:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، أبريل 19، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • في مصنع يقع على أطراف المدينة، تعطّلت فجأة إحدى الآلات المهمّة، وساد الارتباك أرجاء المصنع. أومضت الأنوار ودوّت أصوات الإنذار وتوقّفت سيور النقل.
    واتصل مدير المصنع غاضبا بجميع المهندسين الذين يعرفهم. كان معظمهم مشغولين أو مرتبطين بمواعيد. ثم همس أحدهم: هناك شخص واحد يمكنه اصلاح الخلل. وهو معروف بأمرين: إصلاح الأعطال المستحيلة وتقاضي مبالغ طائلة مقابل ذلك".
    لم يضيّع المدير وقتا. اتصل رأسا بذلك الفنّي وطلب منه المجيء على الفور الى المصنع. وبعد نصف ساعة، دخلت سيّارة مغبرّة ومتهالكة إلى موقف سيّارات المصنع، وخرج منها رجل في الخمسينات من عمره، ضئيل وذو شعر أشيب ويحمل صندوق أدوات مكسّرا.
    لم يتحدّث الرجل كثيرا. مشى نحو الآلة مباشرة، دار حولها مرّة واحدة، فحصها ثم نقر عليها بمطرقة مطاطية صغيرة. وبعد بضع طرقات عادت الآلة إلى العمل. هلّل العمال وصفّقوا بينما رمشت عينا المدير في ذهول وقال: أهذا كلّ شيء؟ قال الفنّي العجوز: نعم، ثم استدار مغادرا بعد أن سلّمه الفاتورة.
    فتح المدير الورقة وتفاجأ عندما وجد مكتوبا فيها: عشرة آلاف دولار. دولار واحد لإصلاح الخلل و٩٩٩٩ دولارا لتشخيصه.
    العبرة من القصّة هي أن كميّة العمل ليست عنصرا مهمّا دائما، بل المعرفة والخبرة والبصيرة التي يوظّفها المرء فيه. أحيانا، نقرة واحدة تساوي عمراً من التعلّم.
  • ❉ ❉ ❉

  • عُرف الرسّام السويدي يوجين يانسن (1862-1915) بأسلوبه الفريد وبتصويره لمدينة ستوكهولم بمناظرها الطبيعية والحضرية. وُلد الرسّام في ستوكهولم وقضى حياته كلّها فيها. وعلى الرغم من أنه لم يسافر كثيرا، إلا أنه كان أحد أكثر الرسّامين إبداعا في بلده.
    في شبابه رسم لوحات الطبيعة الصامتة لكسب رزقه واعتمد أسلوبا طبَع مرحلة كاملة من عمله، فاعتمد على اللون الأزرق واختار شكلا تعبيريا فريدا من نوعه وموضوعا مميّزا هو رسم صور بانورامية لـ ستوكهولم.
    وقد أتقن يانسن رؤية هذه المدينة بجزرها ومياهها الممتدّة وفُتن كثيرا بالجوّ الأزرق والأثيري الذي ينبعث منها ليلا والذي أهّلهُ لنيل لقب "الرسّام الأزرق". وقد اعتبر أصدقاؤه أن الضوء الأزرق في صوره له علاقة وثيقة بطريقته في العزف على البيانو. كانت الموسيقى مصدر إلهام مهم له. وليس من المستغرب أن يطلق على العديد من لوحاته الزرقاء اسم "نوكتيرن" الذي استلهمه من شوبان مؤلّفه الموسيقيّ المفضّل.
    عاش يانسن في عزلة نسبية عن أكثر الفنّانين ابتكارا في عصره، ولم يكن على معرفة مباشرة بأعمال فنّانين مثل فان غوخ وغوغان وبيكاسو ومونيه وسيزان. ومع ذلك يمكن ملاحظة أوجه شبه مهمّة بين لوحاته ولوحات معاصريه في أوروبّا. وقيل انه رأى بعض أعمال إدفارد مونك في وقت مبكّر من عام 1894، وقد أثّرت على أعماله اللاحقة. كما كان قريبا من بعض الشخصيات الثقافية والأدبية والفنّية البارزة في بلده، مثل كارل لارسون وريتشارد بيرغ وغيرهما.
    ومع ذلك كثيرا ما قوبلت لوحاته بتشكّك الجمهور والنقّاد والمتاحف. وبالكاد كان يجد من يشتريها لكونها طليعية وثورية. لكن هذا لم يمنعه من الاستمرار والمثابرة. فقد كان فردانيّا وشغوفا ولم يكن على استعداد لتقديم أيّ تنازل عن النهج الذي اختاره.
    لوحته المشهورة "فوق" تُعتبر جزءا من الحركة الرمزية التي تركّز على المزاج والعاطفة بدلا من التجسيد الواقعي. وقد صوّر فيها جمال وجوهر منطقة وسط ستوكهولم المعروفة بـ "ريدارفجاردين"، وذلك بالتركيز على عناصر بعينها مثل مناظر المياه الهادئة والمباني المُضاءة وتفاعلات الضوء في وقت السحَر.
    غالبا ما تتميّز أعمال يانسن بألوانها الناعمة وبخلوّها من الأشخاص، وبتركيزها على جوهر البيئة والصدى العاطفي وتأثيرات الضوء والطابع الأثيري الذي يوحي بالحنين والشاعرية والألفة والتأمّل. كما أنه كثيرا ما يدمج أسلوبه بعناصر من الانطباعية، خاصّة في طريقة إمساكه بالضوء وتأثيراته الحالمة والشاعرية على المشهد الحضري للمدينة.
  • ❉ ❉ ❉



