:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، أبريل 13، 2025

بونابرت في يافا


بعض المؤرّخين يشبّهون غزو نابليون بونابرت لفلسطين بمرور نيزك ضخم لم يلبث أن اختفى مُحدثاً دمارا هائلا. كان الجنرال الفرنسي قد انطلق من مصر، وعند وصوله إلى يافا، تغلّب على مقاومة الحامية العثمانية المحلية واجتاح المدينة بقوّة ونهبها وقتل الآلاف من أهلها.
وفي أعقاب تلك الفوضى، أصيب العشرات من الجنود الفرنسيين بالطاعون.
في لوحة الرسّام أنطوان جان غروس "فوق"، نرى نابليون البالغ من العمر وقتها 29 عاما وهو يزور برفقة مساعديه جناحا في مستشفى في يافا يتواجد فيه جنود فرنسيون مرضى بالطاعون وبحال من البؤس والمعاناة. ويظهر الجنرال وهو يحاول تهدئة ذعر الجنود ويمدّ يده العارية ليلمس، دون خوف، خُرّاجا ملتهبا لجنديّ مصاب. وخلفه يقف ضابط يضع منديلاً على أنفه لحجب الرائحة، أو ربّما لوقاية نفسه من العدوى.
أنهى غروس هذه اللوحة المليئة بالاستعارات والرموز في الأشهر التي سبقت تتويج نابليون إمبراطورا على فرنسا في كاتدرائية نوتردام. واليد الممدودة في اللوحة تمثّل يد يسوع التي تشفي من الجذام والعمى والصمم بمجرّد اللمس.
لكن تلك اللمسة لم تجلب الشفاء لأن الجند كانوا بحاجة إلى أطبّاء، بدليل الجثث المتناثرة. كانت غاية بونابرت إظهار قدرته على رعاية المرضى والسير جنبا إلى جنب مع زملائهم الجنود، وكأنه يقول: انظروا! أنا بشر، لكنّي لا أخشى انتقال العدوى إليّ ولا يجب أن تخافوا أنتم أيضا".
في المخيّلة الشعبية الاوربّية، يُعتقد أن الطاعون - واستطرادا "كوڤيد" في عصرنا - مرضان ألحقهما الشرق بالغرب. والسبب هو أنه في أوائل القرن الثامن عشر، اختفى الطاعون من أوروبّا الغربية. وبحلول منتصف ذلك القرن، أنشأت عائلة هابسبورغ الملكية حاجزا صحّيا منع الطاعون من الوصول إلى وسط القارّة أيضا.
لكن الوباء استمرّ في اجتياح الإمبراطورية العثمانية. وتشير موسوعة ديدرو الفرنسية الى أن الطاعون "يأتي إلينا من آسيا، وعلى مدى ألفي عام، انتقلت جميع الأوبئة التي ظهرت في أوروبّا من خلال تواصل المسلمين والعرب والمغاربة والأتراك معنا، ولم يكن لأيّ من أوبئتنا أيّ مصدر آخر".
واشتهرت إسطنبول، على وجه الخصوص، بأنها مركز للأمراض المعدية. وفي رواية ميري شيلي "الرجل الأخير"، يبدأ وباء مدمّر للعالم من هناك. وكانت لمصر العثمانية سمعةٌ مماثلة، ففي القاهرة تسبّبت جائحة للطاعون عام 1791 في مقتل ثلث عدد السكّان تقريبا.
ولهذا السبب اعتبر الأوروبيون في زمن نابليون الطاعون "مرضا شرقيّا" أو "تركيّا". وفي هذه الحالة، لم يكن الطاعون الذي أصاب قوّات نابليون مستوردا، بل كان مصدره الأتراك، كما توحي بذلك تفاصيل لوحة غروس. وعلى الرغم من أن جناح المشفى المصوّر في اللوحة كان يقع في دير أرمني، إلا أن الرسّام وضعه فيما يشبه مسجدا محاطا بأروقة على الطراز الإسلامي. وخلف المشهد يرفرف العلم الفرنسي ذو الألوان الثلاثة.


