:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، مايو 31، 2012

غويا: ويلات الحرب

في العام 1808م، غزت جيوش نابليون اسبانيا، فأسقطت حكم الملك شارل الرابع وأجبرت العائلة الملكية الإسبانية على مغادرة البلاد والذهاب إلى المنفى. وقد رافق الغزو عمليات إعدام جماعية ووحشية للمواطنين الإسبان الذين ثاروا احتجاجا على الغزو. ووصلت وحشية القوّات الغازية ذروتها مع قرار نابليون بتعيين شقيقه جوزيف ملكا على العرش الإسباني.
كان نابليون مؤمنا بقيم التنوير مثل الحرّية والعدالة المساواة. لذا كان يعتقد بأن الإسبان سيرحّبون به بوصفه محرّرا. غير أن الناس أصبحوا ينظرون إليه باعتباره طاغية أوروبّا.
وفي اللحظة التي قرّر فيها الإسبان التصدّي لقوّات الاحتلال، بدأت حرب دامية وشرسة. وفي ذلك الوقت، صيغ مصطلح حرب العصابات لأوّل مرة في تاريخ الحروب.
كان الرسّام خوسيه فرانشيسكو دي غويا وقتها قد أكمل عامه الثاني والستّين، وكان قد أصبح أصمّ بسبب إصابته بمرض غامض. كان ينظر حوله ويرى في الإيماءات الصامتة أشياء بشعة ومؤرّقة.
كان موقف غويا من الغزو مختلطا. كان يحبّ إسبانيا وشعبها كما تبرهن على ذلك الكثير من أعماله. لكنّه أيضا كان مؤمنا بالأفكار التقدّمية ومعجبا بحركة التنوير الفرنسية وبكتابات مونتسكيو وفولتير وجان جاك روسّو. ومثل الكثيرين غيره، كان يرى أن الحكم الفرنسي قد يكون متفوّقا على حكم المَلِكَين الإسبانيين شارل الرابع وفرديناند السابع. ولأنه عاش جزءا من حياته في البلاط الملكي، فقد كان على بيّنة من الآثار السيّئة للحكم الاستبداديّ المطلق.
وقد شهد غويا آنذاك ما أسماه "تقطيع أوصال اسبانيا"، وسجّل ذلك في سلسلة لوحاته المزعجة بعنوان ويلات الحرب. نُشرت هذه اللوحات لأوّل مرّة في العام 1863، أي بعد وفاته بـ 30 عاما. وهي عبارة عن إدانة قويّة للحرب وللفظائع التي تُرتكب أثناءها. وفيها يصوّر مشاهد من حرب الاستقلال التي خاضها الإسبان ضدّ محتلّيهم الفرنسيين. وقد تردّد الرسّام في نشر تلك الصور أثناء حياته خوفا من العواقب، إذ أن بعضها تتضمّن انتقادات مباشرة لما تلا تلك الحرب من صراع على السلطة بين حكّام البلاد الجدد والكنيسة.
ويمكن تصنيف اللوحات، حسب الموضوع، إلى ثلاث فئات: الدراما العنيفة للحرب مع الفرنسيين، والمجاعة التي حدثت في مدريد وحصدت أرواح أكثر من عشرين ألف شخص نتيجة حصار نابليون الطويل للمدينة، ثمّ المشاهد الرمزية التي تشير إلى فترة ما بعد الحرب عندما أعيد الملك فرديناند السابع إلى الحكم، جنبا إلى جنب مع عودة سلطة الكنيسة ومحاكم التفتيش.
كان غويا شاهد عيان على مآسي تلك الحرب وعلى وحشية المتقاتلين من كلا الطرفين. وكان يقف إلى جانب الإنسانية والعقل والسلام. كان شخصا يعيش في عالم مثاليّ من صنعه بفعل حاجز الصمم. لكنّه كان يرى المستقبل، فضلا عن الحاضر، بوضوح. وفنّه لم يكن مرتكزا على السياسة، بل على التاريخ. وقد لاحظ بمرارة آثار الحرب على بلاده وصوّر المعاناة والدمار الذي خلفته.