    ❉ ❉ ❉

  • ظللت أفكّر في روعة احتواء هذا العالم على هذا العدد الهائل من الأرواح. في تلك الشوارع، الناس منهمكون في آلاف الأمور المختلفة: مشاكل مالية، مشاكل عاطفية، مشاكل مدرسية. يقعون في الحب ويتزوّجون ويذهبون إلى مصحّات الإدمان ويتعلّمون التزلّج على الجليد ويرتدون نظّارات ويدرسون للامتحانات ويجرّبون الملابس ويقصّون شعورهم ويولدون. وفي بعض البيوت، الناس يشيخون ويمرضون ويموتون، تاركين آخرين يحزنون. كان هذا يحدث طوال الوقت، دون أن يلاحظه أحد، وكان هذا هو الأمر الأهمّ حقّا. جيفري يوجينيدس
  • أظنّ أنّني لن أرى أبدا قصيدة جميلة مثل شجرة. الشجرة ينحني فمها الجائع على صدر الأرض العذب، وتنظر إلى الله طوال اليوم وترفع ذراعيها المورقتين بالدعاء، وربّما تحضن في الصيف "عشّاً" من العصافير في شعرها، وعلى صدرها يتساقط الثلج وتعيش بدفء مع المطر. القصائد هي من صُنع أناس حمقى مثلي، لكن الله وحده قادر على صنع شجرة! جويس كيلمر
  • الألم جزءٌ من الحياة. أحيانا يكون كبيرا، وأحيانا خفيفا، ولكنه في كلا الحالتين جزء من اللغز الكبير، من الموسيقى العميقة، من اللعبة الرائعة. للألم فعلان: يعلّمك ويخبرك أنك على قيد الحياة. ثم يزول ويتركك بعد أن يغيّرك. أحيانا يجعلك أكثر حكمةً، وأحيانا يجعلك أقوى. وفي الحالتين، يترك الألم أثراً لا يُمحى. جيم بوتشر
  • عندما لا تعرف ماذا تفعل، تكون قد وصلت إلى هدفك الحقيقي. وعندما لا تعرف أيّ طريق تسلك، تكون قد بدأت رحلتك الحقيقية! ويندل بيري
  • نحن لا نحلّل الإعلام على المرّيخ أو في القرن الثامن عشر أو ما شابه. نحن نرى بشرا حقيقيين يعانون ويموتون ويعذَّبون ويتضوّرون جوعا بسبب سياساتنا، ونحن كمواطنين في مجتمعات ديمقراطية نشارك فيها بشكل مباشر ونتحمّل مسؤوليتها.
    وما تفعله وسائل الإعلام هو ضمان عدم قيامنا بمسؤولياتنا وأن تُخدم مصالح السلطة، لا احتياجات الشعوب المعذّبة، ولا حتى احتياجات الشعب الأمريكي الذي سيُصاب بالرعب إذا أدرك حجم الدماء التي على يديه بسبب الطريقة التي يتمّ فيها التلاعب به وخداعه. نعوم تشومسكي
  • ❉ ❉ ❉

  • للوهلة الأولى، يشكّل الدكتور سوس والفيلسوف الرواقي سينيكا ثنائيا غريبا. أحدهما يُبهجنا بكلماته المرحة وصوره الخيالية، بينما يُثير الآخر فينا حكمة فلسفية عميقة عمرها ألفا عام. لكن وراء اختلافاتهما الظاهرية تكمن رسالة قويّة ومشتركة، فكلاهما يدعواننا لإعادة النظر في كيفية تعاملنا مع رحلة الحياة، ويذكّراننا بأن أعظم مغامراتنا وإحساسنا بالذات يبدأ من الداخل.
    الدكتور سوس يحثّ القارئ بابتهاج قائلا: جَبَلك ينتظرك، لذا انطلق!". لكنه يحذّرنا من مكان الانتظار، وهو عالَم مجازي يُقصد به التردّد والمماطلة والركود. ويردّد سينيكا هذا الشعور في رسائله، محذرّا من البحث عن السلام في المحيط الخارجي فقط: من يقضي وقته في اختيار منتجع تلو الآخر بحثا عن السلام والهدوء، سيجد في كلّ مكان يزوره ما يمنعه من الاسترخاء". ويؤكّد أن الرضا الحقيقي لا يتحقّق بتغيير بيئتنا، بل يُزرع في داخلنا بالنيّة الواعية والاختيار الموفّق.
    ويركّز كلا المؤلّفين على حقيقة جوهرية، وهي أن أعظم خطر في الحياة ليس الفشل؛ بل الجمود. ويذكّرنا الدكتور سوس بأن مسار الحياة نادرا ما يكون سلسا، لكنه دائما يستحقّ الخوض فيه.
    ويكمل سينيكا هذه الفكرة بالحثّ على اتخاذ إجراءات مدروسة نحو حياة ذات معنى بدلا من انتظار التغيير الخارجي بسلبية. وينصح بأنه لا توجد لحظة خالية من التحدّي وبأن ندرك أن المصائب غالبا ما تظهر فجأة وبأن المرونة من خلال التجربة ضرورية.
    هذان الصوتان يذكّراننا بأن مغامرة الحياة الحقيقية تتطلّب التوازن من خلال الطموح المعزّز بالوعي الذاتي والحماس المقترن بالتأمّل. سوس يدفعنا للأمام بشجاعة، "لكنك ستمضي قدما حتى لو كان الطقس قاسيا، ستمضي الى الأمام حتى لو كان أعداؤك يجوبون الشوارع، ستمضي قدما حتى لو نبحت عليك أخطر الكلاب". أما سينيكا فيرسّخ فينا اليقظة المنضبطة ويعلّمنا أن نستخدم الشدائد وقودا للنموّ لأنه "غالبا ما تمهّد النكسة الطريق لازدهار أكبر، والكثير من الأشياء تسقط لترتفع إلى آفاق أسمى".
    تأمّل حكمة الاثنين مجتمعة: الدكتور سوس يثير الحماس، وسينيكا يقدّم منظورا مستقيما، كلاهما يشجّع على اتخاذ القرارات الحاسمة ويذكّراننا بأننا نمتلك كلّ ما يلزم لتحويل العادي إلى استثنائي.

