لست من الذين يقلقون بشأن كلّ شيء. مثل هؤلاء تجدهم حولك وفي كلّ مكان. يتجوّلون في البلاد طوال اليوم، في كلّ دقيقة من اليوم. قلقون بشأن كلّ شيء. قلقون بشأن الهواء، بشأن الماء، بشأن التربة، قلقون بشأن المبيدات الحشرية والمُضافات الغذائية والموادّ المسرطِنة.
أكثر من 90 بالمائة من جميع الأنواع التي عاشت على هذا الكوكب انقرضت. لم نقضِ عليها نحن، بل اختفت فحسب. هذا ما تفعله الطبيعة. ويوميّا يختفي 25 نوعا. أعني أنه بغضّ النظر عن سلوكنا وكيفية تصرّفنا على هذا الكوكب، فإن 25 نوعا موجودة اليوم ستختفي غدا. دعوها ترحل بسلام. دعوا الطبيعة وشأنها.
"أنقذوا الأشجار، أنقذوا النحل، أنقذوا الحيتان، أنقذوا المسامير"! ماذا؟ هل يخدعنا هؤلاء الملاعين؟ إنقاذ الكوكب؟! لا نعرف حتى كيف نعتني بأنفسنا. لم نتعلّم كيف نهتم ببعضنا البعض، فهل سننقذ الكوكب اللعين؟!
لقد سئمت من هذا الهراء، سئمت من يوم الأرض اللعين، سئمت من هؤلاء المدافعين عن البيئة المتغطرسين، هؤلاء الليبراليين البرجوازيين البيض!
لا يوجد أيّ عيب في الكوكب. الكوكب بخير. بالمقارنة مع البشر، الكوكب بخير. لقد كان هنا منذ أربعة مليارات ونصف المليار سنة. ونحن هنا ما بين مائة ألف ومائتي ألف سنة. ولم ننخرط في الصناعات الثقيلة إلا منذ ما يزيد قليلا عن مائتي عام. مئتا عام، مقابل أربعة مليارات ونصف المليار عام. ومع ذلك يسيطر علينا الغرور لنعتقد أننا نشكّل تهديدا لهذه الكرة الصغيرة الجميلة الزرقاء والخضراء.
هل تريد أن تعرف كيف حال الكوكب؟ اسأل سكّان بومبي الذين تجمّدوا في أماكنهم بسبب الرماد البركاني، كيف حال الكوكب. واسأل سكّان مكسيكو سيتي أو أرمينيا أو ١٠٠ مكان آخر مدفون تحت آلاف الأطنان من أنقاض الزلازل، إن كانوا يشعرون بأنهم يشكّلون تهديدا للكوكب هذا الأسبوع. وماذا عن سكّان كيلاويا في هاواي، الذين يبنون منازلهم بجوار بركان نشط، ثم يتساءلون عن سبب وجود حمم بركانية في غرف معيشتهم؟!
سيبقى الكوكب هنا لفترة طويلة جدّا بعد رحيلنا، وسيشفي نفسه بنفسه. سيطهّر نفسه، لأن هذا هو ما يفعله. جورج كارلِن
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
بعض الناس يعتبرون ثقافة العطور ثقافة تافهة وبلا روح وليست أكثر من مجرّد آلية سهلة للرأسمالية لجذب المستهلكين من الشباب. ومع ذلك فالعطر في النهاية شأن شخصي كالملابس أو المجوهرات، لأنك تضعه والآخرون يشمّونه عليك، وبالتالي فهو جزء من كيفية تقديم أنفسنا للعالم. وبعض قصص العطور لا تخلو من ذوق وفنّ وطموح وإبداع.
في مستهلّ عشرينات القرن الماضي، حدث لقاء بالصدفة بين غابرييل شانيل وصديقها ديمتري رومانوف ابن عمّ القيصر الروسي نيكولا الثاني وإرنست بو الكيميائي وصانع العطور المقرّب كثيرا من بلاط سانت بطرسبورغ. وبدأ الثلاثة رحلة إلى الريفييرا الفرنسية، كلّفت خلالها غابرييل شانيل إرنست بو بمشروعها الجديد، وطلبت منه صنع "عطر نسائي لا مثيل له".
وعبّر بو عن عزمه على صنع رائحة تبتعد عن العطور النموذجية آنذاك التي كانت مستوحاة غالبا من جوهر زهرة واحدة. كانت كوكو شانيل تتطلّع إلى عطر جريء وفريد من نوعه وقادر على استحضار جوهر الأنوثة.
