:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، أبريل 05، 2012

سيروف: فتاة مع ثمار خوخ

نظرة واحدة إلى هذه اللوحة قد لا تكفي. تفاصيلها الجميلة وجوّها الحميم والعفوية التي رُسمت بها هي من العناصر التي تجذب العين وتبعث إحساسا بالصفاء والسكينة. وشخصيّا اعتبرها إحدى لوحاتي المفضّلة. اسم اللوحة "فتاة مع ثمار خوخ" أو "بورتريه فيرا مامونتوفا" للرسّام الروسي فالانتين سيروف. ولهذه اللوحة قصّة تستحقّ أن تُروى.
في العام 1872، اشترى الثريّ الموسكوفي سافا مامونتوف ضيعة ابرامتسيفو من صاحبها القديم. كانت الضيعة عبارة عن مجموعة من البيوت الأنيقة يتفرّع عنها عدد من الجسور الخشبية التي تقود إلى غابة من الأشجار الوارفة الظلال.
كان مامونتوف راعيا ومحبّا للآداب والفنون. وكانت تربطه علاقة صداقة مع أشهر الفنّانين والأدباء الروس آنذاك. وقد قرّر تحويل الضيعة إلى مركز ثقافي وفنّي. وأصبح المكان ملتقى للفنّانين والأدباء الذين كانوا يجتمعون فيه ويمارسون إبداعاتهم ويتدارسون أمور الفنّ والأدب. وكان مامونتوف يتكفّل بنفقاتهم هم وعائلاتهم. وقد لعب هذا المكان دورا مهمّا في تطوير الثقافة الروسية في القرن التاسع عشر.
تورغينيف وغوغول كانا ضيفين دائمين على مستعمرة ابرامتسيفو. وفي هذا المكان كتب غوغول مسرحيته "الأرواح الميّتة". كما كان من ضيوفه الدائمين كلّ من ايليا ريبين وفاسنيتسوف وكوروفين وميخائيل فروبيل وغيرهم.
الرسّام فالانتين سيروف كان هو أيضا من بين المتردّدين على المكان. وكان يحظى منذ صغره بحبّ عائلة مامونتوف الذين كانوا يعتبرونه واحدا منهم.
في عام 1887، وصل سيروف بصحبة والدته إلى الضيعة في طريق عودتهما من أوربّا، حيث زار العديد من المتاحف في كلّ من باريس وميونيخ وروما.

وقد خرج الرسّام ذات صباح من منزل صديقه قاصدا الغابة المجاورة. كان يبحث كعادته عن منظر طبيعي كي يرسمه. ثم توقّف للحظات متأمّلا منظر أشعّة الشمس وهي تنعكس على مجموعة من الأزهار، وحركة الغيوم البطيئة وهي تلقي بظلالها على العشب. ولاحظ كيف أن خصائص الأشياء تتغيّر بتغيّر حالات الضوء والظلال. المنظر الذي رآه غمره بالأفكار. ثم فكّر قليلا وقال لنفسه: يجب أن ارسم ما أراه وأنسى كلّ ما تعلّمته". ولأوّل مرة، قرّر أن يرسم بورتريها.
وكان لصديقه سافا مامونتوف ولد وبنت. الولد يُدعى سيرغي. والبنت فيرا، وهو اسم يعني بالروسية "إيمان". كان سيروف يعرف فيرا منذ ولادتها. وكان معجبا بمرحها وحيويّتها. وكثيرا ما كان يأخذها معه في نزهة بالقارب أو على ظهر الحصان.
وعندما عاد ذلك الصباح من جولته في الغابة رأى فيرا وهي تجلس عند الطاولة في غرفة يتخلّلها الضوء. وقد راقت له فكرة أن يرسمها في ذلك المكان. وعندما عرض عليها الفكرة وافقت. كان الرسّام يعرف أن مهمّته لا تخلو من صعوبة. كان عمر الفتاة وقتها اثني عشر عاما. وكان من الصعب إقناعها بأن تجلس أمام الطاولة لعدّة ساعات يوميا في حرارة الصيف. قالت له وهو يرسمها: أنت تعذّبني. الجلوس فترة طويلة يبعث على الملل".
