:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، ديسمبر 04، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • لورانس ألما تاديما رسّام هولندي الأصل، استقرّ في انغلترا بدءا من عام 1870 وحصل هو وعائلته على وضع المواطنة ومُنحوا حقوقا قانونية كمستوطنين هولنديين. ومعظم لوحاته هي لأشخاص يجلسون في ديكور رخامي أو أمام الزرقة الغميقة لمياه وسماء البحر المتوسّط. وبسبب كثرة الرخام في صوره لُقب تاديما بالرسّام الرخامي.
    كان الرسّام منذ بداياته مهتمّا خاصّة بالدقّة المعمارية، وقد جمعَ كثيرا من الصور الفوتوغرافية لمواقع قديمة في انغلترا وإيطاليا ليستخدمها في لوحاته. وكان يرسم غالبا من الطبيعة ويستخدم الأزهار الطازجة ويضمّنها في صوره قبل ذبولها، ما دفعَ الكثيرين لوصفه بالمتفذلك.
    في حياته، لم ينل ألما تاديما تقديرا يُذكر، غالبا بسبب أسلوبه الأكاديمي وتركيزه على العصور القديمة وتمسّكه بالتقاليد في وقت بدأت فيه مدارس الفنّ الحديث في الظهور. وبدءا من النصف الأوّل من القرن العشرين، احتلّت الانطباعية والوحشية والتعبيرية والتكعيبية والتجريدية والمستقبلية مركز الصدارة في عالم الرسم. وفي نفس الوقت فقدت أعمال ألما تاديما شعبيّتها وصِلتها بالواقع.
    وكان الناقد جون راسكين قد وصف تاديما بأنه "أسوأ رسّام في القرن التاسع عشر!"، بينما قال ناقد آخر إن لوحاته لا تصلح سوى "لتزيين علب الحلوى"! ثم أصبح وجود لوحة لهذا الرسّام في منزل شخص مثارا للسخرية، وصارت صوره توصف بالفنّ الرخيص.
    وعندما بيعت احدى لوحاته في الستّينات، لم تحقّق أكثر من 350 دولار، أي أقلّ من قيمة القماش والألوان التي دُفعت لرسمها. ويعزو البعض تناقص حظوظ الفنّان الى اختلاف الاذواق وافتقار لوحاته الى العمق وإغراقها في العاطفية والمثالية وتركيزها على الزخرفة، رغم الجمال البصريّ لبعضها.
    وبعد وفاته، نُسي اسم ألما تاديما تماما تقريبا. ومع ذلك أُعجبت به هوليوود لاهتمامه بالتفاصيل، وظهرت بعض لوحاته في عدد من أشهر الأفلام مثل غلادييتور "المصارع" و"كليوباترا" و"الوصايا العشر" وغيرها.
    في الماضي، أي زمن ألما تاديما ومعاصريه من الرسّامين، كان للفنّ وظائف مختلفة، كالتعليم والترفيه وكسب رضا الكنيسة والملوك وطبقة النبلاء والبرجوازيين. لكن منذ بداية القرن العشرين، أصبح الفنّ أكثر صعوبة عندما طَغت عليه الفلسفة وعلم النفس، مع ميلٍ الى هدم المعايير ومخالفة توقّعات الجمهور. وإجمالا وبمقاييس هذه الأيّام، ليس مطلوبا من الفنّ ان يكون ممتعا أو جميلا ولا يتطلّب بالضرورة مهارات خاصّة أو مواهب استثنائية.
  • ❉ ❉ ❉