بالنسبة لـ غويا، أصبح الجنديّ نفسه، بصرف النظر إن كان من هذا الجانب أو ذاك، رمزا للشرّ المنتشر في كلّ مكان. وفي ظلمة الدمار الذي كان يرسمه، كان الأشخاص هم الجناة والضحايا على حدّ سواء. كان الأمر كما لو أن غويا كان شاهدا محايدا وعن كثب لمأساة عالمية، وكما لو انه ينصح الإنسان في كلّ مكان وزمان أن لا يتصرّف كالبرابرة الذين كان يرسمهم.

صوّر غويا في هذه اللوحات أفعال بطولة معزولة وأفعالا أخرى تنمّ عن البشاعة والوحشية: أسرى يتمّ إعدامهم من قبل إحدى فرق الموت. امرأة تمشي بانكسار أمام عشرات الجثث التي تنتظر الدفن. رجال ونساء يحمل بعضهم بعضا ويهربون ليلا وسط الاضطراب والفوضى. نساء ميّتات على جانب تلّ، وشخص وحيد يبكيهنّ بصمت. صفّ طويل من الأسرى المشدودي الوثاق يُساقون عبر طريق جبلي. امرأتان ممدّدتان على الأرض إحداهما على وشك الموت، بينما تجثو امرأة ثالثة بقربهما وبيدها كأس ماء. حشد من الناس يطاردون طائرا ضخما من أكلة الجيف لإبعاده عن الجثث. امرأتان تتعثّران خلف احد البيوت وهما تحاولان مواراة امرأة ثالثة التراب. حصان يرمز على ما يبدو إلى الملكية الدستورية يتعارك مع مجموعة من الذئاب وسط لامبالاة مجموعة أخرى من الكلاب التي تمثّل، ربّما، الثورة المضادّة للملكية. امرأة مستلقية على ظهرها وسط هالة من ضوء، تمثّل الحقيقة، بينما يحيط بها حشد من الرهبان الذين يغطّون رؤوسهم.
لم يكن الرجال الإسبان فقط هم من شاركوا في الحرب ضدّ الفرنسيين، بل النساء أيضا. كنّ يمنحن الرجال مزيدا من الشجاعة وكنّ يقاتلن كالحيوانات البرّية. في لوحة بعنوان "شجاعة"، يصوّر غويا عملا بطوليا لامرأة اسبانية شابّة من أراغون تُدعى أوغستين. وتظهر وهي تحشو مدفعا بالذخيرة بعد أن قُتل الرجل المحارب. كانت هذه المرأة البطلة قد قاتلت إلى جانب الجنود أثناء حصار الفرنسيين لمدينة ساراغوسا.
وفي لوحة أخرى، تظهر امرأة حافية القدمين تحمل طفلها بيد، بينما تمسك بالأخرى آلة حادّة تدفع بها في خاصرة جنديّ فرنسي. وفي لوحة ثالثة، نرى جنديا فرنسيّا وهو يهاجم امرأة، بينما تهبّ للدفاع عنها عجوز مسنّة تمسك بيدها خنجرا.
لكن في الكثير من الحالات، كانت النساء يقفن عزلا أمام الجنود الفرنسيين. وأحيانا كنّ ضحايا للاعتداء والاغتصاب وإساءة المعاملة. في إحدى اللوحات، نرى جنودا فرنسيين وهم يحملون امرأة اسبانية بعيدا، بينما يمشي طفلها في إثرهم وهو يبكي.
شخصيّات غويا في هذه اللوحات هم أشخاص مجهولون من الطبقة الإسبانية الدنيا يُظهرون في كثير من الأحيان شجاعة يائسة في مواجهة القوّة الساحقة للفرنسيين.