وفي عام 1921، كانت تستعدّ لتقديم منتجها الجديد لقلّة مختارة في شقّتها في أحد شوارع باريس. وكان المنتج مختلفا كليّا عن المنتجات المعتادة من دار شانيل أو المتوافرة بالفعل في السوق. كان منتجا مبتكرا وغير تقليدي مثل صانعته، وكان من شأنه أن يغيّر قواعد اللعبة إلى الأبد. وسُجّل في التاريخ باسم "عطر شانيل رقم 5".
الكيميائي الذي ركّب العطر زعم أنه استوحى فكرته من "النسيم المنعش الرائع الذي تبعثه البحيرات والأنهار تحت شمس منتصف الليل". وعندما اختبرت كوكو شانيل التركيبة الأولى من العطر، كلّفت الكيميائي بابتكار شيء أكثر جرأة وبإضافة مكوّنات أخرى مثل جوهر الياسمين وورد مايو ونجيل الهند الهايتي وخشب الصندل وزهر البرتقال وزيت النيرولي العطري وفول التونكا البرازيلي. وبالتالي، جُمع أكثر من ثمانين مكوّنا مختلفا، ما جعل شانيل رقم 5 فريدا من نوعه ولا يشبه أيّ منتج آخر في السوق في غموضه وفي استحالة فكّ شفرته.
وقد أصبح هذا العطر رمزا للقرن العشرين، ليس فقط بسبب تركيبته الطليعية، ولكن أيضا لتصميمه المميّز: زجاجة سميكة وشفّافة تسمح برؤية اللون الذهبي للعطر وملصق أبيض مربّع بأحرف سوداء وطباعة أنيقة وخالية من الزخارف. وكان هذا متعارضا مع قواعد الموضة في ذلك الوقت، حيث كانت زجاجات العطور عادةً فخمة وبرّاقة ومزخرفة بشكل زائد عن اللزوم.
كما صُمّمت السدّادة على شكل ماسة، وهو تفصيل مستوحى من ساحة باريسية مشهورة تبعد بضع دقائق فقط مشيا على الأقدام عن مقرّ دار شانيل آنذاك. وقرّرت غابرييل شانيل أن تطلق على العطر هذا الاسم لأنها اختارت إطلاقه في الأسواق في الخامس من مايو 1921، أي خامس يوم من الشهر الخامس من ذلك العام.
وقد اختُبر العطر من قبل عملاء المجتمع الراقي وأفراد من دائرة المصمّم. وبيع حصريا داخل متجر شانيل. ويُعزى نجاحه الأوّلي إلى المديح الشفهي المؤثّر.
وفي عام 1924، ارتفع الطلب عليه كثيرا لدرجة أنه اتُخذ قرار بالتحوّل إلى الإنتاج الصناعي. وفي العقود التالية، نشأ صراع قويّ بين المصمّم والشركة، إذ وجدت غابرييل شانيل نفسها تحصل على نسبة منخفضة جدّا من الأرباح التي يدرّها منتجها وحرّية محدودة في اتخاذ القرار.
كان التأثير الحاسم الذي جعل شانيل رقم 5 أحد أكثر الأشياء رمزيةً في الثقافة الشعبية في القرن العشرين هو المقابلة التي أُجريت مع مارلين مونرو عام 1952. وقد أجابت الممثّلة عن السؤال المشئوم: ماذا تضعين وأنت في السرير؟ فقالت: ماذا أضع في السرير؟! يا له من سؤال! شانيل رقم 5 بالطبع".
منذ ذلك الوقت، استعانت شانيل بالعديد من الوجوه الشهيرة لحملاتها الاعلانية. ومنذ عام 1959، عُرض العطر في متحف الفنّ الحديث في نيويورك. ثم ضمّنه الفنّان آندي وارهول فيما بعد في بعض لوحاته الشهيرة. كما أُعلن عن العطر في بعض المناسبات الرياضية.
