:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، فبراير 16، 2017

مقاطع من حلم/2


بسبب قصيدة كولريدج وكتابات ماركوبولو، تحوّلت زانادو (أو شانغدو كما تُسمّى بالصينية)، ومعها قصر قبلاي خان العظيم، إلى مكان أسطوريّ واُضفي عليها طابع رومانسيّ. وأصبح اسم المدينة اليوم كناية عن مكان غرائبيّ وساحر ولا يمكن بلوغه يقع في أعماق الشرق الغامض، مثل شانغريلا.
صحيح أن قصيدة كولريدج هي عن شخص ومكان ما، لكنّها أيضا عن كيف تستطيع أن تخلق أشياءً وتبني قصورا بالكلمات وحدها.
في الجزء الأوّل من القصيدة، توقّفنا عند حديث الشاعر عن التلّ الأخضر وغابة الأرز والمرأة عاشقة الشيطان.
وفي هذا الجزء نتناول بقيّة القصيدة. وستلاحظ مع القراءة كيف أن الشاعر يلوّن المزاج في هذه الطبيعة ولا يقدّم شخصيّات جديدة. لذا لا تدع التفاصيل تصرفك بعيدا عن القصّة الأساسية. وتذكّر دائما أننا نسمع وصفا لحلم أو رؤيا.
هل حدث لك ذات مرّة وأنت على وشك النوم أن لمعت صورة ما في عقلك ثم اختفت فجأة؟ شيء مثل هذا الإحساس المكثّف لمع في ذهن الشاعر للحظات عندما رأى صورة هذه المرأة وشيطانها قبل أن يختفيا.

  • ومن هذه الفجوة، وباضطرابٍ عارم دون توقّف،
    وكما لو أن هذه الأرض كانت تتنفّس بلهاثٍ ثقيل متسارع،
    تفجَّرتْ بغتةً نافورة ضخمة
    بين فتراتِ تقطّعها السريع انفجرت
    قِطَع ضخمة قافزة كبَرَدٍ وثّاب
    أو كهشيم القمح المتناثر تحت ضربات الدرّاسة
    وبين هذه الصخور الراقصة انبثق
    النهر المقدّس فوراً وإلى الأبد
    تأمّل هذه الكلمات القويّة والدراماتيكية: فجوة، اضطراب، دون توقّف. هذا النهر ليس هادئا، لا يسير بتثاقل أو كسل كالكثير من الأنهار، بل هو أقرب ما يكون إلى نوع من الأنهار الفانتازية والمستحيلة.
    طبعا من عادة الأنهار ألا تتوقّف عن الجريان، لذا لم يكن كولريدج بحاجة ليخبرنا أن النهر يجري في كلّ حين. لكنه أراد أن يجعلنا نفكّر في النهر كشيء يتمّ خلقه كلّ ثانية. وهو يريد أيضا أن يصوّر اندفاع الماء وتكسّره وهيجانه.
    كان الشاعر وزملاؤه الشعراء الرومانسيّون يحبّون مناظر مثل هذه، حيث القوّة الهائلة للطبيعة تنطلق من عقالها وتشقّ طريقها بعنف، وعلينا بعد ذلك أن نراقبها.
    ويبدو أن هذا المشهد أخذ خيال الشاعر بعيدا فحوّل الأرض إلى ما يشبه حيوانا يتنفّس. وهو يريدنا أن نسمعه ونشعر بالقوّة الساحقة لهذا النهر. كما انه يحافظ على هذه الحدّة والكثافة سطرا بعد سطر جاذبا القارئ نحو النهر مرّة إثر أخرى.
    يمكننا أن نحفر في كلّ واحدة من هذه الصور وألا نتوقّف عن النظر والتأمّل في كلّ سطر من هذه السطور. هل تشعر باندفاع الماء وتتخيّل تكسّر الأمواج فوق الصخور؟ إن كان الجواب نعم، فقد أدّت القصيدة وظيفتها.
    هذه الأسطر أشبه ما تكون بأوركسترا سيمفونية: شعور مندفع، أصوات وحماس. واستحضار الشاعر لكل هذه القوّة الطاغية للطبيعة في القصيدة هو طريقة لجعلك تفكّر في الحبّ والموت والروح والخلود. والشاعر يريد من ورائها أن يشدّ انتباهك وأن يأخذك معه بعيدا.