كان سيروف يعتقد بأن اللوحة لن تستغرق سوى سبع أو ثمان جلسات على الأكثر. لكن العمل امتدّ لحوالي الشهرين. ومع ذلك فإنك عندما تنظر إلى اللوحة قد تظنّ أنها رُسمت في لمحة واحدة من لمحات الإلهام. كان البورتريه ناجحا جدّا. فقد اجتذب اهتمام الجمهور والرسّامين. وأصبح احد أهم انجازات الرسّام. كما بات رمزا للجمال والشباب والحياة السعيدة.
في اللوحة، ترتدي الفتاة قميصا ورديا فاتحا بينما تنظر باتجاه المتلقّي وتمدّ يدها إلى الطاولة لتلتقط ثمرة خوخ. هناك ضوء كثير في هذه الصورة يفيض من النافذة الجانبية وينعكس على قماش الطاولة وملابس الفتاة. والجوّ يثير إحساسا بالرحابة والاسترخاء.
براعة الرسّام واضحة في خلق صورة رائعة وفي قدرته على تمثيل التفاعل ما بين الضوء والظلّ والألوان المتغيّرة للأشياء. لاحظ الرقّة والمهارة اللتين رسم بهما الملمس المخمليّ للفاكهة الناضجة والسكّين الفضّية اللامعة.
التفاصيل الأخرى تتضمّن شمعة عند النافذة، وغير بعيد منها دمية لجندي وطبق من البورسلين معلّق على الجدار.
الرسّام يأخذنا من خلال هذه الصورة البديعة إلى سنوات الطفولة بقلقها وشقاوتها ومرحها واكتشافاتها. النسيج الخفيف، الألوان المشعّة، انعكاسات الضوء، ووفرة التفاصيل، كلّها ملامح تشير إلى الانطباعية.

في يناير من عام 1903، تزوّجت فيرا مامونتوفا من احد نبلاء موسكو، ويُدعى الكسندر سامارين. وقد رُزق الزوجان بولدين وبنت. وفي ديسمبر عام 1907، توفّيت فيرا فجأة بسبب التهاب حادّ في الجهاز التنفّسي ودُفنت في منزل عائلتها. كان عمرها لا يتجاوز الثانية والثلاثين. وانتقلت رعاية أطفالها إلى شقيقتها التي ضحّت بزواجها وكانت لهم بمثابة الصدر الحاني والأمّ الرءوم.
زوج فيرا، الكسندر، عاش بعدها خمسة وعشرين عاما. ولم يتزوّج بعدها أبدا. وبعد موت فيرا ظلّت اللوحة معلقة فوق طاولة في غرفته. وإحياءً لذكراها، بنى كنيسة في مكان لا يبعد كثيرا عن منزلهما. وعند قيام الثورة البلشفية أقفلت الكنيسة بعد نهب محتوياتها، ثم حوّلت إلى مخزن للأسمدة الكيماوية.
ولم يمض وقت طويل حتى قُبض على الكسندر نفسه وحُكم عليه بالنفي إلى احد معسكرات الغولاغ الذي كان عبارة عن سجن سياسي يُحكم فيه على المعارضين بالأعمال الشاقّة حتى الموت. وقد بقي هناك إلى أن أفرج عنه بموجب قرار عفو. كان الكسندر يواظب على زيارة قبر زوجته بانتظام إلى حين وفاته في يناير من عام 1932م.
كان عمر سيروف عندما رسم فيرا اثنين وعشرين عاما. وموهبته تتبدّى في هذه اللوحة بأجلى صورة. وقد جلبت له شهرة واسعة وأصبحت أشبه ما تكون بالأسطورة. وفي ما بعد، أصبح معلّما لا نظير له في رسم البورتريه. ومن المعروف انه تعلّم على يد ايليا ريبين واخذ عنه حبّه للحياة وعشقه للفنّ.
