:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، ديسمبر 31، 2011

الطبيعة من منظورين مختلفين


من الرائع حقّا أن ندرك مدى سرعة العقل في "رؤية" ما يحتاج لرؤيته. الباحث الأمريكي في الدراسات السلوكية راي هيربرت كتب مقالا جميلا يتحدّث فيه عن طريقة معالجة الدماغ لما يراه في الطبيعة، وكيف أن الإنسان، ومن خلال نظرة سريعة وعابرة، يمكنه استنباط أكثر المعلومات قيمة وأهمّية بفضل تطوّر الدماغ عبر العصور.
يقول الكاتب: تخيّل، مثلا، أنك وصلت بالحافلة إلى بقعة من الطبيعة لم تذهب إليها من قبل. تترجّل من الحافلة وتبدأ بالنظر حولك. ما الذي ستلاحظه للوهلة الأولى؟ في البداية، لا يمكنك أن تتجاهل البحيرة الكبيرة الممتدّة أمامك. قد يكون التزلّج على الماء باعثا للمتعة هنا. ثم هناك الجبال المغطّاة بالثلوج والتي تلوح من مسافة. وهناك أيضا مجموعة الأشجار البرّية التي تقوم إلى اليسار. الطقس في المكان يبدو مثاليا والطبيعة مضيافة.
والآن تخيّل أنك مجرم هارب من العدالة وأنك تخطو خارج تلك الحافلة إلى المكان نفسه. ما الذي ستراه؟ في الغالب سترى مساحة واسعة ومفتوحة. وباستثناء تلك المجموعة الصغيرة من الأشجار، لا توجد هنا العديد من الأماكن التي تصلح للاختباء. سيداهمك شعور بالانكشاف والضعف. الماء يصبح مجرّد عقبة بينك وبين الحرّية التي يمكن أن تظفر بها في الجبل الذي يقع إلى الخلف. ستسأل نفسك إن كان يوجد ممرّ يقود إلى الجبل. ستلاحظ وجود بنيان من صنع الإنسان، وستعتبره تهديدا دائما لك.
المنظر الطبيعي نفسه، لكن من منظورين مختلفين وفي لمحة سريعة. هذا هو بالضبط ما يمكن أن يراه السائح والمجرم في الواقع. والسبب في ذلك يعود إلى أن الرؤية مسألة متجذّرة بشكل حميمي في مخاوفنا وفي استراتيجياتنا القديمة من أجل البقاء. أدمغتنا ظلّت تتطوّر دائما عندما كانت هناك مخاطر تهدّد الإنسان في كلّ مكان. لذا فنحن مهيّئون تماما لاستخراج أكثر المعلومات معنى وأهمية من خلال اللمحة الخاطفة.
النظرة الطويلة والعالقة قد تكون قاتلة أحيانا. المحكومون الهاربون "مثل أسلافنا القدامى" لم يكونوا يملكون ترف ملاحظة التفاصيل، كالأشجار أو البحيرات والجبال. الحاجة والرغبة في الأمان تنسخ كلّ التفاصيل الأخرى في عين العقل.
ويضيف الكاتب أن اليقظة والحذر عنصران منزرعان في أعماق خلايانا العصبية. وهذه هي النظرية التي يختبرها الآن بعض العلماء الذين يريدون أن يستكشفوا كيف نرى العالم الطبيعي في جزء من الثانية عند أوّل تماسّ لنا مع الطبيعة. وما هي المعلومات الضرورية والمميّزة جدّا بحيث يلزم معالجتها على الفور. ثمّ ما هي المعلومات التي تضاف في وقت لاحق ونحن نواصل استكشاف الأرض الجديدة؟
علماء النفس الذين يدرسون هذه المسألة طلبوا من المتطوّعين النظر إلى مئات الصور الفوتوغرافية الملوّنة لمشاهَد طبيعية مختلفة. ثم طلبوا من قسم منهم تصنيف تلك المناظر وفقا للسمات الجغرافية الشائعة، مثل المحيطات والغابات والحقول والأنهار. بينما طلبوا من الآخرين تصنيف تلك المناظر بحسب مميّزات البقاء الأساسية، مثل سهولة التنقّل والانفتاح ودرجة الحرارة. وبعد ذلك احتسب الباحثون كم لزم المتطوّعين من الوقت لتصنيف كلّ ملمح وصولا إلى جزء من الثانية.
واتّضح في النهاية أن مميّزات البقاء تمّت معالجتها بشكل فوريّ تقريبا، وبسرعة تسعة عشر جزءا من الألف في الثانية. السمات الجغرافية تمّت معالجتها، هي أيضا، ولكن بسرعة أبطأ نسبيا مقارنة مع التصوّر التلقائي عن الأشياء، كالمساحات المفتوحة وطرق الهرب.
وقد ثبت علميا، والكلام ما يزال لـ راي هيربرت، أن دماغ الإنسان يكون في أسرع حالاته عندما يصنّف أيّ منظر طبيعي على انه "طبيعة"، مقابل تلك المناظر التي هي من صنع الإنسان. وعلى ما يبدو، فإنه، وعلى مرّ دهور من التطوّر، ارتبط الدماغ ارتباطا وثيقا بعالم الطبيعة. ولكنه لم يرتبط بعد، بنفس القدر، بالعالم المتحضّر الذي ما يزال يحتاج إلى تحليل أبطأ لفهمه. ولهذا، بإمكان الإنسان أن يعرف أن المنظر الذي أمامه هو منظر طبيعي حتى قبل أن "يرى" الجبال والمروج والشلالات التي تمنحه "طبيعيّته".

