:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، أكتوبر 19، 2012

المثقّف والسياسة

الفيلسوف والكاتب الرومانيّ المشهور ماركوس شيشيرون يقدّم نموذجا للمثقّف الذي يختار عن طواعية الانخراط في عالم السياسة، حتى وهو يدرك خطورة ما يمكن أن يجلبه عليه ذلك من أحقاد وثارات.
شيشيرون كان في صغره طفلا عبقريا، إذ كان يتمتّع بذكاء متوقّد وموهبة استثنائية. وكانت هذه الخصال مثار حنق أترابه عليه. كما اظهر منذ نعومة أظفاره ميلا غير عاديّ لطلب المعرفة والتعلّم، على نحو ما تصوّره اللوحة فوق.
عاش شيشيرون في عصر مليء بالاضطرابات السياسية. وكان أشهر كاتب وخطيب في زمانه. كما كان مدافعا عنيدا عن الحرّيات ومنتقدا بقوّة للتسلّط والاستبداد.
ومن أقواله التي أصبحت مشهورة: سلام ظالم أفضل من حرب عادلة"، و "المهمّة الأساسية للفلسفة هي تعليم الإنسان كيف يستعدّ للموت".
وقد قُتل شيشيرون بطريقة بشعة في العام 43 قبل الميلاد على أيدي مجموعة من أتباع خصمه اللدود مارك انطوني عضو المجلس العسكريّ الحاكم في روما في ذلك الوقت وأحد أكثر الذين تعرّضوا لانتقادات شيشيرون العنيفة والقاسية.
كانت المطاردة بين الرجلين قد وصلت إلى ذروتها. وكان شيشيرون يختبئ في بيته بانتظار أن يأتيه يوما من يقرع عليه الباب. غير انه في نفس الوقت كان يفكّر في طريقة سريعة للهرب عبر البحر. لكن في النهاية تمكّن القتلة من الإمساك به وهو في طريقه إلى الشاطئ. فقاموا بذبحه ووضعوا رأسه وأطرافه في كيس وأرسلوها إلى مارك انطوني وزوجته كبرهان على أن المهمّة أنجزت.
وعندما وصله الكيس الرهيب، أمر انطوني بأن تُدقّ البقايا بالمسامير وتُعرض في نفس المكان الذي كان شيشيرون يلقي فيه خطبه العنيفة.
لكنْ كان على زوجة انطوني، فولفيا، قبل ذلك أن تُنزل بالرجل الذي أذلّ زوجها العقاب المناسب. فأخذت الرأس ووضعته في حضنها، ثم فتحت الفم وسحبت اللسان لتغرس فيه دبّوسا استلّته من شعرها.
العنف الذي مارسته فولفيا ضدّ رأس شيشيرون المقطوع لم يكن شيئا روتينيا في الحياة السياسية الرومانية فحسب، وإنما أيضا تعبيرا عن حالة خاصّة من الحقد الساديّ. فقد كانت هذه المرأة متزوّجة من اثنين من ألدّ أعداء شيشيرون: الثاني كان مارك انطوني، والأوّل كان بوبليوس كلوديوس الذي سبق وأن اجبر شيشيرون على الذهاب إلى المنفى الموقّت والذي اغتيل، هو نفسه، على يد احد أتباع شيشيرون.
كانت المرأة تتحيّن طوال الوقت الفرصة السانحة للانتقام. والآن جاءتها اللحظة المناسبة. وبتمزيقها لسان شيشيرون بدبّوس شعرها، فإن فولفيا إنّما كانت تهاجم الصفة الأساسية التي كانت تحدّد دور وقوّة هذا الرجل في الحياة السياسية آنذاك. وفي نفس الوقت كانت تحوّل أداة بريئة من أدوات الزينة النسائية، أي دبّوس الشعر، إلى سلاح مدمّر.
الرعب الهائل الذي طبع جريمة قتل شيشيرون وتشويهه أسهم في تعزيز مكانته الأسطورية في الثقافة والأدب الروماني.
ومنذ ذلك الوقت، ظلّ المؤرّخون يطرحون هذين السؤالين: هل كان يجب على شيشيرون أن يتوسّل العفو من مارك انطوني كي ينقذ حياته؟ وهل اخطأ الرجل عندما رفض الاتفاق الذي عرضه عليه انطوني بأن يُبقي على حياته مقابل أن يقوم هو بحرق جميع كتاباته وخطبه؟
النقّاد والمؤرّخون يسجّلون على شيشيرون مؤاخذات كثيرة. لكن معظمهم يمتدحونه لأنه مات ميتة مثالية وشجاعة. فقد سلّم رقبته للقتلة وطلب منهم بهدوء أن يتمّوا مهمّتهم دون إبطاء.
التاريخ العربي يحفل، هو أيضا، بالكثير من أخبار النهايات المأساوية لكتّاب وشعراء ومفكّرين قُتلوا ونُكّل بهم بسبب مواقفهم السياسية. وأكثر هذه النهايات تطرّفا في وحشيّتها وعنفها هي ما حدث للأديب الكبير ابن المقفّع مترجم كتاب "كليلة ودمنة". عاش ابن المقفّع في زمن الخليفة العبّاسي المنصور الذي اتسم حكمه بالاضطراب السياسي والفتن الكثيرة. وقد اتُهم الرجل بالكفر والزندقة، بينما كانت خطيئته الأساسية انه اغضب المنصور بسبب كتاباته الانتقادية.
وما زاد من حنق الخليفة والحاشية عليه حقيقة انه كان ينحدر من أصول فارسية، في وقت أصبح تغلغل الفرس في الدولة خطرا داهما يقضّ مضاجع بني العبّاس وينذر بزوال حكمهم. وهنا عهد به الخليفة إلى واليه على البصرة سفيان ابن معاوية الذي كان يضمر حقدا شخصيا لابن المقفّع وينتظر الفرصة للثأر منه. وقد أمر سفيان هذا بأن تُقطّع أعضاء ابن المقفّع عضوا عضوا وهو حيّ وأن تُلقى في تنّور إلى أن احترق تماما ولم يبقَ منه أثر.
ابن المقفّع واجه، هو أيضا، الموت بشجاعة منقطعة النظير. ويُروى أن سفيان قال له قبل قتله: إني قاتلك قتلة لم يُقتل بها احد قبلك، ولأحرقنّك بنار الدنيا قبل نار الآخرة. فردّ عليه ابن المقفّع: بقتلي تقتل ألف نفس، ولو قُتل ألف مثلك ما وفوا بواحد. ثم أنشد يقول: إذا ما مات مثلي ماتَ شخصُُ، يموتُ بموتهِ خلقُُ كثيرْ. وأنت تموتُ وحدكَ ليس يدري، بموتكََ لا الصغيرُ ولا الكبيرْ".
وتحقّق ما قاله ابن المقفّع الذي قُتل وهو دون الأربعين. فقد ظلّ اسمه ملء السمع والبصر وعاشت كتاباته وإسهاماته الأدبية العظيمة عبر القرون. أما قاتله فلا يكاد يتذكّر اسمه اليوم أحد.

