:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، يناير 05، 2012

عيون بلون البرتقال

في القرون الوسطى، كانت قرطبة واحدة من اكبر مدن الأندلس. ولو زرت هذه المدينة اليوم لوجدت فيها الكثير من الأماكن التي تذكّر بماضي المدينة العريق: الأفنية المرصوفة، والحدائق الغنّاء، والطرقات التي تتباين ألوانها الخضراء مع ألوان السماء الزرقاء.
وسيجد السائح في قرطبة العديد من مناطق الجذب الثقافي مثل المتحف الذي يضمّ قطعا وتحفا ثمينة من فترات تاريخية مختلفة. وهناك الحيّ اليهودي الذي يضمّ احد المعابد اليهودية الثلاثة التي ظلّت قائمة حتى اليوم في اسبانيا. ومن أشهر الشخصيات التاريخية التي ارتبطت بـ قرطبة العالم ابن ميمون والفيلسوف الكبير ابن رشد الذي يُعتبر رمزا للثقافة العربية في الأندلس.
وعلى ضفاف نهر الوادي الكبير، يمكنك رؤية الكازار "أو القصر" الذي كان يقيم فيه ملوك قرطبة من العرب. في غرف هذا القصر، كان كريستوفر كولومبوس يجمع الأموال التي ستُصرف على مغامرته لاكتشاف العالم الجديد. وفي ما بعد، أصبح القصر مقرّا لمحاكم التفتيش ثم حوّل إلى سجن. غير أن القصر تحوّل اليوم إلى مركز ثقافي تقام في بعض صالاته الفعاليات الثقافية والحفلات الموسيقية.
ومن أهم مناطق الجذب الأخرى في قرطبة متحف الرسّام الاسباني خوليو روميرو دي توريس الذي ارتبط اسمه بهذه المدينة منذ بدايات القرن الماضي.
ولد روميرو دي توريس في قرطبة عام 1874 لعائلة من الفنّانين. وقضى الرسّام طفولته وصباه في متحف كان يديره والده، الرسّام هو الآخر، ووسط مجموعة كبيرة من اللوحات والتماثيل التي تنتمي لعصور شتّى.

وفي بواكير حياته، زار الرسّام المغرب وتونس التي جاء منهما أسلافه القدامى. لكنه أيضا زار فرنسا وهولندا وبريطانيا، ثم ايطاليا التي اطلع فيها على لوحات كبار رسّامي عصر النهضة، خاصّة دافنشي ورافائيل ومايكل انجيلو.
وأعمال دي توريس أصيلة ولا تشبه أعمال أيّ فنّان آخر. ويقال انه إذا أردت أن تتعرّف إلى روح اسبانيا، وقرطبة على وجه الخصوص، فما عليك إلا أن تلقي نظرة على لوحات هذا الرسّام.
كان دي توريس رسّاما عالميا رأى العديد من الفنّانين في حياته واطلع على أساليب فنّية وبصرية عديدة ومختلفة. لكنه احتفظ في النهاية بأسلوبه الخاص والمتفرّد. لذا فإن قرطبة، والأندلس عموما، لم تضيعا في بحر التأثيرات الكثيرة التي تعرّض لها. وبمعنى ما، يمكن اعتباره نموذجا للفنّان الأندلسي.
كان معجبا بالجمال في أعماله معاصريه. ولم يكن تعنيه جنسية هذا الرسّام أو ذاك. وقد وجد اعترافا بعظمة فنّه في أوربا وأمريكا.
شغفه الكبير بالموسيقى والفلامنكو دفعه للتعرّف على أعمال مشاهير الموسيقى الاسبانية مثل دي فايا وإسحاق ألبينيز وغرانادوز.
كان دي توريس يمزج في لوحاته بين جماليات وتقاليد عصر النهضة والتراث الأندلسي. وقد استلهم مواضيع بعض أعماله من كلمات الأغاني ومن القصائد الشعرية. ومعظم لوحاته تصوّر نساء متأمّلات أو في حالات حزن وصمت.
الحضور المستمرّ للنساء في لوحات دي توريس أمر يسترعي الانتباه. ملامح النساء في هذه الصور تشي بأمزجتهن وحالاتهن السيكولوجية. وعيونهنّ تذكّر، ربّما، بقصيدة الشاعر الأندلسي فيديريكو غارسيا لوركا التي يتحدّث فيها عن "العيون الممزوجة بلون البرتقال". وبخلاف بيكاسو ودي غويا، لن تجد في رسومات هذا الفنّان أثرا لمصارعة الثيران العنيفة والدامية.

هناك فنّانون يعيدون تعريف البيئة، وهناك آخرون يعكسونها. ودي توريس ينتمي للصنف الأوّل. لكنّه يفعل هذا بطريقة غريبة وأصيلة. رقص الفلامنكو، على سبيل المثال، غالبا ما يُنظر إليه كوسيلة للمتعة والانشراح. لكنّه في لوحات دي توريس يكتسب هالة من الجدّية والجلال.
وبعض لوحاته لها نفس حسّية لوحات الحياة الساكنة البلجيكية، لكنها تحمل معها ترجمة دي توريس الرقيقة وأسلوبه الخاص في توظيف العري.
وإحدى أشهر لوحاته بعنوان فتاة الفحم أصبحت جزءا من الخيال الجمعي ونموذجا للمرأة الأندلسية المليئة بالجمال والإثارة. وقد طُبعت من هذه اللوحة ملايين النسخ وظهرت على بعض ورق النقود. واللوحة تصوّر فتاة تدفّئ قدميها على موقد. وبعض النقّاد يعتبرون اللوحة شهادة من الرسّام على قرطبة. وقد أتمّ رسمها قبل ثلاثة أشهر من وفاته.
كان دي توريس إنسانا متواضعا وعلى شيء من التأمّل والصمت. وكان يقرأ كثيرا لـ تولستوي ودستويفسكي ويعزف الغيتار ويعشق المسرح.
وقد توفّي عام 1929 بعد إصابته بمرض خطير في الكبد. وفي العام التالي، بُدئ ببناء متحف يحمل اسمه بإعانة مالية من مجلس مدينة قرطبة وكبار العائلات الموسرة فيها. وقد افتتح المتحف رسميا في الثالث والعشرين من نوفمبر عام 1932م.