:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، يوليو 04، 2014

لوحات وروايات/2

الكاتبة الأمريكية دونا تارت هي آخر من ألّف رواية تستند في موضوعها إلى لوحة تشكيلية. هذه الرواية هي التي سنتوقّف عندها في هذا الجزء بشيء من التفصيل. عنوان الرواية طائر الحسّون وهي ثالث رواية للكاتبة. وقد نالت عليها جائزة البوليتزر ولاقت صدى طيّبا عند الجمهور والنقّاد. مؤلّف روايات الرعب ستيفن كنغ كتب عن الرواية واصفا إيّاها "بالعمل النادر المكتوب بذكاء والذي يخاطب العقل والقلب معا".
تدور أحداث الرواية حول بورتريه صغير لطائر حسّون رسمه فنّان هولندي يُدعى كارل فابريتسيوس قبل 350 عاما.
وبطل الرواية صبيّ مراهق اسمه ثيو يصطحب أمّه ذات يوم إلى متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك. وفي إحدى قاعات المتحف يتوقّف الاثنان أمام لوحة الطائر الصغير كي يتأمّلا تفاصيلها. وبينما هما هناك، تنفجر قنبلة فجأة ويروح ضحيّتها عشرة أشخاص من بينهم والدة الصبيّ.
وأثناء الفوضى التي تلي الانفجار يأخذ ثيو اللوحة ويحملها معه إلى خارج المتحف. وبقيّة الرواية الطويلة تخبرنا ما الذي حدث للصبيّ وللوحة بعد ذلك. يتذكّر الصبيّ، مثلا، ما حدث له منذ الانفجار ويدرك أن قدره أصبح مرتبطا بهذه اللوحة الصغيرة، وأنه كلّما أطال إخفاءها كلّما أصبح اقلّ قدرة على إعادتها.
يقول البطل في مكان ما من الرواية: بين الواقع والنقطة التي يتلامس فيها مع العقل، ثمّة منطقة وسطى؛ حافّة قوس قزح حيث يمتزج سطحان مختلفان جدّا وتضيع الحدود بينهما ليوفّرا ما لا توفّره الحياة. هذا هو الفضاء الذي يولد فيه الجمال وتوجد فيه كلّ الفنون".
والسؤال الذي تطرحه الرواية هو: ما الذي يجعل الفنّ فنّا، وما الذي فعلته لوحة عمرها أكثر من 300 عام بطفل صغير؟
لكن ترى ما الذي لفت انتباه دونا تارت في هذه اللوحة الضئيلة كي تجعلها موضوعا لرواية؟
اللوحة صغيرة جدّا. ومع ذلك فهي تحتفظ بسحرها الخاصّ رغم وجودها في غرفة تضمّ خمس عشرة لوحة أخرى لفنّانين هولنديين كبار مثل هولس وفيرمير وستين ورمبراندت.