كان الإسبان يشعرون بالاستياء والغضب من الوجود الفرنسي في أرضهم، وكانت روحهم انتقامية. في إحدى اللوحات، يُظهر غويا كيف أن جثث الجنود الفرنسيين تعرّضت لإهانات وحشية، بينما كان المواطنون الإسبان يشاهدون ما يجري باستحسان.
كان الفرنسيون والإسبان يعذّبون ويشوّهون أسراهم ويعرّضونهم لموت مؤلم وطويل. تشويه جثث القتلى جسّده غويا في لوحة بعنوان "بطولة رائعة ضدّ رجل ميّت"، وفيها تتدلّى الجثث المشوّهة من شجرة، في تصوير آخر لمدى قسوة وشراسة الإنسان. وفي لوحة أخرى بعنوان "ادفنوهم والتزموا الصمت"، يُظهر غويا جانبا آخر مظلما من أمجاد الحرب: جثث عارية تُركت بلا دفن على إحدى التلال، واثنان من الناجين يراقبان المشهد باشمئزاز.
بعض الفرنسيين، وحتى الإسبان، ممّن كانوا يعادون رجال الدين قاموا بتدمير العديد من الأديرة واغتصاب الراهبات على نحو ما يصوّره غويا في إحدى هذه اللوحات. وفي لوحة أخرى، نرى كاهنا مقتولا ومربوطا إلى عمود بينما يمسك بيده صليبا، والسكّين المثبّتة على صدره تشير إلى سبب قتله، أي حيازة سكّين. وفي لوحة ثالثة، يرسم غويا راهبا يُقتل على أيدي جنود فرنسيين يقومون بنهب كنوز إحدى الكنائس.

كان غويا على معرفة واسعة بأنماط الصور وبأساليب التعبير المبتكرة، ما ساعده على استخدام الحيوانات والوحوش لخدمة أغراضه.
في إحدى اللوحات، يظهر رجال الكنيسة والفلاحون وهم يركعون أمام ذئب. الذئب يبدو ممسكا برقعة راح يكتب عليها هذه الجملة: أيّتها الإنسانية البائسة! الخطأ خطؤك!". غويا يعبّر من خلال هذا الرسم عن غضب وخيبة أمل الشعب الإسباني من نتائج الحرب الرهيبة. إذ أن كلّ ما جنته اسبانيا من وراء الحرب كان مَلِكا اتضح انه أكثر قمعية وفقدانا للإحساس من الحاكم القديم شارل الرابع. فالملك الجديد، فرديناند السابع، لم يكن يشارك سلفه آراءه المستنيرة نسبيا. فقد ألغى الدستور وأعاد العمل بمحاكم التفتيش وأعلن نفسه ملكا مطلقا على البلاد. ولم يمض وقت طويل حتى أطلق عهدا من الإرهاب.
في لوحة بعنوان "موت الحقيقة"، يصوّر الفنّان جنازة للحقيقة يقودها رجل دين، بينما تُخفي العدالة عينيها في الظلّ. وفي ما يبدو وكأنه استمرار لمشهد الجنازة، يرسم غويا لوحة أخرى تظهر فيها مخلوقات ليلية يتخلّل عالمها المظلم ضوء باهت، كأنما ليمنح اليائسين بعض الأمل في أن تنهض البلاد ثانية من رماد الحرب.
الأحداث التي شهدها غويا من مسافة قريبة وبمثل هذا الانفعال جعلته يشعر بالعزلة والانطواء، وأحيانا اللامبالاة. ولم يكن ذلك بسبب نقص في دوافعه الوطنية، بل بسبب حبّه لاسبانيا التي شعر أن جرحها عميق جدّا. حبّه للسلام وحياده الظاهريّ يعنيان انه كان ينظر إلى العالم من خلال عدسات محايدة الألوان. وكان ذلك يعني أيضا نفوره من الأعمال الوحشية التي تُرتكب باسم الدين أو الوطنية.
