:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، مارس 04، 2013

أسطورة فان غوخ

إحدى أكثر الظواهر الفنّية استعصاءً على الفهم والتفسير هي ظاهرة فينسنت فان غوخ. فقد أصبح هذا الرسّام رمزا للعظمة الفنّية وتحوّل من رائد للرسم الحديث إلى احد أهم رموز الثقافة المعاصرة.
حياة فان غوخ تحوّلت بعد موته إلى أسطورة، وفقره وتشويهه لنفسه ومن ثمّ انتحاره، إلى لغز. وبات الكثيرون ينظرون إلى قصّة جنونه بما يشبه الاحترام والقداسة.
وفي تلك المناسبات النادرة عندما تكون إحدى لوحات فان غوخ مطروحة للبيع في المزاد، فإنها تكسر الأرقام القياسية وتحصد عشرات الملايين من الدولارات. ومع ذلك فإن اللوحة الوحيدة التي قيل انه باعها أثناء حياته حقّقت له حوالي عشرين دولارا فقط.
قبل ربع قرن، بيعت إحدى لوحات سلسلة عبّاد الشمس بمبلغ 40 مليون دولار، وأزهار السوسن بـ 53 مليون دولار. كما اشترى ملياردير ياباني يُدعى ريو سايتو بورتريه الدكتور غاشيه بمبلغ 83 مليون دولار. وكان وكيل المليونير قد قال بأن موكّله سبق وأن رأى اللوحة في متحف المتروبوليتان ووقع في حبّها من النظرة الأولى.
والغريب أن سايتو أوصى بأن تُحرق اللوحة وتُدفن معه عندما يموت. ومنذ وفاة هذا المليونير الياباني الغريب الأطوار عام 1996، اختفت اللوحة تماما ولا أحد يعرف إلى الآن ما الذي حلّ بها. ويبدو أن سايتو يؤمن بقاعدة "أحرق ما تحبّ وأحبّ ما تحرق". وإحراق لوحة، أو حتى بيت، قد يكون أعلى درجات حبّ التملّك.
رسم فان غوخ بورتريه الدكتور غاشيه في يونيو من عام 1890، أي قبل انتحار الرسّام بشهر ونصف. والبورتريه يصوّر طبيبه الخاص وهو يسند رأسه على يده بينما يمسك بيده الأخرى حافّة الطاولة التي يستقرّ فوقها كتابان وزجاجة تحتوي على نبات علاجيّ.
كلّ جزء من هذه اللوحة مشحون بالمعنى. كما أنها تضجّ بالإيقاعات الثقيلة وضربات الألوان الجريئة التي تميّز فان غوخ. وتعبيرات غاشيه الحزينة ليست سوى انعكاس لحزن فان غوخ نفسه، بينما يرمز النبات لتخصّص الطبيب.
المعروف أن اللوحة خضعت للترميم مرّتين في الخمسينات، وهو أمر أسهم في خفض قيمتها وفقدانها معظم خصائصها، إذ لا يظهر فيها سوى جزء يسير من آثار فرشاة وأسلوب فان غوخ المتفرّدين.
أثناء حياته لم يكن باستطاعة الرسّام بيع أيّ من أعماله. وفي الوقت الذي انتحر فيه وهو في سنّ السابعة والثلاثين، كانت لوحاته تُعتبر بلا قيمة أو أهمّية.
لكن في ألمانيا، كان يُنظر إلى فان غوخ كبطل نيتشوي. كانت لوحاته "تصرخ في رعب إلى السماء مؤذنةً ببداية عصر جديد يحلّ فيه الفنّ محلّ الإيمان"، على حدّ وصف احد النقّاد هناك.
وقبل الحرب العالمية الأولى، كان الألمان يعرفون فان غوخ جيّدا. وكانت أعماله تُعرض في عدد من متاحفهم. وهناك منهم من درس وحلّل أعماله في سياق سياسيّ. كما نشأت هناك طائفة تبجّله وتقدّس فنّه.
أسعار لوحات فان غوخ القياسية يضعها البعض في سياق الرواج الأوسع الذي تحقّقه أعمال الفنّ الحديث. فقد بيعت لوحة الصرخة لـ إدفارد مونك قبل اقلّ من عام بمبلغ 120 مليون دولار. وإذا كان هناك مؤشّر ما لما حدث، فهو أن حمّى اللهاث وراء الفنّ الحديث لا يبدو أنها تتراجع أو تخفّ.