ومن هذا المنطلق، فإن الإشارة إلى وباء "كوڤيد" قبل سنوات باعتباره "الڤايروس الصيني" لم تكن سابقة. لكن كثيرا ما كانت أصابع الاتهام تُوجّه في الاتجاهين، ففي الإمبراطورية العثمانية كان يُطلق على مرض الزهري اسم "جُدريّ الفرنجة!".
لكن الرسّام غروس أدخل الى اللوحة عنصرا عقّد ربطه بين الطاعون والشرق. ففي مقدّمة الصورة الى اليمين، يظهر شخص تركي، أو لعلّه عربي، أنيق اللباس وهو يعالج مريضا فرنسيّا. وقد اعتبر الأكاديميون الفرنسيون الشكليون إدراج الفنّان لهذا الشخص عيبا في العمل، لأنه يشتّت انتباه الناظر عن نابليون والجنود العراة.
من يافا توجّه بونابرت بعد ذلك إلى عكّا وحاصرها، لكن دون جدوى. وفي انسحابه المتسرّع جنوبا، لقي عدد من الجنود الجرحى والمرضى حتفهم على طول الطريق. وعند عودته إلى يافا زار جناح الحجر الصحّي مرّة أخرى. ويقال إنه اقترح على كبير الأطبّاء إعطاء الجنود الفرنسيين المصابين بالطاعون جرعات قاتلة من الأفيون، إذ لا يمكن نقلهم إلى مصر، وإلا "سيقعون بأيدي الأتراك الساديّين". لكن الطبيب رفض ذلك قائلا: مهنتي هي شفاء الناس، لا قتلهم!".
ومهما كانت حقيقة قصّة الأفيون، فإنها تثير سؤالا يبدو ملحّا اليوم: ما هي التنازلات التي يجب تقديمها في خضمّ نقص الإمكانيات؟ عندما خطّط نابليون لانسحابه، كانت موارده محدودة وأراد حماية جيش ضعيف أصلا. فهل كان عليه أن يخاطر بحياة المرضى المصابين بأخذهم معه والتسبّب في إصابة الجند الأصحّاء؟
يُعتقد أن هذه اللوحة رسُمت بتكليف من نابليون تحديدا، وذلك لدحض التقارير التي تحدّثت عن الفظائع الفرنسية التي ارتكبت أثناء حصار يافا، وأيضا لنفي قصّة إعطاء مرضى الطاعون أفيوناً قاتلا. وكانت تلك التقارير قد انتشرت في فرنسا وتسبّبت في إثارة غضب الكثيرين.
في دراسة أوّلية للوحة، يظهر نابليون وهو يحمل جثّة! لكن على ما يبدو، رأى الرسّام أخيرا أنه من غير اللائق أن يبالغ في الدراما لاستدرار المشاعر، فاستبدلها بلمسة الجنرال الحازمة والواثقة للجنديّ المصاب.
في سبتمبر 1804، عُرضت اللوحة في صالون أكاديمية الفنون الجميلة في باريس، وكانت هي العمل الأبرز في المعرض. وفيما بعد، أُعيد إنتاجها في مطبوعات ونقوش مصغّرة وجدت طريقها إلى جميع أرجاء فرنسا. وفي تلك الأثناء، أصبح دير يافا محطّة نموذجية للسيّاح الفرنسيين.
كانت اللوحة دعايةً صارخة صوّرت حملة عسكرية كارثية وحوّلت نابليون إلى قائد مقدام لا يعرف الخوف أو التردّد. وكُلّف العديد من الفنّانين الآخرين بإنتاج أعمال مماثلة تمتدح انتصاراته. ولأن حملة فلسطين كانت ضعيفة في تحقيق أيّ نجاح في ساحة المعركة، فقد حلّت لوحة غروس، الذي لم يسافر قطّ إلى الشرق الأدنى، هذه المشكلة وسَدّت النقص.
كانت رسالة اللوحة واضحة: ربّما لم ينتصر نابليون على الأتراك في فلسطين، لكن ذلك لم يكن ذنبه. ألا ترى الجثث؟! لقد كان يكافح الطاعون"! وعلى الرغم من أن الطاعون كان "عدوّا لم تصله حراب الفرنسيين" بحسب أحد الصحفيين، إلا أن نابليون تغلّب على خوفه ومُنح لمسة إلهية!

Credits
napoleon.org
smarthistory.org