الأربعاء، ديسمبر 28، 2011

جينتيليسكي: صورة البطلة الأنثى


خلافا للطليعيات من النساء اللاتي برزن في الرسم مثل سوفونيزبا ويسولا ولافينيا فونتانا اللتين تنتميان لعائلتين موسرتين، فإن ارتيميشيا جينتيليسكي التي توفّيت والدتها عندما كانت في سنّ الثانية عشرة، أتت من خلفية اجتماعية أدنى ونشأت في بيت عنيف.
في العام 1612، وكان عمرها لا يتجاوز الثامنة عشرة، ظهرت جينتيليسكي في محاكمة اغتصاب مثيرة. كانت تلك الحادثة كافية لأن تعيش الرسّامة حياة نبذ وعزلة وأصبح من المستحيل بالنسبة لها أن تنال رضا الطبقة الارستقراطية التي كانت ترعى الفنون وتكلّف الفنّانين برسم أعمال فنية لأفرادها.
ولدت ارتيميشيا جينتيليسكي (أو جينتيلاشي كما يُنطق اسمها بالايطالية) في روما عام 1593م. وكان والدها الفنّان اوراتسيو جينتيليسكي ابنا لصائغ من توسكاني. وقد تعلّمت ارتيميشيا الرسم من والدها وأتقنت أسلوبه بسرعة، لدرجة انه كان من المستحيل أحيانا تمييز أعمالها عن أعمال والدها، خاصّة في سنوات مراهقتها.
في مايو من عام 1611 وجد اغوستينو تاسي، وهو رسّام كان والدها يتعاون معه في انجاز لوحات جدارية في القصر البابوي، وجد ارتيميشيا وحدها ترسم في منزل العائلة فقام باغتصابها، وفي ما بعد وعد بأن يتزوّجها.
كان لدى اوراتسيو عدد من الأصدقاء التافهين. والغريب انه اتخذ من تاسي صديقا له حتى مع علمه بالسجلّ المشين لهذا الأخير وبارتكابه جرائم عنف في العديد من المدن الإيطالية. وكان من بين التهم التي سبق أن وجّهت له زنا المحارم ومحاولته قتل زوجته العاهرة. وعندما اتضح أن زوجة تاسي كانت ما تزال حيّة وأنه لم يكن في موقف يسمح له بالزواج من ارتيميشيا لتصحيح خطئه، بادر والدها بتوجيه تهمة الاغتصاب له في المحكمة.
كان والد ارتيميشيا يحاول استعادة شرف ابنته. إلا أن إحالة القضية إلى المحكمة عرّض المرأة للعديد من الاتهامات الباطلة بالفجور. ولأنها فقدت عذريتها وهي ما تزال غير متزوّجة، فقد اعتبرتها المحكمة امرأة عديمة الشرف وبالتالي لا يمكن الاعتداد بشهادتها. لكنها تمسّكت بروايتها عن الحادثة. وفي النهاية أدين اغوستينو تاسي وحُكم عليه بالنفي. لكن الحكم لم يُنفّذ أبدا.
اوراتسيو الذي كان قد حاول أكثر من مرّة إجبار ارتيميشيا على أن تصبح راهبة، زوّجها على عجل من رجل عجوز يدعى بييترو ستياتيسي. وسرعان ما غادرت بمعيّته إلى فلورنسا.