وهكذا أصبح عطر شانيل رقم 5، الذي ابتُكر عام 1921، وما يزال حتى يومنا هذا بعد أكثر من قرن من ظهوره، العطر الأكثر مبيعا في التاريخ. وحقيقة أنه بيعت منه أكثر من 100 مليون زجاجة هي شهادة على قصّة امرأة شجاعة تمكّنت، في عالم يهيمن عليه الرجال، من النضال من أجل أفكارها ورؤيتها الخاصّة وامتلكت الجرأة لاتّباع شغفها ومعرفة متى تُبحر ضدّ التيّار. مونيكا سبراندو
❉ ❉ ❉
في أذهان معظم الناس، لا بدّ أن تكون حياة الكاتب ساحرة ومثيرة. وهي كذلك في بعض الأحيان. فكثيرا ما يلتقي الكاتب بأشخاص مميّزين، ويزور أماكن آسرة، ويفعل أشياء رائعة. لكن لا شيء من هذا يحدث عندما يكون منهمكا في عمله. عندما يكتب، يكون الكاتب أقرب إلى شخص عاديّ. يجلس، لا يقوم حتى بوظيفة الضغط على أزرار لوحة المفاتيح في معظم الأوقات، لأنه خلال معظم وقت الجلوس يكون النشاط داخليّا بالكامل، وبالتالي غير مرئي.
دعونا نتأمّل الأرقام: أيّ كاتب سريع البديهة يستطيع كتابة 75 كلمة في الدقيقة. إذا كتبتَ بهذا المعدّل من التاسعة إلى الخامسة يوميا، مع استراحة غداء وراحة لعشر دقائق في نهاية كلّ ساعة لتدريب أصابعك، فستنتج ما يعادل روايتين من 75 ألف كلمة كلّ أسبوع.
ومن الحقائق الملاحظة أن الكتّاب لا ينتجون عادةً روايتين أسبوعيا. بل إن معظمهم لا ينتج حتى روايتين سنويا. لذا، يتضح أن الكتابة ليست مجرّد تدوين الكلمات على الورق، بل هي نشاط آخر مختلف. واسم هذه العملية هو "التفكير".
تكمن مشكلة مهنة تقضي فيها 95 بالمائة من وقت عملك في التفكير في أنك لا تبدو في الـ 95 بالمائة من الوقت كأنك تعمل، أو حتى تفكّر. ما يفعله الكاتب، عموما، هو مشاهدة التلفاز أو اللعب أو أخذ قيلولة. كان لديّ صديق أو اثنان من غير الكتّاب، أثارت كتابتي فضولهما لدرجة أنهما طلبا مني أن يرياني وأنا أكتب. وبعد عشر أو خمس عشرة دقيقة، هربا إلى غرفة أخرى. وللأسف، يصل الملل بالكاتب أيضا لدرجة يصبح تدوين الكلمات على الورق اختبارا لقوّة الإرادة في مواجهة الملل المزمن. ولهذا يقال إن الكتابة هي فنّ تطبيق التخمين على الواقع.
الكتابة هي العمل الوحيد الذي أعرف أن زوجتك ستلحّ عليك لتركه. لماذا لا تفعل؟ ها أنت ذا، مستلقيا على أريكة غرفة المعيشة، تعيد قراءة قسم العقارات في الصحيفة اليومية، مع أنك لا تملك أيّ عقارات، كما أن فرص امتلاكها ضئيلة. في هذه الأثناء، غسّالة الأطباق بحاجة إلى إصلاح. كيف لزوجتك أن تعلم أنها إذا قاطعتك الآن، ستُفقدك سلسلة أفكارك التي استغرقت منك أربع ساعات لبنائها؟
الجانب الآخر من الأمر هو أن زوجتك أحيانا تكون على حق وأنت تتسكّع فحسب. ببساطة، لا توجد طريقة خارجية لمعرفة متى يعمل الكاتب، وربّما حتى الكاتب نفسه لا يعلم. و. جونز
في كتابه بعنوان "نيتشه: حياة حرجة"، يتناول رونالد هايمان حلما رآه الفيلسوف الألماني في منامه في وقت مبكّر من حياته. وينقل عن نيتشه قوله: سمعت موسيقى الكنيسة تعزف في جنازة. وعندما نظرت لأتحقّق مما يحدث، رأيت قبرا ينفتح فجأة ويخرج منه والدي المتوفّى ملفوفاً في كفن. ثم سارع أبي إلى الكنيسة وعاد ومعه طفل صغير يُمسك به من ذراعه.
رأى نيتشه ذلك الحلم في الخامسة من عمره، في نهاية يناير عام 1850، بعد ستّة أشهر من وفاة والده، القسّ اللوثري، من مرض لِين الدماغ المزمن والمؤلم. ويستمرّ نيتشه في وصف ما حدث: في الصباح أخبرت امّي عن الحلم. وبعد فترة وجيزة، مرض شقيقي الصغير جوزيف فجأة وعانى من تشنّجات قوية ومات خلال بضع ساعات."
