"نحن منسوجون من العدم، نجوم منثورة كالغبار".
في حوالي عام ١٢١٢، سافر الصبيّ جلال الدين الرومي مع عائلته من بلخ إلى سمرقند. ووصلوا إلى المدينة في قافلة والده الشيخ بهاء الدين "أو سلطان العلماء كما كان اتباعه يلقّبونه" عبر سلسلة جبال زرافشان، ومنها الى منطقة يحكمها القراخانيون، إحدى السلالات التركية المتنافسة على حكم المنطقة.
في قصائد الرومي اللاحقة، غالبا ما يظهر هؤلاء المحاربون الأتراك متجمّدين في الزمن بشكل رومانسي؛ بدواً في السهوب يمتطون خيولا برّية، كما في إحدى قصائده الرمضانية: داخل هذا الشهر قمر مخفيّ كالتركي داخل خيمة الصيام".
ومع ذلك، وبحلول الوقت الذي وصل فيه مع والده وعائلته إلى سمرقند، كان حكّامها الأتراك الجدد، مثل العديد من العشائر المتجوّلة، قد تخلّوا منذ زمن طويل عن ممارساتهم الشامانية القديمة من أجل حياة أكثر حضرية وعالمية، مع تبنّيهم للإسلام السنّي.
كانت سمرقند تقع أيضا على مفترق طرق شعريّ، فقد أُلّفت فيها القصائد المبتكرة وغُنّيت لأوّل مرّة قبل قرنين من الزمان باللغة الفارسية التي تتحدّثها عائلة جلال الدين، بدلاً من الشكل الكلاسيكي الأقدم.
كان شارستان، الحيّ القديم المهيب، الذي يطلّ على أعلى أرض فوق أسوار المدينة المبنية من الطين في عصور ما قبل الإسلام هو أوّل ما تراه أيّ قافلة تعبر نهر زرافشان وتشقّ طريقها عبر بساتين الخوخ المحيطة وأشجار السرو الباسقة المرويّة من قنوات عدّة. ومن المرجّح أن عائلة الرومي استقرّت في حيّ شعبي يقع على ضفّة النهر وتغمره المياه أحيانا في الربيع عند ذوبان الثلوج في الجبال.
بعد خمسين عاما، استحضر جلال الدين هذا الحيّ التجاري بشكل خافت في القصّة الافتتاحية لكتاب المثنوي، قصّة صائغ سمرقند، التي لا تُروى فقط كمثل روحي، ولكن أيضا مع إحساس بنسيج محيطها والشعور بالمكان الذي ينبع من كونك مقيما لا مجرّد زائر.
تدور القصّة حول جارية جميلة يعشقها ملك أكبر منها سنّا. ولأنها لم تستجب لمحاولاته التقرّب منها، أرسل الملك طبيبه الموثوق لتشخيص مرض مفاجئ ألمّ بها. وبذكاء، يقيس الطبيب الملكي نبضها ويطرح أسئلة موجّهة. كان نبضها يدقّ بشكل طبيعي، وفجأة تسارعَ، وتحوّل وجهها إلى اللون الأحمر عندما ذكر لها اسم صائغ من سمرقند. وعندما اكتشف الطبيب سرّ كلّ هذا الألم والبؤس سألها: وأين شارعه وأيّ طريق تقود إليه؟" أجابت: بجانب الجسر في شارع كذا".
كان رواة القصص وسحَرة الثعابين ولاعبو الطاولة ما يزالون يتجوّلون في مساءات سمرقند على ضوء مصابيح الزيت. وكانت منتجات المدينة كثيرة ومتنوّعة. كانت الأنوال تنسج القماش الأحمر والفضّي، بالإضافة إلى الديباج والحرير الخام. وكان النحّاسون يطرقون أواني النحاس الضخمة، والحرفيون يصنعون الركائب والأحزمة والكؤوس، والفلاحون يزرعون الجوز والبندق.
