:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، سبتمبر 13، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • يذكر المؤرّخ الإيطالي جورجيو ڤاساري في كتابه "حياة الفنّانين" قصّة مشهورة عن فنّان إيطالي يُدعى فيليپو ليپي (1406 - 1469). كان هذا الرسّام مسافرا في أحد الأيّام في قارب مع بعض أصدقائه. وفي عرض البحر قبض عليهم بعض البحّارة المغاربة الذين كانوا يجوبون تلك السواحل، وأخذوهم إلى بلاد المغرب ووضعوهم في السجن.
    وظلّ الرسّام هناك يعاني الضيق الشديد لمدّة 18 شهرا. ولكن ذات يوم، وبينما كان في صحبة سيّده المغربي، خطرت له فكرة رسم صورة له. فأخذ فحما مطفأً من النار ورسمه بكامل طوله وبزيّه المغربي على جدار أبيض. وبدا لسيّده ومرافقيه أن ما فعله الرسّام كان معجزة، حيث لم يكن الرسم يمارَس في تلك المناطق.
    وكانت تلك الصورة البسيطة سببا في مكافأة "ليپي" بتحريره من السلاسل التي قيّدته لفترة طويلة ومن ثم نقله بأمان إلى نابولي. وهذه القصّة تثبت ما للفنّ من قوّة عظيمة ومؤثرة. فبسبب صورة، مُنح رسّام جائزة لا تُقدّر بثمن! وبدلاً من معاقبته، وُهبت له الحرّية بدل الموت.

    ❉ ❉ ❉


  • ينطوي رهاب التضاريس أو الأماكن Topophobia على روابط عاطفية سلبية بين البشر وبعض البيئات، كالمساحات والأماكن والمناظر الطبيعية التي يجدونها بغيضة أو مخيفة.
    ورهاب الأماكن يتعلّق بالجانب المظلم من التجربة البيئية. ولأنه ليس أقوى المشاعر البشرية، فإنه من السهل جدّاً أن ننحّيه جانباً أو نتجنّبه أو نتجاهله، حتى نتمكّن من تحويل انتباهنا إلى تجارب أكثر متعةً. لكن من المفيد أن نعرف المزيد عن الأسباب التي تجعلنا نتجنّب الأماكن التي لا نريد أن نكون فيها.
    والعلماء يشيرون الى أن أغلب العبارات السلبية التي تتحدّث عن المكان كالاقتلاع والديستوبيا (المجتمعات المخيفة واللاإنسانية) والنزوح وعدم التوطين والانفصال عن الواقع، كلّها تتعلّق بعمليات تمّ فيها قمع وتقويض التجارب الإيجابية المتعلّقة بهذا المكان أو ذاك.
    وينطبق الحال على المستوطنات الفقيرة التي تقطنها شعوب أصلية وعلى المدن المدمّرة في بعض الدول. وفي مثل هذه الحالات يبدو أن قبح المكان نفسه والتحدّيات اليومية التي يواجهها السكّان للبقاء على قيد الحياة فيه والاكتئاب والقلق الذي يعانون منه، كلّها عوامل يعزّز بعضها بعضاً.
    والعديد من التجارب التي نمرّ بها في أماكن بعيدة كلّ البعد عن أن تكون ممتعة مردّها لأسباب تتعلّق بمزاجنا أو الأحداث البيئية أو طبيعة المكان. فإذا ما أصابك الاكتئاب أو الانزعاج لسبب ما، فلن تبدو لك المناظر الطبيعية مبهجة، مهما كانت جميلة. كما أن تجارب البيئة الطبيعية، التي غالباً ما تكون مفيدة وممتعة، قد تمتلئ بالقلق وحتى الذعر، في حال تدهور الأحوال الجويّة أو سماع تحذيرات من الأعاصير أو اقتراب حرائق الغابات أو اشتداد الجفاف أو وقوع الزلازل.
    وفي المدن يعتاد الناس تجنّب الأحياء الحضرية الخطرة لأنها مناطق عصابات، أو لأنها ببساطة غير مألوفة وتنطوي على تهديد. والمكان المعزول، الذي يقع في قلب نوع من العمل الشاق وبعيداً عن مراكز التحديث، مع افتقاره إلى أيّ شعور بالتغيير المحتمل أو فرص النموّ الشخصي، يشكّل مصدر إحباط لآمال أغلب الشباب.
    ومعظم الناس يرفضون الأماكن التي كانوا يعيشون فيها في طفولتهم باعتبارها عبئا لا يطاق ويفضّلون الابتعاد عنها. ومع ذلك فالكثير ممّن تركوا الأماكن التي نشأوا فيها، كالمدن الصغيرة والمزارع والأحياء الفقيرة، كثيرا ما يتحوّل نفورهم منها في وقت لاحق من حياتهم إلى حنين إليها.