في الفترة التي سبقت ذلك، كان والدها قد تعرّض لتأثير النجم الصاعد كارافاجيو. وهذا كان له تأثير ملحوظ على لوحات ارتيميشيا. لكن من غير المرجّح أن تكون قد رأت لوحة كارافاجيو جوديث تقطع رأس هولوفيرنس قبل أن ترسم ترجمتها الخاصّة للقصّة حوالي العام 1612م.
وعلى أيّ حال، فإن لوحة ارتيميشيا تختلف بشكل ملحوظ عن لوحة كارافاجيو في تصوير الصراع الدرامي الذي تلعب فيه خادمة جوديث دورا نشطا. في اللوحة تظهر الخادمة وهي تمسك الجنرال بشكل محموم بينما تحزّ البطلة عنقه بسيفها فيما يتدفّق دمه أسفل السرير.
وقد قيل إن العنف الشديد في هذا المشهد يعكس ردّ فعل ارتيميشيا على حادثة الاغتصاب التي تعرّضت لها.
ومن أشهر أعمالها الأخرى لوحتها المبهرة سوزانا والكَهْلان التي رسمتها عندما كانت في السابعة عشرة من عمرها. ومن الواضح أنها استخدمت نفسها كموديل في اللوحة العارية. وقد فعلت ذلك مرارا في لوحاتها. قصّة هذه اللوحة تتحدّث عن الاغتصاب أيضا. وملامح المرأة فيها هي نفسها ملامح ارتيميشيا. وربّما أرادت من خلالها التأكيد على براءتها، تماما مثلما ظهرت براءة سوزانا في القصّة.
الانتقال إلى فلورنسا شكّل بداية حياة جديدة لـ ارتيميشيا كفنّانة. موهبتها المثيرة للإعجاب تغلّبت على مكانتها الاجتماعية المتواضعة ومنحتها فرصة الاتصال بالشخصيات الفكرية التي كانت تجتمع في منزل بوناروتي. هناك تعرّفت ارتيميشيا إلى العالم الشهير غاليليو. لكنها أيضا تعرّفت إلى فرانشيسكو ماريا دي نيكولو مارينجي الذي أصبح عشيقها وداعمها المالي.
وفي عام 1614، وبفضل مساندة رعاتها الأقوياء وزملائها الفنّانين، أصبحت ارتيميشيا أوّل امرأة يتمّ قبولها في أكاديمية فلورنسا للفنون.
كانت ارتيميشيا تميل إلى رسم النساء العاريات بطريقة لا تخلو من إثارة. وكانت شخصيّاتها في الرسم تحمل شبها قريبا منها، كما هو الحال مع لوحتها داناي.
علامة ارتيميشيا الفارقة كانت المرأة البطلة: سوزانا، جوديث، لوكريتسيا، كليوباترا، مريم المجدلية. وهنّ يظهرن في لوحاتها عاريات غالبا.
كانت ارتيميشيا جينتيليسكي تواكب الموضة وتتبع أسلوب حياة باذخا، ما تسبّب في تراكم ديونها والتزاماتها المالية. وقد اضطرّت إلى الذهاب إلى روما عام 1520 حيث وجدت رعاة جددا واستغلّت الفرص الجديدة لتطوّر سمعتها كرسّامة بورتريه. وقد كُلّفت برسم لوحة كبيرة لتزيّن جدران كاتدرائية بوتزولي في نابولي. وكانت قائمة رعاتها في ذلك الوقت تتضمّن اسم الملك الاسباني فيليب الرابع.
وفي أواخر عام 1630 سافرت الرسّامة إلى لندن حيث كان والدها يعمل آنذاك رسّاما في بلاط الملكة هنرييتا منذ العام 1626م. وقيل إنها ذهبت إلى هناك لمساعدة والدها الذي كان قد أصبح عجوزا ولرسم بعض اللوحات في سقف قصر الملكة في غرينيتش.
كانت جينتيليسكي أوّل رسّامة امرأة تدير محترفا كبيرا مع مساعدين كثر. وقد قضت بقيّة حياتها في نابولي، المدينة التي لم تكن تحبّها كثيرا، طبقا لما توحي به رسائلها. وقد توفّيت هناك في عام 1654م.
ومؤخّرا، ظهر فيلم سينمائي عن حياة وفنّ ارتيميشيا جينتيليسكي. غير أن الفيلم تعرّض لانتقادات كثيرة بسبب افتقاره للدقّة التاريخية. وقد قدّم الفيلم المغتصب تاسي بصورة العاشق المتمنّع والإنسان النبيل الذي وقف إلى جانب الرسّامة وأشعل موهبتها الإبداعية في الرسم. .

