:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، أغسطس 22، 2013

رينوار: الأعوام الأخيرة

"لا تضع على صدري حجرا ثقيلا. أريد أن اذهب لأتنزّه في الريف لبعض الوقت". كان هذا آخر ما طلبه الرسّام بيير أوغست رينوار من ابنه جان قبيل وفاته.
وعندما توفّي الفنّان في الثالث من ديسمبر عام 1919 نتيجة إصابته بالتهاب رئوي، كانت آخر كلمات قالها وهو يحدّق في لوحة صغيرة تصوّر باقة من شقائق النعمان كان قد انتهى للتوّ من رسمها: الآن بدأت افهم شيئا ما".
قبر رينوار يُميّزه شاهد بسيط من الرخام في مقبرة ايسوا. في هذا المكان، يرقد الرسّام وإلى جواره كلّ من زوجته ألين وأبنائه الثلاثة. القبور بسيطة كبساطة الحياة التي عاشها رينوار وكرّسها كليّا لفنّه ولتصوير السعادة.
وما يزال بالإمكان زيارة ورشته المتواضعة في الجزء الخلفيّ من حديقة منزل العائلة الذي تشغله الآن صوفي رينوار، إحدى حفيداته. المحترف فارغ إلا من كرسيّ وحامل لوحة كان رينوار يستخدمهما عندما أصبح معاقا. ويتفرّع عن الورشة عدّة مسارات كان الفنّان يسلكها، إمّا مشيا على الأقدام أو بالدرّاجة الهوائية، عندما يبحث عن موضوعات ليرسمها.

مناظر رينوار لا تخلو من صور لأطفال وأزهار ونساء يتحمّمن في غابات مضيئة أو أنهار من الفضّة. موهبته المبكّرة أهّلته لحياة مهنية طويلة كانت تتخلّلها فترات مرض، إذ كان يعاني من الروماتيزم الذي منعه من تحقيق ما كان يصبو إليه في نهايات حياته.
تصويره اللذيذ والغنّي بالألوان للرقصات والنزهات والأطفال المبتسمين والوجوه الكاملة والأجساد الممتلئة للنساء كانت تعكس قيم وأفكار الانطباعية في أزهى صورها.

"وصلت إلى طريق مسدود". هكذا اعترف رينوار في عام 1880. "لقد توصّلت أخيرا إلى قناعة بأنني لم اعد استطيع الرسم".
الأعوام العشرة الأخيرة من حياة رينوار لم تكن بلا متاعب. وعلى مدى تلك الفترة، حاول إيجاد اتجاه جديد لفنّه، ووجده أخيرا في المتاحف. تحوّل تدريجيا عن الرسم في الهواء الطلق والملاحظة المباشرة للواقع إلى رسم الموضوعات التقليدية والزخرفية. وعلى خطى ديلاكروا، سافر رينوار إلى الجزائر، ثمّ إلى إيطاليا حيث اكتشف جداريّات رافاييل وعمل على صورة للمؤلّف الموسيقي ريتشارد فاغنر.
ومن خلال مراقبته الدقيقة لأعمال الرسّامين العظام الأوائل، نجح أخيرا في التغلّب على شكوكه. وابتداءً من عام 1890 فصاعدا، تمتّع الرسّام مرّة أخرى بقدر كبير من الاعتراف على الساحة الدولية. وإلى جانب صديقيه مونيه وسيزان، أصبح رينوار مصدرا لإلهام الرسّامين الشباب مثل بيكاسو وبونار وماتيس وموريس دونيه وغيرهم.