ولكن، وبصرف النظر عن الأسعار والاتجاهات الفنّية، فإنّ السؤال الأهمّ الذي يفرض نفسه هو: كيف تسنّى لهذا الهولندي الضئيل والمضطرب، وريث تقاليد الرسم التي تعود إلى رمبراندت وهولس وفيرمير، أن "يضلّ الطريق" بعيدا عن جذوره؟ ولماذا لم يكن فنّه "أكثر فرنسيةً"، خاصّة في ضوء حقيقة انه أمضى جزءا كبيرا من حياته في فرنسا؟
قد تكون أفضل إجابة على السؤال الأوّل هي أن فينسنت كان إلى حدّ كبير مفتقرا إلى تدريب رسمي في الفنّ. ولو كان قد أظهر أدنى قدر من الموهبة في سنواته المبكّرة، لكان قد ذهب إلى مدرسة للفنون الجميلة، حيث يمكن لأيّ شرارة عبقرية أن تُرعى وأن تُحتضن بطريقة منهجية. ولو انه لم يتعرّض لتأثير الفنّانين الانطباعيين ودرس لفترة وجيزة معهم في العام 1886، لكان اليوم مجرّد هامش صغير في كتاب تاريخ الرسم.
كانت أعماله المبكّرة متواضعة للغاية. وأوّل عمل واعد ظهر له كان آكلي البطاطس. كان ذلك في العام 1885م. ولولا الطبيعة الإنسانية المتعاطفة لهذه اللوحة، لاعتُبرت هي أيضا عملا عاديّا. الذي فعله فان غوخ ممّا لم يكن موجودا في أيّ مكان من قبل، هو استخدامه الرائع للألوان والذي سيحرّر في وقت لاحق الرسم والرسّامين من إملاءات اللون المحلّي.

التفسير الثاني لظاهرة فان غوخ هو طبيعة الرجل نفسه. فقد كان ابنا لمبشرّين هولنديَّين، وكان في حياته المبكّرة مخمورا بالدين. لذا فإن الهولنديين مسئولون، بقدر ما، عن يأس وبؤس هذا الإنسان المسكين. فينسنت نفسه لا بدّ أن يُلام على استنزافه لطاقته وقواه في سعيه وإصراره الذي لا ينتهي على تعذيب نفسه.
في القرن العشرين، كان فان غوخ يوصف بأنه عبقريّ أسيء فهمه وبأنه قدّيس وشهيد وبطل وأيقونة دائمة للثقافة الشعبية. المعجبون به يسافرون مسافات طويلة كي يروا أعماله الأصلية، و"الحجّاج" يزورون قبره ويذهبون إلى متحفه كي يقولوا "كنّا هناك". بعضهم يظلّ في المتحف لساعة أو ساعتين، والبعض الآخر يبقون هناك طوال اليوم.
والحقيقة أن لا شيء مستغربا في وصف فان غوخ بالعبقريّ. لكن وصفه بالقدّيس والبطل مسألة فيها نظر. السمة الأكثر وضوحا في شخصيّته كانت سرعة غضبه. وهي ولا شكّ سمة مَرَضية. وهو لم يكن أبدا راضيا عن فنّه أو عن نفسه ولا عن أيّ شخص آخر. كان فان غوخ أيضا شخصا نزقا وغير مستقرّ وغير اجتماعي. لم يكن يتقبّل النقد أبدا ولم يكن يتسامح مع رأي مخالف له. كما لم يكن يأخذ نصيحة من احد ولم يكن يثق بأحد، بل كان يشكّك في كلّ شخص تقريبا.
ومع ذلك، فخلال أربع سنوات فقط، حصل التفجّر الفعليّ في موهبته: طوفان هادر من الألوان الجريئة والحيّة مع الحدّ الأدنى من مهارات الرسم. حدث هذا في الأشهر القليلة التي كان يدرس خلالها في الأكاديمية البلجيكية.
السبب الآخر الذي يفسّر ظاهرة فان غوخ هو ذلك المزيج من التعاسة والجنون والتحرّر من القمع الأكاديمي. كان ذلك شرابا غريبا، لكنّه كان قويّا وفعالا. وقد قُدّر لهذا المزيج أن يغلي أكثر فأكثر إلى أن وصل إلى ذروة غليانه ذات يوم حزين وحارّ في حقول القمح في آرل.