هذا الحلم، وغيره من أحلام نيتشه التي يرويها هايمان في كتابه، سبقت ظهور فلسفة نيتشه بسنوات. وهو يعبّر عن تقدير عميق للقوّة المرعبة للا وعي والشعور المأساوي بالمصير والموت والانفتاح على رؤى من مصادر المعرفة "غير العقلانية".
ويتحدّث هايمان عن كيف شكّلت تجارب نيتشه المبكّرة مع الأحلام الوقود الذي فجّر إبداعه الفلسفي فيما بعد. في عام 1870، وكأستاذ في جامعة بازل، كتب نيتشه في دفتر ملاحظاته بعض الأفكار عن الأحلام: في نصف الوجود، نحن –كحالمين- فنّانون. وهذا العالم النشط ضروري لنا".
وكانت تلك الملاحظات بمثابة أساس لأوّل كتبه المنشورة "ولادة المأساة" (1871). القسم الافتتاحي من هذا الكتاب يقدّم فهما للفنّ والفلسفة والتاريخ، وكيف تؤثّر في القوّة الإبداعية للأحلام.
كتاب هايمان ليس المكان المناسب لاستكشاف تأثير الأحلام على "ولادة المأساة" وغيره من مؤلّفات نيتشه التي كتبها فيما بعد. لكن لا بدّ من الإشارة إلى أن كلّاً من سيغموند فرويد وكارل يونغ كانا على علم بفلسفة نيتشه، وقد نسجا أفكاره مباشرة في نظرياتهما النفسية الجديدة. وإذا كنت تريد أن تفهم فرويد ويونغ بشكل أفضل، فعُد إلى نيتشه وأحلام طفولته.
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
يُعَدّ ميلتون ايڤري (1885-1965)، رمزا مهمّا في الفنّ الأمريكي. وقد عُرف بموهبته الاستثنائية في الألوان وبساطة أسلوبه. وهو أيضا مثال يُحتذى في بداياته المتأخّرة. لوحات ايڤري تؤثّر عليك بطرق غامضة. في بعضها، خفّف الألوان الزيتية إلى قوام شفّاف كالألوان المائية، بحيث ينساب اللون على السطح في بقع عائمة. وأحيانا كان يخطّ على اللون شقوقا أفقية تشبه بطريقة ما أوراق شجرة خريفية بلون الصدأ. وأحيانا تمتزج ضربات فرشاة أحد الألوان بضربات لون آخر، محدثةً رعشة خفيفة وبريقا داخليّا.
والشاطئ بالنسبة لـ ايڤري أشبه ما يكون بلوحة قماش. فجميع الأشكال والمناشف وكراسي الاسترخاء مرتّبة كأشكال تجريدية على رمال متعدّدة الألوان. وفي النهاية، تتلاشى هذه الأشكال تماما ويصبح شاطئ البحر راية من أشرطة أفقية صفراء وزرقاء وبرتقالية مشعّة. وليس من الصعب إيجاد تشابه في هذه اللوحات مع مستطيلات روثكو المفعمة بالبهجة.
لكن ايڤري لم يخترع شيئا لم يرَه. فمهما كانت لوحاته على حافّة التجريد، فهي دائما مجازية: أصدقاء يقرأون، يتحدّثون، يأكلون الخ. كانت شقّته دائما ما تعجّ بزملائه الرسّامين، مع أنه يقال إنه كان يجلس بهدوء بعيدا عنهم مع دفتر رسمه.
وقد غادر الفنّان وعائلته أمريكا مرّة واحدة فقط، لزيارة أوروبّا عام ١٩٥٢. واللوحات التي استلهمها من تلك الرحلة تتماوج ألوانها الهادئة من البنفسجي والرمادي والأخضر الباهت وتتوازن أشكالها في تركيبات غاية في الأناقة.
كان ايڤري يردّد دائما: لماذا تتحدّث وأنت قادر على الرسم؟" وتبدو هذه العبارة أشبه بسخرية عابرة وطريقة ذكيّة لإسكات الحضور. كان يؤمن بأن لوحاته تعبّر عن كلّ ما يحتاج إلى قوله، وانتهى الأمر.