وقد وجد في الأساطير اليونانية والمناظر الطبيعية لمقاطعة بروفانس وفي أعمال كبار الرسّامين من القرون السابقة، بما في ذلك تيشيان وروبنز وبوشيه، مصدر إلهام لرسم الأنثى العارية ومشاهد السعادة المنزلية.
وعلى الرغم من أن شهرة رينوار ارتبطت أكثر بفترته الانطباعية، إلا أن هذه الفترة من النضج الفنّي اتسمت هي أيضا بالحرّية الكبيرة في استخدام اللون والموضوع والأسلوب وأنتجت أعمالا ناضجة وجديرة باكتشافها ثانية. صديقه الشاعر غيوم أبولينير كتب قائلا: رينوار ينمو باستمرار. لوحاته الأخيرة هي الأكثر جمالا، بل والأكثر ابتكارا".
لوحته المستحمّات والتي أنجزها عام 1919، أي نفس العام الذي توفّي فيه، اعتبرها تتويجا حقيقيّا لانجازاته. في مقدّمة اللوحة تظهر امرأتان مستلقيتان في الهواء الطلق، بينما تعرضان مفاتنهما على الناظر. الألوان الدافئة تتداخل مع بقع الضوء. وفي الخلفية تظهر ثلاث نساء أخريات وهنّ يمرحن عاريات في الماء. الأشكال الكاملة لأجسادهنّ الضخمة، والطريقة التي يذُبْنَ فيها بانسجام في المنظر الطبيعي يشهدان على براعة رينوار التصويرية. احد النقّاد وصف اللوحة بقوله: انظر إلى الضوء على أشجار الزيتون، انه يبرق مثل الماس. الأزرق والورديّ وانبثاق السماء، الجبال التي هناك والتي تتغيّر مع الغيوم، إنها تشبه إحدى خلفيّات انطوان فاتو".

كان رينوار محاطا بالنساء حتى نهاية حياته. وكان يجد الإشباع المادّي والروحي على حدّ سواء عندما يكون في صحبتهن.
في سنّ الشيخوخة، عندما بدأت الآم التهاب المفاصل تُثقِل عليه، اقترح عليه بعضهم أن يتّخذ خدما من الرجال. لكنه رفض بعناد قائلا: لا أستطيع أن أتسامح مع أيّ شخص باستثناء النساء". كان في منزل رينوار جيش غير تقليديّ من الفتيات الشابّات العاملات اللاتي لازمنه طوال أكثر من ثلاثين عاما.
هذا العدد الكبير من النساء الجميلات من مربّيات وممرّضات وطبّاخات واللاتي وُظفنّ في الأساس لأداء أعمال منزلية، جلسن أو وقفن أمامه كي يرسمهنّ، وبعضهنّ عاريات أحيانا. وكنّ يفعلن هذا عن طيب خاطر وبشكل طبيعي. وعندما تحدّق في صورهنّ، لن ترى أثرا لأيّة أحقاد أو أفكار مزعجة تعكّر صفو وجوههن. كان رينوار يرسمهنّ وكأنهنّ فاكهة أو أزهار من جنّات عدن.

وموديلات رينوار لا يفكّرن. إذ يبدو انه كان مهتمّا أكثر بمادّية الجسد أكثر من الأفكار الميتافيزيقية. وعلى الرغم من انه اعترف بحبّه المتهوّر لشكل الأنثى وكان يفضّله مشعّا وفي كمال نضجه، إلا أن رينوار لم يكن بأيّ حال زير نساء. قال مرّة: اشعر بالأسف على الرجال الذين لا يكفّون عن ملاحقة النساء. هناك رسّامون لا يكملون لوحة واحدة أبدا، لأنهم ينشغلون بمحاولة إغواء موديلاتهنّ بدل رسمهنّ".
لكن هذا لم يكن حال رينوار. لم يكن أبدا شخصا فاجرا أو إباحيّا، وكان يتعامل مع موديلاته بالكثير من الاحترام ويشجّعهنّ على أن يقفن بحرّية دون أن يصرّ على أن يبقين جامدات أو ساكنات.
كان رينوار في الأربعين من عمره عندما أصبح مهجوسا برسم العارية. لوحة فرانسوا بوشيه بعنوان دايانا تخرج من حمّامها كانت اللوحة العارية الأولى التي بهرته واستمرّ يحبّها ويتذكّرها طيلة حياته، تماما كما يتذكّر الإنسان حبّه الأوّل.
كان بوشيه واحدا من أفضل الرسّامين الذين فهموا جسد المرأة. وقد اعتاد على أن يملأ لوحاته بصور لشابّات جميلات ويخصّص الخلفية لمنظر طبيعي مختصر. كان يقول: على المرء أن يشكّ في أن جسد امرأة لا يحتوي على عظام".

