:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، فبراير 23، 2010

جان دارك الانجليزية

في الناشيونال غاليري بـ لندن تسترعي الانتباه، بشكل خاصّ، اللوحة التي رسمها الفنان الفرنسي بول دولاروش عن حادثة إعدام الليدي جين غراي التي اعتلت عرش انجلترا لتسعة أيّام فقط في منتصف القرن السادس عشر. اللوحة ضخمة جدّا، اكبر من أيّ لوحة أخرى في تلك الصالة. وقد لاحظت أن معظم الزوّار التفّوا حول تلك اللوحة بالذات وأخذوا يتأمّلون تفاصيلها باهتمام وصمت.
وأمس تذكّرت اللوحة مجدّدا بينما كنت اقرأ عرضا لكتاب جديد بعنوان الشقيقات اللاتي كنّ سيصبحن ملكات تتناول فيه مؤلّفته لياندا دو ليل جوانب مجهولة من حياة الليدي غراي وطبيعة المناخ السياسي والاجتماعي الذي عاشت فيه.
قصّة الليدي بقيت حيّة في الخيال الشعبي لعدّة أسباب منها لوحة دولاروش التي صوّر فيها المرأة واقفة أمام خشبة الإعدام وهي معصوبة العينين ومرتدية فستانا من الحرير الأبيض.
كان موت جين غراي صدمة للكثيرين في زمانها وقد واجهت قدرها بشجاعة عظيمة رغم سنوات عمرها الغضّ.
غير أن دو ليل ترسم لـ الليدي غراي صورة مختلفة بعض الشيء عن صورة الفتاة الرقيقة والبريئة التي انطبعت في أذهان الناس. فقد كانت "متعصّبة دينيا وصارمة حتى النهاية. ويمكن وصفها بأنها النسخة الانجليزية عن جان دارك".

أصبحت الليدي جين غراي بعد إعدامها رمزا للضحيّة البريئة. كانت فتاة عذراء عندما قُطع رأسها إذ لم تكن قد تجاوزت سنّ السادسة عشرة. مع مرور السنوات أضفي طابع أسطوري على شخصية هذه الفتاة. وقيل إن المصير البائس الذي لاقته كان بسبب ما زُعم عن "مكائد وحيل والدتها الشرّيرة التي ضحّت بابنتها على مذبح طموحاتها وأهوائها الجامحة".
لكن خلف السير الشعبية الكثيرة التي تحدّثت عن الليدي جين غراي تختفي قصص أخرى عن الماسوشية وكراهية النساء.
الليدي غراي نفسها أصبحت رمزا للأنثى العاجزة بينما أصبحت والدتها تجسيدا للاعتقاد الشائع بأن النساء القويّات متوحّشات ومسترجلات. بداية القصّة تقول إن الليدي جين غراي ولدت في العام 1537. كانت ابنة أخت فرانسيس شقيقة الملك هنري الثامن من زوجها هاري غراي ماركيز دورسيت.
كانت ملامح فرانسيس تشبه كثيرا ملامح شقيقها الملك هنري الثامن. كانت امرأة جشعة ومتعطّشة للسلطة كما كانت تعامل زوجها وبناتها بأسلوب استبدادي ومتغطرس.
وقد عاشت جين طفولة تعسة، إذ كانت تتعرّض للضرب بانتظام من قبل والدتها غير المحبّة. وعندما بلغت الخامسة عشرة من عمرها أجبرت على الزواج من نجل إحدى الشخصيّات المقرّبة من الملك.
كانت فرانسيس تعتقد أن ذلك الزواج من شأنه أن يعزّز مكانة جين كوريثة للملك البروتستانتي المحتضر ادوارد السادس.
وقد أوصى ادوارد فعلا بأن ترث جين العرش بدلا من أخته الكاثوليكية ميري. واضطرّت جين لقبول ذلك رغم أنها رفضت المنصب في البداية على أساس أن ميري هي الوريث الشرعي للملك.