وعندما كان يرسم لنفسه، كان يعود إلى مشاهده الهادئة والمعتادة التي تُظهر صورا لنساء وسحرة وشهداء وأبطال ومواكب دينية وأساطير ومهرجانات وأعياد، وغيرها من مظاهر الحياة اليومية للناس الذين كان يحبّهم. كان ذلك بالنسبة له شكلا من أشكال الهروب من مرارة الواقع.
سلسلة لوحات ويلات الحرب لا تنبع قوّتها فقط بسبب ما أظهره غويا فيها من قسوة جنود نابليون وهم يذبحون المدنيين الإسبان ويمارسون ضدّهم كافّة أشكال التعذيب من إخصاء وخوزقة وبتر للأطراف، وإنما أيضا من حقيقة أن القتلة القساة في الحرب كانوا هم نفس الفرنسيين الذين أعجب بهم غويا طوال حياته.
ولم تكن اللغة وسيلة تعبير كافية بالنسبة له. حتى العناوين القصيرة لهذه اللوحات هي أشبه ما تكون بالغمغمات المبهمة التي تناسب عالمه الأصمّ والصامت، مثل "نفس الشيء" أو "رأيت ذلك" أو "هذا أسوأ".
لقد فرضت الحرب نفسها على غويا. كان متأثّرا جدّا، عاطفيا، بسبب ما كان يراه. وهو يذكّر الآخرين بالواقع الرهيب الذي تنتجه الحروب. وشهادته العيانية تُظهر أن الحرب كارثة لا ينتج عنها سوى الدمار والمعاناة. ومناظره هي تصوير للحرب عندما تكون بلا أمجاد وتفتقد للشهامة والفروسية والرحمة.
الرسالة التي تتضمّنها سلسلة لوحات ويلات الحرب ما تزال ذات صلة وثيقة بعالم اليوم. وغويا يصوّر للمرّة الأولى الحرب من زاوية معاناة المدنيين دون محاولة لتخفيف آثارها ونتائجها المريعة. ويمكن اعتبار هذه اللوحات تقريرا بصريا مكثّفا عن قسوة ووحشية الحرب ولا إنسانية البشر، وعن السلوك الوحشيّ الذي ظلّ يعيد نفسه منذ ذلك الحين وما يزال يفعل حتى اليوم.

الثلاثاء، مايو 29، 2012

كتاب الأسرار

مع عزف الهَارْب المصفّى والتراكيب الرخيمة والصوت الملائكي، تصهر لورينا ماكينيت الأصوات الكِلْتية مع مزيج من تأثيرات موسيقية مختلفة، مغربية وتركية ويونانية وهندية وإيطالية.
ماكينيت في أغانيها تقوم بدور العارف. ولأغانيها، دائما، طابع الرحلة الروحية. ربّما كان هذا هو ما يجذب الناس إلى موسيقاها. وألبوم "كتاب الأسرار" ليس استثناءً، سواءً كان ذلك من خلال الإيقاعات الكسولة لـ ماركو بولو، أو الإيقاع المرح لـ رقص الثعالب، أو النكهة اللاذعة لـ صلاة دانتي. هذا النوع من الموسيقى ذات التأثير المنوّم يمكنك الاستمتاع به على عدّة مستويات، ابتداءً بمهارة ماكينيت المتنامية كمؤلّفة، وانتهاءً بالأسئلة العميقة التي تطرحها كلمات أغانيها.
سوق في مرّاكش. حجر له علاقة بأسطورة قديمة في ايرلندا. مسرح دُمى صقلّي. محطّة للقوافل على طريق الحرير. هذه ليست سوى بعض الأماكن التي ستزورها وأنت تستمع إلى أغاني ماكينيت.
وهذه الأماكن البعيدة يربطها معا موضوع واحد ومشترك، هو الشعوب الكلتية وأسفارها على مدى آلاف السنين في سهوب سيبيريا وسهول الأناضول وغاليثيا في اسبانيا.