    وبحسب بعض العلماء، فإن رهاب الأماكن يمكن أن يكون جماليّاً، مثل عدم الإعجاب بالمباني الحديثة أو رسومات الغرافيتي. وقد يكون فكرياً مثل كراهية التوسّع الحضري والمديني. وقد يكون فسيولوجيّاً كأن يعاني شخص من الصداع النصفي كلّما دخل مركزاً تجارياً مغلقاً. وقد يكون رهابا إيديولوجياً مثل نفور بعض الأشخاص من البيوت الريفية الكبيرة باعتبارها مظاهر للتضييق والكبت والقمع. وأشكال رهاب الأماكن لا تقلّ تنوّعاً عن أشكال الرهاب الأخرى، وإن كان الأكاديميون والفنّانون يولونها قدراً أقلّ من الاهتمام.
    إن معرفة بعض جوانب رهاب الأماكن يمكن أن يكون وسيلة لتجنّب الأماكن التي لا نريد أن نكون فيها. وهناك فنّانون يستخدمون مشاعر الخوف والارتباك المرتبطة بالأماكن لإثارة السؤال الوجوديّ حول كيفية العثور على مكاننا في العالم. وهدفهم هو نقل فكرة مفادها أننا ننتهي إلى حيث نحن من خلال تجنّب الأماكن التي لا نريد أن نكون فيها.

    ❉ ❉ ❉


  • يقول آلان واتس: إذا نظرت إلى نفسك بالطريقة الصحيحة، فستجد أنك ظاهرة طبيعية غير عادية، تماما مثل الأشجار والسحب والمياه الجارية ووميض النار وترتيب النجوم وشكل المجرّة. أنت كلّ هذه الأشياء جميعا.
    لا يمكن للزهرة أن تكون بمفردها. أن تكون فارغا ليس أمرا سلبيّا. الزهرة فارغة فقط من ذات منفصلة، لكنها مليئة بكلّ شيء آخر. يمكن رؤية الكون بأكمله ويمكن التعرّف عليه ويمكن لمسه في زهرة واحدة. لذا فإن القول بأن الزهرة فارغة من ذات منفصلة يعني أيضا أن الزهرة مليئة بالكون.
    ومثل هذا قول الموسيقيّ جون كيج المشهور بموسيقاه الصامتة: أخرج نفسك من أيّ قفص تجد نفسك فيه. هناك عطايا مجزية بانتظارك بمجرّد أن تدرك أنك لا تملك أيّ شيء.