  • Credits
    musee-orsay.fr/en
    medium.com

    الخميس، أبريل 17، 2025

    الغرفة الحمراء


    من أشهر العبارات المنسوبة إلى هنري ماتيس قوله: هناك دائما زهور للذين يريدون رؤيتها". والمعنى المجازي لكلامه هو أن هناك الكثير من الأشياء الرائعة التي تملكها ولا يملكها الآخرون، لكنك لا تراها. وأنت تفتقدها أو لا تعرف أنها موجودة لانشغالك بأشياء أخرى. وعندما تُلقي نظرة من حولك، فهذا قد يساعدك على الشعور بالامتنان لها ويذكّرك بأنها مؤقّتة وأنك تحتاج لأن تقدّرها وتعرف أهميّتها الآن وقبل أن تختفي.
    عندما نستكشف فنّ ماتيس أكثر، فإننا لا نكتشف رؤاه الثورية عن اللون والشكل فحسب، وإنما أيضا نتعرّف على أفكاره ورؤيته للحياة بشكل عام. كان شغوفا بالسفر، وكان للأماكن التي زارها تأثير مهم على فنّه. وقد ترحّل كثيرا في أنحاء فرنسا وركّز بشكل خاصّ على الجزء الجنوبي منها الذي ترك علامة واضحة على إدراكه للضوء والألوان.
    في السيرة التي كتبتها هيلاري سبيرلينغ لماتيس، تنقسم حياته الى فصول تحمل أسماء الأماكن التي عاش فيها. وهذا يُثبت أنه كان يستمتع بالانتقال من مكان لآخر أثناء بحثه عن إلهام لأعماله.
    وعندما كان مقتدرا ماليّا، ذهب إلى الجزائر وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا والمغرب، كما زار روسيا وإنغلترا وأمريكا. وأمضى بعض الوقت في تاهيتي، حيث أُعجب كثيرا بالبحيرات وبالحياة البرّية الغريبة هناك. وكانت تلك الرحلات مصدر إلهام لبعض أهمّ أعماله.
    وفي لندن، درس أعمال رسّام المناظر الطبيعية الرومانسي وليام تيرنر الذي كان معروفا باستخدامه البارع للضوء والألوان لخلق أجواء وأمزجة.
    سافر ماتيس أيضا إلى كورسيكا والكوت دازور، حيث أصبحت ألوانه أكثر إشراقا. وقد عاش وعمل مع كتّاب وفنّانين بارزين، مثل جان كوكتو وراينر ماريا ريلكا وكلارا ويستهوف وأوغست رودان.
    كان يحبّ الطبيعة والحيوانات، وعلى الأخصّ القطط. كما كان محبّا للطيور وكان لديه حمام أليف كان يشتريه من الباعة على نهر السين. وظهرت بعض هذه الحيوانات والطيور في فنّه.


    في مرسمه في باريس الذي تطلّ نوافذه على حديقة دير، رسم ماتيس في عام 1908 أحد أهمّ أعماله في الفترة من 1908 إلى 1913. وكانت اللوحة "فوق" مخصّصة لتزيّن غرفة الطعام في قصر جامع التحف الروسي المشهور سيرغي شتشوكين في موسكو. كان الأخير تاجر أقمشة وراعيا وفيّا لماتيس. وقد كتب للأخير في عام 1910 يقول: الجمهور ضدّك لكن المستقبل لك".
    تُصوّر اللوحة، التي تَغيّر اسمها فيما بعد الى "الغرفة الحمراء"، منظرا داخل بيت لطاولة مغطّاة بقماش أحمر، وفوقه أوانٍ فيها فواكه وحلويات. وخلف الطاولة نافذة مفتوحة على منظر طبيعي، بينما يظهر على الجدار ورق حائطي مرسوم عليه أنماط وزخارف معقّدة. ويبدو قماش الطاولة الأحمر الفاخر بزخارفه الزرقاء النابضة بالحياة وكأنه يغوص في الحائط ويغطّي على الفضاء الثلاثي الأبعاد للغرفة.
    وللوهلة الأولى، يبدو المنظر غارقا في اللون الأحمر الطاغي، لكن عندما نتمعّن فيه أكثر سنبدأ في فهم التناغم الذي يحقّقه ماتيس باختياره المدروس والمقصود للألوان والأنماط.
    استخدام الرسّام للون الأحمر في الصورة جريء للغاية، إذ يغطّي كامل اللوحة تقريبا. ويقال إن اسمها كان في الأصل "تناغم باللون الأزرق". لكن ماتيس اضطرّ لأسباب إبداعية لتحويل اللون الأزرق إلى أحمر يشعّ طاقة وحياة، وأثبت أن تصرّفه ينمّ عن دراية وذكاء. فلم يُضِف اللون الأحمر حيوية ووهجا إلى المنظر فحسب، بل لقد أدّى الى تسطيح المنظور، ما خلق تأثيرا رائعا ثنائي الأبعاد.
    المنظور المسطّح يعزّز الشعور بالتناغم، وهذه سمة أخرى مميّزة لأعمال ماتيس. وبدلاً من خلق تصوير واقعي للمساحة، ركّز الرسّام على التوازن العام للتوليف باستخدام اللون والنمط بغرض توحيد عناصر اللوحة المختلفة، وهذه شهادة على رؤية الفنّان الثورية واحتفال بروحه المبتكِرة وقدرته على إدراك العالم وتصويره له بطرق جديدة ومثيرة للاهتمام.
    الاستخدام الجريء للألوان، بالإضافة الى المنظور المسطّح ووحدة الشكل، ملمحان يحملان تحدّيا لمعايير الرسم التقليدية. وقد أصبحت اللوحة فيما بعد مصدر إلهام للعديد من الفنّانين وساهمت بشكل كبير في تطوير الفنّ الحديث.