في يد ماكينيت، لم تعد الموسيقى الكلتية تتوافق مع صيغ الرقصات النهرية المألوفة. فموسيقاها تمزج هذه العناصر الأيرلندية بمواضيع من جميع أنحاء العالم، خاصّة التقاليد الموسيقية لمنطقة الشرق الأوسط. ونتيجة هذا المزج هي وليمة رائعة من الألحان الغنيّة والجميلة.
قضت لورينا ماكينيت بضع سنوات تفكّر في تقاليد الترحال الكلتية. كانت تتساءل ما إذا كانت هذه الحاجة قد نشأت من مجرّد فضول لا يشبع. ثم سافرت إلى روما وانتهت في اسطنبول. وذهبت لليابان وانتهت في قطار عبر سيبيريا.
تصف ماكينيت تجربة رؤيتها معرضا للمومياوات ذوات الشعر الأحمر في شمال غرب الصين والتي يُعتقد أنها تخصّ أقواما ينحدرون من الكِلْت الايرلنديين، وكيف اثّر هذا على مقاربتها للموسيقى الكلتية فتقول: أنا مهتمّة بالتفكير في الأقوام الذين أتوا من ذلك الجزء من العالم، وكيف كانوا يسافرون ويؤثّرون على بعضهم البعض. هذا الموضوع ما يزال مهمّا اليوم. فالكثير من الناس ما يزالون يسافرون، بعضهم من أجل المتعة والبعض الآخر هربا من الاضطهاد. الثقافات تتمازج وتتقارب. وأنا أردت أن أعود إلى التاريخ كي أمدّ تلك الخيوط إلى الأمام وأفكّر فيها من جديد. أحيانا أتساءل عن مفهوم الوطن. ما الذي يعنيه الوطن؟ هل هو مكان؟ عائلة؟ ثقافة تعرفها وتشعر بالارتياح ضمنها؟
في سياق بحثها، أدرجت ماكينيت موسيقى من مختلف الديانات، بما في ذلك الإسلام واليهودية، وأضافتها إلى ذخيرتها من الألحان والأغاني. موسيقى السبت المقدّس التي تضمّنها ألبومها السابق "ملهمة قديمة" تُعزى إلى يهود اسبانيا. وماكينيت توضح أن جزءا من افتتانها بهذا القطعة له علاقة بحضورها الدائم والكبير. فقد سافرت هذه الموسيقى على مرّ القرون عبر البحر المتوسط وايرلندا وانجلترا. ولا يُعرف على وجه التأكيد من أين جاءت ولا أصلها الحقيقي. "ثمّة قطع موسيقية تسافر في مناطق جغرافية بصحبة الناس، ثم تتبنّاها ثقافات مختلفة. كنت أريد تلك القطعة لأسباب شتّى. فأنا أحبّ الاستماع إليها عندما يعزفها موسيقيون في الأستوديو. ولكنّي أيضا أردت أن استمرّ في الترويج لفكرة مؤدّاها أن كلّ هذه الثقافات والانتماءات الدينية تمازجت معا وسافرت عبر جميع أنحاء أوروبّا والشرق الأوسط والبحر المتوسط".

وعن الجاذبية العالمية لموسيقاها تقول ماكينيت: الموسيقى الكِلتية لها خاصيّة عالمية مُعْدية. كما أن أصوات الشرق الأوسط تمثّل بعدا جذّابا فيها. ذات مرّة، دُعيت لأداء حفل في اسطنبول. واكتشفت وقتها أن لي معجبين كثرا في منطقة الشرق الأوسط. حدث هذا بعد عام واحد من إطلاقي ألبوم "حديقة الشتاء" الذي يتضمّن نكهة شرق أوسطية. عندما يسمع الناس شيئا مألوفا لهم، سواءً في الآلات أو الأسلوب، فإنهم يستمعون بحرص اكبر. الناس يركّزون عادة على البعد العاطفي للموسيقى. وأتوقّع أن التقارب بين المكوّنات هو ما جذبهم إلى الموسيقى".
