:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، مايو 11، 2017

المقاهي في الرسم

علاقة الفنّانين والمثقّفين بالمقاهي قديمة، وتعود إلى أواخر القرن التاسع عشر. وكثيرا ما يُصوّر المقهى على انه مكان لتناول المشروبات أو تبادل الدردشات والأحاديث.
وأجواء المقاهي حاضرة في العديد من الأعمال الفنّية.

  • الرسّام الانطباعيّ جان بيرو ولد في روسيا ثم هاجر هو وعائلته إلى فرنسا وهو طفل. وقد درس الرسم في باريس بعد الحرب الفرنسية البروسية وربطته علاقة صداقة مع عدد من شخصيّات المجتمعين الفرنسيّ والروسيّ في المدينة.
    واشتهر بيرو ببراعته في رسم مظاهر الحياة اليومية في باريس كالحفلات الخارجية ومناظر الشوارع وغيرها. كان رسّاما ناجحا، ولوحاته تمسك بروح باريس في بدايات القرن الماضي عندما كانت الحياة أكثر بساطة وأقلّ ضجيجا.
    في اللوحة "فوق"، يرسم جان بيرو رجلا وامرأة يجلسان في مقهى ويركّزان نظراتهما على شيء أو شخص ما خارج الصورة. وقد حرص الفنّان على رسم تفاصيل الطاولة الرخامية والكأسين نصف المملوئين ودوائر الدخان المتصاعدة من سيجارة الرجل.
    وبوضعه الرجل والمرأة كلا بمواجهة الآخر تقريبا، فإن بيرو أوجد احتمالات وسيناريوهات شتّى تتعلّق بمزاجهما في تلك اللحظة مع تساؤلات من نوع: هل هذا هو اللقاء الأول بينهما أم أنهما على وشك أن يفترقا، ولماذا ينظران إلى شيء بعيد وما هو.
    الكرسيّ المائل أمام طاولتهما يمكن أن يوحي بأن الرجل تركه وانتقل كي يجلس قريبا من المرأة، أو أن شخصا ما ثالثا غادر الكرسيّ للحظات بينما تتابعه نظراتهما المحترسة والحذرة.
    المعروف أن جان بيرو لم يتزوّج أبدا. كانت باريس فنّه وحبّه الوحيد. والكثيرون يتذكّرونه باعتباره احد رموز الحقبة المسمّاة بالزمن الجميل.

  • كانت صداقة فان غوخ وبول غوغان قد وصلت إلى نقطة تأزّم عندما تناول الأوّل موس حلاقة وقطع به أذنه في نوبة من نوبات إيذاء النفس.
    وكان غوغان معه في آرل في ذلك الوقت، ثم غادر فورا بعد الحادثة. لكن قبل ذلك كان الصديقان قد قضيا عدّة أسابيع وهما يرسمان معا في البيت الأصفر. كانا يستمتعان بصحبتهما الفنّية الفريدة ويتجادلان كما هي عادة بعض الأشخاص الموهوبين جدّا والعصبيين أكثر من اللازم.
    وقد اتفق الاثنان على أن يرسما، كلّ لوحده، مكانا ليليّا في آرل كموضوع. ووقع اختيارهما على احد المقاهي الشعبية هناك. وفعلا رسم كلّ منهما منظوره الخاصّ عن المكان.
    في لوحة فان غوخ ، يظهر المقهى كمكان يمكن للإنسان فيه أن يدمّر نفسه أو يُجنّ أو يرتكب جريمة قتل. لكن غوغان رسم للمقهى لوحة ذات ألوان قويّة يظهر فيها وجه صاحبة المقهى وهي تقوم على رعاية الزبائن. ولوحة الأخير تبدو أكثر حميمية مع تفاصيل جذّابة مثل مكعّبات السكّر والقطّة الصغيرة أسفل الطاولة.