    Credits
    henrimatisse.org
    lrb.co.uk

    الثلاثاء، أبريل 15، 2025

    حديقة الإشراق


    بالنسبة للأوروبيين، وعلى مدى قرون، كان يوانمينغيوان، أو مجمّع القصر الإمبراطوري الواقع شمال غرب بيجين، ملمحاً أساسيا في أحلامهم عن الشرق. كان القصر مكانا للكثير من الخيال والدهشة إلى أن تعرّض للتدمير عام ١٨٦٠ على يد جيش من الإنغليز والفرنسيين. ومن وقتها، أصبح القصر وملحقاته رمزا لاستعباد الصين على أيدي القوى الأجنبية في القرن التاسع عشر، ومن ثمّ محورا للقومية الصينية الحديثة.
    ولم يكن من المستغرب أن يعود الزوّار الأوروبيون القلائل الذين رأوا المكان بالفعل قبل تدميره بروايات مليئة بالعجائب. وقد تفوّق الرهبان والرحّالة في العصور الوسطى على بعضهم البعض في سرد القصص التي تحكي عن جمال القصر والسلطة الهائلة التي كان يتمتّع بها "الخان العظيم".
    بُني قصر يوانمينغيوان، ومعناه بالصينية حديقة الإشراق، على مراحل مختلفة بدءا من أوائل القرن الثامن عشر وحتى تدميره. وكان في البداية ملاذا خلّابا للأباطرة الذين رغبوا في الهرب من حرارة المدينة المحرّمة والالتزامات الرسمية في بيجين.
    كانت الحديقة جنّة على الأرض لأباطرة تشينغ. كانت جميلة، فخمة، ومن صُنْعهم بالكامل وليست إرثا من السلالات السابقة. وقد صُمّمت المناظر الطبيعية لتشبه مشاهد من منطقة وادي اليانغتسي السفلي التي برز منها شعراء ورسّامون وأدباء صينيون مشهورون.
    في القرن الثالث عشر تمكّن التجّار والمبشّرون الأوروبيون من السفر إلى الصين. وكان قصر "الخان العظيم" محطّ اهتمام رواياتهم عن ذلك البلد. والوصف الأكثر شهرة له جاء على لسان ماركو بولو الذي وصل إلى بيجين عام 1266 وقضى هناك حوالي 24 عاما.
    وقد ذكر ماركو بولو أن قصر الإمبراطور ليس مجرّد مبنى واحد، بل مجمّع ضخم تبلغ مساحته حوالي أربعة أميال، ويضمّ بداخله العديد من القصور الرائعة الأخرى، وساحة مسيّجة يعيش فيها الخان مع عائلته. وهناك تلّ اصطناعي مزروع بالأشجار وبحيرة اصطناعية تعبرها جسور. ويمتلئ جزء كبير من المجمّع بالطيور والحيوانات البرّية، بحيث يتمكّن الإمبراطور من مطاردة الطرائد متى شاء دون مغادرة القصر أبدا. وفي وسط المبنى جرّة كبيرة يمكن للزوّار الشرب منها، وهناك مجموعة من تماثيل الطاووس بالإضافة الى أسد أليف يتجوّل بين الصالات.
    كما يذكر ماركو بولو أن أعمدة القصر الأربعة والعشرين صُنعت من الذهب، بينما نُحتت جرّة الشرب من أحجار ثمينة تجاوزَ ثمنها قيمة أربع مدن عظيمة، وكان ثمن كلّ لؤلؤة تزيّن معاطف رجال الحاشية حوالي خمسة عشر ألف فلورين.
    كانت الوفرة والجمال والثراء تعبيرات عن قوّة الإمبراطور الهائلة. وأمام عرشه، كان الزوّار يصمتون ثم يسجدون، مُؤدّين "الكوتو"، أي الركوع ثلاث مرّات والضرب مثلها على الرأس، كما ينصّ بروتوكول البلاط. كان عدد زوّار الخان من الأوروبيين قليلا، ولم يكن لديهم سوى سلوكهم الحسن لدعم مطالبهم المتواضعة بالتجارة والحقّ في التبشير بالإنجيل.
    كان ماركو بولو يلقّب بـ"المليون" لميله الى المبالغة. ولكن سواءً كانت شهاداته صادقة أم لا، كانت هناك حاجة لسرد الكثير من العجائب إذا ما أُريد للقصص أن تجد جمهورا.
    المبشّرون اليسوعيون في الصين اتّبعوا استراتيجية هرمية لتحويل أهل البلاد الى المسيحية. فبعد أن يُقنعوا البلاط الإمبراطوري باعتناق دينهم في البداية، كانوا يأملون لاحقا في تحويل البلاد كلّها الى الدين المسيحي. ولتحقيق هذا الهدف، قدّموا للإمبراطور نماذج متنوّعة من التكنولوجيا والفنون الأوروبية وعرضوا خدماتهم كرسّامين ورسّامي خرائط وعلماء فلك وصانعي ساعات وحتى صانعي مدافع.
    وقد شكّلت رسائل البعثة اليسوعية العائدة إلى فرنسا والمنشورة في باريس في القرنين السابع عشر والثامن عشر، المصدر الأكثر موثوقيةً للمعلومات عن الصين. كانت تلك الرسائل تُقرأ على نطاق واسع، خاصّة من قِبل المدافعين عن الامتيازات الملكية في إنغلترا وفي فرنسا. وأصبحت الصين بالنسبة لفلاسفة مثل فولتير نموذجا للحكم الرشيد والنظام الاجتماعي.
    وسمح تواجد بعض اليسوعيين في قصر الخان العظيم بوضع وصف شامل إلى حدّ ما للقصور والحدائق. وأشهر تلك الاوصاف يرد في رسالة كتبها الفرنسي جان دينيس أتيريه عام 1745 عندما كان يخدم كرسّام في بلاط الامبراطور.
    وقد أوضح أتيريه أن الإمبراطور استلهم لتصميم الحديقة، ولكي تظهر بجمال خاص، معالم من جميع أنحاء الصين والعالم، منها معابد من منغوليا والتبت، وقرية ومشهد لنهر من هونان، وحدائق من سوتشو وهانغتشو، ومجموعة من الأبنية على الطراز الأوروبّي. بل إن القصر كان به نسخة طبق الأصل من شارع صيني عادي مليء بالمتاجر والأكشاك والباعة المتجوّلين والزبائن والمتسوّلين. وكان الإمبراطور يتجوّل في تلك الأرجاء كما يحلو له، وكانت نساؤه يعقدن صفقات مع الخصيان الذين يلعبون دور البائعين.
    لكن أكثر ما كان يلفت الانتباه الفوضى الجميلة و"عدم التماثل" اللذان سيطرا على تصميم المكان. فلم تكن المسارات والجسور العابرة فوق البحيرات مستقيمة بل متعرّجة، ولم تكن الأبواب والنوافذ مربّعة الشكل بل دائرية أو بيضاوية أو على شكل أزهار أو طيور أو أسماك. ورغم أن هذا الوصف قد يبدو ساذجا، إلا أن أتيريه أقرّ بأنه "عندما تراه بنفسك، ستُفكّر بطريقة مختلفة وستبدأ بالإعجاب بالفنّ الذي صُمّم به هذا التباين".
    كانت حديقة القصر، بتنوّعها وشمولها، تمثّل كلّ ما هو موجود: الماضي والمستقبل والمواقع الغريبة والنباتات والحيوانات المذهلة والجبال الشاهقة والمحيطات والريف والمدينة. وكان الإمبراطور هو الحاكم الأوحد لهذا الكون البديع والشخص الذي جُمعت له كلّ هذه التسلية. ولأن كلّ شيء كان مرتّبا بتناغم وسلام، كانت الحديقة دليلا واضحا على فضائل حكمه. ومن منظور التصنيفات الجمالية التي كانت شائعة في القرن الثامن عشر، كان كلّ هذا مثيرا للفضول.


