:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، أكتوبر 14، 2010

الانطباعية في موسيقى ديبوسي

تخيّل انك تقف على شاطئ البحر وتنظر إلى المياه الزرقاء والأمواج العملاقة التي تتكسّر متحوّلة إلى رذاذ ورغوة وأمواج صغيرة على الشاطئ. صورة مثل هذه هي مزيج من الهدوء والعنف والأناقة والقوّة الهائلة.
مثل هذه الصور تتناسب تماما مع روح موسيقى المؤلّف الفرنسي كلود ديبوسي. وبالإمكان رؤيتها في نظرته إلى الطبيعة التي هي عنده غامضة وحالمة ومشعّة.
وإذا كان الفنّانون الانطباعيون يُسمّون بـ "رسّامي الضوء"، فإن موسيقيين مثل ديبوسي كانوا يرسمون لوحات تعبّر عن مشاعر تفوق الوصف في عقل ونفس السامع. ديبوسي، بكلماته هو، كان يعبّر عمّا لا يمكن التعبير عنه.
كان ديبوسي واحدا من أعظم الموسيقيين أصالة. وهناك من نقّاد الموسيقى من يصفونه بأنه رائد الموسيقى الانطباعية في العالم بلا منازع.
وقد ألّف مجموعة كبيرة من القطع الموسيقية للبيانو تعبّر عن نظرته للطبيعة وتثير في ذهن السامع مشاهد متتالية من المناظر والصور الحيّة.
موسيقى ديبوسي تتميّز بسحرها ونضارتها. وبعض قطعه تشبه في خفّتها وأثيريّتها رائحة عطر نادر وحميم. وقد كنت حتى وقت قريب أؤمن أن لا شيء في الموسيقى يمكن أن يكون أكثر فتنة وإثارة للراحة والسكينة من موسيقى شوبان كما تكشف عنها معزوفاته الشهيرة مثل المازوركات والنوكتيرنز والأبولونيز.
غير أن الاستماع إلى أعمال ديبوسي الكاملة للبيانو غيّر نظرتي لموسيقى البيانو جذريا.
دعونا أوّلا نلقي نظرة خاطفة على التاريخ. خلال أربعينات القرن التاسع عشر كان الروائيون منشغلين بتأليف حكايات ذات مضامين سيكولوجية، وذلك من خلال توظيف النظريات الجديدة في علم النفس والتي تتحدّث عن اللاوعي وعالم الأحلام.
وفي تلك الأثناء ظهر أسلوب تيّار الوعي الذي جسّدته كتابات عدد من الأدباء مثل إدغار آلان بو وأندريه جِيد ومارسيل بروست وستيفن مالارميه وبول فيرلين. كانت كتابات هؤلاء ثورة ضدّ الطبيعة، وبالتالي ضدّ الأفكار الرومانسية. والكثيرون منهم كانوا أصدقاء لـ ديبوسي. لذا لم يكن مستغربا أن تأتي موسيقاه متماهية مع المشاعر التي كان الفنّانون والشعراء يعبّرون عنها خلال الفترة التي شهدت ازدهار المدرستين الانطباعية والرمزية.
ومثل لوحات كلود مونيه، كانت موسيقى ديبوسي تحاول هي أيضا الإمساك بتأثيرات الضوء واللون والجوّ وبلورتها في لحظة معيّنة.
كان ديبوسي يحاول أن يعيد خلق الفروق الدقيقة في اللون من خلال ظلال أصواته، وهذا ما جعل موسيقاه متفرّدة وطليعية في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية بأسرها. يقول الناقد كميل موكلير: إن المناظر الطبيعية في لوحات مونيه هي في الحقيقة سيمفونيات من الأمواج المضيئة. وموسيقى ديبوسي تحمل شبها ملحوظا مع تلك الصور اعتمادا على القيم النسبية للأصوات التي تتحوّل في موسيقاه إلى بقع وألوان ذات رنين وإيقاع".
وبإمكان المرء أن يكتشف أن موسيقى ديبوسي بلا شكل وأنها تعكس صورا غير واضحة المعالم، تماما مثل اللوحات الانطباعية. لا غرابة إذن في أن أنغامه الجديدة والثورية كانت تمثّل بداية الانطباعية الحقيقية في الموسيقى.