  • هناك نظرة متوهّمة عن المقاهي على أنها توفّر متنفّسا أو مهربا من الواقع. ولوحة شارب الابسنت للرسّام التشيكي فيكتور اوليفا تعطي لمحة عن زيارة السيّدة الخضراء.
    والسيّدة الخضراء ليس سوى الاسم الرمزيّ للابسنت، وهو شراب شديد المرارة كان ذا شعبية كبيرة في أواخر القرن التاسع عشر. وكان يشار إليه بالجنّية الخضراء بسبب لونه الحالم وتأثيره المخدّر.
    ادغار ديغا وإدوار مانيه رسما عدّة بورتريهات لشاربي ابسنت مرهقين وواهنين. لكنّ اوليفا حصر رؤيته عن الشراب داخل عالم الفانتازيا الحسّية، رغم أن الرجل في اللوحة يبدو في حالة مزاج مُعدّل وقد يكون في خطر بسبب إدمانه على حبّ الجميلة السامّة التي تنضمّ إليه في المقهى.
    في ما بعد أصبح للابسنت سمعة سيّئة بسبب ما قيل عن انه يسبّب المرض العقليّ والإدمان. غير أن الدراسات الحديثة تدلّل على أن كثيرا من تلك التكهّنات مبالغ فيها.

  • في بعض الأحيان، تقوم المقاهي بدور المنتدى الذي يناقش فيه الناس القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية. في لوحة للرسام غابرييل ديلوك يعود تاريخها إلى عام 1914، نرى متحدّثا مفوّها يلقي على روّاد احد المقاهي في باريس خطبة عصماء.
    والمتحدّث أو الخطيب ليس سوى بينيتو موسوليني الذي يكشف للموجودين عن خططه للعودة إلى ايطاليا وإعادة أمجاد روما القديمة.
    والرسّام يصوّر الكاريزما المظلمة والملامح الكالحة للديكتاتور الناشئ، وفي نفس الوقت ينقل مشاعر الشكّ والارتياب المرتسمة على وجوه الأشخاص الذين اجتمعوا لسماع خطبته.
    المدهش أن موسوليني عاد فعلا إلى روما وأسّس نظامه الفاشيّ وحكم ايطاليا بقبضة من حديد، وأخيرا أقحم بلده في حرب مدمّرة بعد أن تحالف مع هتلر.
    أما الرسّام غابرييل ديلوك فقد قُتل هو نفسه في الحرب العالمية الثانية بينما كان يقاتل في صفوف الجيش الفرنسيّ. وفي ما بعد أحيا ذكراه، مع غيره من قتلى تلك الحرب، الموسيقيّ الفرنسيّ موريس رافيل في إحدى مؤلّفاته الموسيقيّة بعنوان في ذكرى كوبرين .