    في رسائل اليسوعيين، استُبدلت لغة الجمال والرهبة في العصور الوسطى بانطباعات التعدّدية المبهجة. وتحوّل يوانمينغيوان إلى قصر "روكوكو"؛ إلى خزانة ضخمة مليئة بالتحف الفنّية وبآلات ومؤثّرات وخِدع بصرية.
    ويذكر أتيريه أن هناك خصوبة لا مثيل لها في روح الصينيين. في الواقع "أميل إلى الاعتقاد بأننا فقراء وعقيمون مقارنةً بهم". في حقبة سابقة، كانت هذه الخصوبة دليلاً على الفردوس. وكانت الفردوس أيضا حديقة يتجدّد فيها كلّ شيء باستمرار ودون عناء. وفي حقبة تالية، أصبحت هذه الخصوبة نفسها دليلاً على إنتاجية التربة الصينية وثروات الأسواق الصينية التي كانت تنتظر استغلالها من قبل التجّار الأوروبيين.
    وتمشيّا مع موضة الطراز الصيني، ساهم أتيريه في إلهام إنشاء حدائق بنفس الطراز في جميع أنحاء القارّة. فبعد سنوات قليلة فقط من نشر مذكّراته، بنى فريدريك العظيم منزلا صينيّا في سان سوسيس وشيّدت كاترين العظيمة قصرا صينيا في أورانينباوم وبنى أدولف فريدريك ملك السويد قصرا صينيا في دروتنينغهولم. وفي عام 1761، شيّد المهندس المعماري ويليام تشيمبرز معبدا يبلغ ارتفاعه خمسين مترا في حدائق كيو، بالإضافة إلى "بيت كونفوشيوس".
    كان تشيمبرز قد زار الصين من قبل. ففي شبابه، زار غوانتسو مرّتين في أربعينات القرن الثامن عشر على متن سفن تابعة لشركة الهند الشرقية السويدية. وقد درس هناك العمارة الصينية وفنون الحدائق. وفور عودته إلى أوروبّا، نشر عام ١٧٥٧ كتيّبا بعنوان "فنّ تصميم الحدائق عند الصينيين".
    وأوضح تشيمبرز أن هناك ثلاثة أنواع مختلفة من المشاهد في الحدائق الصينية: المبهج، والمرعب، والساحر". وفي حين أن المبهج والساحر يتوافقان مع تصنيف اليسوعيين، إلا أن تركيزه على المرعب كان أمرا جديدا تماما. وقد أصرّ تشيمبرز على أن هذه المشاهد المروّعة كانت تتضمّن أشجارا مشوّهة مزّقتها العواصف وصخورا متداعية وشلالات جارفة ومبانٍ التهمت النيران نصفها. وصُمّمت هذه المشاهد لاستثارة المشاعر المتسامية.
    وقد عاد تشيمبرز ثانية إلى حديقة الرعب تلك واستخدم قصر يوانمينغيوان كمثال توضيحي. وبعد وصفه للمتع التي تثيرها مسارات الحديقة المتعرّجة العديدة ومناظرها الساحرة، انتقل إلى "مشاهد الرعب": غابات كئيبة، ووديان عميقة لا تصلها الشمس، وصخور قاحلة، وكهوف مظلمة، وشلالات هادرة تتدفّق من الجبال في جميع الأرجاء".
    وفي البساتين "كانت ترفرف الخفافيش والبوم وكلّ طائر جارح وتعوي الذئاب والنمور والضباع في الغابات وتتجوّل الحيوانات شبه الجائعة في السهول وتُرى المشانق والصلبان والعجلات وجميع أدوات التعذيب. وفي أكثر أركان الغابة كآبة، حيث الطرق وعرة ومليئة بالأعشاب، وحيث يحمل كلّ شيء علامات هجرة السكّان، توجد معابد مكرَّسة لملك الانتقام، وكهوف عميقة في الصخور، ومنحدرات تقود إلى مساكن تحت الأرض مُغطّاة بالأغصان والشجيرات العالقة".
    بالطبع، كان وصف تشيمبرز الغريب لـ"حديقة الرعب" هدفا سهلا للسخرية. ومع ذلك، لم يكن من السهل كبح الحساسية التي كان وصف تشيمبرز تعبيرا عنها. فبالنسبة للكتّاب الرومانسيين في مطلع القرن التاسع عشر، كانت عجائب الشرق مصدرا لأحلام اليقظة الغريبة، وكان قصر الإمبراطور الصيني موضوعا مفضّلا.
    في أكتوبر 1797، تناول الشاعر الإنغليزي سامويل تيلر كولريدج جرعة صغيرة من الأفيون ثم قرأ صفحات من حكايات الرحّالة الى الصين في العصور الوسطى، قبل ان يغالبه النعاس. وعندما استيقظ كتب قصيدة تصف جنّة صينية سامية ألهمته الشوق والرهبة:
    "في زانادو أصدر قبلاي خان
    قراراً ببناء قبّة ابتهاج فخمة
    حيث جرى النهر المقدَّس "ألف"
    عبر كهوف لا يستطيع إنسان إدراك مداها
    أسفل إلى بحرٍ لا تطلع عليه شمس
    لذا أُحيطت عشرةُ أميالٍ
    من الأرض الخصبة بأسوار وأبراج
    ووُجدت هناك حدائقُ زاهرة بجداولَ مُتعرِّجة
    حيث أزهر كثير من شجر البخور
    هنا كانت غابات قديمة كالتِّلال
    تحتضن بقعاً خضراءَ مشمسة".
    من الواضح أن كولريدج كان يتحرّك في نفس المجال الشعري الذي تحرّك فيه تشيمبرز. فكهوف كولريدج التي "لا يستطيع إنسان إدراك مداها" ليست بعيدة كثيرا عن "كهوف تشيمبرز العميقة في الصخور". كما لم يبتعد هذا كثيرا عن الرواية التي قدّمها ماركو بولو نفسه ذات مرّة. وما رآه كولريدج في حلمه هو قصر قبلاي خان الذي زاره بولو.
    سياسيّا، يمكن قراءة قصيدة "قبلاي خان" على أنها تخلٍّ عمّا يُسمّى بـ "عبء الرجل الأبيض" ودعوة للمستعمرين والمستعمَرين لتبادل الأماكن. وعلى النقيض من ذلك، لم يكن تشيمبرز سريعا في التخلّي عن نفسه. فقد أشاد بالصينيين، ليس فقط لرعبهم، ولكن أيضا لبهجة حدائقهم.