وكان ورق حرير سمرقند، وهو في الأصل منتج صيني، مشهورا عالميّا. كان الورق الناعم، المصنوع يدويّا من لحاء أشجار التوت المصبوغ بألوان عديدة باستخدام الحنّاء أو ماء الورد أو الزعفران، يتمتّع بلمعان نادر وغريب. وكانت قصائد الرودكي، شاعر سمرقند، ما تزال تُغنّى في الساحة وتُقرأ بشغف من ورق سمرقند الفاخر عندما كان الرومي يكبر ويدوّن أشعاره.
في حوالي عام ١٢١٢، سافر الصبيّ جلال الدين الرومي مع عائلته من بلخ إلى سمرقند. ووصلوا إلى المدينة في قافلة والده الشيخ بهاء الدين "أو سلطان العلماء كما كان اتباعه يلقّبونه" عبر سلسلة جبال زرافشان، ومنها الى منطقة يحكمها القراخانيون، إحدى السلالات التركية المتنافسة على حكم المنطقة.
في قصائد الرومي اللاحقة، غالبا ما يظهر هؤلاء المحاربون الأتراك متجمّدين في الزمن بشكل رومانسي؛ بدواً في السهوب يمتطون خيولا برّية، كما في إحدى قصائده الرمضانية: داخل هذا الشهر قمر مخفيّ كالتركي داخل خيمة الصيام".
ومع ذلك، وبحلول الوقت الذي وصل فيه مع والده وعائلته إلى سمرقند، كان حكّامها الأتراك الجدد، مثل العديد من العشائر المتجوّلة، قد تخلّوا منذ زمن طويل عن ممارساتهم الشامانية القديمة من أجل حياة أكثر حضرية وعالمية، مع تبنّيهم للإسلام السنّي.
كانت سمرقند تقع أيضا على مفترق طرق شعريّ، فقد أُلّفت فيها القصائد المبتكرة وغُنّيت لأوّل مرّة قبل قرنين من الزمان باللغة الفارسية التي تتحدّثها عائلة جلال الدين، بدلاً من الشكل الكلاسيكي الأقدم.
كان شارستان، الحيّ القديم المهيب، الذي يطلّ على أعلى أرض فوق أسوار المدينة المبنية من الطين في عصور ما قبل الإسلام هو أوّل ما تراه أيّ قافلة تعبر نهر زرافشان وتشقّ طريقها عبر بساتين الخوخ المحيطة وأشجار السرو الباسقة المرويّة من قنوات عدّة. ومن المرجّح أن عائلة الرومي استقرّت في حيّ شعبي يقع على ضفّة النهر وتغمره المياه أحيانا في الربيع عند ذوبان الثلوج في الجبال.
بعد خمسين عاما، استحضر جلال الدين هذا الحيّ التجاري بشكل خافت في القصّة الافتتاحية لكتاب المثنوي، قصّة صائغ سمرقند، التي لا تُروى فقط كمثل روحي، ولكن أيضا مع إحساس بنسيج محيطها والشعور بالمكان الذي ينبع من كونك مقيما لا مجرّد زائر.
تدور القصّة حول جارية جميلة يعشقها ملك أكبر منها سنّا. ولأنها لم تستجب لمحاولاته التقرّب منها، أرسل الملك طبيبه الموثوق لتشخيص مرض مفاجئ ألمّ بها. وبذكاء، يقيس الطبيب الملكي نبضها ويطرح أسئلة موجّهة. كان نبضها يدقّ بشكل طبيعي، وفجأة تسارعَ، وتحوّل وجهها إلى اللون الأحمر عندما ذكر لها اسم صائغ من سمرقند. وعندما اكتشف الطبيب سرّ كلّ هذا الألم والبؤس سألها: وأين شارعه وأيّ طريق تقود إليه؟" أجابت: بجانب الجسر في شارع كذا".
كان رواة القصص وسحَرة الثعابين ولاعبو الطاولة ما يزالون يتجوّلون في مساءات سمرقند على ضوء مصابيح الزيت. وكانت منتجات المدينة كثيرة ومتنوّعة. كانت الأنوال تنسج القماش الأحمر والفضّي، بالإضافة إلى الديباج والحرير الخام. وكان النحّاسون يطرقون أواني النحاس الضخمة، والحرفيون يصنعون الركائب والأحزمة والكؤوس، والفلاحون يزرعون الجوز والبندق.
