:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، نوفمبر 10، 2017

ناسج الأحلام


أينما نظرت في لوحات هنري ماتيس ستجد أنسجة وأقمشة وأنماطا من كلّ شكل ولون. كان يحيط نفسه بكلّ شيء: أزهار ونباتات حيّة، اسماك في أحواض، عصافير في أقفاص، بلاط مزخرف وأواني وأشكال جبسية مختلفة وأقمشة ونُسُج ومطرّزات من مختلف الأنماط والأشكال والألوان.
وقد جمع الرسّام كلّ هذه الأشياء خلال أسفاره العديدة وكان يحتفظ بها باعتبارها موارد مفيدة ولا غنى عنها لمكتبته البصرية. ثم وجدت طريقها إلى لوحاته ورسوماته التي يتداخل في نسيجها السجّاد والقماش الفاخر من كلّ شكل ولون.
كان رسّامون مثل فان غوخ وسيزان وفويار يستخدمون الأنماط والأنسجة الورقية والإيقاعية في لوحاتهم لتكثيف الإحساس الذي تمنحه صورهم للناظر. لكن ماتيس ذهب خطوة ابعد بإعادة إنتاج الأنسجة الناعمة والألوان البديعة للحرير والقطن والمخمل والتافتا والتطريز بطريقة لم يسبقه إليها احد.
لكن من أين جاء عشقه للأقمشة وألوانها وأنماطها المختلفة؟
ولد ماتيس ونشأ في بلدة في شمال فرنسا ملاصقة للحدود مع بلجيكا. وكانت البلدة مشهورة بصناعتها للأقمشة الفاخرة التي كانت تعتمد عليها شركات صنع الملابس في فرنسا.
وعائلة والده كانوا من النسّاجين. ومن هنا على الأرجح ولد حبّه للأقمشة. غير أن أهل بلدته لم يكونوا يهتمّون بالفنّ خارج صناعة النسيج. كانوا ينظرون إلى حرفتهم كمصدر للرزق فقط ولم يكونوا يعتبرون الأقمشة ذات صلة بالفنّ.
في سنّ العشرين، انتقل ماتيس إلى باريس. وفي مرحلة تالية استقرّ في جنوب فرنسا التي أحبّ ألوانها الساطعة ومناخها الدافئ.
وفي لوحاته الكثيرة التي رسمها طوال فترة اشتغاله بالرسم يمكنك أن تلاحظ استخدامه الوفير للأنسجة والتصاميم المختلفة. كما انه كان أيضا شديد الاهتمام بالموضة وبصناعة الأزياء في باريس. وكان يحتفظ على الدوام بمجموعة خاصّة من الملابس والأنسجة والإكسسوارات التي وجدها في الكثير من الأمكنة التي ذهب إليها.
والعديد من لوحاته تُظهر كيف كان ماتيس يوظّف تصاميم الأقمشة فيها. مثلا لوحته بعنوان حياة ساكنة مع سجّادة حمراء هي في الأساس عن الأقمشة وألوانها وأنماطها الزخرفية المتنوّعة.