وفي العاشر من يوليو 1553 تم تجهيز جين كي تُزف إلى تاور هيل كملكة. كانت ترتدي حذاءً بكعب عال لجعلها تبدو اكبر من عمرها. وبعد تسعة أيّام أطاحت ميري بـ جين وسجنتها في برج لندن. وخلال أيّام تمّت محاكمتها واتهمت بالخيانة العظمى. غير أنها ظلت سجينة البرج على أمل الحصول على عفو نهائي من ميري. لكن فجأة قاد والد زوجها تمرّدا عسكريا فاشلا ضدّ الملكة الجديدة.
ورغم انه لم يكن لـ جين علاقة بالتمرّد، فقد نُفّذ فيها حكم الإعدام بقطع رأسها في الثاني عشر من فبراير عام 1554 وكان عمرها لا يتعدّى السادسة عشرة.
واقعة إعدام الليدي صوّرها دولاروش في لوحته المشهورة التي رسمها عام 1883 والتي تبدو فيها المرأة واقفة على منصّة الإعدام وقد عُصبت عيناها وقُيّدت قدماها.
وعلى ما يبدو، لم تحرّك مشاعر فرانسيس حادثتا إعدام ابنتها وزوجها. كانت تلك المرأة تعيش حياتها من اجل المتعة فقط. فبعد بضعة أشهر تزوّجت من مراهق يدعى ادريان ستوكس.
لكن هل ثمّة دليل واقعي يثبت فعلا أن فرانسيس كانت امرأة متوحّشة ومتبلّدة المشاعر؟
تقول المؤلفة إن الاتهامات التي وُجّهت لها بإساءة معاملة ابنتها بُنيت على قصّة تواترت بعد عقود من إعدام جين. إذ تذكر بعض المصادر أن جين كانت تقرأ لـ أفلاطون باليونانية بينما كان بقيّة أفراد العائلة متواجدين خارج المنزل للصيد. والحقيقة أن جين لم تكن منجذبة للصيد والقمار واللهو وغيرها من الأمور التي كانت تستهوي أبناء وبنات النبلاء عادة. كانت تحبّ القراءة كثيرا، وأفضل لحظاتها كانت تلك التي تقضيها في المطالعة بصحبة معلّمها الطيّب جون ايلمر الذي كان اقرب الناس إليها. كانت تلك اللحظات بمثابة استراحة من المعاملة السيّئة التي كانت تتلقاها من أبويها، وخاصّة من أمّها.
تقول جين في إحدى رسائلها: إن إحدى النعم العظيمة التي منحني إيّاها الله هي انه أرسل إليّ أبوين قاسيين ومعلّما مهذّبا ورحيما".
عندما حضرت الوفاة ادوارد السادس كانت جين قد تلقّت تعليما عاليا ومميّزا. وكانت تشاطر والديها أفكارهما البروتستانتية المتشدّدة. ويذكر معلّمها أنها قبل ظهور بوادر الصراع الذي أدّى إلى مقتلها سبق وأن رفضت هدايا من ميري على أساس أن الأخيرة "عدوّة للدين وضدّ كلمة الله".
بوصفها ملكة، كان على جين غراي أن تمارس سلطتها على الدولة والكنيسة معا. لكن ادوارد كان قد اختارها لخلافته، ليس فقط لأنها كانت بروتستانتية، وإنّما أيضا لأنها كانت تثق في عائلة زوجها. والد زوجها، جون دادلي، كان رئيسا لمجلس الملك. ونظرا إلى أن حكم الإناث كان يعتبر غير طبيعي، فقد كان مفترضا أن زوج جين أو والد زوجها سيتولّى الأمور الفعلية للحكم.
لكن من سوء حظ الليدي أن حبّ ادوارد لعائلة زوجها لم يكن يحظى برضا الشعب. فقد كان جون دادلي، والد زوجها، مكروها من الجميع بل واعتُبر السبب الأوّل وراء السياسات غير الشعبية للحكومة.
ولتخفيف آثار الاستياء الشعبي، حاولت جين بعد تنصيبها ملكة أن تعلن استقلالها عن عائلة دادلي من خلال إصرارها على التوقيع على القرارات بنفسها وتعيين زوجها دوقا وليس ملكا.