    ❉ ❉ ❉


  • "فاتا مورغانا Fata Morgana"، أو فتى مرجانة بالعربية، مصطلح إيطالي الأصل يعني حرفيّا "الجِنيّة مورغان"، وقد ظهر المصطلح أواخر القرن الثامن عشر ليشير إلى السراب الذي يظهر في البحر على هيئة سفينة أو جبل شبحي. ويقال إن هذا هو مصدر أسطورة الهولندي الطائر.
    الاسم الايطالي يُرجّح انه مشتقّ من اسم "مورغان لي فاي" إحدى بطلات الأساطير الآرثرية، وهي ساحرة كانت تستخدم ذلك السراب لاستدراج البحّارة إلى حتفهم. وقد لوحظ ظهور ظاهرة السراب مرارا في أكثر من مكان وعلى فترات متفرّقة.
    ففي القرن التاسع عشر، روى المستكشفون في القطب الشمالي قصصا عن رؤيتهم سفنا بعيدة وكتلا أرضية كانت تختفي عند الاقتراب منها. وفي القارّة القطبية الجنوبية، كثيرا ما كانت الجبال الجليدية تبدو للبحّارة وكأنها ترتفع بشكل كبير فوق الأفق، ما يخلق مناظر طبيعية سوريالية. كما أفاد بحّارة في أماكن أخرى، غالبا خلال أيّام الصيف الدافئة، عن رؤيتهم صورا شبحية لجزر وسفن، بل وأحيانا أساطيل كاملة من السفن الغامضة.
    وحتى في الصحراء الكبرى، حيث لا بحار ولا مسطّحات مائية واسعة، أفاد مسافرون برؤية سراب لواحات ومدن بعيدة، وعندما يقتربون منها تختفي. ويبدو أن خطأ البحّارة والرحّالة القدماء في اعتبار هذه الأوهام أرضاً هو الذي أدّى إلى ظهور أساطير وخرافات حول الجزر أو المدن المفقودة.
    العلم اليوم يعزو ظاهرة "فتى مرجانة" أو الصور المشوّهة التي يمكن أن تشبه الأشياء أو المباني أو المناظر الطبيعية التي تظهر فوق الأفق أو المسطّح المائي والتي لا وجود لها في الواقع الى مرور طبقة من الهواء البارد فوق الأرض التي تكون درجة حرارتها أعلى. وعندما ينتقل الضوء عبر الهواء البارد نحو الهواء الساخن القريب من الأرض، ينكسر الضوء او ينحني. وما نراه عندئذ ليس الانكسار أو الانحناء، بل ظاهرة السراب تلك.