ولوحته بعنوان شال مانيللا تُظهر ولعه بالملابس ذات الألوان القشيبة التي طالما جمعها. المرأة في هذه اللوحة تبدو كما لو أنها تستعرض ملابسها ذات الأنماط الزهرية والخضراء والحمراء والبنّية الجميلة.
أما لوحته بعنوان البلوزة الرومانية الخضراء فهي عن اللون الأخضر أكثر من كونها عن المرأة التي تظهر فيها. ومع ذلك بإمكانك أن تعرف أشياء عن شخصية هذه المرأة من الاسكتش البسيط الذي رسمه ماتيس لوجهها ولطريقة جلوسها.
وفي لوحة أخرى بعنوان ديكور وأزهار وطائرا ببّغاء صغيران ، يملأ الفنّان فراغ اللوحة بالأقمشة والأشكال المختلفة متذكّرا رحلته التي قام بها إلى المغرب عام 1912. غطاء المائدة الأصفر تستقرّ عليه ليمونتان وكوب شاي ومزهرية.
وفي نهاية المائدة قفص مذهّب بداخله طائرا ببّغاء بلون اخضر وأصفر. أيضا هناك الأنماط الجميلة على الأرضية والباب والجدار الخلفي. الأقمشة الكثيرة في هذه اللوحة تجسّد ذوق ماتيس في التصميم الداخليّ. والألوان الساطعة فيها هي أيضا تذكير بحبّه لمنطقة جنوب فرنسا.
وفي لوحته جارية جالسة مع خلفية زخرفية ، نرى الأقمشة والأشكال المختلفة تملأ الغرفة بالألوان. الأنماط على الجدار الخلفيّ تتناغم مع الأشكال الظاهرة على فستان المرأة، بينما الأشكال على الصحن والكأس تتوافق مع الأنماط الظاهرة عند قدميها. وإلمام ماتيس بهذه الأنماط لم يتحقّق إلا بعد زيارته إلى المغرب.
في لوحته ديكور مع كلب ، نرى المزيد من الأنماط التعبيرية والألوان القويّة التي تحمل سمات ألوان الرسّام من المرحلة الوحوشية. الأشكال البسيطة لخلفية اللافندر الرائعة تبرز منها أشكال مبسّطة لأوراق خضراء، وفرشاة الفنّان تضفي على المنظر مزيدا من الحيوية والتناغم.
وفي لوحة رداء ارجواني مع شقائق النعمان ، يبرهن ماتيس مرّة أخرى على براعته في استخدام الألوان والأنماط. الخطوط المرسومة على الرداء الأرجوانيّ تضاهي ديكور الجدار الفضّيّ والبرتقاليّ في الخلفية. وهذه الموجات اللونية الناعمة تتجانب معا في مقابل الخطوط السوداء والرمادية القويّة على الجدار وعلى الأرضية.
وفي لوحة حياة ساكنة: باقة ورد وطبق فاكهة ، يرسم ماتيس باقة ورد ناعمة من الألوان الأصفر والمشمشيّ والزهريّ. وبنفس النعومة يرسم الأشكال السوداء على ورق الحائط وعلى أنماط الأزهار على المائدة. واللافت أن الرسّام ضمّن المنظر طبق فاكهة مع حمضيات، في ما يبدو وكأنه إشادة بزميله الحداثيّ الآخر بول سيزان.

عندما انتقل ماتيس إلى نيس حوّل محترفه إلى ما يشبه المسرح الصغير. ولطالما ألبس عارضاته الفساتين وأغطية الرأس العربية وبناطيل الحريم والثياب المغربية المقصّبة ذات الأزرار الصغيرة.
وكان يُجلسهنّ في دواوين مليئة بالسجّاد والأرائك والطاولات ذات الأنسجة المشرقية الجميلة، مع مشربيات وستائر مصرية يمكن تمييزها من ألوانها الخضراء والحمراء الغميقة. وفي بعض لوحاته الأخرى، نقل صورا لأقمشة أخرى من رومانيا وطنجة وإيران والجزائر وتركيا وغيرها.
لوحته بعنوان قماش مائدة ازرق تصوّر حياة ساكنة تقليدية مع إبريق قهوة وطبق فاكهة. لكن أهمّ تفصيل فيها هو قماش المائدة الذي كان من ضمن أشيائه الخاصّة، وهو عبارة عن قطعة من الحرير الفرنسيّ يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر وتتميّز بلونها الأزرق مع موتيف متكرّر عبارة عن سلّة أزهار. خلفية القماش في اللوحة تصبح خضراء بلون البحر وكأن اللوحة بأكملها هي عبارة عن قطعة قماش.
وبقدر ما رسم ماتيس من أشياء فإنه أيضا كان يرسم مناظر. ونحن نرى الأنماط والألوان والأقمشة والتطريز كصفات للأشياء التي كان يرسمها وللوحة نفسها، كما لو انه كان يتعامل مع أكثر من واقع بنفس الوقت.
لوحات ماتيس هذه التي تحتشد بالأقمشة والنسيج والأنماط والألوان الزاهية ترسم صورة لرجل كان في حالة سلام مع العالم من حوله ومع نفسه. وصور الرسّام الفوتوغرافية الموجودة على الانترنت يظهر فيها بهيئة رجل مهذّب ذي لحية بيضاء يجلس وسط الحمام والقطط في غرفة مليئة بالضوء وعلى جدرانها صور لنقوش وأنماط جميلة.
لكن هذه الصورة لا تعكس طبيعة ماتيس بالضرورة. فقد كان إنسانا عصبيّا وعرضة للمرض بشكل دائم. لكن يبدو أن فنّه المتفرّد كان ثمرة للمتعة التي كان يشعر بها وهو ينظر إلى الجانب المشرق من الحياة، وفي نفس الوقت كان انعكاسا لاحتفائه الذي لم تكن تحدّه حدود بالضوء واللون والجسد والشكل وبتفاصيل الحياة بشكل عام.