  • كان كينكو المنعزل يسجّل أفكاره الحادّة اللاذعة على قصاصات من ورق لم تنجُ عبر القرون إلا بالصدفة. وكان من الممكن أن تتحلّل على الجدران التي ألصقها عليها أو أن تُرمى في سلّة المهملات. ولكن انظر إلى سحره الآن، إذ يمكنك البحث عن كينكو في غوغل، وإذا كان لديك كيندل أو نوك أو آيباد أو أيّ قارئ إلكتروني آخر، فيمكنك إعادة تجميع كلّ أعماله هو أو دانتي أو دي مونتين إلكترونياً على شاشة مسطّحة رقيقة. وقد تختفي هذه الأعمال أيضاً بلمسة واحدة وفي جزء من الثانية.
    إن الكُتاب الثمينين ينتشرون على نحو عجيب عبر الإنترنت، فأنت تحصل عليهم من الهواء بنفسك. وربّما يختفون بسرعة أكبر من أزهار كينكو أو أقماره المخفية، ما يدلّ على أن هذا الكون عبارة عن خداع بصريّ وليس شيئاً صلباً.
    ولو تخيّلنا أن دي مونتين أو كينكو أو دانتي يكتبون اليوم على موقع فيسبوك أو تويتر ويتبادلون الرسائل النصّية، فماذا سيكتبون؟ هل سيتناولون مواضيع مثل المنفى أو الانسحاب أو العزلة في عالم سكايب والخلية العالمية؟ وهل تعمل الشبكات الاجتماعية الجديدة على تحسين نوعية التفكير والكتابة؟ وكيف وإلى أيّ مدى؟ لا نعرف بعد.
    إن الكاتب العظيم لا يحتاج بالضرورة لأن يكون ناسكاً منعزلا. ولم يكن شكسبير كذلك. والغريب أن الكتابة في غرفة صاخبة أسهل أحيانا من الكتابة في صمت وعزلة. فلفترة من الزمن، كنت أحبّ الكتابة أثناء ركوب القطار السريع. كانت خشخشة العربات وصرير القضبان يحسّنان من قوّة تركيزي، وكنت أفضّل أن يكون معي رفيق وأنا أكتب. وقد أذهلني بروتوكول مترو الأنفاق، الذي يتطلّب أن تكون وجوه كلّ الركّاب المتنوّعي الخلفيات والاعراق، وطيلة مدة الرحلة، جامدة وغير قابلة للقراءة، وألا يكون هناك اتصال بالأعين في ما بينهم.
    لانس مورو
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • طلب منّي المعلّم أن أكتب موضوعا عن "من أنا؟"، وجلست طويلا أفكّر في الإجابة. لم تكن المشكلة أنني لا أعرف نفسي، بل كان الأمر يتعلّق بحيرتي في اختيار أيّ نسخة منّي يمكن أن أكتب عنها. فأنا عدّة أشخاص مختلفين. واستغرقَ الأمر منّي بعض الوقت لأدرك أن نسختي المفضّلة من "الأنا" هي تلك التي تظهر عندما لا يكون أحد حولي، أي عندما لا يتمّ تسجيل أفعالي.
    هل نكون أشخاصا مختلفين حين لا يراقبنا أحد؟ حين لا تحكم علينا عيون الآخرين؟ طريقتنا في المشي، نبرات أصواتنا، تعبيرات وجوهنا، ملابسنا، وكلّ ما يحدّد شخصياتنا يتغيّر في غمضة عين. نضحك بهستيريا، نغنّي بأعلى أصواتنا وحتى نرقص بجنون. تلك الأجزاء الجميلة والغريبة من شخصيّاتنا لا تظهر إلا عندما نكون بمفردنا.
    إن لدى كلّ انسان منّا أجزاء شرّيرة في داخله، زوايا مظلمة وممرّات ودهاليز سرّية تتنفّس في أعماقنا. وعندما لا يكون هناك أحد حولنا، تَخرج كل تلك المشاعر المدفونة فنصبح أنانيين وحسَدة وعدوانيين وقد نتمنّى الشرّ لأعدائنا.
    ولكنْ هناك بداخلنا خير أيضا، فعندما لا يراقبنا أحد فإننا نبتسم للفقير بحبّ ونعيد المال الذي سقط من جيب شخص غريب، ونحاول أن نكون أفضل نسخة من أنفسنا. إننا الأسرار المظلمة التي نخفيها والأخطاء التي نرتكبها والحبّ الذي لا نعبّر عنه واللطف الذي لا نلاحظه.
    من أنت حين لا يراقبك أحد؟! ماذا تفعل حين لا يراك أحد؟ حين لا يُحكم عليك على كلّ فعل تقوم به؟ حين لا يلاحظ أحد خطواتك وتحرّكاتك؟ هل تظلّ أنت نفسك، أم تصبح شخصا آخر؟!
  • ❉ ❉ ❉