  • Credits
    alanwatts.org
    gutenberg.org

    الأربعاء، سبتمبر 11، 2024

    قصّة من روما القديمة


    في التاريخ الروماني، لا تعرف أحيانا متى تنتهي الأسطورة وأين يبدأ الواقع. كما تستوقفك الأدوار البالغة الأهمية التي تلعبها النساء في الكثير من أحداث تاريخ روما القديمة. ومن أشهر القصص التي يمتزج فيها الواقع بالخيال قصّة اغتصاب نساء سابينا التي وقعت حوالي عام 753 قبل الميلاد وورد ذكرها في الكثير من المصادر وفي كلام العديد من المؤرّخين. والحادثة ترتبط بالتاريخ المبكّر لروما وبحكم رومولوس، المؤسّس الأسطوري للمدينة والذي سُميت روما على اسمه.
    ومع أن القصّة غارقة في الأسطَرَة، إلا أنها تعكس الحقائق التاريخية لروما القديمة، حيث كانت التحالفات وصراعات القوّة أمورا شائعة. وقد تكون القصّة أيضا بمثابة تفسير أسطوريّ لاستيعاب القبائل المجاورة في مجتمع روما.
    المؤرّخ الروماني المشهور تايتوس ليڤي يروي أن سكّان روما كانت غالبيتهم من الذكور. وقد أدرك رومولوس أنه لكي تزدهر المدينة وتنمو، فإنها بحاجة إلى نساء لإنجاب الأطفال. كما قَدّر بأن مستوطنته الجديدة مهدّدة بألا تستمرّ سوى لجيل واحد فقط بسبب قلّة أعداد النساء لأنه لم يكن يحقّ للرومان الزواج من جيرانهم.
    وخوفاً من أن يصبح الرومان أمّة منقرضة، أرسل رومولوس مبعوثيه إلى القبائل المجاورة متوسّلا إليهم أن يمنحوا الرومان حقّ الزواج من نسائهم. لكن تلك القبائل رفضت عرض رومولوس. وكان من بين القبائل الرافضة "سابينا"، وهي قبيلة قديمة من منطقة جبلية في وسط إيطاليا سبق أن خاضت حروبا متكرّرة مع الرومان الأوائل.
    وعندما ووجه رومولوس برفض تلك القبيلة، وهي أقرب جيرانه، أخفى استياءه منها. ثم خطرت له فكرة، فدعا قبيلة سابينا لحضور مهرجان كبير يقام عادة تكريما لإله النصائح الروماني كونسوس. وخلال ذلك المهرجان، أعطى رومولوس إشارة متّفقا عليها لبعض رجاله، وقام هؤلاء على إثرها باختطاف عدد كبير من نساء سابينا ليتّخذوا منهنّ زوجات. قيل إن عددهن 500 أو 600 امرأة، وبعضهنّ كنّ متحدّرات من أصول نبيلة.
    فوجئ رجال سابينا بما حدث لنسائهم وبالإهانة التي لحقت بهم، وانتظروا أشهرا طويلة ليتجهّزوا لمحاربة الرومان للانتقام منهم واسترداد بناتهم وأخواتهم. لكن كان الرومان قد نجحوا في إقناع النساء بالزواج القانوني منهم.
    وقيل إن رومولوس عرض على نساء سابينا المخطوفات حرّية اختيار الأزواج المناسبين ومنَحهنّ الحقوق المدنية وحقوق التملّك والعيش "ضمن رباط زواج مشرّف يؤهّلهن ليكنّ أمّهات لرجال أحرار". وقد تحدّث رومولوس إلى كلّ امرأة شخصيّا وأشار بأسف الى أن ما حدث من اختطاف كان بسبب تفاخر عائلاتهن بحرمان جيرانهم من حقّ الزواج المختلط.
    وكانت بعض نساء سابينا قد أنجبن أطفالا من أزواجهنّ عندما بدأت قبيلتهنّ شنّ حرب دامية على الرومان. وقد بادرت النساء بإلقاء أنفسهن وأطفالهنّ بين الجيشين المتواجهين، وأدّت خطبتهنّ العاطفية إلى هدنة، وبالتالي تمكنّ من منع القتال.
    ويصف المؤرّخ ليڤي تدخّل النساء وصفا دقيقا بقوله:
    بشعور متطايرة وثياب ممزّقة، تحدّت نساء سابينا الرماح المتطايرة وشققن طريقهنّ بشجاعة في صفّ واحد بين الجيشين المتقاتلين، وفرّقن بين المقاتلين الغاضبين وتوسّلن إلى آبائهن وأزواجهنّ أن يجنّبوا أنفسهم لعنة سفك دماء الأقارب. وصِحن: نحن أمّهات الآن وأطفالنا أبناؤكم وأحفادكم، فلا تلطّخوهم بوصمة قتل الأبوين. وإذا كان زواجنا بغيضا بالنسبة لكم، فاجعلوا غضبكم علينا. فنحن سبب الصراع وبسببنا يرقد أزواجنا وآباؤنا جرحى أو قتلى، ونحن نفضّل أن نموت على أن نعيش أرامل أو أيتاما".
    في الخطاب الذي تخيّل ليڤي أن نساء سابينا ألقينه في خضمّ المعركة، تُناشد النساء الآباء والأزواج والأبناء بإنهاء إراقة الدماء. ويُقدّم ليڤي الأسرة باعتبارها أداة للسلام واستعادة الحرّية. وبدلاً من العيش في ظلّ إهانة قتل الأب أو الأمّ أو الترمّل أو اليُتم، تؤكّد نساء سابينا على ولائهنّ لأزواجهن الرومان وآبائهنّ السابينيين واستعدادهنّ للتضحية من أجل الصالح العام للجميع.