تاريخ الفنّ عبارة عن ساحة معركة بين الأساليب والتيّارات المختلفة. وقد انعكس هذا في فنّ القرن العشرين، من حيث اللون والحجم والعمق والإيهام والسرد، وأصبح فنّا أدبيّا بقدر ما هو جمالي. أما الأسلوب المقابل فيقوم على اللون، كما أنه روحاني بطريقة مختلفة ومتجذّر مباشرةً في الرمزية والحسّ المتزامن وفنّ تسعينات القرن التاسع عشر. هنا تسود وحدة الرسم ويتفوّق التناغم المتداخل بين الشكل واللون على الموضوع. واللوحة نفسها تصبح الموضوع. وكرسّام ألوان، أثبت ايڤري أنه شخصية محورية في فنّ القرن العشرين.
في عام ١٩٢٦، انتقل الرسّام إلى مجمّع فنّي في مانهاتن. وكان مارسيل دوشامب وفرانسيس بيكابيا من بين الزوّار المألوفين للمبنى. هنا كان ايڤري يجهّز لوحاته بنفسه ويتعلّم تخفيف أصباغه. وقيل إنه كانت لديه قدرة على جعل الطلاء يدوم لفترة أطول من أيّ شخص آخر. وقد رحّب ايڤري وعائلته بانتظام بفنّانين آخرين في شقّتهم، بمن فيهم روثكو. كان الأخير أصغر منه بـ 18 عاما، وقد استلهم من أعمال ايڤري مباشرة في أعماله.
وبينما كان روثكو يتحدّث طوال الليل، كان ميلتون يستمع ويرسم ضيوفه. لكنه كان أكثر ثرثرة عندما كان يقرأ بصوت عال. وكان هذا أسلوب عائلته الترفيهي الشائع. وكانت قائمة قراءاتهم تشمل أعمال ميلفيل وبروست وثورو وستيفنز وإليوت.
ولم يكن من عادة ايڤري أن يناقش أعماله، لكن النقّاد لم يتردّدوا في الحديث عنها. وقد تزايد الحديث عن اسمه في الصحف بدءا من أواخر الخمسينات وحتى وفاته عام ١٩٦٥. وبالنسبة للذين كانوا ينتظرون منه "شيئا كبيرا قادما"، كان ايڤري منفصلا عن الواقع بشكل مزمن. وقد وصل إلى نيويورك بما يمكن تسميته بـ "أسلوب أوروبّي للحداثة" أشبه بـ"ما بعد الانطباعية" الممزوجة بمدرسة نهر هدسون.
وفي مطلع القرن الماضي، أصبح ايڤري ملوِّنا عندما كان القليلون يرغبون في الألوان. وفي الثلاثينات، صار انطباعيا ضبابيّا عندما كان العالم يبحث عن تفاصيل دقيقة. وفي الخمسينات، كان تجسيديا عندما كان التجريد الشامل هو الموضة السائدة.
كتب صحفي آنذاك واصفاً عمله: إنه ثمرة موهبة رائعة وطبيعية وإن لم يكن من السهل تعريفها. إنه شاعر وملوّن ومزخرف، وهو متميّز جدّا في كلّ هذه التنويعات. ومع ذلك أفترض أن كونه شاعرا سيكون في النهاية أقوى ادّعاءاته".
وكتب آخر: إن تمسّك ايفري، موسما بعد موسم، بنظرياته الغامضة، أو المزعجة بعض الشيء، حول الرسم، يُشعر المرء بأنه صادق تماما. ولا بدّ أن هذه الأشكال الغريبة، والمرعبة أحيانا، في أعماله تحمل في طيّاتها شيئا واضحا بالنسبة له".
لكن الضرر الحقيقيّ الذي لحق بصورة ايڤري جاء من مقارنته بماتيس. فقد اعتبره العديد من النقّاد نسخة أخرى من المعلّم الفرنسي. وكان على دراية بماتيس بالتأكيد. وكتب أحد النقّاد يقول: لقد أراد ماتيس أن يصنع فنّا مريحا كالكرسي المريح، وقد نجح في ذلك. أما ماتيس الأمريكي "يقصد ايڤري" فإن فنّه أقرب إلى السباحة في المحيط قبالة ولاية مين".
❉ ❉ ❉
اقتباسات...