في لوحة فابريتسيوس هذه، هناك شيء ما غامض؛ شيء لن تجده في طبعاتها المستنسخة، لكنك سرعان ما ستكتشفه عندما تقف أمام النسخة الأصلية من هذه اللوحة المدهشة.
وفيها نرى طائرا مغرّدا من نوع الحسّون، وهو طائر معروف بلونه الأصفر الفاتح وبرأسه المبقّع بالأحمر وكذلك بجناحيه الأسودين. في زمن فابريتسيوس كان هذا النوع من الطيور يعامل كطائر أليف في المنازل وكان يجري تعليمه الكلام والحيل.
الطائر يظهر في اللوحة معتليا قفصا خشبيا بينما رُبطت إحدى قدميه بسلسلة. وقد رُسم بطريقة بارعة وبعدد محسوب من ضربات الفرشاة. يمكنك أن تحدّق في اللوحة لعام كامل وتتمعّن في ألوانها وفي أسلوب رسمها، ولا تستطيع أن تعرف كيف رسمها الفنّان ولماذا.
غير أن وراء هذه اللوحة قصّة لا تخلو من إثارة ومأساوية. فقد رسمها كارل فابريتسيوس في نفس السنة التي مات فيها. وقد قُتل وعمره لا يتجاوز الثانية والثلاثين بانفجار في مستودع للبارود في مدينة ديلفت الهولندية عام 1654م.
في ذلك الانفجار، دُمّرت معظم لوحاته. وحدها "طائر الحسّون" مع بضع لوحات أخرى هي التي نجت. والشخص الذي يشرح اللوحة لزوّار المتحف في نيويورك يزعم انك لو نظرت إلى سطح اللوحة عن قرب فسترى بعض آثار ذلك الانفجار بوضوح.
بعض المصادر التي تعود إلى تلك الفترة تذكر أن الانفجار لم يتسبّب فحسب في قتل الرسّام وتدمير محترفه وإتلاف معظم أعماله، وإنما دمّر أيضا ربع مباني المدينة.
حياة كارل فابريتسيوس كانت قصيرة جدّا. ولوحاته الباقية اليوم قليلة لا يتجاوز عددها العشر، وكلّ واحدة منها تحفة فنّية. كان رسّاما واعدا، وكان أنجب تلاميذ رمبراندت، كما كان له تأثير على فيرمير. اهتمامه بالتأثيرات البصرية، ثمّ حقيقة انه استقرّ في ديلفت، تعني انه كان يُنظر إليه كجسر بين رمبراندت وفيرمير.
ويقال إن فيرمير نفسه تأثّر بهذه اللوحة الصغيرة عندما كان يعمل على لوحته التي أصبحت في ما بعد أشهر لوحة هولندية، أي "الفتاة ذات القرط اللؤلؤي".
والأمر الذي لا خلاف عليه هو أن "طائر الحسّون" لم تفقد شيئا من قوّتها وبريقها خلال القرون الثلاثة الماضية، كما يقول ثيو في آخر صفحات الرواية. "شيء عظيم ورائع أن تحبّ ما لا يستطيع الموت لمسه".