في ألبوم أغاني "كتاب الأسرار"، تبثّ لورينا الروح في الأشعار التي نُسيت منذ زمن طويل وتستمرّ في عملية الحفر الثقافي في التراث الكلتي مستخدمة ذلك كنقطة انطلاق خلاقة وكجواز سفر نحو العصور الماضية. تقول: إذا بدأ المرء بالأسئلة الكبيرة مثل "من أنا" و"لماذا أنا هنا" فإن فهم الدروب التي تعيدنا إلى التاريخ يصبح أمرا مهمّا، بمثل أهمّية الدروب التي تقودنا إلى الأمام".
"كتاب الأسرار" كان ثمرة ترحال المغنّية في أكثر من مكان بدأته برحلة عبر طريق سيبيريا الأسطوري. وقد وجدت في تلك الرحلة الهدوء الذي كانت تحتاجه للتفكير والتحضير لهذا الألبوم. فقد أتاحت لها أخيرا الوقت الكافي لقراءة الكوميديا الإلهية لـ دانتي والتي تُسمع أصداؤها في آخر أغاني مجموعتها هذه.
من بين أغاني هذا الألبوم قصيدة للشاعر الفريد نويس بعنوان قاطع الطريق. والقصيدة تحكي عن راهب منعزل يجد السلام في صومعته بعد سنوات عديدة قضاها طافيا في البحر. تقول ماكينيت: هذه القصيدة توضح إلى أيّ مدى كان بعض الأفراد يعزلون أنفسهم، بالمعنى المتطرّف للكلمة، كي يزيدوا ارتباطهم بجوهر ما نسمّيه الله". والقصيدة تحكي عن قصّة مأساوية. وهي تبدو أكثر دراماتيكية في الأغنية. وأنت تستمع إليها قد تتخيّل أصوات جياد تعدو تحت ضوء القمر.
بعض هذه الأغاني تتضمّن خطّا طويلا من الظلال التي تشكّل تصوّرات وارتباطات معيّنة. أغنية رقصة الثعالب، مثلا، تتضمّن صورة صانع دُمى التقت به المغنّية في باليرمو بـ صقلية، مع صورة لحصان رأته في احتفالات عيد العمّال في باديستو، وطقوس رقص لإحدى الطرق الصوفية في تركيا. رقص الثعالب ترتكز على تقليد قديم تقوم فيه مجموعة من المؤدّين بلبس الأقنعة وربط أشرطة على ملابسهم قبل أن ينطلقوا في موكب إلى المنازل المجاورة وهم يغنّون ويحملون أغصان الأشجار. وهذه الرقصة ترتبط في الأساس بفصل الربيع والخصوبة.
اللحن المركزي في أغنية ماركو بولو مستوحى من عصر هذا المستكشف الأسطوري الذي جال في أنحاء متفرّقة من آسيا في القرن الثالث عشر الميلادي. والأصداء الشرقية في هذه القطعة تذكّر بالطبيعة المنتشية والمُسْكرة للأنغام الصوفية.
يمكن القول إن كتاب الأسرار هو عبارة عن سيل من الإشارات والتلميحات العابرة للثقافات. كما انه محاولة لتناول المسائل الفلسفية التي تبحث في الكيفية التي انصهرت بها حضارات وثقافات مختلفة وعلى مدى قرون لتنتج هذا النسيج الثقافي المعقّد الذي نراه اليوم.