كالصيادلة، نحضّر خلطات جديدة كلّ يوم، نسكب من إناء إلى آخر. وكما نهبَ الرومان القدماء جميع مدن العالم ليشيّدوا "روماهم"، ننتزع نحن صفوة عقول الآخرين ونقطف أزهار حدائقهم المزروعة لنشيّد مزارعنا العقيمة. ما زلنا ننسج الشبكة نفسها، ونعيد لفّ الخيط نفسه مرارا وتكرارا. ر. بيرتون
يموت بعض الناس في سنّ الخامسة والعشرين ولا يُدفنون إلا في الخامسة والسبعين. بنجامين فرانكلين
يتحدّث بعض الناس عن الهجرة والنزوح وما إلى ذلك. وكلّ هذا هراء. كلّنا بشر، كلّنا ثدييات، كلّنا صخور ونباتات وأنهار. الحدود اللعينة مصدر إزعاج كبير. مجهول
لا ينبغي لأحد أن يكون مجنونا لدرجة اختيار الحرب في زمن السلم. ففي أوقات السلم، يدفن الأبناء آباءهم، أما في الحرب، فيدفن الآباء أبناءهم. هيرودوت
الحياة ليست أمراً سهلاً. لا يمكنك أن تعيشها دون أن تقع في الإحباط والسخرية، إلا إذا كانت أمامك فكرة عظيمة ترفعك فوق البؤس الشخصي وفوق الضعف وفوق كلّ أنواع الغدر والدناءة. ليون تروتسكي
يمكن لكلّ شخص أن يخلق هدوءه الخاص بشروطه الخاصّة، بعيدا عن تدخّل الكون بأكمله. ما زال الأمر لا يعني لي شيئا أن الأرض والنظام الشمسي يندفعان عبر الفضاء بسرعة 60 ميلا في الثانية، قادمَين من مكان لا أحد يعرف أين وذاهبَين إلى مكان لا يعرفه أحد، طالما أنني ما زلت أستطيع الجلوس في حديقتي وأستمع إلى طنين النحل في فترة ما بعد الظهيرة في الصيف. مجهول
حُفر تاريخ الإنسان على صخور مصر وخُتم على حجارة آشور ودُفن في رخام البارثينون. وهو يرتفع أمامنا بحضور مهيب في أقواس الكولوسيوم، ويختبئ ككنز دفين وسط غبار المحفوظات والأديرة، ويتجسّد في جميع خيوط الأديان والأعراق والعائلات. تشارلز نيوتن
وصل ناسكان مسافران إلى نهر حيث التقيا بامرأة. وخوفا من أن يجرفها التيّار، سألتهما إن كان بإمكانهما حملها كي تعبر النهر. فتردّد أحدهما، لكن الآخر وافق وحملها على كتفيه وعبر بها النهر ثم أنزلها على الضفّة الأخرى. وشكرته المرأة على صنيعه وانصرفت.
وبينما واصل الناسكان طريقهما لساعات، كان أحدهما غارقا في التفكير والهم. ولم يستطع كتم صمته فقال لرفيقه: يا أخي، تُعلّمنا تربيتنا الروحية أن نتجنّب أيّ احتكاك بالنساء، لكنك حملت تلك المرأة على كتفك!" فأجابه الناسك الثاني: لقد حملتها لساعة ثم وضعتها على الجانب الآخر من النهر. لماذا ما تزال أنت تحملها بعد كلّ هذه الساعات"؟!
هذه القصّة على بساطتها تحمل رسالة جميلة عن عيش اللحظة. كم مرّة حملنا آلام الماضي، ومعها الشعور بالاستياء، بينما الشخص الوحيد الذي نؤذيه حقًا هو أنفسنا. جميعنا نمرّ بأوقات في حياتنا، حيث يقول لنا الآخرون كلاما غير لائق أو يتصرّفون معنا بطريقة مؤذية. والتوقّف عند هذا كثيرا يُثقل كاهلنا ويستنزف طاقاتنا. والأفضل أن نتخلّى عمّا لم يعد يفيدنا ونركّز على اللحظة الراهنة، لأن "الآن" هو كلّ ما نملكه.
لقد خالفَ أحد الناسكَين القواعد، ولكن لسبب وجيه. وبمجرّد أن أنجز غايته، وضع المرأة أرضاً وواصل طريقه ولم يُعِر الأمر اهتماما. بينما تذكّر الآخر تصرّف زميله بعد أن أصبح فعلا من الماضي، مع أن الماضي حدث وانتهى ولا يمكن تغييره، ولا فائدة من تذكّره إلا للتعلّم من تجاربه. الحياة تمضي بنا في لمح البصر. وبدلا من الغرق في الماضي واسترجاعه، يجب ممارسة عيش اللحظة الحاضرة حيث نجد السلام والرضا.
