل هنا؟!"
  • ❉ ❉ ❉

  • تذكر هيلينا بلاڤاتسكي ملاحظة جميلة عن "العوالم الأخرى"، فتقول إن عالم الغيبيات لا يحدّد مكان هذه الأجرام السماوية لا خارج أرضنا ولا داخلها، كما يفعل اللاهوتيون والشعراء. فموقعها ليس في أيّ مكان من الفضاء الذي يعرفه ويتخيّله اللادينيّون.
    هناك بلايين من العوالم والسموات التي نراها، ولا تزال هناك أعداد أكبر تتجاوز تلك المرئية بالمراصد. وكثير منها لا ينتمي إلى مجال وجودنا الموضوعي. ومع أنها غير مرئية لأنها تقع على بُعد ملايين الأميال من نظامنا الشمسي، إلا أنها معنا، بالقرب منّا، داخل عالمنا، وهي موضوعية وماديّة لسكّانها كما هو عالمنا بالنسبة لنا.
    وسكّان هذه العوالم ربّما يمرّون من خلالنا وحولنا كما لو أنهم يمرّون عبر الفضاء الفارغ، حيث تتداخل مساكنهم وبلدانهم مع مساكننا وبلداننا، على الرغم من أنها لا تزعج رؤيتنا، لأننا لا نملك بعد القدرات اللازمة لتمييزها".
  • ❉ ❉ ❉



    ❉ ❉ ❉

  • توصف الاقتباسات بأنها جوهر الحكمة وخلاصة الفكر. وهي جُمل موجزة ومكثّفة وملهِمة وسهلة التذكّر. ومشاركتها مع الآخرين دليل على أن المقتبس يحبّ القراءة وينشر الفائدة والإيجابية وإعمال العقل. وكالعادة، ومن وقت لآخر، أضع هنا بعض الاقتباسات التي قرأتها هنا أو هناك وأثارت اهتمامي أو إعجابي، راجياً أن تُعجب القارئ.

    ◦ الموسيقى الجميلة جواهر برّاقة في تاج الإبداع البشري، ولا غنى عنها لتذكيرنا بأن كلّ شيء لم يُفقد بعد، وأننا نحن البشر نقدّم لحظات من التألّق والكمال الإلهي. والموسيقى تدحض فكرة أننا، نحن البشر العاقلين، مجرّد وحوش ذات قسوة هائلة أو مخلوقات ضعيفة مقدّر لها أن تعيش لحظاتها القصيرة تحت الشمس ثم تموت، دون أن تترك وراءها أثرا. لقد مات الكثير من البشر والتهمت الديدان أجسادهم، لكن أروع أصواتنا وأعظم أفكارنا جميعا تبقى خالدة. إن الاقتراب من الموسيقى بشكل أوثق يقوّي في النفس القناعة بأن الحياة جيّدة وتستحقّ أن تُعاش. ريتشارد غيب
    ◦ تمثال الحرّية، تلك المرأة الحاقدة، مصابة بورم هائل في أمعائها انتشر إلى دماغها وعينيها. أما بالنسبة للأمريكيين الأصليين، فهي مصابة بمرض الزهايمر أو جنون البقر، ولا تستطيع تذكّر ماضيها، وعيناها المعطوبتان لا تستطيعان رؤية المحنة المروّعة التي تعيشها معظم القبائل الأصلية. جيم هاريسون
    ◦ يجب عليك أن تتعلّم كيف تصفّي ذهنك. إذا كان عقلك مضطربا، فانظر إلى ما هو موجود حولك. تسلّق الجبل الأكثر خضرة واستلقِ على قمّته. استمع إلى همسات الماء. أنظر إلى السحب العائمة في السماء. كن كالجبال والماء والأرض. أنت طفل من نفس هذا الكون وتستحقّ مكانك فيه حتى عندما لا تشعر به. سيدهارتا
    ◦ الوحدة بالنسبة لي توق الى منطقة الراحة. وأكثر أيّام حياتي هدوءا ورضا هي تلك التي لا أتفاعل فيها مع أحد. لطالما كان التعايش مع الآخرين كارثة محرجة. لا تطلب شيئا من الآخرين، ولا تحاول إرضاءهم. من الأفضل أن تبدو ساخرا ومتغطرسا من أن تبدو متملّقا، لأن الأوّل على الأقل مخلص لآرائه الخاصّة، بينما يبدو الثاني مستسلما بشكل مثير للريبة. هو انيان
    ◦ عندما يتزايد اليأس من العالم في داخلي، وأستيقظ في الليل عند أدنى صوت، خوفا ممّا قد تكون عليه حياتي وحياة أطفالي، أذهب وأستلقي حيث يستريح تنّين الغابة "نوع من السحالي الشجرية" بجماله على الماء وحيث يتغذّى طائر البلشون الكبير. أجد نفسي في سلام الكائنات البرّية التي لا تُرهِق حياتها بالتفكير في الحزن. وأجد نفسي في حضرة الماء الساكن. وأشعر فوقي بالنجوم التي تنتظر بنورها. أرتاح في نعمة العالم لبعض الوقت وأصبح حرّا. ويندل بيري

