:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، يوليو 06، 2005

أبو زريق بين أرسطو والدميري

منذ أسابيع كتب زميل موضوعا بأحد منتديات النقاش يعتب فيه على بعض الأعضاء الذين ينقلون بعض المقالات والقصائد الشعرية ويمهرونها بأسمائهم دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء الالتزام بالأمانة العلمية ونسبة ما ينقلونه إلى الكاتب أو الشاعر الأصلي.
وقد لاحظتُ مؤخّرا أن مضمون مدوّنتي الأخرى "لوحات عالمية" ظهر فجأة في بعض المنتديات دون أن يشير ناقلوها ولو بشكل عارض إلى الكاتب الأصلي.
وأذكر أنني قرأت خلال العام الماضي قصيدة شعرية جميلة ذيّلها زميل باسمه. وقد أحسستُ في تلك القصيدة بنَفَس ونكهة الشاعر الكبير احمد مطر، فكتبتُ تعقيبا أشدتُ فيه بالقصيدة وسألتُ الزميل إن كان هو كاتبها أم أنها لشاعر آخر. لكنه فضل التزام الصمت ربّما تحرّجا أو قد يكون احتجاجا منه على محاولتي التشكيك في موهبته الشعرية واستكثاري عليه أن يأتي بمثل ذلك الشعر الجميل.
وأتذكّر، للمناسبة، أن الدكتور زكي نجيب محمود كتب ذات مرّة مقالا طريفا عن موضوع السرقات الأدبية اعتمادا على خطاب قديم كان قد تلقاه من كاتب مجهول يتحدّث فيه عن طائر يُسمّى "أبو زريق" يقول عنه الدميري انه طائر على قدر اليمامة، حادّ البصر، يشبه صوته صوت الجمل، ومأواه قرب الأنهار والأماكن الكثيرة المياه الملتفة الأشجار، وله لون حسن وتدبير في معاشه.
ويروي الدميري كذلك نقلا عن أرسطو في هذا الطائر انه ربّما "أفصح بالأصوات كالقمري، وأبهم كحمحمة الفرس". لكن الذي لم يذكره الدميري ولا أرسطو عن أبي زريق هذا هو انه ينهب حصاد غيره، فغيره يعمل وهو الذي يحصد.
فأبو زريق يريد، مثلا، أن يضع البيض فلا يهتمّ ببناء العشّ الذي يبيض فيه، وينتظر ويرقب الطيور الجادّة العاملة حتى إذا ما وجد طائرا منها قد فرغ لتوّه من إقامة عشّه بين أغصان الشجر، انتهز صاحبنا فرصة غيابه سويعةً وقفز إلى العشّ الجاهز ورقد فيه ليبيض.
فإذا كان في عالم الطير ما يشبه الإقطاع في عالم البشر، والكلام ما يزال للكاتب المجهول، كان أبو زريق هذا ابشع إقطاعي عرفناه. ومن هو الإقطاعي في دنيا الزراعة؟ أليس هو الذي يدع الفلاحين يشقون بحرث الأرض وزرعها وريّها حتى إذا ما جاء وقت الحصاد كان الحصاد حصاده هو دون أن يمسك بيده فأسا ليحرث ولا أن يدير الطنبور ليروي.
هكذا يفعل أبو زريق في عالم الطير. وهكذا أيضا يفعل بعض الناس في دنيا الكتابة والتأليف. إنهم في هذه الدنيا هم "الباشاوات" الذين لا يلوّثون أصابعهم بالحبر والطباشير، لكن عيونهم لا تغفل عما ينتجه من لوّثوا أصابعهم. إنهم يراقبونهم إلى أن يفرغوا من بناء ما يبنونه فيضعون اللافتات التي تحمل أسماءهم على الباب.