  • يشير مصطلح "الحكمة القديمة Ancient wisdom " إلى وجود رؤى وحقائق قيّمة يمكن أن نجدها في تعاليم الحضارات القديمة والتقاليد الروحية والنصوص القديمة. وغالبا ما يشير هذا المصطلح إلى شعور باحترام معارف وتجارب الأجيال السابقة والاعتراف بأهمية تعاليمهم وضرورتها الدائمة في الحياة المعاصرة.
    وقد يلجأ الناس إلى الحكمة القديمة طلباً للإرشاد والإلهام ومن أجل فهم أعمق للحقائق الأساسية حول الوجود البشري والأخلاق والروحانية والعالم الطبيعي. وكثيراً ما ترتبط ممارسات مثل التأمّل واليوغا والطب التقليدي والتعاليم الفلسفية بتقاليد الحكمة القديمة.
    وإجمالا، تنقل "الحكمة القديمة" فكرة مفادها أن هناك حِكَما يمكن اكتسابها من المعرفة المتراكمة ومن تجارب الماضي، وأنه بدراسة تلك التعاليم القديمة والتمعّن فيها يمكن للأفراد أن يحصلوا على فهم أعمق عن معنى الحياة والغرض منها.
    وتتضمّن "الحكمة القديمة" المعرفة والرؤى والتعاليم والمعتقدات والممارسات التي تناقلتها الأجيال في مختلف الثقافات والمجتمعات على مدى فترة طويلة من الزمن. وغالبا ما تُعتبر هذه الحكمة خالدة وعالمية وتتجاوز السياقات الثقافية المحدّدة التي نشأت فيها.

  • Credits
    alma-tadema.org
    smithsonianmag.com

    الثلاثاء، ديسمبر 03، 2024

    عربي في بلاط سلطان المغول


    كان العلّامة أبو الفضل ابن المبارك (1551 - 1602) مؤرّخا وأديبا ومفكّرا ووزيرا أعظم للسلطان المغولي أكبر في الهند. وينحدر أسلاف أبي الفضل من اليمن ويعود نسبهم إلى الشيخ موسى الذي هاجر مع بعض قومه إلى السند في أواخر القرن الخامس عشر. وما أن استقرّوا في الهند حتى انتظموا في الحركات الصوفية، وخاصّة حركة طائفة الشيستي في راجستان.
    كان والده مبارك فقيها معروفا وقد أسّس له مدرسة فقهية في أغرا حيث كان مجال اختصاصه الفلسفة. وقد جذب عددا من العلماء إلى محاضراته، كما أمضى بعض الوقت في "بدوان" التي كانت تُعتبر الأرض المقدّسة للصوفية. لكن فيما بعد انتقد العلماء مبارك واتهموه بتغيير قناعاته الدينية حسب المصلحة. فمثلا كان سنيّا في عهد السلطان إبراهيم لودي، ثم أصبح مهدويّا في عهد همايون فَبَطلاً للفكر الليبرالي في عهد أكبر.
    يتحدّث أبو الفضل عن السنوات العشرين الأولى من حياته فيقول: في ليلة الأحد السادس من محرّم 958هـ، خرجت روحي الطاهرة من الرحم إلى هذا الفضاء الجميل من العالم. وفي سنّ تزيد قليلاً عن عام، اكتسبت موهبة النطق الطليق. وفي سنّ الخامسة اكتسبت مخزوناً غير عاديّ من المعلومات وعرفت القراءة والكتابة. وفي سنّ السابعة أصبحت أميناً على مخازن والدي من المعرفة وحارساً أميناً لجواهر المعاني الخفيّة، وكنت أحرس الكنز كأفعى".
    ويضيف: كان والدي يستحضر بطريقته سحر المعرفة ويعلّمني القليل من كلّ فرع من فروع العلم. ورغم نموّ ذكائي، إلا أنني لم أكتسب انطباعات عميقة من مدرسة التعلّم. وفي بعض الأحيان لم أكن أفهم شيئا على الإطلاق. وفي أحيان أخرى كانت تلوح في الأفق شكوك لم يكن لساني قادرا على تفسيرها. فإمّا أن الخجل يجعلني أتردّد أو أنني لم أكن أمتلك القدرة على التعبير. وكنت أبكي في الأماكن العامّة وألقي باللوم كلّه على نفسي".
    ثم يقول: وذات يوم تعرّفت على شخص أصبح صديقا مقرّبا منّي فتعافت روحي من هذا الجهل وعدم الفهم. ولم تمرّ أيّام قليلة حتى استعاد عقلي المشتّت هدوءه. ورغم أنني كنت أتمتّع بموهبة خاصّة نزلت عليّ من عرش القداسة، إلا أن إلهام والدي الجليل كان مفيدا للغاية وأصبح أحد أهم أسباب تنويري. ثم ولعشر سنوات أخرى، تحرّرت روحي مرّة أخرى من نيرها ونشأ في داخلي قلق جديد. فلم أعد أفرّق بين الليل والنهار أو بين الشبع والجوع، ولم أميّز بين الخصوصية والمجتمع، ولم تكن لديّ القدرة على فصل الألم عن اللذّة. ولم أعترف بأيّ شيء آخر غير رباط الإثبات والمعرفة".
    ويضيف: ثم اعترضتُ على الكتّاب القدامى وخالفت الرجال الذين علّموني في شبابي، وانزعجَ عقلي وكان قلبي في حال من الاضطراب. كنت كلّما قوِيتْ إرادتي استنار فكري، إلى أن وصلتني بشرى استقلاليّتي وتخلّصَ عقلي من قيوده السابقة وعادت حيرتي المبكّرة. لم أكن أعلم كيف سينتهي كلّ شيء ولا في أيّ مكان سأستقرّ في رحلتي الأخيرة. لكن منذ بداية وجودي وحتى الآن، ظلّت نعمة الله تحميني باستمرار. وأتمنّى أن أقضي لحظاتي الأخيرة في تنفيذ إرادته وأن أنتقل إلى الراحة الأبدية متخفّفاً من أيّ أعباء".