Credits
britannica.com

الخميس، ديسمبر 22، 2011

أصداء الليالي العربية


عندما تُرجم كتاب ألف ليلة وليلة إلى الانجليزية والفرنسية في بدايات عصر التنوير الأوربّي، أصبح أفضل الكتب مبيعاً بين المثقّفين الغربيين، في حين كان ما يزال يُنظر إليه في العالم العربي باعتباره مجرّد مجموعة من الحكايات الشعبية الرخيصة.
وعلى امتداد تاريخها الطويل، فتنت الليالي العربية الكثير من الكتّاب والفنّانين، من غوستاف فلوبير وأوسكار وايلد وغارسيا ماركيز، إلى نجيب محفوظ وإلياس خوري وريمسكي كورساكوف ودوغلاس فيربانكس وآخرين.
الباحثة والروائية مارينا وورنر تحاول من خلال هذه الدراسة استكشاف قوّة كتاب ألف ليلة وليلة وأثره الكبير والواسع في الثقافة الغربية المعاصرة.

في بعض الليالي المؤرّقة، وعلى الرغم من المفروشات الوثيرة في غرفة نومه الملكية أو الأنغام المهدّئة التي يعزفها له موسيقيّوه أو حتى الاهتمام الرائع الذي تبديه واحدة أو أكثر من محظيّاته الثلاثمائة، لم يكن الخليفة العبّاسي العظيم هارون الرشيد يستطيع النوم بسهولة.
كان من عادة الخليفة أن يتمشّى بصحبة مرافقه المفضّل مسرور في حدائق القصر أو في أسواق بغداد متنكّرا. وكان أحيانا يستدعي العلماء ليتبادلوا معه أطراف الحديث كعلاج يعينه على أرق الليل. وعندما تفشل كلّ هذه الأساليب، كان يأمر مرافقه بأن يجلب له من دمشق علي بن منصور الذي اشتهر بظرفه كي يخفّف عنه تأثير ساعات الليل الطويلة بحكاياته المسلّية والمؤنسة. وفي النهاية كان ذلك النوع من القصص هو ما يجلب الهدوء إلى قلب الخليفة ويعينه على النوم.
هارون الرشيد المسهّد يظهر كشخصية رئيسية في حكايات ما قبل النوم المعروفة بالليالي العربية أو قصص ألف ليلة وليلة. والباحثة مارينا وورنر تشير في كتابها الجديد والبديع عن ذلك العمل إلى أن ألف ليلة وليلة هو في الأساس كتاب عن القصص التي تُروى في السرير. وهي محقّة تماما في هذا الوصف. فالقصص الليلية تتوسّع في الخيال وتصبح معقولة وواضحة عندما يتوارى الظلام خلف المصابيح. هذه القصص عادة لا تسحرنا في ضوء النهار. لكن عندما تسمع صوت الراوي في الظلمة، يُخيّل إليك أنه آتٍ من أقدم ذكريات الإنسان وأن لديه مقدرة شبحية على تمثيل جميع الأصوات التي تأتي من الماضي السحيق.
حكايات الليالي العربية تتمتّع بخاصية مُعْدية، وهي سهولة انتقالها وترديدها على الألسن. وعندما نسمع حكاية فإننا لا يمكن إلا أن ننقلها لآخرين. هذا الجانب الذي لا يقاوم من السرد القصصي صُوّر بشكل فاتن في الليلة التاسعة والأربعين بعد المائة، حيث يقوم ثعلب بخداع ذئب ويستدرجه للوقوع معه في حفرة. وهناك يتبادل الاثنان الحكايات والحكم والأمثال جيئة وذهابا. أي أنه، حتى في أصعب الحالات والمواقف، هناك حاجة إلى رواية الأساطير والحكايات وتداولها.