إن من حقّ كلّ كاتب أن يسعى إلى تجويد أسلوبه والتميّز على أقرانه، وهذا كله من قبيل الطموح المشروع والمرغوب فيه. ولا مانع طبعا من اقتباس بعض ما يُكتب أو يُنشر هنا أو هناك. لكن الأمانة العلمية تقتضي من كلّ كاتب أن ينسب ما نقل أو اقتبس إلى صاحبه الأصلي، لكي لا تنطبق عليه أمثولة ذلك الطائر الانتهازي العجيب الذي يسطو على عشّ غيره ليرقد فيه ويضع بيضه دون أن يرفّ له جفن..

الاثنين، يوليو 04، 2005

أساطير الحشّاشين

هذا كتاب فريد من نوعه يقدّم تاريخا مختصرا ومستفزا للإسماعيلية النزارية. وهي فرقة شيعية مهمّة يعود ارتباطها في المخيّلة الثقافية الغربية إلى الحملة الصليبية الأولى في القرن التاسع عشر.
ومن خلال تعقّب التحوّلات في العلاقة بين المسلمين السنّة والإسماعيلية والغرب المسيحي عبر ثمانية قرون من الروابط البينية الثقافية والصراعية، يرسم مؤلّف الكتاب البروفيسور فرهاد دفتري مسار نشوء وتطوّر سلسلة من الأساطير "السوداء" التي كوّنت الملامح السياسية النمطية للمجتمعات الإسماعيلية المسلمة في بلاد فارس وسوريا. ويستعرض المؤلّف محطّات لتاريخ ملئ بالتشويه والغموض ويبحث في العوامل التي أدّت إلى تلفيق تراث من الرعب والإرهاب وربطه، بطريقة متعسّفة، بطائفة مسلمة يمثل أتباعها اليوم حوالي عشر سكّان العالم الإسلامي البالغ تعدادهم زهاء المليار إنسان.
ويعلق دفتري على كلام المستشرق برنارد لويس عن قلعة الموت والحشيش فيقول: إن الفكرة العامّة عن النزارية باعتبارهم مجتمعا من القتلة تتنافى مع ثقافتهم الغنيّة والمتسمة بالتعدّدية في القيم والمعارف. ويضيف: إن مصدر التشويه الذي ُينظر من خلاله للإسماعيلية يُعزى أولا إلى كتابات المسلمين السنّة الذين يمثلون الأغلبية. فقد ساعدت الحرب الأيديولوجية التي شنّها العبّاسيون السنّة ضدّ الشيعة الفاطميين على إنتاج عدد ضخم من الدراسات والكتب التي ألف بعضها كتّاب مثل نظام الملك والغزالي اللذين سعيا مع آخرين إلى تصوير الإسماعيليين باعتبارهم زنادقة وقتلة مجرمين ومدمنين على الحشيش ومتآمرين على الإسلام.
ومن خلال مزج الحقائق بالأساطير، ساعد أولئك الكتّاب على صياغة خرافة عاشت زمنا طويلا. والأمر المؤكّد هو أن زعماء الإسماعيلية في كلّ من إيران وسوريا كانوا يرسلون متطوّعين منضبطين ومدرّبين جيّدا يسمّون بالفدائيين هدفهم التخلّص من أعدائهم وهم في غالبيتهم من السنّة. ولعلّ هذا هو السبب في أنهم لم يكسبوا ودّ الكثير من المؤرّخين والكتّاب. لكن ما يفسّر خلفية ذلك العداء بوضوح هو حقيقة أن معظم أهداف الفدائيين كانوا من الزعامات الدينية والسياسية السنّية. فالمذابح السنّية ضدّ مجتمعات بأسرها من الإسماعيلية لم يساعد كثيرا في حلحلة الأمور وإنما عقّدها أكثر.
لكن من هم الحشّاشون؟!