  • Credits
    archive.org

    الثلاثاء، أبريل 29، 2025

    حِكَم تشوانغ تزو


    سنّارة السمك موجودة بسبب السمك، فبمجرّد أن تحصل على السمكة يمكنك أن تنسى السنّارة. والكلمات موجودة بسبب المعنى، فبمجرّد أن تحصل على المعنى يمكنك أن تنسى الكلمات. أين يمكنني أن أجد رجلا نسي الكلمات حتى أتمكّن من التحدّث معه؟!
    تشوانغ تزو

    يصف المترجم وعالم الصينيات الراحل بيرتون واتسون شعور من يحاول تفسير أو فهم كتابات تشوانغ تزو (369 - 286) بقوله: كلّما جلست وحاولت أن أكتب بجديّة عن هذا الرجل، ظهر لي في مكان ما في مؤخّرة رأسي وهو يطلق ضحكة مكتومة ساخرا من غطرسة وعبثية هذا المسعى".
    ويضيف: إن كتاب هذا الفيلسوف الصيني الذي يتضمّن مزيجا غريبا من الحكايات والقصائد والحوارات والأساطير والتأمّلات الفلسفية الساخرة هو مرآة مرحة لروحك، فهو يهاجم أعمق معتقداتك ويزعزع استقرارك ويجبرك على ألا تأخذ نفسك على محمل الجدّ".
    وكون الكتاب مسليّا لا يجعله تافها، بل على العكس، فتشوانغ تزو مهرّج ومهمّته تحسين قرّائه، أو بالأحرى إفادتهم. وعلى الرغم من تفاهة المهرّجين، إلا أنهم كانوا ضروريين للحكومات التي توظّفهم. فبالإضافة إلى توفير الترفيه، كان لديهم ترخيص بانتهاك القواعد وتوفير وسيلة فريدة لتقييد الطغيان من جميع الأنواع. كانوا يتحدّثون بالحقيقة إلى السلطة مثلما يتحدّث بها تشوانغ تزو الى القرّاء. ضحكاته المُداوية تخفّف من حدّة المعتقدات المتحجّرة التي عاشت فترة طويلة دون أن تخضع للتشكيك أو السخرية.
    هناك تاريخ موجز لحياة تشوانغ تزو وسيرة ذاتية قصيرة كتبها المؤرّخ الصينيّ العظيم "سيما تشان" بعد مرور حوالي 200 عام على وفاة المعلّم. ويبدو أنه عاش خلال فترة اتّسمت بالاضطرابات السياسية وسُمّيت بفترة الممالك المتحاربة. وقتها، كانت مئات المدارس الفلسفية والفكرية تتنافس وتزدهر في الصين. وكان تشوانغ تزو يتنقّل بين المناطق الهادئة في عقله باحثاً عن فلسفة تخدم زمنه المضطرب.
    يقول كاتب صيني معاصر: بينما كان لاو تزو يتحدّث بالأمثال، كان تشوانغ تزو يكتب مقالات فلسفية مطوّلة ومنطقية. وبينما كان لاو تزو يعتمد كليّا على الحدس، كان تشوانغ تزو يعتمد كليّا على الفكر. كان لاو تزو يبتسم، وكان تشوانغ تزو يضحك. كان لاو تزو يعلّم، وكان تشوانغ تزو يسخر. كان لاو تزو يخاطب القلب، وكان تشوانغ تزو يخاطب العقل. كان لاو تزو مثل والت ويتمان، وكان تشوانغ تزو مثل ثورو. كان لاو تزو مثل روسو، وكان تشوانغ تزو مثل فولتير".
    وعلى النقيض من كونفوشيوس الذي تتألّف تعاليمه من مجموعة من المبادئ الأخلاقية ونظام عملي للإدارة الجيّدة، فإن تشوانغ تزو كان شخصا مثاليّا. وبحسب سيما تشان، كان تزو يكتب من أجل متعته الشخصية، وقد ترك للأجيال التالية عملا يوفّر فيضا من الجمال الأدبي والأصالة الفكرية. وعلى الرغم من أنه يبدو أحيانا وكأنه تلميذ للاو تزو، إلا أنه قام بتوسيع الطاويّة ونقل تكهّناته إلى عوالم تجاهلها المعلّم لاو تزو.
    من العبارات المشهورة المنسوبة لتشوانغ تزو قوله: نحتاج إلى الشجاعة لتغيير ما نستطيع تغييره وتقبّل ما لا نستطيع تغييره، وإلى الحكمة لمعرفة الفرق بينهما. إن الحكمة هي الأساس، واكتسابها رهن بمعرفة أنفسنا والعالم من حولنا والانتباه جيّدا لتجاربنا".
    كان تشوانغ تزو يؤمن بأن احترام جميع أشكال الحياة ضروريّ للإنسان. يقول: جميع المخلوقات متساوية في الأهمية، وتستحقّ الاحترام". ويقول: إنه لقدَر مجيد أن يكون المرء عضوا في الجنس البشري، مع أنه جنس مكرّس للعديد من السخافات ويرتكب الكثير من الأخطاء الفادحة".
    كان يرى أن محاولة السيطرة على الحياة والتحكّم بها "تُبعد الإنسان عن الانسجام والتوازن، وأنه لا يمكن العثور على السلام في خضم صراع السيطرة، لأن المنظور الروحي الحقيقي يُخبرنا أن الحبّ حرّية".
    ومن أفكاره أيضا أن راحة البال لا تأتي من غياب الصراع، بل من تقبّله. "ستظلّ هناك دائما عقبات في طريق الحياة. ومعظمنا في صراع مع الواقع. ولو لم تكن هناك جبال نتسلّقها، لكان العالم صحراء قاحلة خالية من الحياة".
    كان تشوانغ تزو مفكّرا جريئا ومضحكا، حادّا ولاذعا، حالما ومرحا، رصينا وجادّا. وقد دُرست المعاني الخفية لرموزه على مدى قرون. ومن آرائه أن الفرح الكامل هو "أن تكون بلا فرح، وإذا سُئلتُ ما الذي يجب فعله وما الذي لا يجب فعله على الأرض لتحقيق السعادة، أجيب بأن هذه الأسئلة ليس لها إجابة ثابتة تناسب كلّ حالة". كما رأى أنه ينبغي لنا أن نتبع طبيعتنا دون الخضوع للضغوط أو القيود الخارجية وأن ندع كلّ شيء يسير في مساره الطبيعي.
    عندما توفّيت زوجته، جاءه أحد أصدقائه لتعزيته فوجده يغنّي! ولمّا لامه الصديق على تصرّفه متّهما إيّاه بعدم الوفاء، ردّ تشوانغ تزو: إن العملية التي أوصلت الزوجة إلى الميلاد هي نفسها التي أوصلتها إلى الموت مع مرور الوقت وبسلاسة، مثلما يتحوّل الخريف إلى شتاء والربيع إلى صيف".