  • خمسةَ أميالٍ متعرِّجة بحركة محيِّرة
    خلال غابة ووادٍ جرى النهر المقدَّس
    وبعدها وصل الكهوف التي لا يدرك إنسان مداها
    وغارَ في جلبةٍ في بحرٍ لا حياة فيه
    فجأة تهدأ الأشياء قليلا. والنهر يصل إلى سهل مستوٍ من الوادي حيث يقع زانادو، ثم يبدأ "متعرّجا بحركة محيّرة". الآن أصبحنا نعرف قصّة النهر بأكمله من منظور شخص ما في زانادو. النهر يجري والماء يتحرّك بسرعة وبثورة كما لو انه شلال، ثم لا يلبث أن يهدّئ من سيره ويمرّ عبر زانادو لخمسة أميال حتى يصل إلى الكهوف.
    لا أحد يعرف عمق تلك الكهوف، إنها ضخمة بحيث يستحيل قياسها. لكنّنا نعرف أنها تحتوي على محيط تحت الأرض يصبّ فيه النهر. هل تتذكّر عبارة "بحر بلا شمس"؟ إنها تعود مرّة أخرى هنا على صورة "بحر لا حياة فيه". وصفان مختلفان، لكنّهما يوصلان نفس المعنى الكئيب.

  • ووسط هذه الجلبة سمع قبلاي من بعيد أصوات
    أسلافِه متنبّئةً بحرب
    إلى ما قبل هذه الفقرة، يبدو أن كولريدج نسي تماما قبلاي خان. والآن يعود إليه من جديد. الخان يراقب كلّ هذه الضوضاء، ومن خلالها يسمع من بعيد أصوات أسلافه الموتى وهم يتنبّئون بالحرب.
    بعد كلّ شيء، علينا أن نتذكّر أن هذا الرجل هو حفيد جنكيز خان. وهو لم يكن معروفا بحبّه للسلام، بل بحروبه وغزواته الكثيرة. ومن المرجّح انه قضى وقتا طويلا يفكّر بالحرب، حتى وهو يصيخ سمعه إلى صوت المياه المتكسّرة للنهر. هذه الصورة تأخذنا إلى الجزء الأكثر عنفا من القصيدة.


  • في منتصف طريقه طفا ظلّ قُبّة الابتهاج على الأمواج
    حيث سُمع ما اختلط
    من النافورة ومن الكهوف
    ننظر الآن إلى الخارج، إلى القبّة والظلال التي تلقيها فوق المحيط. في أربعة اسطر فقط نحصل على الأمواج والكهوف والنافورة وقبّة الابتهاج.
    كلّ شيء مختلط هنا، بما في ذلك الأصوات المختلفة للنهر. في الواقع هناك أنواع من الموسيقى في هذه القصيدة، لكنّها موسيقى غريبة وغير منتظمة.

  • كان معجزة لاختراعٍ نادر
    قبّةُ ابتهاج مُشمسة بكهوف من ثلج
    هذان السطران السريعان يأخذانا إلى نفس التباينات التي رأيناها في القصر والنهر. في الأبيات الاستهلالية، لم يقل الشاعر شيئا عن برودة الكهوف أو سخونة القبّة. لكنه يوضّح هذه الأشياء هنا. ثمّة عالم من التباينات: العالم الطبيعيّ مقابل العالم الذي صنعه الإنسان، المُشمس والمُثلج، فوق الأرض وتحتها.

  • صبيّةً بسنطور
    رأيت ذات مرةٍ في الرؤيا
    فتاة حبشيّة
    وعلى سُنطورها نقرت
    مغنيّةً جبل أبورا
    الآن تأخذ القصيدة انعطافة كبيرة. ومن دون سابق إنذار، يغيّر الشاعر الموضوع ويبدأ في وصف رؤيا أخرى رآها من قبل. يرى فتاة يخبرنا عنها ثلاثة أشياء في ثلاثة اسطر: هي حبشية، وتعزف على سنطور، وتغنّي أغنية من مكان يُسمّى "جبل ابورا" وهو من اختراع كولريدج.
    لماذا هذه الصور الثلاث معا؟ نحتاج لأن نتمعّن قليلا لنرى إن كان هناك نوع من الشفرة أو الرمز. البعض يعتقد أن الشاعر يشير إلى مكان ما في إثيوبيا، والبعض الآخر يظنّ أنها إشارة مقتبسة من الإنجيل، والبعض الثالث يعتقد انه مكان ذكره جون ميلتون في روايته "البحث عن الفردوس المفقود".
    ربّما كان كولريدج يريد إضفاء بعض الغموض على هذا الجزء بالذات من القصيدة. وكان بإمكانه أن يوضّح أكثر فيما لو أراد. لكن كلّ هذه الأحلام والرؤى خاصّة ولا يمكن تفسيرها. وهذا الإحساس بالغموض هو احد الأسباب التي تجعل من هذه القصيدة قصيدة جميلة.