    وقد حاول ليڤي التخفيف من وحشية عملية الاختطاف بالإشارة إلى أن أفعال الرجال الرومان كانت مدفوعة بالحبّ والعاطفة وأن "العلاقات الطيّبة غالباً ما تبدأ بإساءة!".
    كما رفع ليڤي من شأن رومولوس والرجال الرومان باعتبارهم قادةً ومحاربين، في حين أشاد بنساء سابينا "لخضوعهن وولائهن وتضحيتهن بأنفسهن". ويلاحظ ليڤي أنه عندما تدخّلت النساء لم يوقفن المعركة فحسب، بل أحضرن أيضا الطعام والماء والرعاية للمصابين، أي أنهن انتهزن الفرصة لتقديم أزواجهنّ لآبائهن. ويضيف: ومنذ ذلك الحين، لم يكن لدى نساء سابين أيّ واجب آخر سوى غزل الصوف لأزواجهن!".
    الصراع بين الرومان وسابينا أسفر عن معاهدة سلام، ما أدّى إلى توحيد الشعبين. واتفق كلّ من رومولوس وتاتيوس ملك سابينا على أن يتشاركا الحكم وأن تتحوّل روما وسابينا إلى مجتمع واحد. وفي التاريخ الروماني، يُنظر إلى دمج سابينا في مجتمع روما باعتباره حدثا أساسيّا ورمزا لامتزاج الثقافات المختلفة.
    في هذه القصّة تلعب النساء دورا مركزيّا. وهنّ لا يُصوّرن كضحايا سلبيات، ولكن كعاملات نشطات يتسبّبن في إنهاء الصراع. كما أن استعدادهنّ للفصل بين الطرفين المتحاربين يُبرز مهارتهنّ الدبلوماسية في مجتمع يهيمن عليه الذكور.
    كان تدخّل نساء سابينا بين المقاتلين أحد أكثر الحوادث شهرةً في التاريخ الروماني. والمؤرّخ ليڤي لا يمتدح البراعة العسكرية للمحاربين، بل يُثني على التقوى والسلام والانسجام والحبّ الأبوي والاحترام الذي جلبته نساء سابينا بتدخّلهن الحكيم بين آبائهن وإخوتهن من جهة وأزواجهنّ الجدد من جهة أخرى.
    قصّة نساء سابينا تتناول موضوعات الصراع والوحدة ودور المرأة في المجتمع القديم وتُقدّم رؤى قيّمة حول تعقيدات المجتمع الروماني القديم وديناميكيات التبادل الثقافي والقوّة الدائمة للأسطورة وتلقي الضوء على التجارب الإنسانية عبر الزمان والمكان. وقد فُسّر اختطاف النساء والمصالحة اللاحقة بين الرومان وسابينا على أنها رمز لتكامل القبائل والثقافات المختلفة في مدينة روما القديمة. كما أن الحادثة تسلّط الضوء على أهمية الوحدة والتعاون في تشكيل المجتمع المتماسك.
    وقد تركت القصّة تأثيرا دائما على الثقافة الغربية، وحتى على التفسيرات الحديثة للدبلوماسية وللعلاقات بين الجنسين. ولا تزال القصّة تُدرّس ويعاد تصويرها في أشكال مختلفة كأسطورة مقنعة تستكشف موضوعات حلّ النزاعات والتحوّلات المجتمعية.
    صُوّرت قصّة نساء سابينا كثيرا في الفنّ والأدب والأفلام على مرّ القرون، ما يوضّح أهميّتها الدائمة في الثقافة والأساطير الرومانية. ومن بين من جسّدوا القصّة في الفن كلّ من النحّات جيامبولونيا والرسّامين پوسان وروبنز.
    كما رسمها الفرنسي جاك لوي داڤيد الذي اختار مشهد ما بعد الاختطاف "فوق"، أي عندما تتدخّل نساء سابينا "اللاتي أصبحن الآن متمسّكات بأزواجهن وأمّهات لأطفالهم"، ليتوسّلن إلى كلا الجانبين لإلقاء السلاح وإحلال السلام. وقد فُسّرت لوحة داڤيد وقتها، أي في نهاية ق ١٨، على أنها نداء الى الفرنسيين المنقسمين على أنفسهم آنذاك كي يتصالحوا ويتوحّدوا بعد الدماء الكثيرة التي سُفكت أثناء الثورة الفرنسية.
    المؤرّخون كثيرا ما يشيرون إلى أن الاغتصاب في العصور القديمة كان يعني الاختطاف وليس الانتهاك الجنسي. ولكن من الناحية التاريخية، كان الانتهاك الجنسي يصاحِب الاختطاف في أغلب الأحيان. وقيل إن اختطاف نساء سابينا كان محاولة لعقد تحالف عشائري مع سابينا من خلال الزواج المختلط بين نساء ورجال الطرفين، إذ المعروف أن أيّ تحالف لا يكون أقوى من التحالف القائم على الروابط الأسرية.
    المؤرّخ بلوتارك ذكر أنه لا يزال من العادات المتّبعة حتى يومنا هذا في إيطاليا أن العروس لا تَعبر العتبة إلى منزلها الجديد من نفسها، بل تُرفع وتُحمل على الأيدي إلى الداخل، لأن نساء سابينا حُملن بالقوّة ولم يدخلن البيوت من تلقاء أنفسهن".
    وفي الخطاب المعاصر، كثيرا ما تُستدعى قصّة أو أسطورة اغتصاب نساء سابينا لتحليل موضوعات مثل تعقيدات العلاقات في السياقات التاريخية والحديثة والتفاوض على الهويّات وفحص ديناميكيات القوّة في بيئات ثقافية مختلفة.