    وأضاف: لو تجوّلتُ وأنا أبكي وأضرب على صدري على فقدها، لكان ذلك دليلا على أنني لم أفهم شيئا عن الحياة. لم يكن الإنسان في العصور القديمة يعرف شيئا عن حبّ الحياة أو عن كراهية الموت. كان يخرج من الحياة بلا سرور ويعود بلا ضجيج. يأتي بسرعة ويذهب بسرعة، وهذا كلّ شيء. لم ينسَ أين بدأ ولم يحاول معرفة الى أين سينتهي. لقد تلقّى شيئا واستمتع به، نسيه وأعاده مرّة أخرى".
    وذات مرّة، عندما طلب منه اثنان من كبار المسؤولين لدى الملك أن يقبل منصب وزير قال لهما: أبلغوا جلالته تحيّاتي وأخبروه أنني سعيد هنا بالزحف في الوحل. إن الرجل الحكيم يعلم أنه من الأفضل أن يجلس على ضفّتي نهر أو بحيرة في جبل بعيد، بدلا من أن يكون امبراطورا على العالم".
    وتشوانغ تزو يوصي قارئه بألا يسعى وراء رضا الناس وألا يعتمد على خططه وألا يتخذ قرارات وأن يدع القرارات تصنع نفسها. ويضيف: توقّف عن الرغبة في أن تكون مهمّا، ولا تترك آثار لخطواتك. إن الرجل العاقل يكره أن يرى الناس يتجمّعون حوله ويتجنّب الحشود، لا فائدة تُرجى من دعم الكثير من الحمقى الذين سينتهي بهم المطاف في قتال بعضهم البعض. يا لك من أحمق! بداخلك أعظم كنز في العالم، ومع ذلك تتجوّل طالبا المساعدة من الآخرين!".
    يقول توماس ميرتون مؤلّف كتاب "طريق تشوانغ تزو": أحبُّ تشوانغ تزو لأنه على حقيقته، لا يهتمّ بالكلمات والصيغ، بل بالفهم الوجودي المباشر للواقع. فلسفته التي تغوص في صميم الأمور مباشرة أصيلة وعقلانية للغاية. كما أن طريقه غامض لأنه من البساطة بحيث يمكن أن يمضي المرء فيه دون حتى أن يعرف نهايته، فأنت تدخل هذا الطريق بعد أن تترك كلّ الطرق ثم تضيع فيه. أعتقد أنني معذور لمصاحبتي هذا المنعزل الصيني الذي يُشبهني ويشاركني عزلتي الهادئة".
    ويضيف: بخيالاته الجامحة، ولغته الفكاهية وهرائه العذب، يُطلق تشوانغ العنان لروحه دون قيود، يختلط بالمجتمع التقليدي، لا يحتقر أمور الكون، ولا يجادل فيما يعتبره الآخرون صوابا أو خطئاً. الكثيرون يعتبرونه بمثابة أفلاطون بالنسبة لسقراط، وبولس بالنسبة ليسوع، ومنسيوس بالنسبة لكونفوشيوس، وأشوكا بالنسبة لبوذا. وتشوانغ تزو يسخر من المبادئ الكونفوشية الجامدة ويدافع عن المعنى لا عن الألفاظ، وعن الحكمة الحقيقية في الحياة اليومية".
    ألّف تشوانغ تزو كتابا يحمل اسمه ويُعدّ اليوم أحد النصوص الأساسية للطاوية. كما تُعتبر قصّته "القارب الفارغ" من الكلاسيكيات المعروفة في العالم الطاوي، وهي استعارة رائعة لرسم خريطة لمياه الحياة.