    واصل أبو الفضل ولعه بالقراءة ودفن نفسه في قراءة المصادر العربية واليونانية الكلاسيكية، مع اهتمام خاص بالفلسفة والتصوّف. وفي عام 1574، دخل الى بلاط السلطان أكبر، وكان عمره 23 عاما. وبسبب اعتدالهما وتسامحهما، نشأت بين السلطان والفقيه علاقة عميقة، حيث أثّر كلّ منهما على الآخر فكريّا وإنسانيّا. كان أبو الفضل يحظى باحترام كبير لعلمه وفضله، ولم يلبث أن أصبح يشار اليه باعتباره إحدى "الدّرر التسع" في بلاط السلطان.
    وعلى امتداد السنوات الخمس والعشرين التالية، عمل كمستشار لأكبر وكمتحدّث باسمه، حيث صاغ وروّج لأفكار وسياسات السلطان. ثم عُيّن مسؤولاً عن "بيت العبادة" العلماني، حيث كان الفلاسفة والمفكّرون من ديانات مختلفة يناقشون شتّى القضايا، الأمر الذي جرّ عليه غضب بعض الزعماء الأصوليين الذين اتهموه بالتأثّر بالأفكار الصوفية "المتساهلة".
    ثم عهد إليه السلطان بتأليف كتاب "أكبر نامه" أو كتاب أكبر، وهو وثيقة لتاريخ حكم السلطان موزّعة على ثلاثة مجلّدات. ويحتوي الكتاب على تاريخ أسلاف السلطان من تيمور إلى همايون وحتى العام السادس والأربعين من حكم أكبر. وقد عمل أبو الفضل على هذا المشروع الضخم لمدة 12 عاما تقريبا وحتى مقتله في عام 1602. "في اللوحة التي فوق، يظهر العلّامة أبو الفضل وهو يسلّم الكتاب الى السلطان أكبر الجالس على عرشه محاطا بعدد من أفراد حاشيته وخدمه".
    في الكتاب، تناول أبو الفضل القيم الطيّبة في الديانات المختلفة وجمَعها معا من أجل الحفاظ على السلام ومساعدة الناس على أن يتحرّروا من الأفكار المكبّلة، وقدّم "أكبر" كحاكم عقلاني وتبنّاه باعتباره "بطله" الشخصي، مشيدا بسياساته العلمانية والمتفتّحة. كما ذكر أن الهدف الأساسي من فتوحات أكبر كان إخضاع أكبر عدد ممكن من الناس لإدارته وحكمه الليبرالي والمتسامح والعادل والمسالم، من أجل تحقيق أقصى قدر من الفوائد السياسية لأكبر عدد ممكن من الهنود.
    وقد ذكر أبو الفضل أسباباً عديدة لظهور الخلافات بين أتباع الديانات المختلفة في الهند. فرأى مثلا أن تنوّع اللغات يُعدّ من بين هذه الأسباب وأن اختلافها يجعل من الصعب على الأفراد فهم الموضوعات الدينية والطقوس والعادات التي يتبنّاها أتباع الديانات الأخرى. وذكر أيضا أن هناك نقصاً في الحماس بين مختلف الناس لمحاولة فهم تعاليم الديانات المختلفة. وبحسب أبي الفضل فإن الحكّام الضيّقي الأفق والمهووسين هم أيضا مسؤولون عن ذلك لأنهم يمارسون أفعالا وسياسات معادية لأتباع الديانات الأخرى.
    كتاب "أكبر نامه" يُعتبر عملا تاريخيا وأدبيّا مُهمّا يوفّر رؤية عن المشهد السياسي لإمبراطورية المغول وجهود "أكبر" لتعزيز التسامح الديني والتوليف الثقافي. وما يزال الكتاب مصدرا قيّما للمؤرّخين المهتمّين بدراسة تلك الفترة من تاريخ الهند. ويتّفق الكثيرون على أن الإرث الدائم لأبي الفضل هو أنه أسهم في وضع رؤية لإمبراطورية كبيرة وموحّدة يحكمها زعيم مسلم يمارس "الإسلام العالمي".
    كان قُرب أبي الفضل من "السلطان أكبر" سببا في شعور الكثيرين بالغيرة منه. وقد اغتيل الرجل عام 1602 في مؤامرة دبّرها الابن الأكبر لأكبر الأمير سليم الذي أصبح فيما بعد الإمبراطور جهانغير. وقيل إن سبب مقتله كان معارضته لتولّي سليم للعرش. كان أبو الفضل وقتها في الخمسين من عمره. وقد أُرسل رأسه المقطوع إلى سليم في الله أباد. وفي عام 1608، عُيّن ابن أبي الفضل، الشيخ أفضل خان، حاكما على بيهار بأمر من جهانغير نفسه.