    في أغسطس 1793، وصل وفد ديبلوماسي بريطاني بقيادة جورج ماكارتني إلى بيجين بهدف فتح السوق الصينية الضخمة لتجارة السلع البريطانية الصنع. وعند وصولهم إلى القصر الإمبراطوري، متوقّعين بوضوح "تجربة سامية"، شعر الدبلوماسيون بخيبة أمل قويّة. وقال ماكارتني: ما رأيناه لا يرقى إلى مستوى الأوصاف الخيالية التي دسّها لنا الأب أتيريه والسير ويليام تشيمبرز على أنها حقائق".
    وقال شخص آخر في الوفد ان القصور كانت صغيرة ومزخرفة بشكل مبالغ فيه، و"ليست مجرّدة من الأناقة، بل في حال يُرثى لها من الاهمال". وأضاف أن جزءا كبيرا من المباني يتكوّن من أكواخ متواضعة. كما أن مسكن الإمبراطور نفسه وقاعة المحاضرات الفخمة، بعد تجريدهما من التذهيب والألوان الصارخة التي طُليا بها، لا يتفوّقان إلا قليلاً على حظيرة مزارع إنجليزي!". لكنه أشاد بـ "المزهريات الرائعة المصنوعة من اليشب والعقيق و"أرقى أنواع الخزف الياباني"، وآلات القمار، والساعات، والآلات الموسيقية الرائعة".
    في أربعينات القرن الثامن عشر في بريطانيا، بلغت موضة الطراز الصيني ذروتها. وبحلول التسعينات، غالبا ما كانت الأشياء الصينية تُعتبر مبتذلة، على الأقل بين الرجال ذوي الأذواق الكلاسيكية الجديدة. وكان الطراز الصيني، مثله مثل طراز الروكوكو الفرنسي أو العمارة القوطية الجديدة، يُعتبر متشاوفاً وزائفا.
    لم يُظهِر الدبلوماسيون البريطانيون حماسا حقيقيا إلا لحدائق وأراضي القصر الإمبراطوري. وقال ماكارتني واصفا حدائق المنتجع الصيفي الإمبراطوري إنها "من أجمل مناظر الغابات في العالم" وأضاف: عند وصولنا إلى قمّة إحدى التلال، انفتح أمامنا فجأة مشهد يمتدّ لعشرين ميلاً، كان مشهدا غنيّا ومتنوّعا وجميلا وساميا لم ترَ عيناي مثله قط".
    في صباح يوم 7 أكتوبر عام 1860، شقّت القوّات الفرنسية والبريطانية طريقها إلى قصر يوانمينغيوان. وعلى الرغم من أوامر القادة العسكريين، نهبَ الفرنسيون المجمّع، بينما سارع الإنغليز إلى عرض ما تبقى منه للبيع. وبعد عشرة أيّام، أحرقت القوات البريطانية المباني وما تبقّى من محتوياتها بالكامل. وكان لهذا التخريب سياق سياسي وعسكري تمثّل في انعدام انضباط الجيش الفرنسي ورغبة الانغليز في الانتقام من "المعاملة الوحشية" التي تلقّاها مجموعة من الرهائن على أيدي الصينيين.
    كانت القوّات الفرنسية هي التي نفّذت معظم عمليات النهب. لكن القادة الفرنسيين نفوا رسميّا أيّ تورّط لهم، وألقوا باللوم في ذلك على عصابة من الصينيين الذين رافقوا الجيوش الأوروبية.
    كان من بين من شهدوا تلك الأحداث اللورد إلجين الذي كان رجلا محافظا ومتشكّكا في الإمبريالية الجشعة، وكان أيضا من أتباع الشاعر كولريدج. وفي أكسفورد انجذب فكره إلى التكهّنات التجريدية الراقية، وقرأ أفلاطون وميلتون بالإضافة الى كولريدج. ومع ذلك، عندما واجه قصر يوانمينغيوان، أيقن أنه ليس القصر الذي وصفه كولريدج في قصيدته. فلم "يُغمض عينيه خوفا" ولم يشرب "حليب الجنّة". وبدلا من ذلك، شارك في إحراق المكان.
    عندما تطوّرت الأمور إلى فكرة حرق القصر، رفض القادة الفرنسيون أيّ مشاركة. وقال البارون غروس: إننا نتحدّث باستمرار مع الصينيين عن "حضارتنا" وعن "الخيرية المسيحية"، وتدمير القصر سيكون عملاً همجيّاً ومنافقاً".
    أما بالنسبة للجنود العاديين، سواءً البريطانيين أو الفرنسيين، فبمجرّد أن دخلوا بوّابات يوانمينغيوان، بدا وكأنهم في حلم. كانت تلك مملكة سحرية مليئة بكلّ الكنوز التي يمكن تخيّلها. ولم يكن الجنود قلقين مثل قادتهم من احتمال محاسبتهم، فاعترفوا بأفعالهم واستعانوا بخيالاتهم. قال أحدهم: لقد صُعقت وذُهلت ممّا رأيته، فجأة بدت لي ألف ليلة وليلة قابلة للتصديق تماما، كان كلّ شيء أشبه ما يكون بحكاية خرافية".
    وقال آخر: شعرتُ كأنني علاء الدين ممتلئا بالدهشة في قصره المسحور المرصوف بالذهب والألماس. ولوصف ما رأيته سأحتاج إلى إذابة جميع الأحجار الثمينة المعروفة في ذهب سائل ورسم صورة بريشة من الماس تحتوي شعيراتها على جميع خيالات شاعر من الشرق".
    وحدث الدمار النهائي في نوع من الهذيان. ركض الجنود من غرفة إلى أخرى باحثين عن الغنائم. كان هياجا ونهبا معربدا وكأن الجميع قد أصيبوا بجنون مؤقّت. وبدا الأمر كما لو أن الحرب التي تنبّأت بها "أصوات الأسلاف" في قصيدة كولريدج قد وصلت أخيرا، وأن الأوروبيين هم الشياطين الذين ينفّذونها.
    كان الأوروبيون قد وعدوا بـ "بداية جديدة" للصين و"مستقبل مشرق من التقدّم والتجارة الحرّة". لكن كان لا بدّ أوّلا من تدمير العالم القديم، إذ لا سبيل لنشر "الحضارة" إلا من خلال أعمال همجية. وقال بعض الانغليز: كان تدمير قصر الإمبراطور أقوى دليل على قوّتنا المتفوّقة، فقد أسهم في دحض قناعة الصينيين السخيفة بسيادة مُلكهم على العالم. ومع هذا النصر، برز الأوروبيون أخيرا كحكّام للعالم بلا منازع".

