:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، أكتوبر 17، 2023

محطّات


  • "القرمزيّ" كلمة شديدة الخشونة ومزخرفة كثيرا. إذا استخدمها كاتب ما فهذا يعني أنه يميل الى استخدام صيغ التفضيل. لكنّ العديد من الكتّاب يستخدمونها ثم لا يلبثون أن يضغطوا بتكاسل على زرّ الحذف ويلغونها.
    كلمة "قرمزيّ" المستخدمة اليوم لا بدّ أن تثير الشكوك: لماذا اختار هذا الكاتب أو ذاك هذه الكلمة غير الجديرة بالثقة؟ وما الذي يختبئ خلف المخمل الرثّ والمكسّر لتلك الستارة القرمزية؟
    "القرمزي" واحدة من أقلّ الكلمات المفضّلة لدى الكثيرين. منها تفوح رائحة أسوأ عادات الكتّاب. وهي كلمة صُنعت بدقّة لتتولّى كافّة الأعباء الثقيلة بالنيابة عنك. وبالنسبة للأذن الحديثة، لا يزال صوتها فخماً، لكن معناها فاحش.
    وفي الوقت الحاضر لا تجد الكثير من الكلمات المجوّفة إلى هذا الحدّ. ورغم هذا ما تزال قيد الاستخدام بشكل نشط. ودلالاتها السابقة، أي الفخامة والرفاهية والتمجيد، أصبحت الآن مغلّفة بالسخرية.
    في عصر الأصباغ الاصطناعية الرخيصة، ننسى أن مصطلحات اللون متجذّرة في المواد الترابية باهظة الثمن. كلمة "قرمزي" مشتقّة من القرمزcrimson، وهو مصطلح يشمل عدّة أنواع من الحشرات التي تُلتقط وتُجفّف وتُطحن لإنتاج أصباغ حمراء باهظة الثمن.
    إحدى هذه الحشرات، وتُدعى دم القدّيس يوحنّا، تعيش بشكل طفيليّ على النباتات الصلبة. ولحصد ما لا يقلّ عن أربعين حشرة في كلّ ساق، يجب اقتلاع كلّ نبات من جذوره وتنظيفه وتجريده من الحشرات. كما يجب جمعها بأعداد مذهلة لإنتاج مادّة صبغية ذات تأثير لونيّ أخّاذ: 70.000 لكلّ رطل.
    ومع ذلك، وبحلول خمسينيات القرن التاسع عشر، تجاوز الإنتاج العالمي مليوني رطل سنويّاً، قبل أن ينخفض الرقم بشكل حادّ مع اختراع الأصباغ الاصطناعية في عام 1856. واليوم، لا يزال القرمز الحقيقيّ يلطّخ باللون الأحمر العديد من الأطعمة والمشروبات ومستحضرات التجميل. وكلّ هذه الأشياء وغيرها مطليّة على الأرجح بجوهر الحشرات المقطّر.

  • معظم الفلاسفة يناقشون الأفكار، لكنّهم لا يعطون قرّاءهم أيّة مفاتيح لعيش حياة أفضل. لكن من المفاهيم الفلسفية السهلة والعملية التي يمكن تطبيقها في حياتنا المفهوم الياباني المسمّى بوكيتو Boketto. ويعني فنّ التحديق في الفراغ بلا تفكير ودون فعل شيء.
    أي أن تتوقّف عن التفكير وأن تستمتع بوجودك في المكان والزمان. أي أن تكون دون أن تحاول أن تكون. أن تندمج في الكون دون أن تحاول التأثير فيه. أي أن تراقب السماء وشكل الغيوم وتساقط أوراق الشجر وتتأمّل جمال الشجر وألوان الأزهار. أي أنك لا تحاول حتى أن تفكّر. فقط تنظر.
    وإذا كنت تستطيع الوصول إلى البحر، فإن ممارسة البوكيتو أمام البحر سيكون عملا مميّزا. غروب الشمس أو شروق الشمس هي لحظة أخرى تكون فيها ممارسة هذه الرياضة الذهنية مفيدة.
    والبوكيتو يتطلّب شيئا واحدا فقط: التنفّس.
    توقّف عن أيّ شيء آخر، انفصل عن العالم، كن حاضرا جسدا وغائبا عقلا.
    البوكيتو ليس تأمّلا، لأنك لا تحاول التركيز على تنفّسك ولا على إحساس معيّن. إنه يعني عدم المحاولة. أي ألا تحاول فعل شيء.