    إن روح الدعابة الراقية والعبقرية الأدبية والبصيرة الفلسفية التي يتمتع بها تشوانغ تزو واضحة لأيّ شخص يطّلع على أعماله. ذات مرّة عبّر هايديغر عن إعجابه بالمقطع الذي يقول فيه تشوانغ تزو لمفكّر آخر وهما يسيران على ضفاف نهر: هل ترى كيف تصعد الأسماك إلى السطح وتسبح كما يحلو لها؟ هذا ما تستمتع به الأسماك حقّا". فيردّ صديقه: أنت لست سمكة، فكيف تقول إنك تعرف حقّا ما تستمتع به الأسماك؟!". فيردّ عليه تزو: أنت لست أنا، فكيف تعرف أنني لا أعرف ما الذي يستمتع به السمك؟!"
    إن روح الدعابة الراقية والعبقرية الأدبية والبصيرة الفلسفية لتشوانغ تزو واضحة لأيّ شخص يتذوّق أعماله. كان ذا خيال واسع وشخصية نبيلة. ومثله مثل لافونتين الفرنسي، كان يزيّن تعاليمه بمفردات جميلة واستعارات غير عاديّة.
    ذات يوم، رأى جمجمة فارغة بيضاء اللون، ولكنها ما زالت محتفظة بشكلها. فضربها بسوطه وقال لها: هل كنتِ ذات يوم رجلا طموحا أوصلته رغباته المفرطة إلى هذا المصير، أو رجل دولة أغرق بلاده في الخراب وهلك في معركة، أو بائسا ترك وراءه إرثا من العار؟! أم أنك وصلتِ إلى هذه الحال من خلال المسار الطبيعي للشيخوخة؟"
    وبعد أن انتهى تشوانغ تزو من الحديث الى الجمجمة، أخذها ووضعها تحت رأسه كوسادة، ثم ذهب إلى النوم. وفي الليل، ظهرت له الجمجمة في الحلم وقالت له: لقد تحدّثت بشكل بليغ يا سيّدي، ولكن كلّ ما تقوله لا يشير إلا إلى حياة البشر ومتاعبهم. أما في الموت فلا يوجد شيء من هذا، لا يوجد سيّد أعلى ولا رعيّة أسفل. إن عمل الفصول الأربعة غير معروف. ولا يمكن لسعادة الملك بين البشر أن تتجاوز سعادتنا".
    كان تشوانغ تزو يرى أن الناسك الذي يتمتّع بحالة ذهنية هادئة يستطيع أن يصبح واحدا مع الطبيعة، فيحلّق عاليا مع السحب العائمة والطيور. وإذا كان الرسّام يتمتّع بهذه الحالة الذهنية، فإنه يستطيع أن يضع شخصية بشرية صغيرة في منظر طبيعي مهيب ليُظهر اختلاط الأنا بالطبيعة. وإذا كان الفيلسوف يتمتّع بهذه الحالة الذهنية، فإنه يستطيع أن يتجاوز الزمان والمكان وأن يتماهى مع اللانهائية والخلود.
    وإذا كان الإنسان العادي يتمتّع بهذه الحالة الذهنية، فإنه يستطيع أن يتحرّر من الهموم والرغبات والحبّ والخوف. ولأنه واحد مع العالم، فإنه لا يعلّق على نفسه أهمية أكبر من أهميّة حشرة أو حصاة أو نبات ضعيف، ويستطيع أن يتجاوز الحياة والموت. وإذا كان المرء يستطيع أن يعتبر الموت رحلة عودة إلى الوطن، فإن أيّ شيء في هذا العالم لا يشكّل له أهمية كبيرة.
    يقال إن الورثة الحقيقيين لفكر وروح تشوانغ تزو هم بوذيّو الزِن الصينيون في فترة تانغ (من القرن السابع إلى القرن العاشر الميلادي). لكن تشوانغ تزو استمرّ في ممارسة تأثيره على الفكر الصيني المثقّف بأكمله، حيث اُعتُرف به كواحد من أعظم الكتّاب والمفكّرين في الفترة الكلاسيكية. وممّا لا شكّ فيه أن الطاوية المتطوّرة والصوفية لتشوانغ تزو ولاو تزو تركت بصمة دائمة على الثقافة الصينية بأكملها وعلى الشخصية الصينية نفسها.