في العام 1910، وكان قد مضى على وفاة فان غوخ عشرون عاما، وصلت إلى باريس أوّل مجموعة من "الحجّاج" الذين جاءوا لتحيّة الرسّام. كانوا من المثقّفين اليابانيين الذين ينتمون لإحدى الطوائف هناك. وكان دافعهم للزيارة شعورهم بأنهم كانوا يفهمون فان غوخ الإنسان أكثر من فنّه. كانوا يرون فيه نموذجا جديدا للفقر الفنّي لعصرنا، ومثالا للفنّان الذي لا يستطيع بيع لوحاته فحسب، ولكنه مقتنع أيضا بعبثية جهوده، فييأس ويكسب من وراء هذا، ليس المرارة وإنما المتعة الحقيقية. وهذا استنتاج مثير للاهتمام.
وكان هؤلاء اليابانيون قد قاموا في وقت مبكّر بزيارة شخصية للدكتور غاشيه طبيب فان غوخ الغريب الأطوار، ولأرملة ثيو شقيق الرسّام. كان غاشيه ينظّم في بيته حفلات استقبال لزوّاره. وكان قد اشترى ستّا وعشرين لوحة كان فان غوخ قد رسمها خلال السبعين يوما التي قضاها تحت إشرافه.
بول غاشيه، ابن الطبيب، كان يقدّم نفسه للزوّار وللناس باعتباره خبيرا في الأشهر الأخيرة من حياة غوخ. وكان يستضيف زوّارا يابانيين وأوربيين، رغم أن اتصاله بالرسّام كان ضعيفا. وعندما أقدم فان غوخ على الانتحار، كان غاشيه الابن لا يتجاوز الثامنة من عمره، وكان يحصل على رزقه من عرض وبيع اللوحات التي كان والده قد اقتناها. ومع ذلك كان الابن يستمتع بحياته باعتباره صانع أسطورة فان غوخ.
ضاحية اوفير سير واز الباريسية، حيث عاش وعمل فان غوخ، توفّر مكانا يمكن للمرء أن يحتفل فيه بالحياة الفعلية وبالأسطورة المشيّدة للفنّان. لكنّ التأثير الأقوى في صنع أسطورته أتى من الأفلام السينمائية التي صوّرت حياته. في فيلم أحلام للمخرج الياباني اكيرا كوروساوا، يمشي رجل في طبيعة آرل التي تتألّف في الفيلم من صور مكبّرة من لوحات فان غوخ. وفي أفلام أخرى، يُقدمّ الرسّام كنموذج أعلى للمعاناة والإبداع والاغتراب ومجد ما بعد الموت.
غير أن أفضل فيلم أنتجته هوليوود عن حياة فينسنت كان فيلم شهوة للحياة للمخرج فينسنت مينيللي الذي يقدّم فان غوخ كإنسان عبقريّ وكفنّان مجنون، من خلال استخدام صور قويّة وشخصيّات دراماتيكية. في الفيلم يظهر الرسّام وهو يطلق النار على نفسه بينما يرسم لوحته المشهورة حقل قمح مع غِربان. اللوحة تصوّر سماءً مظلمة ومنذرة بالخطر مع طريقين متشعّبين ينتهيان في نقطة ما من الحقل. علماء النفس حلّلوا رمزية هذا المكان مرارا، وتكهّنوا بأنه يمثّل تساوي فرص الحياة والموت، ويشي بأوهام فان غوخ وحتى باحتمال إصابته بالشيزوفرينيا.
في احد أيّام شهر يوليو من عام 1890، أطلق فان غوخ النار على نفسه من مسدّس صغير. وقد أخطأت الرصاصة قلبه وبقي يومين في حالة غيبوبة إثر معاناته من نزيف دمويّ وعدوى لم يُعالجا في حينه، الأمر الذي يثير الشكوك حول براعة غاشيه الطبّية.
ومنذ رحيله، أثيرت الكثير من الأسئلة والشائعات عن فينسنت وعن حياته وموته، من قبيل ما يقال الآن عن أن موته المفاجئ لم يكن انتحارا، وإنما نتيجة حادث مدبّر. لكن ممّا لا شكّ فيه أن تمجيد فان غوخ ورفعه إلى مستوى القدّيسين والأبطال رافقه بالتوازي اختفاء صورة الإنسان الحقيقيّ الذي ابتلعته الأسطورة.