  • قلّة هم الكتّاب العظماء الذين لم يكن لديهم شغف - قلّ أو كثُر - بالنجوم. ولم تكن فيرجينيا وولف، أحد أكثر العقول تألّقا في القرن الماضي، استثناءً. كتبت ذات مرّة: خلف الصوف القطنيّ يختبئ نمط". وطبعت هذه الفكرة كتبها وحياتها بشعور من التناغم الضمني مع الواقع والاقتناع بوجود آليّة خفيّة تحكم الكون. لذلك لم يكن غريبا أن تصبح النجوم وسماء الليل من بين هواجسها الكثيرة.
    تلقّت وولف تعليمها في المنزل، محاطةً بكُتُب والدها الذي كان رجل أدب وصاحب مكتبة ضخمة. وكان في مجموعته عدد هائل من المجلّدات عن العلوم والجيولوجيا والتاريخ الطبيعيّ وعلم الفلك (أي العلوم التي كانت هواجس العقل الفيكتوري). وكان على وولف الشابّة أن تتعرّف على حركات الكواكب ودورات القمر والمسافات بين النجوم ومقاييس الزمان والمكان التي ستشغل عقلها بقيّة حياتها.
    كان للعائلة منزل ريفيّ على ساحل كورنوول، حيث أيقظت السماء المرصّعة بالنجوم والأقمار حسّاً فانتازيّا في عقلها الصغير. وظهرت هذه الانطباعات في المناظر الطبيعية الليلية الموصوفة في إحدى أهمّ رواياتها، وهي "إلى المنارة".
    ومنذ صغرها، أقامت وولف تلسكوباً في المنزل الصيفي، وواكبت الاكتشافات الفلكية واكتشافات هابل وآينشتاين. كما استعانت بكتب علم الفلك في ذلك الوقت، ومن بينها كتاب جيمس جينز الأكثر مبيعا "الكون الغامض". وانعكس هذا في جميع كتبها تقريبا، ولكن بشكل خاصّ في كتابي "الأمواج" و"السنوات".
    لقد فهمت وولف جيّدا لغز وجمال الفضاء الخارجيّ والمجرّات. وكتبت ذات مرّة في مقال بعنوان "الجسر الضيّق للفنون" تقول: عمر الأرض ثلاثة بلايين عام، وحياة الإنسان لا تدوم سوى ثانية. وفي هذا الجوّ المشحون بالشكّ والصراع يتعيّن على الكتّاب أن ينتجوا!". كان الأمر كما لو أن الكون وأرقامه دعاها إلى الكتابة، لتترك إرثا على هذا الكوكب الصغير، في زاوية من مجرّة واحدة صغيرة.
    في عام 1927، شهدت وولف كسوفا كليّا للشمس، وهي فرصة لا تتكرّر إلا مرّة واحدة في العمر "لن يحدث الكسوف التالي الا عام 1999". وقد وصفت الحدث بدقّة في مذكّراتها وتحدّثت عن عدم انتظام سطح الشمس والمرور الدراماتيكي من الضوء إلى الظلام والعودة مرّة أخرى إلى النور.
    كانت التلسكوبات قد أخذت تنتشر تدريجيّا في جميع أنحاء أوروبّا. وكانت هذه الأجهزة موضع هوس وولف. وقبل أن تمتلك تلسكوبها الخاصّ، كانت تقضي ليالي كاملة في تعقّب النجوم مع أعضاء مجموعة بلومزبري. وأدّى ذلك إلى ظهور قصّتها القصيرة "البحث عن الضوء"، حيث يستخدم شابّ تلسكوبا لرؤية النجوم اوّلا، ثم للتجسّس على فتاة. وأخذت كائنات الفتنة هذه، أي التلسكوبات، تظهر بشكل متكرّر في كتابات وولف، وتحديدا في ما لا يقلّ عن ستّ من رواياتها التسع، وكذلك في العديد من المقالات والقصص القصيرة.
    وبالنسبة لحساسية وولف الفريدة، قدّمت السماء الليلية لمحات من جوهر العالم، ذلك الشيء المسمّى أحيانا بـ"بالواقع". وكانت هذه الرؤى تتجاوز الجمال. وقد وصفت هذا في نثرها الواضح والمذهل الذي نشرته في إحدى المجلات الصادرة عام 1926 عندما كتبت:
    " في داخلي باحث لا يهدأ. لماذا لا يوجد اكتشاف في الحياة؟ شيء يمكن للمرء أن يمسكه ويقول: هذا هو! الاكتئاب الذي أعانيه هو شعور بالضيق. وأنا أبحث، لكن هذا ليس كلّ شيء. هل سأموت قبل أن أجده؟ ثم أرى الجبال في السماء والغيوم العظيمة والقمر المرتفع فوق بلاد فارس، فيتشكّل لديّ إحساس رائع ومدهش عن شيء ما هناك. ولا أعني الجمال بالضبط. إنه شيء كافٍ ومُرضٍ في حدّ ذاته".

  • Credits
    suite101.com