    Credits
    artrkl.com
    creativetime.org

    الأحد، سبتمبر 08، 2024

    الشعر الأسود


    "الشعر الأسود" واحدة من أربع قصص منفصلة يتضمّنها الفيلم الياباني "كايدان" من إخراج ماساكي كوباياشي (1964). وتبدأ القصّة بمشهد لمحارب ساموراي يمرّ بوقت عصيب، إذ يجد نفسه فجأة بلا عمل في كيوتو، العاصمة القديمة لليابان. ونرى زوجته المحبّة والوفيّة وهي تعمل بجدّ في النسج على نول في منزلهما من أجل تحسين معيشتهما.
    لكن الساموراي الزوج لديه خطط أخرى، ويريد أن يترك زوجته بحثا عن مراعٍ أكثر خضرة. ويرفض بقسوة توسّلات الزوجة له بأن يبقى الى جوارها. ويبحث الساموراي عن امرأة أخرى ثريّة توفّر له المكانة ووظيفة مرموقة مع الحاكم. وفعلا يجد الزوجة الثريّة التي يبحث عنها. لكن زوجته الجديدة لا تشبه زوجته السابقة. فهي أنانية وقاسية ولامبالية ومتغطرسة.
    وتمرّ سنوات، يتذكّر خلالها بحنين زوجته الأولى التي اعتادت العمل باستمرار حتى يتمكّنا من العيش بسعادة. وبعد أن أدرك أنه ما يزال يحبّها وعرف مدى ظلمه لها ونكرانه لجميلها، أصبح يملؤه الأسى والندم وهجَرَته راحة البال. وفي بعض الأحيان كانت زوجته السابقة تظهر له في أحلامه وهي جالسة وحدها في الغرفة الصغيرة من المنزل المتهالك الذي تركه وراءه وهي تخيط الملابس، بينما تكفكف دموعها بأكمامها الممزّقة.
    وتغضب الزوجة الثانية عندما تعلم أن زواج الساموراي منها كان من أجل ثروتها وتلاحظ بحنق شوقه المستمرّ لزوجته السابقة. وذات يوم، تشعر بالملل وتجده نائما وتحاول تقبيله، لكنه يبعدها عنه، فتصفعه مستاءة من أنانيّته وتَذكّره المستمرّ لزوجته الأولى.
    وتطالبه وصيفات الزوجة الثانية بالتصالح معها، لكنه يرفض ويؤكّد على نيّته العودة الى زوجته القديمة وإصلاح علاقته بها. وتمرّ سنوات أخرى قليلة قبل أن يتمكّن الساموراي من إعفاء نفسه من خدمته للحاكم المحلي.
    ثم يقرّر أن عليه الآن أن يسرع للذهاب إلى كيوتو للبحث عن زوجته الأولى. وفي وقت متأخّر من الليل، يصل إلى حيث كان يعيش مع زوجته. كانت المدينة صامتة كالقبور، لكن القمر كان ساطعا ومشرقا، ما سهّل العثور على المنزل الذي بدا متهالكا ومهجورا، لدرجة أن العشب الطويل نبت في كلّ مكان ولم يوفّر حتى سطح البيت. وطرق الساموراي الباب، لكن لم يكن هناك أي ردّ، فدفع الباب لفتحه ودخل.
    كانت الرياح الباردة تهبّ بقوّة وضوء القمر يسطع في الغرفة الأمامية من البيت، ولم يكن هناك أيّ علامة على وجود أيّ شخص بالداخل. لكن عندما اقترب الساموراي من الغرفة الخلفية التي كانت زوجته تستخدمها عادةً كغرفة معيشة، رأى ضوءا ينبعث من داخلها. ولمّا فتح الباب، رأى زوجته تجلس هناك وهي تخيط على ضوء شمعة. كانت ما تزال شابّة وجميلة، ولم تتغيّر كثيرا عن اليوم الذي تركها فيه.