أعمال ديبوسي للبيانو هي شعر حقيقي لدرجة أنني الآن توقفت فعليا عن سماع شوبان. الفتنة في موسيقى ديبوسي أثيرية. هذا ما يمكن قوله على اقلّ تقدير.
والآن لنتحوّل إلى بعض موسيقى ديبوسي. حاول أن تستمع أوّلا إلى أشهر معزوفاته بعنوان ضوء القمر. أغمض عينيك واسمح لهذا النغم أن يغرق ببطء في أعماق روحك. وأنت تستمع إلى هذه القطعة، ربّما تتخيّل نهرا من الذكريات ينفتح أمامك، نزهة على طرف بحيرة في ضوء القمر، أو ليلة مرصّعة بالنجوم أثناء قضائك شهر العسل وأنت تمشي على شاطئ البحر ممسكا بذراع حبيبتك، أو قد تتخيّل فتاة تجلس على الأرجوحة وتحدّق في المياه الشفّافة التي يعكسها ضوء القمر.
"ضوء القمر" موسيقى متفرّدة وغامضة. لحنها المتسامي، نغماتها الملوّنة وجملها الديناميكية المثيرة قد تكون ترجمة ديبوسي الخاصّة لضوء القمر وهو يتسرّب عبر أوراق شجرة. الجُهُورية الطافية والإيقاعات القويّة تخلق جوّا لا يمكن وصفه. إنها تحفة فنّية في حدّ ذاتها.
والآن إلى قطعة أخرى هي الثلج المتراقص التي كتبها ديبوسي لطفلته الصغيرة إيما عندما كان عمرها ثلاث سنوات. هذه القطعة هي نوع من السحر المصفّى وهي كافية لأن تنقلنا لتعيدنا مرّة أخرى إلى زمن الطفولة. الأنغام هنا جميلة وفيها عفوية ومرح وانطلاق.
كان كلود ديبوسي يستمتع على ما يبدو بالمشاعر العميقة والرحبة. كما كان مأخوذا كثيرا بسحر القمر والنجوم وبأمجاد السماء الليلية.
الرسّامَان الانطباعيان الرائدان مونيه ورينوار بعض أجمل لوحاتهما تصوّر نساءً حالمات يتأمّلن الانعكاسات في الماء؛ في أعماق الماء، أو يحدّقن في السماء.
فكرة الانعكاسات مهمّة جدّا في الانطباعية. والانعكاس قد يكون أحيانا أكثر حقيقة من الواقع.
في لوحة القارب لـ رينوار، ومن خلال توظيف الأسلوب الانطباعي، نستطيع اكتشاف حالة من التأمّل الصامت. ولم يكن مصادفة أن إحدى أكثر مؤلفات ديبوسي شعبية هي مجموعته المسمّاة تأمّل صامت.
إحدى معزوفات هذه المجموعة اسمها الجزيرة السعيدة. عندما تستمع إلى هذه الموسيقى ذات التأثير المنوّم، ستكتشف القوة التذكّرية التي تثيرها موسيقى البيانو. التأمّل الصامت يتحرّك ببطء وبإيقاع متدرّج يثير في الذهن صورة مياه تتدفّق في نافورة. ومع استمرار الموسيقى تصبح أكثر شبها بالأمواج في حركتها. ثم تتحوّل ناعمة وهادئة بينما تتنقّل جيئة وذهابا قبل أن تخفّ وتتلاشى تدريجيا. وأنت تستمع إلى هذه القطعة، تتجوّل بعيدا مع أحلامك الدافئة وتطلق لأفكارك العنان كي تتحرّك مثل الغيوم المتثاقلة في السماء.
والآن إلى إحدى معزوفات ديبوسي المبكّرة بعنوان ارابيسك. ستجد في هذه القطعة سحرا يهبط عليك من فوق مثل حِزَم من ضوء الشمس الناعم. أرابيسك قطعة خفيفة وحالمة وتشيع المرح والبهجة مع قدر كبير من الشفافية التي نحسّ بها عادة في أيّام الربيع المشمسة.
ديبوسي يشار إليه غالبا باعتباره موسيقيا انطباعيا. ومع ذلك فالكثير من أعماله المكتوبة للبيانو تثير مشاعر عفوية وطفولية أكثر ممّا توحي به صفة الانطباعية.
وبعض النقّاد يقولون إن أكثر أعماله تعبيرية هي الصور والبرليودات والايتودات. في هذه الأعمال أيضا عالم من الأحلام والرؤى والتخيّلات نصفه من الأضواء والنصف الآخر من الظلال.
الإتقان، الأناقة الحسّية، الشفافية، الرقّة وثراء الألوان النغمية. هذه هي السمات الرئيسية التي تميّز موسيقى ديبوسي عن غيره.
من وقت لآخر، حاول أن تسمع شيئا من موسيقى ديبوسي، فهي تغسل عن النفس آثار الكآبة والملل وتملأ ساعات النهار بالألوان الرائعة والصور المبهجة.