  • Credits
    arthistoryresources.net

    الأحد، مايو 07، 2017

    إطلالة على جحيم دانتي


    في الكوميديا الإلهية، تتحوّل بعض شخصيات الأساطير الكلاسيكية إلى أبالسة وشياطين. وهذا كان أمرا مألوفا في الثقافة المسيحية في القرون الوسطى.
    ودانتي في كتابه يتصرّف كقاضٍ أعظم. ومثل ماينوس القاضي المتوحّش الواقف على بوّابة الجحيم، يقرّر دانتي مَن يذهب إلى هناك، وإلى أيّ دائرة من دوائر الجحيم التسع يجب أن ينتهي كلّ عاصٍ أو مذنب.
    ماينوس الأصليّ شخصيّة نصفها تاريخيّ ونصفها الآخر أسطوريّ. والمؤرّخون متّفقون على انه كان ملكا عادلا على جزيرة كريت. ولهذا السبب أصبح بعد موته احد قضاة العالم السفليّ.
    لكن طبقا للأساطير الكلاسيكية، كان ماينوس ابنا لزيوس ويوصف بأنه طاغية وقاسٍ. وقيل انه انتقم لموت ولده بإجبار الأثينيين على أن يقدّموا سبعة أولاد وسبع فتيات من أبنائهم كقرابين.
    وبعض كتب التاريخ تصفه بأنه كان كاهنا ومشرّعا حكيما. وكان هوميروس قد وضعه كقاضٍ للأرواح في هيديز. وربّما لهذا السبب استلهم دانتي شخصية ماينوس ووضعه حارسا وحكما على بوّابة الجحيم.
    ودانتي يعطيه مظهر وحش له ذيل أفعى ضخمة. وقد رسم ميكيل انجيلو صورة بليغة له تجسّد الفظائع التي وصفها دانتي في رحلته.
    على أطراف الجحيم توجد منطقة تُعرف بالحدّ، وتمثّل الدائرة الأولى من الجحيم. وقد خصّصها دانتي للأشخاص الذين لم تُكتب لهم النجاة أو الخلاص رغم أنهم لم يرتكبوا خطايا أو ذنوبا.
    والمنطقة توفّر نوعا من "المَخرج" الذي كان شائعا في التديّن المسيحيّ زمن الكاتب. وفي هذه المنطقة حشر دانتي عددا من الأشخاص الذين اسماهم "الفضلاء من غير المسيحيين" أو "الوثنيين الصالحين".
    ومن بين هؤلاء قادة ومفكّرون وفلاسفة من العالم القديم ومن القرون الوسطى، مثل صلاح الدين الأيّوبي وابن سينا وابن رشد. ورغم انه يصف ابن رشد بالحكيم ويثني على تعليقه على أفكار أرسطو، إلا انه يعتبره ممّن ضلّوا سواء السبيل.
    عندما كتب دانتي الكوميديا الإلهية، كان ابن رشد احد أكثر الفلاسفة شهرةً في العالم المسيحيّ خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر. لكن دانتي يسمّيه بـ "المعلّق"، في محاولة للتقليل من شأنه بالتلميح إلى أن دوره لم يتعدَّ التعليق على أفكار أرسطو.
    كان ابن رشد معروفا بمحاولة التوفيق بين فلسفة أرسطو العقلانية وبين المعتقدات الإسلامية والمسيحية. وكان يرى أن الفلسفة والدين يمكن أن يتعايشا جنبا إلى جنب وأنه لا يوجد طريقان مختلفان أمام الفرد للوصول إلى الحقيقة.
    وقد راج هذا الفهم وانتشر في القرن الثالث عشر. لكنه ولّد ردود فعل رافضة في الأوساط المحافظة من المسلمين والمسيحيين واليهود.
    في نفس ذلك الطرف من الجحيم، أي في منطقة الحدّ أو البرزخ الذي يصفه دانتي بـ "المكان الذي يثير الرهبة أكثر من الشهرة"، حشر أيضا مجموعة أخرى من الشعراء والفلاسفة الكلاسيكيين، مثل هوميروس وأوفيد وأفلاطون وسقراط، بالإضافة إلى أرسطو الذي يسمّيه "سيّد أولئك الذين لا يعرفون".
    الشيء المزعج هو أن دانتي لا يتردّد في وضع نفسه مكان الله كقاضٍ، وأحيانا يلعب دور الشاهد والقاضي معا. وهو لا يتساءل إن كان ما يراه أو يتخيّله هو حكم الله أم حكمه هو.
    هناك أيضا شيء مخيف في جحيم دانتي، هو هذا العذاب والألم الذي يخضع له الضحايا والمعذّبون العالقون أمام أعين دانتي ودليله فرجيل. الجثث العارية والمياه القذرة والعذاب الرهيب الذي لا ينجو منه حتى المنتحرين والمزوّرين.
    جحيم دانتي قطعة من العذاب الأبديّ، وكلّ الأشخاص هناك مهزومون ومقهورون كلّ على طريقته. وهو ما يدفع القارئ لأن يتساءل عن أيّ معنى للعدل أو الرحمة.
    ودانتي في نصّه المستفزّ يلعب دور الواعظ، لكنه واعظ شديد القسوة وربّما الساديّة. وهو لا يصوّر الخطايا وإنّما الخطّائين. لكن يبدو أن شكل الجحيم كما يصفه ليس أكثر من انعكاس للمفاهيم اللاهوتية التي كانت سائدة في عصره.
    عندما ينزل دانتي ومرافقه إلى أعماق الجحيم، تصبح ردود أفعاله عدوانية وشامتة. فهو لا يتوانى عن ركل بعض الأرواح المعذّبة بقدمه، بينما يبدي سروره وتلذّذه بالتعذيب الذي يراه يُرتكب ضدّ آخرين. غير أن هذه القسوة لا تمنعه أحيانا من إظهار بعض الشعور بالشفقة وإشراك القارئ معه في هذا الشعور.
    الولوج إلى جحيم دانتي تجربة مؤلمة. لكنّها تعلّمنا كيف أن الخير والشرّ متداخلان، سواءً في أنفسنا أو في الآخرين.
    وربّما أراد دانتي أن يشير إلى انه من الصعب على الإنسان أن يتوصّل إلى أيّ قدر من النقاء الأخلاقي من دون مرشد أو دليل. لكن حتى هذه الفكرة ليست نهائية، بل تحتمل الكثير من الأخذ والردّ.