    ولما رأته، هبّت واقفة ورحبّت به وتصرّفت معه كما كانت تتصرّف في الماضي. وبدت متسامحة وغير مبالية بخيانته لها وهجره إيّاها. كان يعرف أن قلبها كبير كما في الماضي، بدليل أنها تجاهلت اعتذاره ووعدت بإصلاح الأمور. وذكرت له أن كيوتو تغيّرت وأنهما "لن يمضيا معاً سوى لحظة"، لكنها لم تشرح ما قصدته. ثم أكّدت له أنها تتفهّم سبب تركه لها وأنه إنما كان يسعى لجلب دخل إضافي للبيت.
    ثم يتحدّثان عن حياتهما ويخبرها الساموراي عن حاله في سنوات غيابه، ويطلب منها المغفرة ويتعهّد لها بأن يعيشا معا طوال ما تبقّى لهما من عمر. ثم يقتربان من بعضهما البعض، وعندما تُريح وجهها على صدره، يداعب شعرها الطويل برفق ويلاحظ أنه نفس الشعر الأسود اللامع وأن رائحته لا تزال كما كانت من قبل.
    ثم يرتّبان معا فراشهما في الغرفة التي ناما فيها معا أوّل مرّة بعد الزواج، وتقوم هي بتجهيز السرير وتغطيته بالكيمونو الأحمر. وبعد ذلك تنطفئ الأضواء ويبدو الساموراي وكأنه لا يزال منعّما بحظّه السعيد الحالم المتمثّل في اجتماع شمله مرّة أخرى بزوجته الطيّبة والوفيّة دون أن يضطرّ لبذل الكثير من الجهد.


    وفي الصباح يستيقظ راضيا مبتسماً، لكنه سرعان ما يشعر بالصدمة والارتباك عندما يجد نفسه مستلقيا على أرضية خشبية مهترئة في خرابة مهجورة وموحشة تغطّيها الأعشاب الضارّة. وفي غمرة إحساسه بالحيرة والذهول، يتّجه نحو زوجته التي ترقد مغطّاة بالكيمونو الأحمر.
    وبينما يسحب الكيمونو، يصاب بالصدمة عندما يدرك أنه كان نائما طوال الليل مع جثّة زوجته التي لم يبقَ منها سوى هيكلها العظمي وبقايا شعرها الطويل. كانت مجرّد جثّة امرأة ذات شعر أسود طويل ملفوفة في ثيابها.
    وهنا يشعر الساموراي بالهلع ويركض عبر غرف وفناء المنزل المهجور على غير هدى ويحاول الاختباء خلف جدار. وفي هذه الأثناء، ينفصل الشعر الأسود الطويل عن الهيكل العظمي ويطارده للانتقام منه. كان يجري بسرعة بين الأعشاب الضارّة والمتضخّمة وجدران البيت المتشقّقة، يتبعه الشعر الأسود الذي يهاجمه بلا هوادة. ويبحث الرجل يائساً عن منفذ للهروب، لكن الشعر يطارده ويلتفّ عليه ويلقيه أرضا.
    وعندما يبلغ الشارع المجاور وهو على تلك الحالة من الخوف والصدمة، ينظر داخل بركة ماء على الطريق ليجد أنه كبُر فجأة وشاب قبل الأوان وأصبحت ملامحه مخيفة. ثم يلتقي رجلا غريبا في الطريق ويسأله إن كان يعرف أحدا من ساكني ذلك البيت. فيجيب: لا يوجد أحد في هذا المنزل. كان في الأصل ملكا لساموراي وقد غادر المدينة قبل سنوات بعد أن طلّق زوجته من أجل أن يتزوّج أخرى. وبعد سفره، عانت زوجته كثيراً ومرضت. ولم يكن لها أقارب في كيوتو ليعتنوا بها. وتوفّيت في خريف ذلك العام الذي رحل فيه زوجها، في العاشر من سبتمبر".