كلّ الخادمات في منزل رينوار كنّ يجسّدن مجموعة من السمات الجمالية الواضحة والمحدّدة المعالم: أكتاف منحسرة برقّة، أجساد ثقيلة، نهود صغيرة وصلبة، رؤوس صغيرة ومستديرة، عيون مضيئة وشفاه ممتلئة. ووراء هذه الوجوه المجهولة، غالبا ما يختفي وجه موديل مفضّلة هي غابرييل رونار ابنة عمّ السيّدة ألين رينوار زوجة الرسّام.
نشأت غابرييل أيضا في إيسوا وبدأت خدمتها عند أسرة رينوار عام 1894 عندما كانت في الرابعة عشرة وظلّت مع العائلة حتى عام 1914. كانت مكلّفة بالاهتمام بابن رينوار الأوسط جان، وظهرت في ما بعد في العديد من اللوحات التي رسمها لأطفاله.
ابن الرسّام البكر، بيير، ولد عام 1885 من مصفّفة الشعر الشابّة ألين شاريغو. وقد تزوّجها رينوار بعد ذلك بخمس سنوات، أي في عام 1890، وأنجبا طفلين آخرين هما جان وكلود. زوجته وأطفاله الثلاثة أسهموا جميعا في سعادته وكانوا مصدر إلهام له.
وعلى الرغم من حبّ الفنان لأفراد أسرته، إلا أن أحدا منهم لم يكن مسئولا عن الاهتمام به. كان هذا الدور محفوظا لـ غابرييل. كانت الفتاة الشابّة تلعب بهدوء دور المربّية والموديل. وكان يرسمها إمّا بملابس أو عارية تماما. كما ألهمته رسم مجموعة من لوحات المحظيات المستلقيات.

كان رينوار يستمتع بجعل غابرييل تبدو جميلة، وذلك بتزيينها بالقلادات وبما خفّ وشفّ من الثياب، كما في لوحته غابرييل مع حُليّ (1910)، أو بوضع وردة في شعرها كما في لوحة غابرييل مع زهرة (1911).
وبالنسبة له، كانت هذه السمات والإضافات ترمز لحميمية ودفء شخصية الأنثى. كانت غابرييل مسئولة عن السهر على راحة الرسّام العجوز. وكانت تجهّز له عدّة الرسم قبل أن تضع الفرشاة بين يديه الملفوفتين بالضماد. وابتداءً من عام 1900 فصاعدا، أي عندما استنزف التهاب المفاصل قواه، أصبح رينوار يفضّل البقاء أكثر فأكثر في جنوب فرنسا لأن الشمس القويّة كانت تساعد حالته الصحّية.
في تلك الفترة، أصبح يركّز على رؤية عالم مثاليّ قوامه جذور ثقافة البحر المتوسّط. كان يرى في الإغريق جنسا يستحقّ الإعجاب. حياتهم كانت سعيدة جدّا لدرجة أنهم كانوا يتخيّلون أن الآلهة تأتي إلى الأرض باحثةً عن الجنّة والحبّ. "نعم، كانت الأرض جنّة الآلهة. وهذا ما أريد أن ارسمه".

رينوار، المهجوس بفنّه إلى ما لا نهاية، كان يسعى إلى تجاوز الواقع. وعلى الرغم من إعاقته، إلا انه احتفظ بالسيطرة الكاملة على فنّه وأراد أن يقدّم عالما ينبض بالحياة. وكلّما أصبحت موديلاته اكبر سنّا، كلّما أصبح هو اضعف.
كان يُنتقد على رفضه الأعراف الأكاديمية وعلى إدارته ظهره للبؤس الاجتماعي الذي كان سائدا في نهاية القرن التاسع عشر. أعماله في سنوات عمره المتأخّرة، أي المناظر الطبيعية للبحر المتوسط أو المستحمّات، تميّزت بتفاؤلها وببهرجتها اللونية. ويمكن اعتبارها تكريما لابتهاج الفرنسيين وحبّهم للحياة.