  • هل أستطيع أن أحيِي في داخلي
    سيمفونيّتها وأغنيتها
    بمثل هذا الابتهاج العميق قد تملكني
    بذاك، بموسيقى هادرة وطويلة
    أريد أن أبني تلك القبّةَ في الهواء
    تلك القبّة المشمسة! تلك الكهوف من الثلج!
    وكلّ من سمع يجب أن يراها هناك
    الآن ينظر الشاعر إلى الوراء متذكّرا الموسيقى التي سمعها في الرؤيا. يستطيع أن يصفها، لكن ليس بمقدوره أن يعود إلى الوراء لتجريب ذلك الشعور المكثّف. ومع ذلك هو يتطلّع لتلك التجربة، إلى الشعور بالدهشة الذي اختفى مع تلك الرؤيا.
    الشاعر يريد أن يبعث الموسيقى من جديد، أن يعيدها إلى الحياة. ولو استطاع إن يتواصل مع تلك الرؤيا، فإنه يتخيّل أنها يمكن أن تلهمه وتسمح له بخلق أشياء مدهشة هو نفسه.
    موسيقى المرأة ستملأ روحه، ومن خلالها يمكنه هو أيضا أن يجعل موسيقاه شجيّة وعالية. وهذه الموسيقى ستمكّنه من استعادة روح زانادو كي "يبني تلك القبّة في الهواء".
    كلّ هذا قد يبدو غريبا للوهلة الأولى عندما تتأمّله، رغم أن هذا وصف عظيم لما يمكن أن يفعله كلّ فنّان. فالمؤلّفون الموسيقيّون والشعراء جميعهم يبنون أشياءهم في الهواء، يستخدمون الكلمات والأحداث لجعل رؤاهم تتحقّق في واقع الحياة.
    والشاعر يقول انه يتمنّى أن يعيش التجربة الموسيقيّة مرّة أخرى، وهذا هو بالفعل ما يفعله في القصيدة. انه يستخدم الكلمات كي ينقلنا معه لنعيش ما رآه "وكلّ من سمع يجب أن يراها هناك".

  • والكلّ يجب أن يصرخ، حذارِ! حذارِ
    عيناه المتوّهّجتان، شعره المسترسِل!
    اِنسجْ دائرة حوله ثلاث مرّات
    واغمض عينيك برهبة مقَدَّسة
    لأنّه تغذّى على المنّ
    وشرب حليب الفردوس
    لكنّ هذه الرؤيا ليست فقط عن قبّة. فالشاعر عندما يناجي زانادو، فإنه أيضا يستحضر روحا غريبة. وهذا المخلوق الآخر أكثر إثارة للخوف من القصر ومن الكهوف والمحيط.
    في بعض أفلام الرعب، يحدث أحيانا أن يتفوّه مجموعة من الأطفال بكلمة سحرية ثلاث مرّات كي يستدعوا مخلوقا شرّيرا. تلك الفكرة تشبه هذه. والشاعر يتخيّل انه لو تحقّقت رؤياه، فإنها ستخيف البشر وتجعلهم يصرخون "حذارِ حذارِ".
    إنه يصف شخصا مخيفا بعينين متوقّدتين وشعر مسترسل. وهذا المخلوق مخيف جدّا، لدرجة أن عليك أن تقوم ببعض الطقوس السحرية لحماية نفسك من شيطانه "إنسج دائرة حوله ثلاث مرّات".
    ما هي هذه الروح الغريبة؟ الشاعر لا يقول عنها شيئا. ربّما كان يتحدّث عن نفسه. وربّما أصبحت أغنيته الخاصّة ورؤياه قويّة جدّا لدرجة أنها تحوّلت إلى نوع من الإله يأكل "المنّ ويشرب حليب الفردوس". وقد تكون هذه الصور إشارة إلى الأفيون الذي تعاطاه كولريدج قبل أن ينام تلك الليلة والذي جعل هذا الحلم ممكنا في المقام الأوّل.
    أو قد تكون هذه هي الرؤيا الأخيرة لقبلاي خان نفسه بتحوّله إلى نوع من المخلوقات الغريبة والجديدة. لكن الذي يبقى معنا هو الصورة المكثّفة التي أصبحت أكثر تشويقا بفضل وصفها الغامض.