في محاولة للإجابة على هذا السؤال يقدّم البروفيسور دفتري أوّلا تاريخا مختصرا للإسماعيلية يبدأ مع انقسام الإسلام ثم ما تبعه من تأسيس لفكر التشيّع وبعد ذلك تعزيز الفكرة الشيعية باعتبارها حركة ديناميكية ذات أيديولوجيا محدّدة وواضحة المعالم. ثم يقدّم المؤلف شرحا مفصّلا عن بدايات ظهور الإسماعيلية حوالي منتصف القرن الثامن باعتبارها مجتمعا وثقافة شيعية متمايزة. ومن خلال التاريخ الدامي من القمع والاضطهاد الذي تعرّض له الإسماعيليون على أيدي السنة، يتمكّن الإسماعيلية مرّتين من تأسيس دولة خاصّة بهم تمثلت في الخلافة الفاطمية (910 – 1170). وقد اتخذت تلك الدولة من مصر مقرّا لها وتوسّعت لتكون امبراطورية إسماعيلية ضمّت شمال أفريقيا وصقلية ومصر وساحل أفريقيا واليمن والحجاز ومكة والمدينة وسوريا وفلسطين. والدولة الثانية هي دولة الإسماعيلية النزارية في شمال إيران.
يقول دفتري: في عام 1094 انقسمت الحركة الإسماعيلية التي سبق وان تمتعت بالوحدة خلال الحقبة الفاطمية إلى فرعين رئيسيين: النزارية والمستعلية. وفي 1097 أي بعد 7 سنوات من وصول الحملة الصليبية الأولى إلى بلاد المشرق، استولى الحسن الصبّاح، وهو فارسي إسماعيلي ولد لعائلة اثني عشرية في الأصل، على قلعة الموت بمساعدة مجموعة من مؤيّديه المتحمّسين وشيّد هناك عددا من المعاقل الجبلية الحصينة في شمال فارس وجنوبي خراسان. وفي الحقيقة كان الصبّاح يؤسّس دولة إسماعيلية نزارية.
والمعروف أن نزار كان وليّا لعهد الدولة الفاطمية قبل أن تتمّ الإطاحة به في انقلاب للقصر ومن ثم إعدامه في سنة 1095م. بعد ذلك الانقسام تمركزت الإسماعيلية المستعلية في القاهرة بينما توجّه النزارية بقيادة الحسن الصبّاح إلى إيران وسوريا وعزّزوا مواقعهم هناك.
وتحت قيادة الصبّاح تطوّر النزارية بسرعة إلى مجتمع منظم جدّا وعلى درجة عالية من التكتم والانضباط. وشكّل الفدائيون طليعة النخبة، وإلى هؤلاء يُعزى الفضل في الإطاحة بالحكم العبّاسي المستبد ومن ثم بالسلاجقة الذين جاءوا بعده.
والحقيقة أن النزارية لم يكونوا طائفة متشدّدة على الإطلاق. فاهتمامهم النشط بالثقافات المختلفة وبالعلوم الإسلامية يفسّر السبب في أن كثيرا من العلماء، سنّة واثني عشرية وحتى يهودا، اهتمّوا كثيرا بما كانت تحويه المكتبات النزارية من نفائس الكتب والعلوم واستفادوا من رعاية النزارية للعلم والعلماء. بل إن بعضهم، كالفيلسوف والفقيه والفلكي المشهور نصير الدين الطوسي (1201-74)، تحوّل إلى المذهب الإسماعيلي.
ويعيد دفتري إلى الأذهان كيف أن الإسماعيلية ابتكروا واستغلوا نظما هندسية غاية في التطوّر والإبداع في بناء المساجد والمكتبات الكبرى في سوريا وإيران وغيرها من بلاد الشرق.
وعلى عكس ما كتبه برنارد لويس، يرى دفتري أن الإسماعيلية النزارية لم يكونوا يمارسون إرهابا بالمعنى المتعارف عليه وإنما نوعا من حرب العصابات شديدة التنظيم والفاعلية وظفوها ضدّ أعدائهم، أي العباسيين والسلاجقة، الذين كانوا يفوقونهم عددا وعدّة. واستخدموا تلك التكتيكات في ميادين القتال ومن خلال الأساليب السرّية كالتجسّس والتسلّل وأخيرا الاغتيال.
ولم يكن النزارية أوّل من ابتدع سياسة اغتيال الخصوم السياسيين في المجتمع الإسلامي كما يشيع بعض المؤرّخين. كما أنهم لم يكونوا آخر فئة تلجأ إلى مثل تلك السياسة. لكنهم ربطوا مفهوم الاغتيال بالظروف والعوامل السياسية.