لا بأس من مخالفة القواعد من أجل قضية نبيلة، كما فعل الناسك مع المرأة. المشكلة أن العقل البشري بارع جدّا في عادة الانغماس في الماضي. إنه يعشق التمسّك بالمظالم والجروح القديمة، حتى وإن كان ذلك يسبّب المزيد من المعاناة ويستنزف طاقاتنا ويُضعِف قدرتنا على السعادة في الحاضر.
هذه القصّة تُظهر أيضا عدم وجود مطْلَقات حقيقية في الحياة، وأن ما يُعتبر فعلا سيّئا قد لا يكون كذلك. وهي تذكّرنا بقصّة الرجل الذي رآه الناس وهو يدفع شخصا مسنّاً بعنف. لكن لم يرَ أحد نجاة المسنّ بأعجوبة من سيّارة مسرعة. أحيانا لا نرى إلا من زاوية واحدة.
أيضا تعلّمنا القصّة أنه لا يجب أن نُثقل على أنفسنا بأحكام الآخرين الذين يضغطون على خياراتنا. في الحياة الواقعية، الثقة بتصرّفاتنا دون الحاجة إلى موافقة الآخرين أو تدخّلهم تُحرّرنا. ومثل الناسك الإيجابي، فإن اتخاذ خيارات تتوافق مع قيمنا والتخلّي عن طلب موافقة أو استحسان الاخرين باستمرار أمر محبّذ وأساسي.
كما تشجّعنا القصّة على التخلّص من الأعباء غير الضرورية والتركيز على ما هو أمامنا والتصرّف برحمة وفطنة. ويجب أن نفعل الأشياء التي تبقينا متقدّمين وتمكّننا من توظيف طاقاتنا لإحداث تغيير إيجابي في حياتنا.
أحيانا قد لا يفهم الآخرون سبب تصرّفك وقد يشكّكون في اختياراتك. لكن إذا شعرت أن الرحمة أمر صائب فلا بأس، حتى لو لم يفهمها الآخرون.
والآن ما الشيء الذي لا تزال متمسّكا به والذي من الأفضل تركه "على الجانب الآخر من النهر"؟!
❉ ❉ ❉
"نساء بملابس زرقاء" إسم لوحة جدارية مينوية مشهورة اكتُشفت في قصر كنوسوس بجزيرة كريت، ويعود تاريخها إلى حوالي عام 1450 قبل الميلاد.
تصوّر اللوحة نساءً يرتدين ملابس زرقاء أنيقة، ويشاركن في مناسبة طقوسية أو اجتماعية. وهن يظهرن بتسريحات شعر متقنة ومجوهرات فاخرة ومرصّعة ببذخ، وملابس زرقاء على خلفية مفعمة بالحياة، وكلّ هذه العناصر تقدّم رؤى قيّمة حول الجماليات والأزياء والبنية الاجتماعية للثقافة الإيجية القديمة وتبرز المهارات الفنّية المتطورة للمينويين.
كما تسلّط الجدارية الضوء على أهمية المرأة في المجتمع المينوي واحتمال أنها ربّما لعبت أدوارا مهمّة في الأنشطة الدينية والاجتماعية. ويؤشّر استخدام الألوان والتفاصيل الطبيعية في اللوحة إلى مستوى عالٍ من الرقي الفنّي، وهو سمة مميّزة لتلك الحضارة. والجدارية تُعدّ نموذجا ممتازا لفنّ الجداريات الرائع الذي كان يزيّن قصور أهالي كريت القدماء.
ويعود الفضل في ترميم هذه اللوحة وغيرها من جداريات كنوسوس الى خبير يُدعى آرثر إيفانز، الذي قيل إنه بذل جهودا كبيرة لإعادتها الى الحياة، رغم أن ما تبقّى من اللوحات الأصلية لا يتجاوز أحيانا بضع بوصات مربّعة، أما الباقي فهو إعادة بناء وثمرة لخيال مبدع.
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
اقتباسات...
○ نيتشه محرِّض مجنون كَرّسَت آراؤه المستفزّة مبادئ الفاشية والموت والدمار في العالم. ومع ذلك ما يزال قطيعُه حيّا يُرزق وجنونه يثير العالم الحديث. كما لا يزال الجهل السياسي والفلسفي والروحي هو القناعة التي تؤجّج الاضطرابات في العالم.