لم يكن رينوار رسّاما شعبويا دائما. صحيح انه كان رائدا للانطباعية، غير أن تجربته الحداثية لم تكن تُقابل دائما باستجابة دافئة. وفي القرن العشرين، أصبح مؤرّخو ونقّاد الفنّ منحازين للفنّ الحديث الذي أدّى إلى ظهور الرسم التجريدي. وقد اعتبر العديد من هؤلاء لوحات رينوار التي رسمها في أواخر حياته، وبالأخص نساءه العاريات، موضة قديمة ولا تمتّ للفنّ الحديث بصلة.
والعديد من هذه اللوحات التي أنجزها في أعوامه الأخيرة تمّ إنزالها إلى غرف التخزين في المتاحف التي كانت تعرضها. في عام 1989، طرح متحف الفنّ الحديث في نيويورك لوحته عارية مستلقية للبيع. وقال أمين المتحف وهو يشير ضمنا إلى أيّ مدى انخفضت شهرة رينوار: هناك أناس كثيرون يرغبون في هذه اللوحة. لكنّها ببساطة لا تنتمي إلى قصّة الفنّ الحديث التي نحاول أن نرويها للناس".
الرسّامة الأمريكية ميري كاسات قالت ذات مرّة عن رينوار انه يرسم صورا لنساء حمراوات ضخمات وبرؤوس صغيرة جدّا. وهذا أكثر الأشياء فظاعة التي يمكن تخيّلها".
لكن في وقت لاحق رأى هنري ماتيس الصور نفسها وقال واصفا إيّاها: هذه هي أجمل الصور التي رُسمت لعاريات". وأضاف: ليس هناك قصّة أكثر نبلا ولا انجازات أكثر روعة من تلك التي لرينوار".

وهناك من النقّاد من يعتبر أن الوقت قد حان لإعادة النظر في تلك الأعمال ومحاولة فهمها وفقا لشروطها وليس بحسب تصنيفات وإملاءات النقّاد الحداثيين.
احد أولئك النقّاد اقترح ذات مرّة على من لا تعجبه لوحات رينوار التي رسمها في أخريات حياته حلا بسيطا: حاول أن تنظر إلى اللوحات بعيون ماتيس الذي كان صديقا حميما لرينوار. لكي ترى رينوار من خلال عيني ماتيس يعني أن تحبّ رينوار العجوز.
أوّلا: تعلّم أن تحبّ أشكاله الناعمة وخطوطه الرفيعة وسيتبيّن لك أن عالم رينوار هو عالم من القطن.
ثانيا: لكي تحبّ ألوان رينوار يجب أن تقبل الأحمر والورديّ باعتبارهما اللونين الرئيسيين في العالم، والأخضر والأزرق الشاحب كلونين أصليين وأوليّين.
ثالثا: لكي تفهم مناظر رينوار الطبيعية يجب أن تدرك انه عاش حياته محاصرا بسبب المرض. في مناظره الطبيعية، أنت إمّا في الداخل، أي في مسرح من الستائر والأزياء والكراسي المنجّدة، أو في الخارج، أي في عالم من مسارات الحصى والجدران الحجرية القديمة وأكداس أوراق الشجر.
رابعا: لكي تحبّ نساء رينوار عليك أن تنسى الجسد كما تعرفه من وسائل الإعلام اليوم وتستشعر جسدا يعتمد على الإحساس والقرب والعلاقة الحميمة.

في أواخر حياته، أراد رينوار إحياء التقاليد الفنّية والحساسيّة العاطفية للعصر الذهبيّ للثقافة الفرنسية في أواخر القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر كما تجسّده أعمال انطوان فاتو وفرانسوا بوشيه. وقد حاول إعادة التأكيد على دور الكلاسيكية الأوروبّية في التعبير الشخصي عن الجمال. وبعد أن تصالح رينوار مع مسألة موته الوشيك، استدعى الموضوعات الكلاسيكية في الرسم والتي تؤكّد على الشباب والمسائل الحسّية وعلى خصوبة الطبيعة وتقديس الحياة العائلية.
وابتداءً من عام 1890 وحتى وفاته، كان رينوار يرسم بتفانٍ لا يعرف الكلل أو الملل. وفي واحدة من أشهر ملاحظاته، أعلن في عام 1913 قائلا: لقد بدأت اعرف أخيرا كيف ارسم. استغرق الأمر منّي عمل أكثر من خمسين عاما كي أصل إلى هنا ومع ذلك لم أنتهِ بعد".