    Credits
    archive.org
    plato.stanford.edu

    الأحد، أبريل 27، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • في كتابه "الضوء الأخير"، يذكر ريتشارد لاكايو بعض الفنّانين الذين عاشوا طويلا وجعلوا من الشيخوخة مرحلة انتصار وابتكار. وكلود مونيه كان أحد هؤلاء. في العديد من لوحاته التي أنجزها في نهايات حياته، ومن بينها مجموعة من ثماني لوحات كبيرة الحجم لزنابق الماء، استطاع ان يكسر التقاليد المتّبعة في تصوير المناظر الطبيعية.
    في بعض هذه اللوحات تخلّى الرسّام عن المنظور ونقاط التلاشي، وركّز بدلا من ذلك على سطح بركته في بلدة جيفرني، ورسم مشهدا يُظهر الماء دون أيّ أرض تُضفي عليه طابعا محدّدا. ونتيجة لذلك، قد تبدو بعض هذه اللوحات محيّرة وتجريدية.
    كان مونيه يبتكر نوعا جديدا كليّا من الفضاء التصويري. فالبِركة مرآة تُرينا السماء والأشجار التي تعلوها، وفي نفس الوقت هي غشاء تطفو عليه زنابق الماء. كما أنها نافذة على الأعماق تنبض بالحياة وبخيوط طويلة من الطحالب والأعشاب المتموّجة. وكلّ ضربة فرشاة عليها أن تشير إلى بُعد أو أكثر من تلك الأبعاد المتشابكة.
    ونفس هذه الفكرة تنطبق على الإسباني فرانسيسكو دي غويا. فلو كان هذا الرسّام الكبير قد مات في أوائل الستّينات من عمره، لكان ما يزال يُذكر باعتباره فنّانا بارعا في رسم الصور الشخصية فحسب، ولكن ليس باعتباره واحدا من أكثر الفنّانين تأثيرا في جميع العصور.
    من نواحٍ عديدة، أسهم طول العمر في تعزيز استمرارية غويا. وبعض أروع أعماله وأكثرها شهرةً، كلوحاته السوداء الغريبة وسلسلة نقوشه المرعبة عن "كوارث الحرب"، أُنجزت في العقدين الأخيرين من حياته.
  • ❉ ❉ ❉