Credits
therumpus.net
literaryreview.co.uk

الخميس، يوليو 03، 2014

لوحات وروايات

أحيانا قد تنظر إلى لوحة أو صورة ما فيساورك إحساس بأنها تحكي عن قصّة أو أنها يمكن أن توفّر أساسا لكتابة قصّة أو رواية. والصورة، أيّة صورة، حتى إن كانت ساكنة ظاهريا، ليست في النهاية سوى تعبير عن حركة وسيرورة الزمن.
والمعنى أو الطابع السردي الذي نضفيه على صورة ما ليس سوى انعكاس لمخيّلتنا. كما أن الفنّ في نهاية الأمر ليس سوى رمز أو استعادة لشيء ما اكبر.
وفي السنوات الأخيرة، راجت ظاهرة الروايات الأدبية التي تعتمد على أعمال تشكيلية. وأقرب مثال على ذلك يرد إلى الذهن هو رواية الفتاة ذات القرط اللؤلؤي للكاتبة تريسي شيفالييه. هذه الرواية تعتمد على لوحة بنفس الاسم للرسّام الهولنديّ يوهانس فيرمير.
وكانت شيفالييه قد رأت اللوحة لأوّل مرّة في نيويورك وكان عمرها آنذاك لا يتجاوز التاسعة عشرة. وقد فُتنت بملامح الفتاة في اللوحة وبابتسامتها الغامضة. ثم اشترت نسخة من اللوحة وعلّقتها في بيتها، قبل أن تبدأ في كتابة روايتها. وقد حقّقت الرواية نجاحا كبيرا ثم تحوّلت إلى فيلم سينمائي حقّق هو الآخر نجاحا واسعا.
وبالتأكيد عندما تنظر إلى لوحة فيرمير هذه لا بدّ وأن تحبّها. والحقيقة أن الملمح السردي، أي قابلية اللوحة لأن تتحوّل إلى قصّة أو رواية، لا يقتصر على هذه اللوحة فحسب، بل يمكن ملاحظته بوضوح في العديد من اللوحات الهولندية الأخرى التي تعود إلى القرن السابع عشر، أي إلى العصر الذهبي للرسم الهولندي.
الكثير من اللوحات الهولندية من ذلك العصر، أي عصر رمبراندت وفيرمير ودي هوك وهولس وفان اوستيد، توفّر لحظات سلام وتستحضر تأمّلا وجدانيّا وروحيّا. ولا يمكن للإنسان إلا أن يُعجَب بها لجمالها وإلهامها وأصالتها وأسلوبها وألوانها والبراعة التي نُفّذت بها.
أنظر مثلا إلى هذه اللوحة أو هذه . كلّ من هاتين اللوحتين يمكن أن تنبني عليها قصّة أو رواية متخيّلة.
وكلّ أولئك الرسّامين كانوا من العباقرة. لكن فيرمير، على وجه الخصوص، ظلّ لغزا عصيّا على الفهم. وما كُتب عنه وعن حياته قليل. لكن مناظره، بنسائها المثيرات وأماكنها المتقشّفة وما تستدعيه من هدوء وسكينة، تسمح ببعض الشروحات عن سياقاتها الاجتماعية والتاريخية.
والنقّاد والروائيون ما يزالون إلى اليوم يبحثون عن قصص ورموز ورسائل خفيّة قد تكون اُودعَت في تلك الصور التي رسمها فيرمير والتي تشبه الأفلام الصامتة أو اللحظات الدرامية في الحياة. وفي هذه الأيّام ترك فيرمير بصمته على كلّ شيء ووجدت لوحاته تعبيرا لها في كلّ اتجاه تقريبا، من الأوبرا إلى الطوابع البريدية والموسيقى والإعلانات.
اللوحات الروسية هي الأخرى غنيّة بالخصائص السردية. تأمّل مثلا هذه اللوحة لايليا ريبين أو هذه لفالانتين سيروف. كلّ من هاتين اللوحتين تصلح موضوعا لقصّة أو رواية. ولوحتي المفضّلة من هذا النوع من الرسم السردي أو الذي يمكن تكييفه وتحويله إلى عمل أدبيّ هي هذه . أمّا الأسباب فقد أتحدّث عنها في ما بعد.
بالإضافة إلى رواية تريسي شيفالييه المعتمدة على لوحة فيرمير، ألّف دان براون رواية بعنوان شيفرة دافنشي تبدأ أحداثها بمشهد العثور على شخص مقتول داخل متحف اللوفر بينما يشير وضع الجثة إلى لوحة إنسان فيتروفيوس لليوناردو دافنشي.
كما كتبت جين كالوغريديس رواية بعنوان موناليزا تجري أحداثها في فلورنسا القرن الخامس عشر وتحكي عن حياة المرأة التي تظهر في اللوحة المشهورة وعن مشاكلها وخيباتها العاطفية.
وكتبت اليزابيث هيكي رواية بعنوان القبلة المرسومة تحكي من خلالها قصّة الحبّ التي ربطت الرسّام النمساوي غوستاف كليمت بالعارضة ايميلي فلوغي التي ستصبح في ما بعد موديله المفضّلة والتي ستظهر في لوحته المشهورة القبلة.
سوزان فريلاند الّفت، هي الأخرى، رواية بعنوان فتاة بفستان ازرق نيلي . الكاتبة تنطلق في روايتها من حقيقة معروفة وهي أن فيرمير لم يترك وراءه سوى 35 لوحة فقط. غير أنها تفترض وجود لوحة مفقودة للرسّام، ثم تبدأ بتعقّب اللوحة المزعومة أثناء انتقالها من مالك لآخر.
وللحديث بقيّة غدا..