احتضن رينوار المسنّ الحياة بتفانٍ ومثابرة. وفي عام 1898، بدأ يعاني من التهاب المفاصل الروماتويدي ثم لم يلبث أن تعرّض لجلطة دماغية اضطرّته في النهاية إلى استخدام كرسيّ متحرّك. وقد اتبع أوامر طبيبه واستقرّ في جنوب فرنسا. في عام 1907، اشترى مزرعة مساحتها مائة فدّان في الكوت دازور. وهناك خلق لنفسه ولزوجته ولأبنائه الثلاثة ولعدد من المربّيات والخادمات عالما مثاليّا.
وبعد ذلك بعام، زار إيطاليا، حيث أعجب بتقاليد الرسم والتصميم التي تكرّست في الفنّ الإيطالي منذ عصر النهضة. وقد ترك رينوار وراءه تجاربه مع الضوء وغيره من عناصر تحوّل الطبيعة التي ميّزت الكثير من أعماله خلال سنوات الانطباعية وسعى لطلب التوجيه والإلهام من الماضي. ومن الآن فصاعدا، سيركّز على مواضيع الفنّ الكلاسيكي وعلى الرسم بضربات فرشاة سائلة.
احد الأمثلة التي تكشف عن رينوار الكلاسيكي هي لوحته بعنوان امرأة تعزف الغيتار . في مشهد يستحقّ أن يرسمه فاتو، يصوّر رينوار امرأة شابّة مستغرقة في عزف الغيتار. المكان ليس احد عوالم فاتو الأسطورية، بل صالونا معاصرا وضع رينوار عازفته فيه. الصالون لا يميّزه شيء باستثناء وجود المرأة والغيتار المرسوم بمهارة. رينوار يصوّر مشهدا من الانسجام والنشوة الإبداعية في مكان يمكن أن يكون في الشقّة المقابلة بمنزل في نهاية الشارع. وقد وظّف الفنّان في المشهد لمسة شاعرية وفرشاة معلّم قديم.

في لوحة غابرييل وجان، يوازن رينوار بين سلسلة من العناصر بطريقة بارعة. شعر غابرييل الفاحم يتباين مع الشعر الأشقر المجعّد للصغير. إذا كانت غابرييل مسليّة لابنه الصغير، فإن علاقتها مع رينوار تثير بعض القضايا المحيّرة.
منزل رينوار كان سعيدا وشاعريّا تقريبا، في كثير من النواحي. ولكنه كان يتسم بالثبات. جان رينوار ابن الرسّام كتب في مذكّراته أن والده الذي كان يحبّه كثيرا كان يصرّ على أن لا يقصّ شعره إلى أن يذهب إلى المدرسة، ما جعل ابنه نموذجا مثاليا للوحات التي تصوّر فتيات صغيرات يلعبن ويلهين ويمارسن الخياطة.
كلّ أبناء رينوار الثلاثة كان عليهم أن يتحمّلوا كونهم نماذج لوالدهم الذي كان يحاول بعناد إطالة فترة طفولتهم بينما كان هو يتشبّث بالحياة وسط معاناته الشديدة مع المرض. وقد احتفظ بنفوذه العاطفي على غابرييل أيضا، وكانت تلك الخطوة لا تخلو من انعكاسات مزعجة.
في اثنتين من صور غابرييل، يرسمها رينوار من الجذع ومن الكتفين. وكلا اللوحتين تتوافقان مع التقاليد الكلاسيكية عن العارية في الفنّ الأوروبّي. يمكن للمرء أن يطلق بعض التكهّنات السيكولوجية حول علاقة رينوار مع زوجته ألين التي كانت موديله في عام 1880، ولا سيّما في لوحته العظيمة غداء في رحلة بالقارب (1881)، وكذلك حول علاقته مع غابرييل. ولكن ليس هناك أيّة علامة عن أي توتّر في الوضع الداخلي لمنزل رينوار قد يكون ناجما عن اختياره لموديله الجديدة أو طريقته في رسمها.