    Credits
    static-cdn.edit.site

    الأحد، ديسمبر 01، 2024

    سيكولوجيا لوم الضحيّة


    أقوى إساءة يمكن أن توجّهها لإنسان هي عدم تصديقك لمعاناته. وأسوأ من هذا أن تلومه وهو الضحيّة وتبرّيء مرتكب الجريمة!
    إلقاء اللوم على الضحيّة يمكن أن يكون له عواقب ضارّة، لأنه يساوي الجاني بالمجني عليه ويستخفّ بمعاناة الضحايا ويمكن أن يثنيهم عن طلب المساعدة أو الإبلاغ عن الجرائم المرتكبة ضدّهم أو التحدّث عنها علنا بسبب الخوف أو المزيد من اللوم.
    أحيانا ينشأ لوم الضحيّة عن الصور النمطية والمواقف المجتمعية، مثل الاعتقاد أنه كان ينبغي على الضحايا أن يمنعوا الضرر أو أنهم تسبّبوا به أو استحقّوه أو أنهم يبالغون في تجاربهم أو يختلقونها. ويمكن أن تكون مثل هذه المواقف متأصّلة بعمق في الأعراف الثقافية وفي صور وسائل الإعلام والخطاب العام.
    وأحيانا يلوم الناس الضحيّة ليُبعدوا عن أنفسهم احتمال أن يصبحوا هم أيضا ضحايا. وهذا السلوك يوفّر إحساسا زائفا بالأمان من خلال الاعتقاد بأنه إذا كان الضحايا مخطئين فيمكن للشخص تجنّب الوقوع ضحيّة وذلك باتخاذ خيارات مختلفة.
    وكثيرا ما يتضمّن لوم الضحيّة بعض الصيغ والعبارات الشفهية مثل "لا بدّ أنك تعلم أن هذا سيحدث" و"لماذا لم تتكلّم من قبل" و"لا بدّ أنك أخطأت أو استفزّيت أحدا" و"لماذا بقيت في ذلك المكان؟" أو "أين دليلك" أو "يجب أن تصمت لأن خصومك أقوى منك وسيدمّرونك!" الخ. ومثل هذه التعليقات والكليشيهات الفجّة والمبتذلة تُسهم في حرمان الأشخاص المتضرّرين وضحايا العنف بأشكاله من التعاطف والدعم الذي يحتاجونه ويستحقّونه.
    ويمكن أن يتقاطع إلقاء اللوم على الضحيّة مع أشكال أخرى من التمييز والقمع المجتمعي، مثل العنصرية أو الطبقية والمذهبية وما في حكمها من صور نمطية وتحيّزات، ما يؤدّي إلى تفاقم آثار إلقاء اللوم على الضحيّة وإدامة دائرة الإفلات من العقاب.
    وهناك أيضا سبب آخر لميلنا إلى إلقاء اللوم على الضحيّة، يتمثّل في الاعتقاد بأن هذا العالم مكان عادل ومنصف وأن باستطاعة الناس التنبّؤ مسبقا بأيّ مشكلة قد تصيبهم ومن ثمّ منعها، وبالتالي فإنهم يستحقّون ما يحدث لهم على أيّ حال. ومثل هذه الأفكار المغلوطة تجعل الناس يستسهلون لوم الضحيّة وتعزّز وهمهم بأن الأشياء الفظيعة لا يمكن أن تحدث لهم أبداً.
    وعادةً عندما يحدث شيء سيء لشخص آخر غيرنا، فإننا غالبا ما نعتقد أن ذلك الشخص لا بدّ أنه فعل شيئا يستحقّ مثل ذلك المصير وأن الناس يحصلون على ما يستحقّونه. لكن المنطق يقول إن الأشياء السيّئة يمكن أن تحدث لأيّ شخص، حتى أنت وأصدقاؤك وعائلتك، بغضّ النظر عن مدى طيبتك وحذرك ونوعية ضميرك.