ونفس هذا الحافز هو ما يدفع شهرزاد إلى المحافظة على إدهاش السلطان الضَجِر شهريار وتشويقه ليلة بعد ليلة كي تتمكّن من النجاة من المصير المشئوم الذي حلّ بسابقاتها، أي قطع الرأس عند بزوغ الفجر. وتحت تأثير سحر السرد الذي تتمتّع به شهرزاد، ننسى تقريبا حقيقة أنها تغزل حكاياتها تحت التهديد المستمرّ بالموت.
الجانب المتغيّر في الليالي، والمتمثّل في السفر عبر الزمن والتمازج بين ثقافات وحضارات مختلفة، فارسية وعربية وهندية وتركية ويونانية ومصرية وإسلامية ومسيحية، هو من العناصر التي تفتن المؤلّفة وورنر على ما يبدو. وهي ترى فيه مفتاحا فريدا للعمليات التخيّلية التي تحكم رمزية الصور وغرابة وغموض القوّة في الثقافة الحديثة.
وتخصّص المؤلّفة جزءا من كتابها للحديث عن الجنّ "أو الجان" الذين يتصرّفون مثل الآلهة اليونانية، أي بلا منطق وأحيانا تحت تأثير الهوى والنزوات العابرة. كما تتحدّث عن شخصيّة الملك سليمان، سيّد الجنّ في نسختهم الإسلامية، وتورد عنه قصصا لا تختلف كثيرا عن قصص غلغامش وميرلين وبروسبيرو وغاندالف.
وفي هذا الكتاب أيضا، تناقش الكاتبة كيف أن حكايات الليالي العربية تختبر الحدود بين الأشخاص والأشياء. مثلا، تتحدّث عن الرؤوس المقطوعة التي تتكلّم وعن الكتب التي تقتل أصحابها وعن البساط الذي يطير، محاولةً ربط هذه الظواهر السحرية بأشياء في عالمنا الحديث، كالسينما وسلع الحياة اليومية وماركات المصمّمين وغير ذلك من الأدوات والأشياء التي تحدّد سماتنا وشخصيّاتنا.
وورنر فيها، هي أيضا، شيء من شهرزاد، على الرغم من أنها تنسج حكاياتها في ظروف اقلّ خطرا. شهرزاد تسرد الحكايات التي كانت قد قرأتها وحفظتها. وصوتها هو حلقة في سلسلة من الحكايات التي تعود إلى العصور القديمة. ودور الكاتبة هنا هو ترسّم خطى نموذجها.
العديد من القصص التي يتضمّنها كتاب ألف ليلة وليلة تجري في بغداد الأسطورية أو تستمدّ أصولها من مصادر فارسية أقدم. وبعض القصص نجد لها صدى في الحكايات المصرية القديمة من القرن السابع قبل الميلاد. و وورنر متنبّهة إلى هذه الأصداء المبكّرة، لكنها أكثر اهتماما بالتأثير الثقافي والأدبي لـ الليالي العربية على الموسيقيين والفنّانين والكتّاب.
المعروف أن كتاب ألف ليلة وليلة تمّ جمعه لأول مرّة في مصر المملوكية كي يستعين بحكاياته رواة القصص والكتّاب المتجوّلون أو من يُعرفون بـ "الحكواتيين" الذين شكّلوا نقابة خاصة بهم ووجدوا لهم جمهورا بين روّاد المقاهي المصرية والسورية.