Credits
henrimatisse.org
artdaily.com

الاثنين، نوفمبر 06، 2017

بيتهوفن: سيمفونية الرُّعاة

السيمفونية السادسة، أو سيمفونية الرُّعاة كما تُسمّى أحيانا، هي إحدى تحف لودفيغ فان بيتهوفن الكبيرة. وفيها يرسم صورة للطبيعة، وفي نفس الوقت يصف مشاعر الإنسان تجاهها.
كان بيتهوفن عاشقا كبيرا للطبيعة، وقد استلهم أجواء هذه السيمفونية من مشاوير مَشيِهِ المنتظمة في الريف المحيط بفيينا. وكان من عادته أن يحمل معه دائما كرّاسا يدوّن فيه كلّ ما يخطر على باله من أفكار ومشاعر أثناء المشي.
وقد كتب ذات مرّة في مفكّرته يقول: كم أشعر بالسعادة وأنا أمشي بين الأشجار والغابات والصخور والأرض العشبية. الغابات والأشجار والجبال تمنح الإنسان الإحساس بالصدى الذي يحتاجه".
وفي الحقيقة، لم يكن بيتهوفن أوّل من صّور الطبيعة بطريقة سيمفونية. فقد كانت فكرة الريف والمراعي موجودة في الموسيقى منذ زمن طويل قبله. وكان هناك العديد من الأعمال الموسيقية التي تصف الرعاة والعواصف وغناء العصافير وغيرها من مظاهر الطبيعة.
وسيمفونية الرُّعاة لا تحكي قصّة فحسب، بل تعكس أيضا مجموعة من الصور للطبيعة والفلاحين الذين يؤدّون أعمالهم بمتعة وفرح، وتعبّر عن مزيج من المشاعر التي يُظهرها الناس عادة عندما يذهبون إلى الريف.
وقبل تقديم السيمفونية للجمهور، كتب بيتهوفن يقول إن الأمر متروك للسامع كي يشكّل انطباعه عنها، وأن أيّ شخص لديه فكرة عن الحياة في الريف لا يحتاج لعناوين أو شروح لتخيّل نوايا المؤلّف".
لكن لكي يقرّب فكرة السيمفونية أكثر من ذهن السامع، كتب على صفحة العنوان عبارة: تذكير بالحياة الريفية". ثم كتب تحتها ملاحظة تقول: هذا العمل هو تعبير عن المشاعر أكثر من كونه تصويرا لها". غير أن سيمفونية الرُّعاة تتضمّن في الحقيقة عددا من صور الطبيعة، كما سيتبيّن في ما بعد.
وقد بدأ بيتهوفن كتابتها عام 1802 وانتهى منها في عام 1808. وأوّل حفل قُدّمت فيه كان أعظم حدث موسيقيّ في حياته. كانت حفلة استثنائية تضمّنت أكثر من أربع ساعات من موسيقى بيتهوفن الجديدة.
فبالإضافة إلى سيمفونية الرُّعاة، عُزفت أيضا السيمفونية الخامسة لأوّل مرّة، بالإضافة إلى كونشيرتو جديد للبيانو. ويُفترَض أن الجمهور وقتها كان في غاية السعادة. لكن الحال لم تكن كذلك تماما. كان الأمر يشبه أن تجد أمامك عددا من الأطباق اللذيذة ثم تحتار في أيّها ينبغي أن تتناول. كما أن المسرح الذي عُزفت فيه هذه الأعمال في فيينا كان متجمّدا من شدّة البرد.
ولأن العازفين لم يتدرّبوا على العزف بما فيه الكفاية، فقد كان أداء الاوركسترا رديئا. لذا يمكن القول أن بداية سيمفونية الرُّعاة لم تكون واعدة، ولم تحظَ بالكثير من ثناء النقّاد بعد حفلها الأوّل. لكن بعد وقت قصير، أصبحت تتمتّع بشعبية جماهيرية واسعة وما تزال كذلك إلى اليوم.
وسيمفونية الرُّعاة كانت النقيض التامّ للسيمفونية الخامسة، فلكلّ منهما شخصيّتها الخاصّة والمختلفة كليّا عن الأخرى. في الأولى أجواء تبعث على التفاؤل والاسترخاء والسعادة، وفي الثانية دراما قويّة وطاقة مكثّفة وأنغام متوتّرة.
وكان عزف هذين العملين معا نوعا من المغامرة دلّل على انه ليس هناك بيتهوفن واحد فقط، وأن لديه القابلية والقدرة على أن يطلق لمخيّلته العنان كي تتدفّق وتطير.
سيمفونية الرُّعاة مليئة بأصوات الطبيعة والأنغام الفولكلورية البسيطة وبالشعور بالجمال، كما أن فيها الكثير من التكرار بدلا من تنامي الأنغام. لكنها أيضا تتضمّن عنصرا عاطفيا يعكس مشاعر البشر تجاه عالم الطبيعة.