وكان ورق حرير سمرقند، وهو في الأصل منتج صيني، مشهورا عالميّا. كان الورق الناعم، المصنوع يدويّا من لحاء أشجار التوت المصبوغ بألوان عديدة باستخدام الحنّاء أو ماء الورد أو الزعفران، يتمتّع بلمعان نادر وغريب. وكانت قصائد الرودكي، شاعر سمرقند، ما تزال تُغنّى في الساحة وتُقرأ بشغف من ورق سمرقند الفاخر عندما كان الرومي يكبر ويدوّن أشعاره.
ويقال إن الرودكي اخترع شكل الرباعية بناءً على أنشودة كان قد سمعها من أفواه الأطفال وهم يدحرجون الجوز في شوارع بخارى، المدينة التوأم القريبة من سمرقند والمشهورة بمكتبتها، والتي ذكرها جلال الدين الرومي في شعره أيضا: يأتي السكّر من سمرقند، لكن شفتيه وجدت الحلاوة في بخارى". لذلك ظلّت كلمات الرودكي ترنّ في ذهن جلال الدين طوال حياته، مثل أغاني الطفولة.
بعد وصول جلال الدين وعائلته بفترة وجيزة، حوالي عام ١٢١٢، واجهوا أوّل حصار مرعب شنّه شاه خوارزم الذي شعر بأنه مستعدّ وقويّ بما يكفي لضمّ هذه العاصمة الأكثر جاذبية في آسيا الوسطى الى ملكه. وقد تذرّع الشاه بسوء معاملة ابنته؛ إحدى زوجات الحاكم القراخان، وحشدَ جنوده عند أسوار المدينة وبدأ حصارا قاسيا استمرّ ثلاثة أيّام.
كانت هذه أقدم ذكريات الرومي المدوّنة، وقد استعاد الأحداث بعد سنوات في حديث مع طلّابه، متأمّلا تلك المحنة ومفسّرا المشهد بأثر رجعي: كنّا في سمرقند، وكان شاه خوارزم قد حاصر المدينة بجنوده في صفوف. في ذلك الحيّ، كانت هناك سيّدة فائقة الجمال، لا مثيل لها في المدينة كلّها. ظللتُ أسمعها وهي تقول: يا إلهي! كيف تركتني أقع في أيدي هؤلاء الطغاة؟ أعلم أنك لن تسمح بمثل هذا أبدا، أثق بك".
ونهب جند الشاه المدينة وأسروا الجميع، بمن فيهم جواري تلك السيّدة، لكن لم يصبها شيء. ورغم جمالها الفاتن، لم ينظر إليها أحد. لذا، يقول جلال الدين "يجب أن تعلم أن من يتوكّل على الله سينجو من كلّ مكروه".
كان الانطباع الذي تركَته سمرقند في شعر جلال الدين الرومي دافئا وحنونا: إجمع شظايا عقلك بالحبّ حتى تصبح حلوا كسمرقند ودمشق". وكثيرا ما كان يتحدّث عن وطنه بأكمله باسم "خوارزم"، بما في ذلك سمرقند التي أصبحت الآن جزءا من خوارزم. كما علّق أكثر من مرّة على جمال أهلها: هناك الكثير من الجمال في خوارزم الذي بمجرّد أن تراه ستُفتن به".
كان الشابّ جلال الدين يسمع قصص الأنبياء من القرآن والتي ستشكّل المادّة الخام لصلواته وأحاديثه، وبالتأكيد شعره. وكان من بين أصحاب القصص المفضّلين لديه إبراهيم الذي نجا من فرن نمرود الناريّ دون أن يحترق، ونوح الذي مات ابنه المضطرب في الطوفان، ويوسف الذي قطعت بعض نساء مصر الجميلات أيديهنّ بسكاكين العشاء وهنّ يحدّقن في جماله بذهول.
كما أُعجب بقصّة موسى الذي تحوّلت عصاه إلى ثعبان ابتلعَ عصيّ السحرة، ومريم التي وضعت رضيعها تحت شجرة نخيل أسقطت عليها رطبها الناضج، والطفل يسوع الموهوب بالكلام في مهده والقادر على إعطاء الحياة للطيور بأنفاسه، وسليمان بخاتمه السحري. وفيما بعد، تخيّل جلال الدين القرآن الكريم كقماش ديباج فاخر.