  • Credits
    poemanalysis.com
    alchetron.com

    الاثنين، فبراير 13، 2017

    مقاطع من حلم/1


    من أشهر قصائد الشعر الرومانسيّ قصيدة "قبلاي خان" التي كتبها الشاعر الانجليزي سامويل تيلر كولريدج عام 1816م. وفيها يصف "زانادو" مقرّ إقامة الإمبراطور المغولي قبلاي خان (1215-1294)، حفيد جنكيز خان.
    تبدأ القصيدة بوصف قصر الإمبراطور الذي يسمّيه الشاعر "قصر الابتهاج". وهو يخبرنا عن نهر يجري عبر الأرض ثم يفيض من خلال بعض الكهوف إلى أن ينتهي به المطاف في البحر.
    كما يتحدّث الشاعر عن الأرض الخصبة التي تحيط بالقصر والتي تغطّيها الجداول والأشجار العطرية والغابات الساحرة.
    ثم ينتقل للحديث عن النهر ثانيةً وعن الوادي الجميل الذي يمرّ من خلاله. وهو يصوّر المكان بطريقة تبعث على الرهبة، حيث يمكنك أن تجد هناك امرأة تنتظر مقدم حبيبها الشيطان.
    ثم يصف كيف أن النهر يتكسّر عبر الوادي مُحدثا ما يشبه النافورة قبل أن يتسرّب ماؤه إلى الكهوف الأرضية ومنها إلى المحيط البعيد.
    ثم يتحدّث كولريدج عن قبلاي خان نفسه الذي يستمع إلى ضجيج النهر ويفكّر في الحرب.
    بعد ذلك ينتقل الشاعر بعيدا عن هذه الطبيعة ليخبرنا عن رؤيا رآها، هي عبارة عن امرأة تعزف آلة موسيقية وتغنّي أغنية تثير ذكرياته وتملؤه شوقا وشغفا. وهو يوظّف هذه الأغنية ليتخيّل نفسه وهو يغنّي أغنيته الخاصّة ولكي يرسم من خلالها رؤياه عن "زانادو".
    وقبل نهاية القصيدة، يرسم الشاعر صورة لشخص مرعب بعينين تقدحان الشرر. وهذا الشخص ليس سوى قبلاي خان نفسه الذي يصوّره كمخلوق قويّ جدّا وأقرب ما يكون لإله.
    وأنت تقرأ هذه القصيدة، لا بدّ وأن تتخيّل أن كولريدج كان يلقيها في حشد من الناس محاولا دغدغة مشاعرهم. وهو يخصّص سطورا كثيرة من قصيدته لوصف الطبيعة، النهر والكهوف والبحر.
    والقصيدة تبدو مثل سيمفونية تتضمّن جميع الأصوات والحركات والأنغام. مثلا عندما يتكسّر النهر عبر الكهوف الكامنة تحت الأرض فلا بدّ أن تتخيّل قوّة اندفاع وجيشان الماء.
    والشاعر يجد عددا من الأشياء المثيرة في الطبيعة والتي يوظّفها لخلق جوّ القصيدة. كما انه واقع بالكامل في اسر القوى التي يراها في عالم الطبيعة. وهذه سمة معروفة عن شعر كولريدج وشعر الرومانسيين عامّة.
    في هذه القصيدة لن تجد جنساً ولا أيّ نوع من الإثارة الحسّية، لكنها تتضمّن عددا من الصور المزعجة.
    في السطور التالية، سنتناول هذه القصيدة مقطعاً مقطعاً بالتحليل والتعليق كي نكتشف بعض صورها وجمالياتها. علما بأن الترجمة العربية المعتمدة هنا للقصيدة هي ترجمة الدكتور بهجت عبّاس، بحكم كونها الأقرب إلى روح وجوّ القصيدة.