ورغم أن الكتاب كان في البداية مثار احتقار الأدباء العرب الذين اعتبروه "زبالة شعبية"، إلا أنه أصبح يتمتّع بشعبية عالمية بعد أن ترجمه إلى الفرنسية الباحث انطوان غالان ونشره في اثني عشر مجلّدا خلال السنوات من 1704 إلى 1717م. وقد طهّر غالان الليالي من الشبق والشذوذ الجنسي، وأضاف إليها حكايات أملاها عليه صديق لبناني، وربمّا اخترع هذا الأخير حكايتين أصبحتا من أشهر حكايات الليالي، هما "علاء الدين والمصباح السحري" و"علي بابا والأربعون حرامي".
ترجمة غالان لـ ألف ليلة وليلة كان تأثيرها ساحقا. فمن فولتير وغوته، إلى هانز كريستيان اندرسن ووليم بيكفورد، وصولا إلى خورخي لويس بورخيس وايتالو كالفينو، أصبح كتاب الليالي العربية ملء السمع والبصر. ولم يكن تأثير الكتاب مقتصرا على الكتّاب والأدباء، وإنما امتدّ ليشمل الملحّنين الموسيقيين "مثل موزارت" والرسّامين والمصمّمين ومخرجي الأفلام السينمائية الذين وقعوا هم أيضا تحت تأثير سحر هذا الكتاب العجيب.
ترجمة غالان لليالي تشكّل أساس التاريخ النصّي لكتاب مارينا وورنر، مثلما كانت تلك الترجمة أصلا للترجمات الأوربّية اللاحقة من الكتاب. وقد ساعدت تلك الترجمة في تشكيل نظرة الأوربّيين إلى الشرق باعتباره مكانا قديما وغير واقعي بعض الشيء، يسكنه الملوك القتلة والفاسقون والنساء الناعمات والمحظيّات الماكرات.
يتألّف كتاب وورنر عن ألف ليلة وليلة من خمسة أقسام وعشرين فصلا. ويتضمّن إعادة سرد لخمس عشرة حكاية من بينها "الصيّاد والجنّي"، و"مدينة النحاس" التي يمكن اعتبارها أعظم قصّة منفردة في الليالي العربية، بالإضافة إلى "علاء الدين" التي توصف بالحكاية اليتيمة لأنه لم يُكتشف نصّها العربي الأصلي إلى اليوم. وبعد كلّ حكاية، تنهمك المؤلّفة في استكشاف سياقاتها ودلالاتها وتشعّباتها الأوسع نطاقا.
والكاتبة بارعة في وصف ما تسمّيه بـ "الشيئية" في القصص، أي الدور المشئوم الذي تلعبه الأدوات والأشياء المنزلية في مصائر البشر.
كما يشتمل الكتاب على فصل مخصّص للحديث عن مخرجة الأفلام الألمانية لوت راينيغر التي صنعت هي وزوجها في عشرينات القرن الماضي فيلم ظلّ صامت عن مغامرات الأمير احمد، وهي إحدى الحكايات التي يرد ذكرها في ألف ليلة وليلة.