وقد كسر بيتهوفن التقاليد السيمفونية بإضافته حركة خامسة بدلا من الاكتفاء بأربع حركات فقط كما جرت العادة. وأعطى لكلّ حركة اسما فرعيا يشرح وظيفتها أو الغرض منها. كما حرص على أن تكون الحركات الثلاث الأخيرة مترابطة ودون توقّف.
  • الحركة الأولى (الليغرو) تصوّر شعور بيتهوفن عندما يصل إلى الريف، من خلال افتتاحية دافئة، أثيرية وموقظة للمشاعر. وهذا أمر غير مألوف في التلحين السيمفونيّ، إذ أن الحركة الأولى من أيّ سيمفونية تكون عادةً ممتلئة بالدراما والأحداث وليس بالتأمّل الهادئ. وهذه الحركة تنقل انطباع المؤلّف بينما يراقب الطبيعة وهي تتغيّر ببطء مع تغيّر الأضواء والألوان والظلال .
  • الحركة الثانية (أندانتي) تصوّر منظرا لجدول ماء. في البداية تعزف الآلات الوترية أنغاما تحاكي منظر تدفّق الماء وأصوات العصافير. هنا يمكنك أن تستنشق هواء الريف المنعش وتستمع إلى جريان مياه الجدول الرقراقة. يقول بيتهوفن: كلّما كان هناك ماء كثير، كلّما كانت الألحان أعمق".
    وعندما نقترب من نهاية هذه الحركة، نسمع المزيد من أصوات الطيور. وقد حدّدها بيتهوفن على أنها بلابل "وعبّر عنها بالفلوت"، وطيور سلوى "وعبّر عنها بالأوبو"، وطيور وقواق "وعبّر عنها بآلتي كلارينيت".
    منذ البداية، أراد بيتهوفن أن يضمّن هذا العمل أمزجة وانطباعات شتى يعبّر عنها بالنغم واللون. ويقال أن هذه الحركة هي إحدى أفضل وأجمل ما كتبه من موسيقى.
  • الحركة الثالثة (الليغرو) تصوّر اجتماعا لمجموعة من أهل الريف السعداء. ويمكن أن نتخيّل أصواتهم المرحة وهم يحتفلون ويرقصون بسعادة. ولأن هؤلاء أناس بسطاء بطبيعتهم، فإن الموسيقى نفسها بسيطة، لكنها مليئة بالنشاط والحيوية.
  • الحركة الرابعة (الليغرو 2) وتصوّر عاصفة رعدية. والموسيقى منذ البداية توحي بأن ثمّة حدثاً على وشك أن يقع. وهو يأخذ شكل عاصفة رعدية بدأت نذرها تتجمّع في الأفق. وبيتهوفن في هذه الحركة يصوّر البرق والرعد والرياح العاتية. لكن هناك ما هو أكثر، وهو الإحساس بخوف الإنسان وعجزه أمام قوى الطبيعة الجبّارة.
    والعاصفة تتشكّل من بضع قطرات من المطر، ثم تصل إلى ذروتها مع أصوات الرعد والبرق والرياح القويّة المصحوبة بأمطار غزيرة. وفي النهاية تسكن العاصفة، لكن ما يزال بالإمكان سماع أصوات الرعد من مسافة بعيدة.
    وبعد ذلك نلاحظ تحوّلا يمهّد لبداية الحركة الأخيرة، إذ عندما تهدأ العاصفة، تخرج جميع الكائنات الحيّة إلى السطح لتأخذ مكانها من جديد في دورة الطبيعة. ويعبّر عن هذا مجموعة من آلات الفلوت التي تشبه أنغامها منظر شروق الشمس.
    ويقال بالمناسبة أن أعنف عاصفة رعدية في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية هي المتضمّنة في هذه الحركة من سيمفونية الرُّعاة.
  • الحركة الخامسة (الليغريتو) يصوّر فيها بيتهوفن بطريقة جميلة مشاعر الفرح والامتنان للربّ على انتهاء العاصفة التي تلاشى خطرها الآن ليحلّ مكانها إحساس عامّ بالارتياح.
    وبعد قليل تصبح الموسيقى أسرع وأكثر إثارة للابتهاج. والحركة الأخيرة في عمومها مشيّدة كـ "سوناتا" بعناصر "روندو". وهي تعكس منظرا ريفيّا ساكنا يذكّر برعاة أركاديا بملابسهم الحريرية وأحذيتهم المقوّسة وأغنامهم المزيّنة بأشرطة ملوّنة.
    ومع انتهاء هذه الحركة، تصل سيمفونية الرُّعاة إلى خاتمتها.

  • Credits
    classicfm.com