الخميس، أكتوبر 18، 2012

روح معذّبة

معظم الفنّانين ينوءون تحت عبء الفكرة الشائعة عنهم بأنهم مجانين أو غريبو أطوار. وبعضهم يستمتع بهذه التهمة، وإن سرّاً. والبعض الآخر يرون فيها ترخيصا بسلوك الطريق الأقلّ ارتيادا دون النظر في المرآة الخلفية لمعرفة من الذي يتعقّبهم ولا الاهتمام بمن يحدّق فيهم بفزع.
وهناك من هؤلاء الفنّانين من يتطلّع إلى العظمة بالذهاب إلى ابعد ممّا هو غريب أو شاذّ. وما يجعل الأمور أسوأ هو انه ليس هناك سوى خيط رفيع جدّا بين كل هذه الفروق، كما أن هناك ميلا من جانب بعض الفنّانين لاجتياز هذه الخطوط دون أن يدركوا ذلك. والمؤلم أن بعضهم في نهاية المطاف يسلك مسارا ينتهي بتدمير الذات الذي لم يستطع فينسنت فان غوخ تجنّبه.
طوال حياته، كان فينسنت روحا مضطربة. فقد اُسيء فهمه، ولم يكن محبوبا إلا من شقيقه ثيو. كما فشل فشلا ذريعا في جميع جهوده المختلفة لتحقيق النجاح في أيّ شيء. وحتى عندما وجد ضالّته وراحته النفسية في الرسم وخلق الجمال، فإنه لم يجد سوى القليل من التقدير ولم يحقّق أيّ نجاح ماليّ على الإطلاق.
وقد بحث فان غوخ عن علاقة مهنية وشخصية مع بول غوغان. وانتهت تلك العلاقة عندما هاجم صديقه الوحيد بشفرة حلاقة . بعد ذلك رحل غوغان على عجل من آرل بعد حادثة أذن فينسنت التي رُوّج لها كثيرا في ما بعد.
وبفضل دعم شقيقه الماليّ، تمكّن فان غوخ من الذهاب طواعية إلى ملجأ سان بول دو موزول بالقرب من سان ريمي. وكانت تلك المصحّة النفسية خيارا جيّدا. كان الملجأ واحدا من أكثر الخلوات إنسانية التي يمكن اختيارها.
وقد قام على علاجه هناك الدكتور راي الذي كان يتمتّع بشعور إنساني وأشار عليه بالكفّ عن الشراب. وكان هناك أيضا الدكتور تيوفيل بيرون مدير المستشفى، الذي كان متفهّما لحالة فينسنت وشخّص مشكلته على أنها نوبات صرع. وكان تشخيصه دقيقا إلى حدّ كبير.
فان غوخ سجّل ملاحظة عن سان ريمي قال فيها: لا بدّ وأن تكون معالجة المرضى هنا سهلة، إذ لا شيء يُفعل من أجلهم على الإطلاق". وما فعله الأطبّاء لـ فينسنت كان محاولة إنقاذه من نفسه بالسماح له برسم الأمكنة والناس الذين كان يعرفهم هناك في سلام نسبي، مع وضعه بشكل دائم تحت المراقبة الطبّية.
وقد تحسّنت حالته لفترة إلى أن عاجلته النوبة للمرّة الثانية. وبعدها بوقت قصير، أي في مايو من عام 1890، غادر المستشفى إلى أوفير حيث وُضع تحت رعاية طبيبه المحبوب الدكتور غاشيه.
الطريق الذي سلكه فان غوخ من هناك كان قصيرا وشديد الانحدار. إذ توفّي في التاسع والعشرين من يوليو عام 1890، بعد ساعات من إطلاقه النار على نفسه. وحسب شقيقه ثيو، كانت آخر كلماته: ليس لهذا الحزن من آخر". "مترجم".