    Credits
    worldhistory.org

    الأحد، أبريل 13، 2025

    بونابرت في يافا


    بعض المؤرّخين يشبّهون غزو نابليون بونابرت لفلسطين بمرور نيزك ضخم لم يلبث أن اختفى مُحدثاً دمارا هائلا. كان الجنرال الفرنسي قد انطلق من مصر، وعند وصوله إلى يافا، تغلّب على مقاومة الحامية العثمانية المحلية واجتاح المدينة بقوّة ونهبها وقتل الآلاف من أهلها.
    وفي أعقاب تلك الفوضى، أصيب العشرات من الجنود الفرنسيين بالطاعون.
    في لوحة الرسّام أنطوان جان غروس "فوق"، نرى نابليون البالغ من العمر وقتها 29 عاما وهو يزور برفقة مساعديه جناحا في مستشفى في يافا يتواجد فيه جنود فرنسيون مرضى بالطاعون وبحال من البؤس والمعاناة. ويظهر الجنرال وهو يحاول تهدئة ذعر الجنود ويمدّ يده العارية ليلمس، دون خوف، خُرّاجا ملتهبا لجنديّ مصاب. وخلفه يقف ضابط يضع منديلاً على أنفه لحجب الرائحة، أو ربّما لوقاية نفسه من العدوى.
    أنهى غروس هذه اللوحة المليئة بالاستعارات والرموز في الأشهر التي سبقت تتويج نابليون إمبراطورا على فرنسا في كاتدرائية نوتردام. واليد الممدودة في اللوحة تمثّل يد يسوع التي تشفي من الجذام والعمى والصمم بمجرّد اللمس.
    لكن تلك اللمسة لم تجلب الشفاء لأن الجند كانوا بحاجة إلى أطبّاء، بدليل الجثث المتناثرة. كانت غاية بونابرت إظهار قدرته على رعاية المرضى والسير جنبا إلى جنب مع زملائهم الجنود، وكأنه يقول: انظروا! أنا بشر، لكنّي لا أخشى انتقال العدوى إليّ ولا يجب أن تخافوا أنتم أيضا".
    في المخيّلة الشعبية الاوربّية، يُعتقد أن الطاعون - واستطرادا "كوڤيد" في عصرنا - مرضان ألحقهما الشرق بالغرب. والسبب هو أنه في أوائل القرن الثامن عشر، اختفى الطاعون من أوروبّا الغربية. وبحلول منتصف ذلك القرن، أنشأت عائلة هابسبورغ الملكية حاجزا صحّيا منع الطاعون من الوصول إلى وسط القارّة أيضا.
    لكن الوباء استمرّ في اجتياح الإمبراطورية العثمانية. وتشير موسوعة ديدرو الفرنسية الى أن الطاعون "يأتي إلينا من آسيا، وعلى مدى ألفي عام، انتقلت جميع الأوبئة التي ظهرت في أوروبّا من خلال تواصل المسلمين والعرب والمغاربة والأتراك معنا، ولم يكن لأيّ من أوبئتنا أيّ مصدر آخر".
    واشتهرت إسطنبول، على وجه الخصوص، بأنها مركز للأمراض المعدية. وفي رواية ميري شيلي "الرجل الأخير"، يبدأ وباء مدمّر للعالم من هناك. وكانت لمصر العثمانية سمعةٌ مماثلة، ففي القاهرة تسبّبت جائحة للطاعون عام 1791 في مقتل ثلث عدد السكّان تقريبا.
    ولهذا السبب اعتبر الأوروبيون في زمن نابليون الطاعون "مرضا شرقيّا" أو "تركيّا". وفي هذه الحالة، لم يكن الطاعون الذي أصاب قوّات نابليون مستوردا، بل كان مصدره الأتراك، كما توحي بذلك تفاصيل لوحة غروس. وعلى الرغم من أن جناح المشفى المصوّر في اللوحة كان يقع في دير أرمني، إلا أن الرسّام وضعه فيما يشبه مسجدا محاطا بأروقة على الطراز الإسلامي. وخلف المشهد يرفرف العلم الفرنسي ذو الألوان الثلاثة.