  • في زانادو أصدر قبلاي خان
    قراراً ببناء قبّة ابتهاج فخمة
    هذا استهلال مشهور. ولا بدّ أن هذا المقطع لزمه عمل كثير. وهو يقدّم القارئ إلى شخصية العنوان، أي قبلاي خان. العنوان نفسه بسيط وسهل، اسم عظيم وجميل فعلا، كما انه يبدو قويّا وغامضا.
    ثم يبدأ الشاعر بوصف المكان المدهش الذي تجري فيه القصيدة، أي زانادو. "قبّة الابتهاج الفخمة" تعني أن الإمبراطور المغولي بنى قصرا رائعا وبديعا حقّا.
    لنتذكّر أن قبلاي خان كان يحكم امبراطورية شاسعة كانت حدودها تمتدّ من هنغاريا إلى كوريا. ولا بدّ وأنه كان بحاجة إلى مثل هذا القصر الصيفيّ الفخم في زانادو كي يوفّر له الراحة والحماية.
    في ما بعد، زاره في ذلك القصر الرحّالة الايطالي ماركوبولو الذي كان لكتاباته دور مهمّ جدّا في الشهرة الأسطورية لذلك القصر.
    طبعا وأنت تقرأ لا بدّ وأن تسأل نفسك: هل الشخص والمكان حقيقيّان أم أنهما يبدوان خياليّين تماما؟ ربّما الإجابة هي مزيج من نعم ولا، كما سنرى بعد قليل.

  • حيث جرى النهر المقدَّس "ألف"
    خلالَ كهوفٍ لا يستطيع إنسان إدراك مداها
    أسفل إلى بحرٍ لا تطلع عليه شمس
    يتحوّل الشاعر الآن إلى وصف جغرافية زانادو ويقدّمنا إلى نهر ألف. بالتأكيد لا يوجد نهر بهذا الاسم في منغوليا لا الآن ولا في زمن قبلاي خان.
    وبعض المؤرّخين يقولون إن هذه إشارة إلى نهر ألفيوس، وهو نهر في اليونان كان مشهورا في الأدب الكلاسيكيّ. لكن اسم "ألف" قد يدفعنا للتفكير في الحرف الإغريقيّ "ألفا" أوّل حروف الأبجدية الإغريقية ورمز البدايات.
    هذه الارتباطات، بل وحتى حقيقة أن النهر له اسم، يجعل "ألف" اسما بارزا في بداية القصيدة. لاحظ كيف أن كولريدج يتحرّك بعيدا عن التاريخ وهو يحوّل هذا المكان وهذا الشخص وهذه القصّة إلى شيء من ابتكاره هو.
    "قبلاي خان" هي بالتأكيد قصيدة بقدر ما هي رحلة خيالية، لأنها عن عالم حقيقيّ. وعندما يتحدّث الشاعر عن "كهوف لا يستطيع إنسان إدراك مداها"، يصبح لدينا شعور بأن هذه الطبيعة ضخمة وغير معروفة.
    وهذا الشعور يلازمنا عندما نصل إلى "البحر الذي لا تطلع عليه الشمس"، وهي صورة كئيبة فعلا. فأن تجد بحرا لا تطلع عليه الشمس، هذا ليس مدعاة للبهجة أو السرور أو غيرها من المشاعر التي يعكسها منظر البحر عادة.