لكن رغم هذه الجهود، فإن اقترانها باسم عائلة دادلي أسهم في تدمير قضيّتها وإسقاطها في النهاية.
وهناك روايات معاصرة تسجّل توسّلات فرانسيس إلى ميري المنتصرة، وتذكر في إحداها أنهم كانوا ضحايا عائلة زوج ابنتها وأنها كانت هي شخصيا ضدّ زواج جين. قُرب فرانسيس من ابنتها تؤكّده ملاحظات جين الخاصّة التي تعكس آراء والدتها. وفي إحداها تلقي جين باللوم على والد زوجها الذي جلبت طموحاته عليها وعلى عائلتها المصائب والشقاء.
الآمال المبكّرة في احتمال أن تعفو ميري عن الليدي جين غراي سرعان ما تلاشت بعد أن قاد والد زوجها تمرّدا عسكريا ضدّ الملكة. بعد ذلك اعتبرت ميري أن جين باتت تشكّل عامل تهديد مستمرّ لها فقرّرت التخلّص منها ووقّعت على قرار إعدامها. وقبيل مقتلها مُنحت الليدي فرصة أخيرة لتتخلّى عن أفكارها البروتستانتية وتتحوّل إلى الكاثوليكية. لكنها رفضت ذلك العرض بإصرار.
وقد تزوّجت والدتها بعد ذلك بأشهر من رجل من عامّة الشعب. ويقال أنها تعمّدت أن لا تتزوّج من شخص نبيل في محاولة لحماية ابنتيها الأخريين من عواقب الصراع على السلطة الذي أودى بحياة جين.
لكن كيف بدأت هذه الأسطورة؟ تقول المؤلفة: كانت جين تعرف الضرر الذي لحق بالقضية البروتستانتية نتيجة وصمها بالخيانة العظمى. لذا أعلنت وهي على منصّة الإعدام أنها مذنبة. لكنّها أكّدت على أنها لم تسعَ إلى العرش وإنما قبلته فقط. ومن هذه الحقيقة شاعت وتجذّرت الفكرة التي تتحدّث عن براءتها.
غير أن هناك بعدا جنسيا للقصّة. فلعدّة قرون، شاع اعتقاد بأن النساء في مواقع السلطة يفقدن أنوثتهنّ ويصبحن عاقرات. وهي نظرية تعود إلى اليونان القديمة.
والصفات الرجولية التي خُلعت على والدة جين التي تسلّمت السلطة واقعا كأمّ طُبقت أيضا على الملكة إليزابيث الأولى. فبعد موت الملكة بوقت قصير، راجت شائعة مفادها أن أعضاءها الجنسية كانت مشوّهة. وفي العام 1985 ذهب احد الأطباء ابعد من ذلك عندما زعم بأن إليزابيث كانت رجلا من الناحية الجينية. وهي نظرية دامت زمنا وساعد في انتشارها حقيقة أن إليزابيث كانت تتمتّع بملكات ذهنية غير عادية بالإضافة إلى ما عُرف عنها من قوّة الشخصية والدهاء السياسي.
بعد أشهر من إعدام الليدي جين غراي تزوّجت الملكة ميري الأولى من فيليب ملك اسبانيا وظلّت تحكم انجلترا لمدّة خمس سنوات أعلنت خلالها أن الكاثوليكية هي الديانة الرسمية لانجلترا وأتبعت ذلك بإصدار أحكام بالموت طالت الكثير من البروتستانت.
وبعد ميري جاءت الملكة البروتستانتية إليزابيث الأولى التي أعادت الكنيسة إلى الوضع الذي كانت عليه أيّام هنري الثامن كما أعادت الاعتبار لابنة عمّها الليدي جين غراي باعتبارها شهيدة في سبيل دينها. وعاشت إليزابيث الأولى بعد ذلك لتصبح إحدى أعظم الملكات اللاتي تولّين عرش انجلترا.


Credits
thecollector.com