    ويمكن أن ينشأ إلقاء اللوم على الضحيّة من عدم التعاطف مع الآخرين كطبيعة متأصّلة في بعض الناس. فهناك أشخاص يفتقرون بشدّة إلى التراحم والعطف على الآخرين ويكرهون التعامل مع المواقف الإنسانية ولا يفكّرون في مآسي الغير أو تجاربهم. وبسبب هذا الفقر العاطفي والجفاف الإنساني، فإنهم أكثر ميلاً لإلقاء اللوم على الآخرين عندما تحدث لهم أشياء سيّئة كما أنهم أقلّ عرضة لتقديم المساعدة.
    إن إلقاء اللوم على الضحيّة يمكن أن يكون له عواقب وخيمة على الأفراد الذين عانوا بالفعل من الظلم. إذ يمكن أن يدفعهم ذلك إلى العزلة والامتناع عن الإبلاغ عن الجرائم المرتكبة ضدّهم أو طلب العدالة، لخشيتهم من التعرّض لمزيد من التشكيك أو التحامل وعدم التصديق.
    ويمكن أن يكون إلقاء اللوم على الضحيّة مدمّرا للأشخاص المعتدى عليهم. فهو يؤدّي الى لوم الذات ولا يشجّعهم على طلب المساعدة بتركيزه على سلوكيات الضحايا بدلاً من تصرّفات المعتدين. كما أنه يجعل من الصعب على الضحايا الحصول على المساعدة والدعم الذي يحتاجونه ويسهم في مشاكل تتعلّق بالصحّة العقلية، مثل الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة وحتى التفكير في الانتحار.
    في المجتمعات المتحضّرة، يتطلّب التعامل مع ظاهرة لوم الضحايا جهدا جماعيّا لخلق ثقافة تدعم الضحايا وتنتصر لهم وتتحدّى المواقف والمعتقدات التي تساهم في هذه الظاهرة. وهذا بدوره يؤدّي الى تعزيز ثقافة الاحترام والتفاهم والتعاطف والعدالة للجميع ومساءلة الجناة مباشرة وتشجيع الضحايا على التعبير عن مظالمهم دون خوف من حكم الناس أو لومهم.
    وبدلا من لوم الضحيّة والتركيز على ما فعله الضحايا أو لم يفعلوه، يجب إعادة صياغة المناقشات حول المسؤولية والمساءلة والتركيز على سلوك الجناة ومعالجة الأسباب الكامنة وراء الضرر، مثل المواقف المؤسّسية والمجتمعية أو الأنظمة التي تشجّع على العنف والتحامل.
    إن كلّ انسان عرضة لأن تحدث له أشياء مؤسفة في هذه الحياة، وربّما تحدث لك أنت في مرحلة من حياتك. لذا، عندما تجد نفسك تتساءل عمّا فعله شخص آخر ليتسبّب في سوء حظّه، توقّف للحظة وفكّر في التحيّزات النفسية التي تؤثّر على حكمك. وبدلاً من إلقاء اللوم على الضحيّة، حاول أن تضع نفسك مكان ذلك الشخص وعامله بالحدّ الأدنى من التعاطف الإنساني بدل لومه وتحميله المسئولية عن ظلم غيره له.

    Credits
    psychologytoday.com