  • لذا أُحيطت عشرةُ أميالٍ
    من الأرض الخصبة بحيطان وأبراجٍ
    ووُجدت هناك حدائقُ زاهرة بجداولَ مُتعرِّجة
    حيث أزهر كثير من شجر البخور
    وهنا كانت غابات قديمة كالتِّلال
    تحتضن بقعاً خضراءَ مشمسة
    الآن أصبحت الأمور أكثر مدعاةً للارتياح. الشاعر يأخذنا بعيدا عن تلك الكهوف التي لا نهاية لها ويخبرنا قليلا عن الحدائق التي تحيط بالقصر. وربّما تكون قد لاحظت أن اللغة أصبحت جميلة هنا. كولريدج كان غالبا يستخدم لغة جميلة ليصف مفاهيم بسيطة وأساسية.
    وهو هنا يقيم تباينا بين الكهوف المخيفة والغريبة والفراغ المريح والمألوف حول القصر. وهو يصف كيف أن القصر محاط بالأسوار والأبراج. وبينما الكهوف لا يمكن إدراكها، إلا أن هذا الفراغ يمكن إدراكه تماما وقياسه "عشرة أميال".
    كلّ شيء عن هذا المكان يُشعر الإنسان بالأمان والسعادة. فهو محميّ بالأسوار، وهو خصب، والحدائق "مزهرة"، وحتى الأشجار رائحتها شذيّة بسبب شجر البخور. ورغم أن الغابات "قديمة"، إلا أن الشاعر يتمكّن من جعلها تبدو مريحة أيضا، فهو يخبرنا أنها "تحتضن بقعاً خضراء مشمسة".
    والغابة تلتفّ حول تلك الأماكن المشمسة الصغيرة وتجعلها آمنة، مثلما أن الأسوار تلتفّ حول القصر وتجعله بمأمن. عالم الطبيعة في الخارج فطريّ وغريب. لكن داخل أسوار القصر تبدو الأشياء جميلة ومحميّة.
    ومن الواضح أن الشاعر لا يبدو منجذبا إلى الطبيعة المستبدّة لقبلاي خان، وهو ما كان يتوقّعه منه قرّاؤه. خان كولريدج اقرب ما يكون إلى الفنّان الذي يهوى المعمار وزراعة الحدائق المليئة بالروائح الشذيّة والجداول الرقراقة، المعزولة عن العالم الخارجيّ بأسوار وأبراج حصينة.

  • ولكنْ آه! تلك الفجوة الرومانسية التي انحدرت
    أسفل التلّ الأخضر عبر غابة من شجر الأرز!
    مكان موحش قاسٍ! تحت قمرٍ آخذٍ في المحاق، كمكان مقدَّس
    وفتّان دوماً، مسحور بامرأةٍ نادبةٍ حبيبها الشيطان!
    هنا يعيدنا الشاعر إلى العالم الفطريّ المخيف قليلا، من خلال العودة إلى نهر ألف الذي يبدو ذا شخصية وكيان مستقلّ بذاته في القصيدة. زانادو تقع في وادٍ محاط بالتلال، والنهر يتدفّق على أطراف أحد تلك التلال حافرا عبره واديا جبليّا عميقا.
    التلّ بأكمله مغطّى بأشجار الأرز. والنهر عنيف ولا يمكن التحكّم فيه، كما انه لا يشبه تلك الجداول الصغيرة التي مررنا بها في الأسطر القليلة السابقة. والشاعر يبدو منجذبا إلى هذا النهر كما لو انه مغناطيس.
    كان بمقدور كولريدج أن يتخيّل نفسه جالسا في تلك الحدائق مع شخص يقدّم له العنب. لكن هذه "الفجوة الرومانسية" تروق له وتمنح القصيدة حياتها. هل تشعر بمدى حماس الشاعر وهو يصف النهر؟ إحدى الطرق التي أراد من خلالها أن يلفت انتباهنا إلى وصفه المتحمّس هي علامات التعجّب التي ملأ بها هذا الجزء من القصيدة.
    انظر فقط إلى هذين المثالين: "غابة من شجر الأرز" و"مكان موحش وقاسٍ". علامات التعجّب التي تعقبهما تجعل تلك الصور تتقافز إلى الذهن مباشرة. لكن ماذا عن المرأة "عاشقة الشيطان"، وذلك "القمر الآخذ في المحاق"؟! الشاعر يستخدم هذه الصور ليجعلك تعرف كيف تبدو تلك الفجوة "أو الفراغ" رومانسية.
    وهو أيضا يريد منّا أن نتخيّل امرأة أو ربّما شبح امرأة تسكن روحها المكان. يمكن أن تكون هذه المرأة قد تعرّضت للعنة أو ألقيت عليها تعويذة أو وقعت في حبّ روح شرّيرة.
    ولو أرادت هذه المرأة أن تصرخ عن مصيرها الرهيب أو أن تُفصح عن حزنها وغضبها وأشواقها، فأين يمكنها أن تذهب؟ ستذهب إلى مكان مثل هذا بالضبط: وادٍ جبليّ منعزل ومهجور حيث لا احد يستطيع سماعها باستثناء القمر الآخذ في المحاق. هذه الصورة مكثّفة فعلا وهي تعطينا لمحة عن القصّة الجديدة التي ستتكّشف ملامحها في الجزء الثاني.