:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، أكتوبر 23، 2007

صورة مدام ريكاميـيه

جلست البارحة أتأمّل إحدى لوحات الفنّان رينيه ماغريت التي رسمها اعتمادا على لوحة معروفة جدا للرسّام الفرنسي دافيد.
وكان دافيد قد رسم في العام 1800 لوحة لـ مدام ريكامييه التي قيل إنها كانت أجمل امرأة في زمانها. وقد كانت بالإضافة إلى جمالها الباهر سيّدة تهوى الفنون والشعر والأدب، لذا كان صالونها يضمّ نخبة المجتمع الباريسي آنذاك من ساسة وأدباء وفلاسفة وفنانين.
ماغريت، بأسلوبه السوريالي الجامح وميله لمزج الفنّ بالفلسفة والأفكار الوجودية، قام برسم نسخة مشابهة تقريبا لبورتريه دافيد عن مدام ريكامييه، لكنه استبدل صورة المرأة بصورة تابوت تتدلّى من أسفله قطعة صغيرة من القماش.
وقد أراد ماغريت من خلال لوحته أن يقول إن تلك القطعة من القماش هي كلّ ما تبقى من تلك السيّدة التي كانت أثناء حياتها ملء السمع والبصر ومحطّ إعجاب الناس واهتمامهم.
والحقيقة أن لوحة ماغريت أثارت في ذهني مجدّدا نفس ذلك السؤال القديم الذي طالما شغلني واشغلت به غيري ممن اعرفهم وارتاح للحديث معهم في مثل هذه المواضيع المحيّرة والشائكة.
وأذكر أنني أبديت يوما ملاحظة لزميل ختمتها بسؤال صغته على الشكل التالي: إذا كان الموت هو النهاية الطبيعية لكل مخلوق على هذه الأرض، وإذا كان الموت نفسه ينهي أي وجود مادّي أو فيزيائي للإنسان من على هذه الأرض، فما مبرّر لهاثنا المحموم وراء متع وملذّات الدنيا ونحن نعرف أن الموت هادم اللذات وأن كل اثر لهذه المتع الدنيوية التي نجري وراءها ولا نشبع أو نرتوي منها ينتهي بعد أن نموت وينقطع كل اثر لنا من هذا العالم.
واتذكّر أن ذلك الزميل ردّ على تساؤلي بسؤال آخر عندما قال: هل تعرف انك بهذا السؤال تكون قد وضعت قدمك على أولى العتبات التي تفضي، مع أسئلة أخرى متفرّعة عنه، إلى جوهر الفلسفة البوذية والكيفية التي ينظر بها البوذيّون إلى قضايا معيّنة مثل مفهوم ووظيفة الجسد الإنساني وطبيعة وقيمة وجود الإنسان على هذه الأرض ومصير الإنسان بعد الموت، وغيرها من الأسئلة المصيرية الكبرى.
وقد فهمت بعد ذلك أن الجسد عند البوذيين ليس أكثر من قطعة قماش يلبسها الإنسان ثم يخلعها عند حلول الموت.
ورغم أن البوذية لا تعتقد بوجود جنّة ونار أو حساب أو عقاب، فإن الموت عندهم ليس هو النهاية وإنما بداية لحياة أو حيوات أخرى تتخلق من خلال التناسخ أو انتقال الروح في جسد آخر.
وربّما لهذا السبب نجد الحكيم الهندي اوشو يوصي الإنسان بأن لا يثقل على نفسه كثيرا بالتفكير في ما وراء واقعة الموت، وان يمتّع نفسه في كل لحظة يعيشها في هذه الدنيا، لان لا احد، على حدّ قوله، يعرف يقينا ماذا ينتظرنا بعد الموت.
لقد قرأت سيرة كازانتزاكيس بكثير من الانبهار والدهشة، وكان احد أسباب إعجابي بذلك الكتاب العظيم هو أن كازنتزاكيس تحدّث فيه مطوّلا وبعمق عن نفس هذه الأسئلة التي كانت ولا زالت تشغلني ولا اشكّ أنها تشغل الكثيرين غيري: ما الذي يبقى من الإنسان بعد أن يموت، ولماذا يموت البشر أصلا، وما حاجة الله سبحانه لأن يُميت الإنسان ويفنيه، وأيّ فائدة تعود على الشخص الميّت من تذكّرنا إيّاه بالمدح أو الذمّ، ثم أيّ أهمية في أن يترك الإنسان خلفه نسلا يحفظون اسم سلالته وشجرة نسبه وهو أصلا محكوم بالفناء الأبدي!
لقد ماتت مدام ريكامييه منذ أكثر من مائة وخمسين عاما. ومات قبلها الفنان دافيد بخمسة وعشرين عاما. ثم مات في إثرهما ماغريت. وبقي من المرأة ما تحفظه بطون الكتب عن جمالها الخارق وحضورها الطاغي، وبقي من الرسّامَين لوحتاهما الشهيرتان اللتان رسماهما لتلك المرأة.
وعلى طريقة ماغريت الشاطحة والمستفزّة، يمكن لأيّ إنسان أن يطرح سؤال مماثلا عن جدوى أن يكون الإنسان مشهورا أو مغمورا، طيّبا أو سيّئا، بعد أن يموت.
وأيّ قيمة أو منفعة مادية أو معنوية يمكن أن تعود على الموتى من ذكر الأحياء لهم بالخير أو بالشرّ.
وأختم حديثي بالآية القرآنية الكريمة: "إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار". صدق الله العظيم.


Credits
artchive.com