غير أن ما يبعث على القلق بشأن صور غابرييل هو أنها تبدو وكأن فردانيّتها قد استُنزفت على نحو متزايد. هناك تغيير ضئيل في وجهها وعلامات بسيطة عن آثار العمر أو النموّ الداخلي بعد عام 1894. حيوية وسمات الشخصية الفريدة كما تتضح في صورتها مع جان منعدمة في بورتريهاتها العارية وفي اللوحات الأخرى التي رسمها لها رينوار في وقت لاحق. وفي الواقع، فإن العنوان الذي اختاره للوحته الحسناء الصقلّية ، والتي تظهر فيها غابرييل أيضا، يوحي بأن رينوار كان يرسم امرأة قديمة من البحر المتوسّط وليس فردا من أفراد أسرته أو شخصا له عقل وروح وشخصيّة خاصّة.
لم يكن رينوار بالتأكيد لِيَدَع الأفكار العميقة في النفس البشرية تؤثّر على عمله. في عام 1908، شاطر بعض تأمّلاته في الفنّ مع رسّام أميركي. وهذه التأمّلات تستحقّ أن تُدرس وتُمحّص نظرا للرؤية الكاشفة التي تتضمّنها.
يقول رينوار: أرتّب موضوعي كما أريد، ثم اذهب وأرسمه مثل طفل. أريد أن يكون الأحمر رنّانا ليبدو وكأنّه جرس. وإذا لم يتحوّل بهذه الطريقة، أقوم بإضافة المزيد من الألوان الحمراء أو أيّة ألوان أخرى إلى أن أتمكّن من الحصول عليه. ليس لديّ قواعد وأساليب خاصّة. وأيّ شخص ينظر إلى موادّي أو يشاهد كيف ارسم سيرى أنني لا احتفظ بأيّة أسرار. أنظر إلى امرأة عارية، ويكون هناك عدد كبير من الصبغات الصغيرة. لكن لا بدّ لي من العثور على اللون الذي يجعل الجسد يحيا ويرتعش على قماش الرسم".
هذه المشاعر هي تعبير واضح عن حرص رينوار على حرفته. ومن الصعب رفض هذه الملاحظات ما دام أن الفنّان يتعامل مع موضوعه بإنصاف. لكن عندما يُجرّد الشخص المرسوم من أيّة شرارة فردية، عندها يصبح العمل الفنّي هامدا ومستنزفا وخاليا من أيّ معنى. وبعض النقّاد خلصوا إلى استنتاج مفاده أن موقف رينوار الأبوي تجاه النساء منعه من التعامل معهنّ بوصفهنّ أفرادا من لحم ودم.

من بين أعمال رينوار التي لا يعرفها الكثيرون وليست مشهورة تلك البورتريهات التي رسمها لعدّة نساء بارزات في المشهد الثقافي في بدايات القرن الماضي. ومن بين هؤلاء عازفة البيانو المشهورة ميسيا سيرت، والشاعرة أليس فاليري ميرزباك التي رسمها عام 1913. البورتريه الأخير يصوّر امرأة ذكيّة ومنعّمة مع لمسة من غرور الانتيليجنسيا الفرنسية. في البداية لم يكن رينوار مهتمّا برسم ميرزباك لأنه لم يكن يعرفها كما لم يكن بحاجة إلى المال. لكن فاليري عادت إليه بعد أن ارتدت فستانا جميلا من الساتان الأبيض. وعندما رآها رينوار في الفستان قرّر أن يرسمها. ومن الواضح انه كان مستغرقا في رسم جمال اللباس بينما اكتفى برسم وجه المرأة وملامحها على عجل. ميرزباك ليست بالضبط من تلك النوعية من الأشخاص الذين كان رينوار يبحث عنهم ليرسمهم، ومع ذلك فإنه أعطاها تقريبا المعاملة الفنّية التي تستحقّها.
لوحات رينوار لأمّه ولزوجته ألين ولبعض العاريات وكذلك للمناظر الطبيعية، توفّر جميعها نظرات قريبة من حياة الفنان الداخلية. وعلى الرغم من أنها ليست من بين أفضل أعماله، إلا أن هذه الرسومات تصوّر عالما عاطفيا مملوءا بسكّان أو أشخاص يتمتّعون بجاذبية عظيمة بالنسبة لرجل جاهد وناضل كثيرا لتحقيق النجاح.