  • السمة المشتركة الأكثر شيوعا في القصص الخيالية هي انها تبدأ عادةً بالعبارة الافتتاحية "كان يا ما كان"، التي تتجاوز اللغة العربية واللغة الانغليزية (Once upon a time) الى عدد كبير من لغات العالم.
    ويُعزى أوّل ظهور لهذه العبارة في كتب القصص الى قصّة إنغليزية بعنوان" حياة وآلام القدّيسة جوليانا" التي يعود تاريخها إلى حوالي عام 1225.
    وحقيقة أن كلّ اللغات تقريباً لديها عبارة واحدة مثل هذه، تبدأ بها القصص الخيالية وتزيل من تلك القصص أيّ أثر للحاضر والماضي، ليست مصادفة. بل إنها في الواقع تخدم غرضاً مفيدا، لأنها بحسب الكاتبة ماريا كونيكوفا تخلق "مسافة وغموضاً" وتوفّر "دعوة للخيال والتخيّل" وتتيح للقرّاء أن يعرفوا على الفور أن القصّة ستزدهر بالخيال وستنتهي نهاية سعيدة.
    ومن الأسباب الأخرى لرواج العبارة أن بدء قصص الخيال بكلمات نمطية يجعل القرّاء يدركون على الفور نوع القصّة التي ستدور حولها الأحداث، تماما كالمعلومات التي يتلقّاها المشاهد في الثواني القليلة الأولى من مشاهدة فيلم للرسوم المتحرّكة.
  • ❉ ❉ ❉

  • "على شَفا الفناء التام في الله، هناك منطقة من الارتباك العذب، شعور بالتواجد في أماكن متعدّدة في آن واحد، ونطق لجمل متعدّدة، غموض مذاب وهشّ وشبه فارغ، وجهل عميق يبدو فيه السلوك التقليدي الهادئ ضرباً من الجنون".
    قصائد الرومي ليست حدائق مصغّرة وأنيقة، بل هي أشبه ما تكون "بلوحات على الطراز التركماني، مليئة بالحركة المفاجئة والزهور والشجيرات الغريبة والشياطين والحيوانات الناطقة"، على حدّ وصف المستشرقة الألمانية آن ماري شيمل.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • كان ذئب يلتهم حيوانا قتَلَه، وفجأةً علِقت عظمة صغيرة من اللحم في حلقه، فلم يستطع بلعها. شعر الذئب بألم شديد وراح يركض جيئةً وذهابا وهو يئنّ ويتأوّه باحثا عن شيء يخفّف الألم. وتوسّل لكلّ من قابلهم بأن يُخرجوا العظمة من حلقه قائلا: من يساعدني سأفعل له أيّ شيء يطلبه".
    وأخيرا وافق طائر "كرَكي" على المحاولة، وطلب من الذئب أن يستلقي على جنبه وأن يفتح فكّيه قدر استطاعته. ثم أدخل رقبته الطويلة في حلق الذئب، والتقط العظمة بمنقاره وأخرجها. ثم قال الكركي للذئب: والآن هل تتكرّم بإعطائي المكافأة التي وعدتني بها؟".
    ابتسم الذئب وكشّر عن أنيابه وقال: إرضَ بنفسك، لقد وضعتَ رأسك في فم ذئب وأخرجته سالما، فاشكر الله على ذلك". ومنذ ذلك الوقت والناس يستخدمون عبارة "من فم الذئب"، دلالةً على الشيء الذي ينطوي فعله على مخاطرة كبيرة.
  • ❉ ❉ ❉