وعندما لجأ النزارية إلى التحصّن في ذلك المكان المنيع المسمّى قلعة الموت فإنهم تمكّنوا، ليس فقط من النجاة بأنفسهم والخلاص من قرون طويلة من الاضطهاد والقمع، وإنما التحصّن أيضا من مؤامرات أعدائهم من العبّاسيين والسلاجقة الأتراك وكذلك اتقاء خطر الصليبيين ومن بعدهم المغول الذين لم ينهوا فقط الإسماعيلية كهويّة سياسية مهمّة وإنما قاموا بإبادة المجتمع النزاري الفارسي عن آخره.
ثم يتطرّق المؤلف إلى بعض الأسباب الأخرى التي أدّت إلى تشويه سمعة الإسماعيلية والى تكريس الصورة النمطية السيّئة عنهم على مرّ القرون. فيشير إلى ندرة النصوص والكتب والمخطوطات الإسماعيلية في أعقاب التدمير المتكرّر لمكتباتهم الضخمة. كما أن الإسماعيلية أنفسهم يتحمّلون، هم أيضا، جزءا من المسئولية عن طغيان تلك الصورة السلبية عنهم من خلال سياسة التكتّم والحذر والغموض الذي يحيطون به أنفسهم.
ثم يتحوّل المؤلف للحديث عن أسطورة الحسن الصبّاح وظروف نشأتها وأسباب رواجها في أوساط الناس فيقول: ليس ثمّة حاجة لأن نشير إلى أن أسطورة شيخ الجبل العجوز تمّ تضخيمها والنفخ فيها كي تخدم أغراضا سياسية وحزبية معيّنة. فالمؤرّخون الأوربيون، مثلا، استخدموا الصورة وبالغوا في تضخيمها بالنظر إلى أن الإسماعيلية لعبوا دورا مهمّا في مناهضة الحملات الصليبية والتصدّي لها. ومن ثمّ لا بأس من اختراع صورة شيخ عجوز على قدر من الوحشية والديماغوغية يرهب الغرب وحلفاءه ويغرّر بقومه من خلال إرسالهم لارتكاب أعمال عنف وإرهاب واغتيال. وهي صورة ما تزال تتكرّر اليوم عبر تمظهرات عديدة ومختلفة.
ويخلص المؤلف إلى القول إن ثقافة القيم الراديكالية التي ترتكز على مبدأ التضحية بالنفس الذي كان الدافع المحرّك للفدائيين ما يزال هو الأساس الذي يستند إليه العديد من المستشرقين والمؤرّخين في الغرب والشرق في تصويرهم للشخصية الشيعية.
كتاب دفتري يبرز إلى الواجهة قضيّة بالغة الأهمّية تتمحور حول السؤال التالي: كيف أمكن لمجموعة من القصص الخيالية والتهيؤات المغرضة والممارسات الدعائية المحضة أن تصبح تاريخا "مشروعا" يحظى بالصدقية والموثوقية لمجرّد أن أعدادا من الناس دأبوا على ترديدها كسلسلة من القصص الغامضة التي يتسم بها خطاب السلطة. وعندما يتلبّس الخيال ثوب الحقيقة لزمن طويل بفضل التراث المتراكم والمتصل من جيل لجيل ومن ثقافة لثقافة، فإن هذا يجب أن يلفت انتباهنا إلى أن دراستنا للتاريخ يجب أن تكون محكومة بالتحليل والفهم والغوص في كنه الظواهر والأحداث وعدم الاكتفاء بالتسليم بكلّ ما يقال لنا أو يتلى علينا باعتباره حقيقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
كتاب فرهاد دفتري مهمّ وفريد في موضوعه. والنتيجة التي ينتهي إليها الكاتب في بحثه هي أن أساطير الحشّاشين لم تكن في الواقع أكثر من مجموعة من الخرافات العبثية والسخيفة وأنها نتاج للخيال الجاهل أو المتحامل أو العدائي.
- مترجم