كان فالانتين سيروف إنسانا هادئا وشاعريّا بطبيعته. ومن الصعب أن نتذكّر رسّاما آخر من عصره، ربّما باستثناء ايساك ليفيتان، كان له أهمّية كبيرة وتأثير عميق على الفنّ الروسي بمثل ما كان لـ سيروف.

الثلاثاء، أبريل 03، 2012

موزارت و سالييري

في صباح الخامس من ديسمبر عام 1791م، توفّي وولفغانغ اماديوس موزارت عن خمسة وثلاثين عاما. وبعد وفاته بأيّام، نشرت إحدى صحف برلين تحقيقا يشير إلى أن جسد الموسيقيّ كان متورّما بعد موته، الأمر الذي يوحي باحتمال انه مات مسموما.
لكنْ من كان يتمنّى موت موزارت؟
أرملته، كونستانزا، لم تتحدّث كثيرا عن قصّة السمّ، ومن ثمّ لم تشر بإصبع الاتهام إلى احد. وقد نسي الناس الحكاية لبعض الوقت. غير أنها بُعثت من جديد بعد ذلك بثلاثين عاما. ولم يكن المشتبه به في موت موزارت سوى زميله الموسيقيّ الإيطالي انطونيو سالييري.
كان سالييري يكبر موزارت بخمس سنوات فقط. وقد اختاره الإمبراطور جوزيف الثاني موسيقيّا للبلاط عام 1774م. كان عمره وقتها أربعة وعشرين عاما. وعندما وصل موزارت إلى فيينا بعد ذلك بسبع سنوات، كان سالييري يحظى بالكثير من الاحترام، خاصّة لدى أفراد الطبقة الارستقراطية. ولم يمض وقت طويل حتى أصبح سالييري ينظر إلى موزارت باعتباره منافسا وموسيقيّا عبقريّا لا يمكن أن يجاريه احد. والكثيرون في أوساط الموسيقى في فيينا لم يكونوا يشكّون في حقيقة أن سالييري كان يضمر الحسد لـ موزارت. ولم يكن موزارت نفسه حريصا على أن يكتم ازدراءه لموسيقيّ البلاط.
بعد موت موزارت، أرسلت زوجته ابنهما كارل لتلقّي دروس في الموسيقى على يد سالييري. وعندما سُئل الابن إن كان سالييري قام بتسميم والده قال: سالييري لم يقتل موزارت. لكنه نجح في تسميم حياته بالمؤامرات والدسائس".
ترى هل قتل سالييري موزارت حقّا؟ أين الحقيقة وأين الخيال في هذه القصّة؟
حكاية قتل سالييري لـ موزارت تكرّست في أذهان الناس بعد ظهور فيلم أماديوس عام 1984م. في الفيلم يستغلّ سالييري، بذكاء، ولع موزارت بالشراب وأزمته المالية وهاجسه بإرضاء والده المتوفّى، ويخدعه بأن يجعله يجهد نفسه في العمل حتى الموت.
وقد فعل ذلك من خلال تكليفه موزارت بتأليف لحن جنائزي، ثم حدّد له موعدا مستحيلا لإنجازه. والنتيجة أن موزارت التعيس انهار تحت وطأة الإجهاد والضغوط الكثيرة. سالييري يأخذ بعد ذلك مخطوط اللحن وينسبه لنفسه، في نفس الوقت الذي يُلقى فيه بجثّة موزارت داخل قبر مجهول.
فيلم اماديوس فاز بثمان جوائز أوسكار، بالإضافة إلى عدّة جوائز عالمية أخرى. ولو سألت شخصا عاديّا في الشارع عن الطريقة التي مات بها موزارت، فإنه على الأرجح سيسرد عليك القصّة كما يوردها ذلك الفيلم.