Credits
prezi.com
favorite-classical-composers.com

الثلاثاء، أكتوبر 12، 2010

عودة أمير الظلام

في الفنّ، هناك من الأشياء ما لا يقلّ إثارة عن إعادة اكتشاف رسّام كبير أو قديم. والأمر يشبه كثيرا العثور على مغلّف مملوء بشهادات الأسهم القديمة في بطانة الجزء الخلفي من أريكة جدّ العائلة. هذا الشيء لا يحدث كثيرا طبعا. لكنه يحدث على أيّ حال.
فيرمير كان غير معروف كليّاً طوال ثلاثة قرون قبل أن يعاد اكتشافه في منتصف القرن التاسع عشر. وكارافاجيو كان مجرّد اسم لا أكثر، إلى أن تمكّن مؤرّخ لامع يُدعى روبيرتو لونغي من إعادة اكتشافه في العام 1952م.
وأحدث مثال عن الاكتشاف المفاجئ لرسّام قديم يعود تاريخه إلى العام 1972، عندما أقيم في باريس معرض مخصّص لرسّام فرنسي كبير وغامض من القرن السابع عشر يُدعى جورج دي لا تور. وكان عالمان مثابران قد جمعا نماذج قليلة وثمينة من فنّه في باريس عام 1972م. كان جورج دي لا تور يرسم مشاهد الليل كما لم يرسمها فنّان آخر من قبل. شمعة تومض، وجه يضيء، شيء ما يحدث في الظلام، لكن ما هو؟ من الواضح أن لا تور كان تابعا من بعيد لـ كارافاجيو. لكن ألوانه أغرب ومزاجه أكثر رقّة.
ومنذ ذلك الاكتشاف الرائد ظهرت بعض الحقائق البسيطة عن الرسّام صاحب الاسم الغامض.
ولد جورج دي لا تور عام 1593 في بلدة صغيرة بمقاطعة اللورين خلال العصور الوسطى. لكنه انتقل عام 1620 إلى بلدة لونافيل التي أمضى فيها بقيّة سنوات حياته. وقد ظلّ هناك يرسم في عزلة حتّى وفاته في عام 1652م.
لكن لا أحد إلى اليوم يعرف تماما أين وكيف التقى كارافاجيو. إذ لم يكن هناك لوحات لـ كارافاجيو في لونافيل ولا في أيّ مكان قريب منها.
ومن المرجّح أن يكون دي لا تور قد تلقى دروسا في الرسم على يد احد أتباع كارافاجيو الهولنديين. ولكن لأن دي لا تور لم يكن على اتصال بالتيار الفنّي السائد آنذاك، فإن بعض النقّاد يذهبون إلى القول بأن هذا العامل بالذات هو ما جعل منه رسّاما خاصّا ومتفرّدا.
ومن الواضح انه استطاع بلورة أسلوبه الفنّي الذي لا تخطئه العين أثناء إقامته في لونافيل، عندما كان يحاول التغلّب على الكآبة بالانهماك في الرسم.
والواقع انك عندما تتذوّق دي لاتور، فإنك سرعان ما تتعرّف على نكهته الخاصّة. لوحاته المعروفة لا تتجاوز الأربعين. لذا فإن كلّ معرض لأعماله هو حدث قائم بذاته.
ملكة بريطانيا تملك إحدى لوحاته بعنوان "سينت جيروم يقرأ". وقد دخلت اللوحة المجموعة الملكية في العام 1660 عندما اشتراها تشارلز الثاني. واللوحة توفّر دليلا نادرا وغير عادي على ذكاء ملكة بريطانيا وذوقها الرفيع.
معظم اللوحات التي تصوّر سينت جيروم يظهر فيها واهنا وضعيفا وفي الثمانين من عمره . لكن هذه اللوحة تصوّره في الستّينات من عمره. وهو يبدو فيها أصلع وبأنف حمراء.