  • في العصر الذهبي للفنّ التقليدي "أي الفن الذي يستخدم فيه الفنّان الفرش والألوان بنفسه"، كانت لوحة الموناليزا، بابتسامتها الغامضة، تجتذب الحشود من كلّ حدب وصوب. وكان الناس ينتظرون دورهم بصبر وقلوبهم تنبض بالإثارة لمجرّد الوقوف أمام تلك اللوحة الصغيرة الآسرة. وكانت ضربات ليوناردو دافنشي تحمل في طيّاتها قصّة تكشف عن دقّة الفنّان وإتقانه للعبة الضوء والظلّ.
    كان الفنّ تجربة حميمة تتفاعل معها كلّ الحواسّ. وكانت كلّ ضربة للفرشاة أشبه بضربة على قماش عقل الناظر. وكانت ضربات فينسنت فان غوخ الجريئة والمتموّجة يتردّد صداها في عالمه الداخلي المضطرب، في حين كانت ضربات فرشاة مونيه الدقيقة تدعونا إلى المناظر الطبيعية الهادئة التي يصوّرها خياله. وكان استخدام رمبراندت المعبّر للضوء والظلّ ينقلنا إلى أعماق المشاعر الإنسانية.
    عندما يقف المرء أمام لوحة، يدور حوار بينه وبين العمل الفنّي. حيث تتتبّع العين الخطوط والألوان وتنتبه للتفاصيل الدقيقة وتبحث فيها عن معنى وتتخيّل كيف تتدفّق الألوان المائية وتتداخل معا في تناغم رقيق وكيف يمتصّ الورق حيوية الألوان مثل روح عطشى تتشرّب الجمال، وكيف تنزلق الفرشاة بسلاسة على السطح فتخلق مناظر طبيعية خلابة وصورا آسرة تلتقط جوهر اللحظة.
    كانت زيارة المعارض الفنّية تجربة تتجاوز قطع الفنّ المعروضة لتمتدّ الى الهندسة المعمارية والجوّ الذي يحتضن العمل الفنّي. وأصبحت عظمة المتاحف وقاعاتها الأنيقة مسارح لسيمفونيات من الإبداع، حيث الممرّات المقوّسة والأرضيات المبلّطة وغيرها من العناصر الفنّية الجاذبة.
    الآن تغيّرت تجربة الفنّ. فقد أصبحت المنصّات الرقمية مستودعات ضخمة لعدد لا يُحصى من الرسوم التوضيحية واللوحات والصور الفوتوغرافية التي تُنجز باستخدام الكمبيوتر وبرمجيات الغرافيكس وأدوات مثل أقلام الليزر والكاميرات الرقمية والماسحات الضوئية وغيرها. وبمجرّد تمرير إصبعك، تمرّ الصور أمام عينيك في تتابع سريع ويصبح تأثيرها عابرا وزائلا، ويضيع العمق والملمس مع تَجسُّد الفنّ في شاشات أجهزتنا البكسلية.
    لا شكّ أن اللوحات الرقمية تتمتّع بسحر خاص. فهي تتيح لك الاستمتاع الفوري، مع القدرة على تصحيح الأخطاء بنقرة زرّ واحدة واستكشاف مجموعة واسعة من الأدوات والتأثيرات. كما أنها جعلت الفنّ متاحا لجمهور أوسع. ولكن وسط هذه الراحة، فقدنا شيئا مهمّا، فقد ولّت أيّام التفكير في اللون المثالي وخلط الألوان بعناية لتحقيق اللون المطلوب. ولم يعد بوسعنا أن نتلذّذ بفوضى الإبداع الفنّي التي من شأنها أن تملأ الغرفة بالشغف. لقد حلّت الشاشات الأنيقة والأقلام محلّ التجربة الملموسة للعمل بالوسائط المادّية.
    وبينما نحتضن مزايا الفنّ الرقمي، يتعيّن علينا أن نتوقّف لنتأمّل الكنوز غير المحسوسة التي قد نتركها وراءنا. إن المادّية التي يتّصف بها الفنّ التقليدي، بما يتضمّنه من نسيج ملموس وضربات فرشاة دقيقة وحضور كبير، يتمتّع بجاذبية معيّنة لا يمكن تكرارها في عالم الفنّ الرقمي.
    في سعينا نحو التقدّم، يتعيّن علينا أن نسأل أنفسنا: هل نفقد شيئا ثمينا عندما ننتقل إلى عالم الرقمية؟ هل نضحّي بثراء الفنّ المادّي ولمسته الإنسانية المتأصّلة والارتباطات العميقة التي يمكن أن يثيرها؟ وبينما نتنقّل في المشهد الفنّي المتطوّر باستمرار، يجب أن نحقّق التوازن ونحافظ على جوهر أشكال الفنّ التقليدية مع احتضان الإمكانات التي يجلبها الفنّ الرقمي.

  • Credits
    worldwidewords.org
    meer.com