وعلى الرغم من أن الكثير من أغاني كتاب الأسرار تمثّل المرحلة المتوسّطية من اكتشافاتها، إلا أن لورينا ماكينيت ولدت ونشأت في بلدة تقع في وسط البراري الكندية ويقطنها ايرلنديون واسكتلنديون وألمان وأيسلنديون. "كان مجتمعا متواضعا كثيرا. ومعظم الناس ينحدرون من عائلات مهاجرة. والبقاء على قيد الحياة كان الهمّ اليومي للجميع. وعلى الرغم من أن أسلاف عائلتي جاءوا من ايرلندا، إلا أن العنصر الكلتي كان قليلا جدّا في تربيتي الموسيقية".
صوت ماكينيت ناعم ومكتمل. ومهارتها ككاتبة أغاني رائعة، تماما مثل روعة مواهبها الموسيقية الأخرى. أغنيتها الغريبة والمتأمّلة بعنوان مقدّمة "أو استهلال" تتحوّل إلى أنغام قويّة تستحضر طقوس الربيع القديمة عن الولادة والتجدّد.
وأغنية سكيليغ لها نكهة عصر النهضة، لأنها تحكي عن قصيدة وداع تأمّلية لراهب إيطالي. وسكيليغ هو دير ايرلندي مشهور يقوم فوق قمّة جبل شاهق ولا يمكن الوصول إليه إلا بصعوبة. وقد بُني الدير قبل حوالي 1400 عام. هناك خواء وندم منسوج في هذه القطعة. قد يكون تعبيرا عن الحنين إلى ما كان يمكن أن يكون. يمكنك وأنت تستمع إليها أن تتخيّل رهبانا يرتحلون من دير إلى دير باحثين عن الحكمة القديمة. جوّ الأغنية يشبه وميض شمعة في ليلة مظلمة. وكلّما اقتربت من الضوء كلّما ازداد سطوعا.
أغنية رحلة ليلية عبر القوقاز تُقدّم بإيقاع يعطي انطباعا عن خيول تركض، في إشارة إلى الرحلة الروحية للخيميائي أو المتصوّف. تقول كلمات هذه الأغنية: في الليل المخملي، وبجوار ظلال الأشجار الصامتة، ينتظرون ويراقبون أسرار الحياة".
أغنية صلاة دانتي تبدأ بصدى للحن أرثوذكسي روسي. ثم تتحوّل إلى صوت لحني معاصر بترتيل ماكينيت شعرا صوفيّا يتحدّث عن الحبّ الإلهي. "انظر إلى المحيط، وألقِ بروحك في البحر. وعندما لا تلوح نهاية لليل المظلم، فأرجوك أن تتذكّرني". لورينا في هذه الأغنية تفكّر في أحوال البشر، وكيف أننا جميعا نميل إلى الاعتقاد بأن هناك مكانا أفضل من المكان الذي نحن فيه. اللحن حزين تقريبا، لكنه يبعث على الأمل. والشاعر الإيطالي يقدّم تفسيرا للسؤال الذي ما يزال يحيّر الكثيرين: ما الذي يحدث لنا بعد أن نموت؟
كتاب الأسرار يوفّر ساعات لا تُحصى من المتعة والفكر. وجميع أغانيه هي انعكاس لمعرفة لورينا ماكينيت عن العالم. إنها تبحث وتستكشف، ثم تعبّر عمّا تجده من خلال الموسيقى. ويمكن القول أيضا أن هذه الأغاني هي عن المعرفة المستمرّة. ومعرفة الماضي تفيض عبر وعي ماكينيت وتتحوّل إلى موسيقى. ومن خلال تجربتها، تتطوّر الموسيقى وتتحوّل إلى لحظات من الجمال الصافي والنقيّ.
ترى، من الذي لا يريد أن يطّلع على كتاب أسرار من النوع الذي يُسمع ولا يُقرأ؟! الرحلة، وليست الوجهة، تصبح مصدرا للدهشة. وبالطبع، بعد أن تستمع إلى الأغاني، قد يساورك إحساس بأنك، أنت أيضا، بحاجة إلى أن تباشر رحلتك الروحية الخاصّة.

Credits
loreenamckennitt.com
wildething.org
alternatemusicpress.com