رسْم القدّيسين بمظهر إنساني كان احد المعايير الفنّية التي كانت سائدة في عصر الباروك. كما انه أحد أفضل الدروس المستمدّة من كارافاجيو. وهذه اللوحة لا تدع مجالا للشكّ بأنها لـ لا تور بألوانها وبأسلوب إضاءتها. جيروم معروف دائما برداء الكاردينالية الأحمر. لكن لم يحدث أبدا أن صُوّر لباسه بهذه الدرجة من التوهّج، كما لو انه مضاء من الداخل مثل فانوس صيني.
ضوء الشمعة يخترق الرسالة التي يقرؤها ويضفي عليها وهجا احمر. إنها لحظة ليلية مكثّفة. والمشهد ليس مجرّد وصف لحالة الضوء، بل استحضار لمزاج ليليّ مشحون بطريقة غريبة.
على الرغم من أن دي لا تور أصبح اليوم غامضا، إلا أن من الواضح أنه كان يحظى في زمانه بالكثير من الإعجاب، بدليل مرّات الاستنساخ الكثيرة التي أجريت للوحاته التي كُتب لها البقاء.
كان جورج دي لاتور رسّام البلاط في عهد الملك لويس الثالث عشر. وكان قد أمضى وقتا في كلّ من إيطاليا وهولندا، حيث كانت لوحات كارافاجيو تحظى هناك بالشعبية. وممّا لا شكّ فيه أنه رأى تلك اللوحات وتأثر بها. والشبه واضح كثيرا بين لوحات الاثنين. ومثل كارافاجيو، كانت كلّ لوحة من لوحات دي لا تور تتضمّن شخصية مركزية واحدة.
كان دي لا تور يرسم مصدر الضوء ضمن الإطار العام للوحة. والسطوع الشديد في اللوحة يصبح نقطة الارتكاز داخلها.
في لوحته المشهورة المسمّاة المجدلية التائبة، يرسم دي لا تور شمعة ينعكس وهجها على وجه المرأة الجالسة إلى طاولة. المرأة تجلس في الظلام تقريبا وتبدو كئيبة إلى حدّ ما، بينما تريح يدها اليمنى على جمجمة بشرية تستقرّ في حضنها.
إمالة المرأة لجسدها إلى الأمام قليلا يضفي على المنظر إحساسا بالحميمية. والفكرة التي تتناولها هذه اللوحة هي أن مريم المجدلية تخلّت طوعا عن حياة الترف والرفاهية وفرّغت نفسها للتأمّل في معنى الحياة ومصير الإنسان.
هذه اللوحة كانت خلال السنوات القليلة الماضية موضوعا لدراسات فنّية كثيرة ومستفيضة أجراها عدد من مؤرّخي الفنّ الأمريكيين والفرنسيين.
اليوم، هناك من يقول إن دي لا تور كان تلميذا لـ غويدو ريني، وأنه درس على يد الرسّام الايطالي أثناء إقامته في روما.
الغريب أن هناك شهادات من معاصري دي لا تور تصفه بأنه كان شخصا متغطرسا وسليط اللسان وبخيلا وعنيفا إلى درجة لا تطاق.
والأكثر غرابة أن هذه الأوصاف، عدا البخل، تناسب كارافاجيو تماما.
هذان الرسّامان كانا الأكثر تركيزا من بين جميع الرسّامين على تصوير المواضيع المقدّسة بكلّ بهائها وجمالها. غير أنهما مع ذلك كانا يتّسمان بالغلظة والدناءة.
كان كارافاجيو شخصا خسيساً كما يصفه بعض المؤرّخين. وربّما كان دي لا تور أكثر خسّة ووضاعة.
ومع ذلك أنتج الاثنان فنّا استثنائيا يتجاوز طبيعتهما الحقيقية.

هامش: لوحات دي لا تور


Credits
arthistory.net