مضمون الفيلم يستند إلى مسرحية بنفس العنوان ألّفها الكاتب بيتر شافير عام 1979م. ومثل الفيلم، فإن المسرحية تروي الأحداث بطريقة الفلاش باك، وتبدأ بمشهد لـ سالييري وهو يدلي باعترافاته إلى كاهن، بعد أن فشل في محاولة انتحار بسبب شعوره بالذنب.
بينما كانت موسيقى سالييري تتلاشى ويخفّ تأثيرها وموسيقى موزارت تنمو لتصبح أكثر رواجا وشعبية حتى بعد وفاته، كان سالييري يبذل محاولة أخيرة لأن يصبح شخصا مهمّا في أعين الناس. لذا فإنه يدلي باعتراف كاذب بأنه سمّم موزارت بالزرنيخ. لكن أحدا لا يصدّق اعترافه، ما يجعله عرضة لتهميش وتجاهل اكبر.
بيتر شافير استلهم مسرحيّته من الشاعر الروسي الكبير الكسندر بوشكين الذي ألّف مسرحية قصيرة بعنوان "موزارت وسالييري" في عام 1830، أي بعد خمس سنوات فقط من وفاة سالييري.

وفي عام 1898، استُخدمت مسرحية بوشكين، حرفيا تقريبا، في نصّ أوبرا من فصل واحد بنفس العنوان من تأليف نيكولاي ريمسكي كورساكوف. في هذه الحكاية الأبسط والأكثر قتامة، يقوم سالييري، الغيور من مهارة موزارت كمؤلّف والمستاء من تواضع شخصيّته هو، بدعوة موزارت لتناول العشاء. ثم يمارس الاثنان لعبة شبيهة بلعبة القط والفأر، إلى أن تواتي سالييري الفرصة أخيرا لأن يدسّ السمّ في شراب موزارت. بعدها يؤدّي سالييري أغنية احتفالية تلمّح كلماتها إلى انه انزلق إلى حافّة الجنون.
لسوء الحظ، لم يستطع احد حتى اليوم أن يكشف عن هويّة مرتكب الجريمة الحقيقي. وسبب وفاة موزارت في العام 1791 ما يزال مثار نقاش اليوم، تماما كما كان وقت وفاته. وإذا كان السمّ هو أداة القتل فإنه لا يوجد إجماع حتى الآن في ما يتعلّق بهويّة القاتل.
التاريخ لا يخفي حقيقة أن موزارت وسالييري كانا متنافسين في مهنتهما. وخلال السنوات التي قضياها معا في فيينا، كان سالييري يحظى باحترام كبير مهنيّا. كان الامبراطور جوزيف الثاني يحبّه كثيرا. وكان يشغل عدّة وظائف منها وظيفة موسيقيّ البلاط ومدير الأوبرا الإيطالية.
والعديد من أصدقائهما المشتركين كانوا يتحدّثون علناً في الكثير من الأحيان عن جهود سالييري في التأثير على المسارح والمؤدّين كي يفضّلوا أعماله على حساب أعمال موزارت.
كان سالييري يملك أوبرا ايطالية في فيينا. وكانت تجارب موزارت في هذا النوع من الموسيقى تُفسّر على أنها تجاوز مقصود منه على اختصاص سالييري. لكن لم يكن سالييري بحاجة لأن يقتل موزارت كي يزيحه من طريقه. فقد كانت مكانته في البلاط تمنحه كلّ القوّة التي كان يحتاجها.
في عام 1823، أي بعد وفاة موزارت بحولي اثنين وثلاثين عاما، حاول سالييري الانتحار بقطع شرايين رقبته. وقد انتشرت شائعة تقول انه فعل ذلك تحت وطأة إحساسه بالذنب بعد أن اعترف بقتله موزارت. شائعة اعتراف سالييري بقتل موزارت انتشرت على نطاق واسع، لدرجة أن منشورا وّزع في فيينا، أثناء أداء السيمفونية التاسعة لـ بيتهوفن، يصوّر سالييري وهو يقف فوق موزارت حاملا كأسا من السمّ.