    ❉ ❉ ❉

    في قصص الأشباح في الشرق، وخاصّة في اليابان، هناك خصوصية ثقافية للشبح ذي الشعر الأسود، إذ يرمز الى انتشار الظلم الذي تتعرّض له النساء في البيئات الأبوية والمحافظة. وفي الشرق أيضا، يمثّل الشعر الطويل جمال المرأة وشرف كلّ من النساء والرجال، وأحيانا يحمل بعدا آخر هو الانتقام.
    وغالبا ما يكون الدافع وراء الأشباح الأنثوية هو الغضب وسعي النساء للانتقام لموتهن غير المستحقّ وغير المبرّر. والمخرج كوباياشي في هذا الفيلم يكرّس تلك الصورة، بتناوله الطبيعة الانتقامية لروح الزوجة التي يتحوّل شعرها الأسود الطويل الذي أحبّه زوجها كثيرا إلى روح شيطانية تطارده وتلتفّ حول وجهه ورقبته وتدفعه إلى الجنون.
    المخرج الياباني الآخر أكيرا كوروساوا له فيلم عنوانه "أحلام" من عام 1990، ويتكوّن من قصص لثمانية أحلام. في أحد تلك الأحلام، وعنوانه "النفَق"، يظهر قائد سريّة يابانية وهو يسير على طريق مهجور عند الغسق، في طريقه إلى منزله بعد مشاركته في الحرب العالمية الثانية. ويصل القائد إلى نفق كبير ومظلم ويعبره متبوعا بشبح أحد جنوده الذي توفّي بين ذراعيه متأثّرا بجراحه.
    ويبدو الجندي القتيل وكأنه غير مصدّق أنه مات. ثم يشير إلى ضوء منبعث من منزل على سفح جبل قريب على أنه منزل والديه. ويشعر الجنديّ بالحزن الشديد لأنه يعلم أنه لا يستطيع رؤية أهله مرّة أخرى. لكن القائد يقنعه بأن يعود الى النفق ويتقبّل مصيره.
    ثم يخرج من النفق مجموعة من الجند التابعين للقائد يقودهم ملازم شابّ. ويتوقّفون وهم يرفعون أسلحتهم لتحيّته بأعين زائغة ووجوه تعلوها زُرقة. ويحاول القائد أن يقنعهم أنهم ماتوا بعد أن قُتلوا جميعا في الحرب، معترفا أنه هو نفسه المسؤول عن إرسالهم إلى معركة عبثية، بينما يقفون هم صامتين. وينهار القائد حزنا وأسى على مصيرهم. ثم يأمرهم بالاستدارة والعودة الى النفق والرضا بقدَرهم، فيفعلون.
    وفي الكثير من الأفلام اليابانية، عندما تظهر أشباح لأشخاص قُتلوا ظلما، فإنهم يكونون مليئين بالكراهية وروح الانتقام، لأن إرادتهم في الحياة سُحقت دون وجه حقّ وماتوا دون أن يختاروا ذلك المصير.

    Credits
    journals.kpu.ca