رجل لم تُجدِ ثرثرته الجرمانية المتأمّلة نفعا لأحد، بما في ذلك هو نفسه. وتستطيع النساء أن يدركن مرض الرجل. إذ لم يجد هذا "المفكّر العظيم" امرأة واحدة توافق على الزواج منه. هذا كلّ ما في الأمر. تبّاً لنيتشه ولأقواله! س. اسيري
○ مع أن العالم مليء بالمعاناة، إلا أنه مليء أيضا بالتغلّب عليها. لذا لا يرتكز تفاؤلي على غياب الشر، بل على إيمان راسخ بغلَبة الخير، وسعي دائم للتعاون معه حتى ينتصر. أحاول جاهدةً تعزيز القوّة التي منحني إيّاها الله لأرى الأفضل في كلّ شيء وفي كلّ شخص، وأجعل هذا الأفضل جزءا من حياتي. هيلين كيلر
○ لماذا تحبّ زوجتك؟ لأن أنفها يتنفّس هواءَ عالم أعرفه، لذا أحبّ ذلك الأنف. ولأن أذنيها تسمعان موسيقى قد أغنّيها طوال الليل، لذا أحبّ أذنيها. ولأن عينيها تسرّان بفصول الأرض، ولذلك أحبّ تلكما العينين. ولأن لسانها يعرف السفرجل والخوخ والتوت البرّي والنعناع والليمون الحامض، لذا أحبّ سماعه يتحدّث. ولأنّ جسدها يعرف الحرّ والبرد والتعب، أعرف النار والثلج والألم. راي برادبري
○ لم يهيّئني شيء، لا كتب ولا معلّمون ولا حتى والداي. سمعت ألف قصّة، لكن لم يوصف لي هذا المكان من قبل. فهمته عندما رأيته. يسمّيه البعض الصحراء الأمريكية، ويسمّيه آخرون السهول الكبرى. لكن هذه العبارات ابتكرها أساتذة جامعات محاطون بوهم النظام وخيال الصواب والخطأ.
ولكي تعرف المكان، يتعيّن عليك أن تمشي فيه وتنزف في ترابه وتغرق في أنهاره. حينها سيتضح لك معنى اسمه. إنه جحيم، مع شياطين في كلّ مكان. لكن إن كان هذا جحيما وأنا فيه، فلا بدّ أنني شيطان أيضا، وأنا ميّت بالفعل. السهول ليست لبناء مسكن أو مأوى، فمواردها محدودة. السهول للمتشرّدين والرحّالة ورعاة البقر. مسكنهم سرج، والسماء سقفهم، والأرض لحافهم. من حوارات فيلم 1883
○ هل تعلم أن من يخضعون لعملية زرع نخاع العظم تُدمَّر خلايا نخاعهم العظمي وتُستبدل بخلايا المتبرّعين. وفي معظم الحالات، يحتفظون ببعض نخاع عظامهم، أي أن خلايا دمهم تصبح مزيجا من الحمض النووي الخاص بهم وحمض المتبرّع. وفي الحالات الأكثر تطرّفا، تحتوي جميع خلايا دمهم على الحمض النووي الخاص بالمتبرّع فقط. ليس هذا فحسب، بل حتى عند خضوعك لعملية نقل دم، تتحوّل مؤقّتا إلى كائن بشري هجين! ك. ماكفادن
○ شكوكية ديفيد هيوم هي من النوع المميت، لأنها جذرية. فنحن، برأيه، لا نعرف على وجه اليقين ما إذا كانت الشمس ستشرق غدا أم لا، وما إذا كان العالم الخارجي موجودا بالفعل، وما إذا كانت "أنانا" أو ذواتنا لها هويّة. وفي نفس الوقت، فإن شكّه عقيم، لأن جميع هذه الاعتبارات نظرية. فبمجرّد أن يغادر الفيلسوف مكتبه، يصبح متأكّدا من الدرَج الذي ينزله، ويرتّب ملابسه بثقة لليوم التالي. يبدو أن الطبيعة فينا "معقولة" أكثر من عقولنا. باتريشيا دي مارتيلييه
○ إن سكّان الجبال، الأكثر نقاءً أخلاقيا، هم أقوى أجسادا ويميلون الى "مضاعفة" الحروف الساكنة ثلاث مرّات. أما سكّان السهول، فبالإضافة إلى كونهم فاسدين أخلاقيّا، فإنهم أيضا منحطّون جسديّا و"يشوّهون" الحروف الساكنة. أنطونيو غرامشي