أحلام رينوار قد تبدو مروّضة إلى حدّ كبير. بول غوغان واماديو موديلياني، اللذان لا يمكن وصف موقفيهما من المرأة بأنه متحرّر، خلقا هما أيضا عوالم شخصيّة من الجمال الحسّي. لكن الطبيعة "الأركادية" التي تقف فيها عاريات رينوار وتأمّلاتهن الحالمة تخلقان حالة مصطنعة من البراءة المنوّمة.
احد النقّاد كتب يقول: من خلال التعتيم على العلاقة الحقيقية بين الناس والطبقات والجنسين، أعطى رينوار شكلا فانتازيا لفترة نهاية القرن ما يزال رائجا إلى اليوم. كما أن هروب رينوار من الواقع أنتج رؤيا مثالية وأسطورية عن النساء صالحة لكل زمان ومكان".
كان رينوار يستمتع بالموسيقى وكان لديه صوت جميل عندما كان شابّا. وقد اجتذب غناؤه انتباه مدير جوقة الكنيسة شارل غونو ، الذي أصبح فيما بعد موسيقيا مشهورا بعد أن ألّف لحن أوبرا فاوست. وعندما أصبح الرسّام عجوزا ومقيّدا بكرسيّ متحرّك، اُخذ لرؤية الباليه الروسيّ الذي كان عنصرا مثيرا في باريس آنذاك. وقد سُرّ بتلك التجربة كثيرا.

الطبيعة السعيدة لأعمال رينوار المتأخّرة لا تُظهر العذاب الذي كان يعانيه بسبب التهاب المفاصل الذي تسبّب في شلّ يديه تماما في النهاية. في عام 1915، فقد الفنّان زوجته. وبعد ذلك بأربع سنوات، أي في ديسمبر عام 1919، توفّي هو. وخلال زيارته الأخيرة إلى باريس قبيل وفاته، دُعي إلى اللوفر كزائر منفرد، واُخذ من غرفة لأخرى وهو في كرسيّه. وقد شعر بالسرور عندما رأى لوحته الكبيرة مدام شاربونتييه وطفلاها معروضة هناك. وأحسّ بالرضا وهو يرى فنّه يُكرّم في حياته.
كان رينوار قد التقى جورج شاربونتييه في عام 1875، عندما اشترى الأخير واحدة من لوحاته. كان شاربونتييه يعمل في مجال النشر وكانت زوجته سيّدة مجتمع بارزة ولها صالون يزوره الكثير من مشاهير ذلك العصر مثل فيكتور هوغو وفلوبير وكليمنصو ومانيه وديغا وغيرهم.
اختيار مدام شاربونتييه رينوار كي يرسم لها هذه اللوحة الضخمة كان بمثابة نجاح له. وقد تلقّى إشادة كبيرة عندما انتهى من رسمها وكُلّف برسم بورتريه آخر مشابه.
كان رينوار احد أكثر الرسّامين إنتاجا، وخاصّة في العقدين الأخيرين من حياته. كما كان حتّى وفاته نجما عالميّا وربّ عائلة شغوفا بزوجته وأبنائه ورسّاما طليعيّا في حالة انسحاب من العالم الحديث. وربّما يكون هو الرسّام الفرنسيّ الأكثر شعبية بسبب موضوعاته. لوحاته الدافئة والحسّية تعطي انطباعا عن إنسان متفائل كان على علاقة طيّبة مع العالم، وهو عالم لم يكن يرى فيه سوى كلّ شيء خيّر وجميل.