في حوالي عام 1216، عندما كان جلال الدين الرومي في التاسعة أو العاشرة من عمره، انطلقت قافلة الجمال التابعة لوالده مرّة أخرى، هذه المرّة باتجاه مكّة. وكان عليهم اجتياز العديد من المدن والأنهار والصحاري، قبل أن يبلغوا مسقط رأس النبيّ محمّد عليه السلام ومدينة الإسلام المقدّسة.
بعد وصول جلال الدين وعائلته بفترة وجيزة، حوالي عام ١٢١٢، واجهوا أوّل حصار مرعب شنّه شاه خوارزم الذي شعر بأنه مستعدّ وقويّ بما يكفي لضمّ هذه العاصمة الأكثر جاذبية في آسيا الوسطى الى ملكه. وقد تذرّع الشاه بسوء معاملة ابنته؛ إحدى زوجات الحاكم القراخان، وحشدَ جنوده عند أسوار المدينة وبدأ حصارا قاسيا استمرّ ثلاثة أيّام.
كانت هذه أقدم ذكريات الرومي المدوّنة، وقد استعاد الأحداث بعد سنوات في حديث مع طلّابه، متأمّلا تلك المحنة ومفسّرا المشهد بأثر رجعي: كنّا في سمرقند، وكان شاه خوارزم قد حاصر المدينة بجنوده في صفوف. في ذلك الحيّ، كانت هناك سيّدة فائقة الجمال، لا مثيل لها في المدينة كلّها. ظللتُ أسمعها وهي تقول: يا إلهي! كيف تركتني أقع في أيدي هؤلاء الطغاة؟ أعلم أنك لن تسمح بمثل هذا أبدا، أثق بك".
ونهب جند الشاه المدينة وأسروا الجميع، بمن فيهم جواري تلك السيّدة، لكن لم يصبها شيء. ورغم جمالها الفاتن، لم ينظر إليها أحد. لذا، يقول جلال الدين "يجب أن تعلم أن من يتوكّل على الله سينجو من كلّ مكروه".
كان الانطباع الذي تركَته سمرقند في شعر جلال الدين الرومي دافئا وحنونا: إجمع شظايا عقلك بالحبّ حتى تصبح حلوا كسمرقند ودمشق". وكثيرا ما كان يتحدّث عن وطنه بأكمله باسم "خوارزم"، بما في ذلك سمرقند التي أصبحت الآن جزءا من خوارزم. كما علّق أكثر من مرّة على جمال أهلها: هناك الكثير من الجمال في خوارزم الذي بمجرّد أن تراه ستُفتن به".
كان الشابّ جلال الدين يسمع قصص الأنبياء من القرآن والتي ستشكّل المادّة الخام لصلواته وأحاديثه، وبالتأكيد شعره. وكان من بين أصحاب القصص المفضّلين لديه إبراهيم الذي نجا من فرن نمرود الناريّ دون أن يحترق، ونوح الذي مات ابنه المضطرب في الطوفان، ويوسف الذي قطعت بعض نساء مصر الجميلات أيديهنّ بسكاكين العشاء وهنّ يحدّقن في جماله بذهول.
كما أُعجب بقصّة موسى الذي تحوّلت عصاه إلى ثعبان ابتلعَ عصيّ السحرة، ومريم التي وضعت رضيعها تحت شجرة نخيل أسقطت عليها رطبها الناضج، والطفل يسوع الموهوب بالكلام في مهده والقادر على إعطاء الحياة للطيور بأنفاسه، وسليمان بخاتمه السحري. وفيما بعد، تخيّل جلال الدين القرآن الكريم كقماش ديباج فاخر.
في حوالي عام 1216، عندما كان جلال الدين الرومي في التاسعة أو العاشرة من عمره، انطلقت قافلة الجمال التابعة لوالده مرّة أخرى، هذه المرّة باتجاه مكّة. وكان عليهم اجتياز العديد من المدن والأنهار والصحاري، قبل أن يبلغوا مسقط رأس النبيّ محمّد عليه السلام ومدينة الإسلام المقدّسة.