موسيقى موزارت كانت محبوبة كثيرا في ذلك الوقت. ومع بقاء قاتله المزعوم على قيد الحياة، فإن غضب العامّة بشأن الجريمة كان كاسحا. غير أن كراهية سالييري لم تكن مسألة مُجمعا عليها. وقد ظهر آنذاك معسكران: الأوّل أولئك الذين كانوا يعرفون سالييري ويدافعون عنه ضدّ هذه الشائعات. والثاني، وهو اكبر بكثير من الأوّل، ويتألّف من الناس الذين لم يكونوا يعرفون أيّا من الرجلين ولم تكن عندهم معرفة مباشرة بشأن ما حدث فعلا.
والحقيقة انه لا يوجد دليل موثوق يشير إلى أن سالييري أدلى بمثل ذلك الاعتراف. بعض الكتّاب تحدّثوا عن أنهم رأوا الاعتراف مكتوبا بعهدة الكاهن الذي ذهب إليه سالييري. لكن لا يوجد حتى اليوم ما يشير إلى اسم الكاهن أو ما يؤكّد وجود الاعتراف نفسه.
هناك أيضا حكاية تزعم أن سالييري ذهب في احد الأيّام بصحبة المؤلّف الموسيقي الشابّ روسيني للقاء بيتهوفن في منزله في فيينا. وعندما وصلا إلى هناك قام بيتهوفن بطرد روسيني بعد أن صرخ في وجهه قائلا: كيف تجرؤ على المجيء إلى بيتي بصحبة قاتل موزارت"؟
وعلى الرغم من أن هذه القصّة تكرّرت أكثر من مرّة، إلا أنها لا تتفق مع ما هو معروف عن بيتهوفن وسالييري. فقد سبق لـ سالييري أن درّس بيتهوفن، وكان الاثنان على الدوام صديقين. كان بيتهوفن يحترم معلّمه كثيرا لدرجة انه، حتى بعد وفاة موزارت، أهدى مجموعة سوناتاته للكمان رقم 12 إلى سالييري وكتب سلسلة من التغييرات على أوبرا الأخير بعنوان فالستاف. وبناءً عليه فإنه، حتّى هذه الحكاية، تبدو غير جديرة بالثقة.

الدفاع عن سالييري ضدّ شائعات القتل أتى من أوائل من سجّلوا سيرة حياة موزارت ومن بعض تلاميذ سالييري الآخرين. ومن بين هؤلاء شخص كان يُعتبر اقرب المقرّبين من موزارت، أي تلميذه الخاصّ فرانز سوسماير الذي أكمل قدّاس موزارت الجنائزي بعد وفاته.
كان سوسماير ملازما لـ موزارت، يوميا تقريبا، طوال الأشهر الأخيرة التي سبقت وفاته. وكان على علم بأسباب مرض معلّمه. ومثل الكثيرين، لم يتردّد، هو أيضا، في مواصلة دراسته الموسيقية عند سالييري.
الجدير بالذكر أن سالييري لم يكن أبدا مثار شبهة. كما أن سجلّه الجنائي كان خاليا من أيّ سوابق. وقد استمرّت مسيرته المهنية في الازدهار على الرغم من هذه الشائعات. كما واصل عدد كبير من الملحّنين دراستهم عنده، بما في ذلك المؤلّفان الموسيقيّان الشابّان فرانز ليست وفرانز شوبرت.
وعلى الرغم من أن سالييري هو من ناله معظم اللوم عن جريمة قتل موزارت المزعومة، إلا انه لم يكن المشتبه به الوحيد. وعلى النقيض من الأسطورة الشعبية الرائجة، لم يكن سالييري هو الذي كلّف موزارت بكتابة القدّاس الذي اضطرّ للعمل المضني عليه حتى يوم وفاته، بل الكونت فرانز فون والسيك الذي أراد أن يكون اللحن الجنائزي تكريما لذكرى زوجته الراحلة.