    ومن هذا المنطلق، فإن الإشارة إلى وباء "كوڤيد" قبل سنوات باعتباره "الڤايروس الصيني" لم تكن سابقة. لكن كثيرا ما كانت أصابع الاتهام تُوجّه في الاتجاهين، ففي الإمبراطورية العثمانية كان يُطلق على مرض الزهري اسم "جُدريّ الفرنجة!".
    لكن الرسّام غروس أدخل الى اللوحة عنصرا عقّد ربطه بين الطاعون والشرق. ففي مقدّمة الصورة الى اليمين، يظهر شخص تركي، أو لعلّه عربي، أنيق اللباس وهو يعالج مريضا فرنسيّا. وقد اعتبر الأكاديميون الفرنسيون الشكليون إدراج الفنّان لهذا الشخص عيبا في العمل، لأنه يشتّت انتباه الناظر عن نابليون والجنود العراة.
    من يافا توجّه بونابرت بعد ذلك إلى عكّا وحاصرها، لكن دون جدوى. وفي انسحابه المتسرّع جنوبا، لقي عدد من الجنود الجرحى والمرضى حتفهم على طول الطريق. وعند عودته إلى يافا زار جناح الحجر الصحّي مرّة أخرى. ويقال إنه اقترح على كبير الأطبّاء إعطاء الجنود الفرنسيين المصابين بالطاعون جرعات قاتلة من الأفيون، إذ لا يمكن نقلهم إلى مصر، وإلا "سيقعون بأيدي الأتراك الساديّين". لكن الطبيب رفض ذلك قائلا: مهنتي هي شفاء الناس، لا قتلهم!".
    ومهما كانت حقيقة قصّة الأفيون، فإنها تثير سؤالا يبدو ملحّا اليوم: ما هي التنازلات التي يجب تقديمها في خضمّ نقص الإمكانيات؟ عندما خطّط نابليون لانسحابه، كانت موارده محدودة وأراد حماية جيش ضعيف أصلا. فهل كان عليه أن يخاطر بحياة المرضى المصابين بأخذهم معه والتسبّب في إصابة الجند الأصحّاء؟
    يُعتقد أن هذه اللوحة رسُمت بتكليف من نابليون تحديدا، وذلك لدحض التقارير التي تحدّثت عن الفظائع الفرنسية التي ارتكبت أثناء حصار يافا، وأيضا لنفي قصّة إعطاء مرضى الطاعون أفيوناً قاتلا. وكانت تلك التقارير قد انتشرت في فرنسا وتسبّبت في إثارة غضب الكثيرين.
    في دراسة أوّلية للوحة، يظهر نابليون وهو يحمل جثّة! لكن على ما يبدو، رأى الرسّام أخيرا أنه من غير اللائق أن يبالغ في الدراما لاستدرار المشاعر، فاستبدلها بلمسة الجنرال الحازمة والواثقة للجنديّ المصاب.
    في سبتمبر 1804، عُرضت اللوحة في صالون أكاديمية الفنون الجميلة في باريس، وكانت هي العمل الأبرز في المعرض. وفيما بعد، أُعيد إنتاجها في مطبوعات ونقوش مصغّرة وجدت طريقها إلى جميع أرجاء فرنسا. وفي تلك الأثناء، أصبح دير يافا محطّة نموذجية للسيّاح الفرنسيين.
    كانت اللوحة دعايةً صارخة صوّرت حملة عسكرية كارثية وحوّلت نابليون إلى قائد مقدام لا يعرف الخوف أو التردّد. وكُلّف العديد من الفنّانين الآخرين بإنتاج أعمال مماثلة تمتدح انتصاراته. ولأن حملة فلسطين كانت ضعيفة في تحقيق أيّ نجاح في ساحة المعركة، فقد حلّت لوحة غروس، الذي لم يسافر قطّ إلى الشرق الأدنى، هذه المشكلة وسَدّت النقص.
    كانت رسالة اللوحة واضحة: ربّما لم ينتصر نابليون على الأتراك في فلسطين، لكن ذلك لم يكن ذنبه. ألا ترى الجثث؟! لقد كان يكافح الطاعون"! وعلى الرغم من أن الطاعون كان "عدوّا لم تصله حراب الفرنسيين" بحسب أحد الصحفيين، إلا أن نابليون تغلّب على خوفه ومُنح لمسة إلهية!

    Credits
    napoleon.org
    smarthistory.org