بعض الكتّاب طرحوا فرضيّة تقول بأن موزارت، الذي كان ماسونيّاً، قُتل نتيجة مؤامرة ماسونية. لكن لماذا يقتل الماسونيون واحدا منهم؟ السبب الذي يُستشهد به في معظم الأحيان هو أن أوبرا موزارت، الناي السحري، انتهكت بعض القوانين الماسونية. وأحد المزاعم هو أن ذلك العمل يخفي قصّة رمزية عن مؤامرة ماسونية مزعومة، أو انه يتضمّن استخداما سيّئا لرموز ماسونية. الكاتب جورج فريدريك دومير كان الداعم الأكثر صخبا لهذه النظرية. ومع ذلك، ينبغي النظر لاعتقاده بأن الماسونيين هم من سمّموا موزارت في سياق مزاعمه الأخرى. فقد كان يعتقد أن مؤامرات الماسونية كانت وراء مقتل العديد من رؤساء الدول ورجال الدين والفلسفة.
ولكن حتى فكرة أن يكون احد مسئولا عن وفاة موزارت لا تحظى بالقبول لدى المؤرّخين المعاصرين. الروايات الأكثر شمولا عن الأشهر الأربعة من مرض موزارت تأتي جميعها من زوجته ومن بعض أصدقائه والمقرّبين منه الذين كثيرا ما كانوا يزورونه، بمن فيهم صوفي، شقيقة زوجته. والحقيقة هي أن لا احد من هؤلاء كان يظنّ انه مات مسموما.
بعد وفاة موزارت، كتب فرانز نيمتشيك أوّل سيرة عن حياته. واعتمد في كتابه على مقابلات أجراها مع كونستانزا وشقيقتها وعلى العديد من الوثائق التي كانت بحوزتهما. زوج كونستانزا الثاني ألّف، هو أيضا، كتابا آخر عن حياة موزارت ولم يشر فيه إلى أيّ سبب آخر للوفاة غير المرض.
النظرية السائدة هي أن موزارت كان مصابا بمرض مزمن وخطير في الكلى. وعندما كان طفلا، كان مريضا بما يُعتقد اليوم انه الحمّى القرمزية والحمّى الروماتيزمية، وكلاهما يمكن أن يسبّبا تلفاً في الكلى. هذا التشخيص يتوافق مع تقارير عن حالة موزارت الصحّية في ذلك الوقت. وهناك احتمال بأن يكون الفشل الكلوي قد تسبّب في عدوى أو تورّم، ومن ثمّ تسمّم يمكن أن يكون هو الذي أودى بحياته.
وهناك نظرية تشير إلى احتمال أن يكون موزارت قد تناول الزئبق كعلاج لمرض الزهري، وهي وصفة كان بعض الأطبّاء يروّجون لها في تلك الأيّام.
إن من غير المحتمل أن يُعرف السبب الحقيقي لوفاة موزارت. فلم يكن من الممكن نبش جثّته لفحصها، لأنه، وكما يورد الفيلم، دُفن في قبر بلا علامات تميّزه.
كان موزارت يعبّر عن نفوره من الجنازات التي تتّسم بمظاهر الرسمية والأبّهة. لذا اختارت كونستانزا أن يُدفن في جنازة بسيطة وبحضور عدد محدود من أفراد العائلة والأصدقاء المقرّبين فقط.
وقد جرت مراسم الدفن في صباح يوم بارد. وتوقّف معظم المشيّعين عند مدخل المقبرة بعد أن القوا على الميّت تحيّة الوداع. ثم اُخذ موزارت إلى مثواه الأخير بصحبة مجموعة صغيرة من الأشخاص الذين كانوا يرتدون ملابس الحداد السوداء. كان هؤلاء هم من بقوا مع الجثمان حتى النهاية. وكان أنطونيو سالييري أحدهم.

Credits
theguardian.com
skeptoid.com