وورنر ترى في السحر بكافّة أشكاله مفتاحا لفهم العالم المحتشد في ألف ليلة وليلة. السحر ليس مجرّد فنّ غامض، بل طريقة كاملة للتفكير وللحلم بالمستحيل. وهنا بالذات تكمن قوّته الهائلة في فتح العقل على عوالم جديدة من الإنجاز، بحكم أن الخيال يسبق الواقع دائما. السحر كان دائما مرتبطا بالحكمة، وبفهم قوى الطبيعة، وبالبراعة التي تسمح للإنسان بفعل أشياء ما كان ليحلم بها من قبل. والنموذج الأسمى لهذا التفكير السحري هو كتاب الليالي، ببُسُطِه الطائرة وكنوزه الدفينة وكشوفاته المفاجئة.
غير أن سحر ألف ليلة وليلة ليس مجرّد سحر خيالي، فهو يعتمد على افتراضين غير معلنَين. فطبقا للمعتقدات الإسلامية، فإن عامل السببية أو ربط الأسباب بالنتائج هو من قبيل الأوهام. وما نعتبره سببا، ليس في واقع الأمر سوى من تقدير الله. فهو يعيد خلق العالم في كلّ لحظة. وكلّ ما يحدث هو نتيجة مباشرة لإرادته. والأحداث المحيّرة والرائعة التي تموج بها الليالي العربية هي تصوير دراماتيكي لهذه الفكرة الراديكالية. والعديد من المفكّرين المسلمين يتحدّثون عن ما يسمّونه بالعربية "الألفة"، أي تلك العلاقة الحميمة التي تجمع الأشياء المتباينة بعضها ببعض. هذا النوع من التفكير، الذي يربط اصغر الحشرات على الأرض بأبعد نجمة في السماء، يمكن أن يفسّر العديد من الانتكاسات والتحوّلات المفاجئة في الليالي. وطبقا لهذا التفكير، فإن الأشياء ليس لها جوهر أو ماهيّة ثابتة. وما نراه في الظاهر قد لا يعكس بالضرورة أصل الشيء وحقيقته.
حتى التمييز بين الأرواح والجمادات، بين الأشياء الواعية واللاواعية، يذوب في التفكير السحري لرواة الحكايات، ما يضفي على السرد سيولة وحيوية.
بالنسبة للمفكّرين الغربيين، فإن غرابة الليالي العربية فتحت رؤى جديدة للتحوّل: أحلام الطيران، الكائنات التي تتحدّث، القيمة الافتراضية للنقود، وقوّة الكلمة وقدرتها على إحداث التغيير. حكايات ألف ليلة تخلق صورة شعرية عن المستحيل وعن المعرفة والقوى السرّية. وفوق هذا كلّه، أصبح الغربيون مفتونين بالاعتقاد أن المعرفة الحقيقية تكمن في مكان ما آخر؛ في عالم غامض من الصور والأعاجيب.
كتاب مارينا وورنر عن سحر الليالي العربية هو عمل فريد من نوعه، يمكن أن تقرأه وأنت جالس إلى جوار المدفأة. لكنه بنفس الوقت كتاب موسوعي، ومن السهل أن تفكّر في أن تضيف إليه مواضيع أخرى مثل العمالقة، على سبيل المثال، أو الدراويش أو الواقعية السحرية. "مترجم".


الأحد، نوفمبر 27، 2011

نهاية النسخ الأدبي


كتب جون ميلتون ملحمته الشعرية الفردوس المفقود بعد أن كُفّ بصره في العام 1654 م. كان كلّ ليلة ينظم كمّية من الشعر في رأسه. وفي الصباح يقوم بإملائها على بناته الثلاث لكتابتها. وبعد أن تزوّج ثانية من امرأة تصغره سنّاً، أصبحت علاقته ببناته متوتّرة. إلا أنهنّ حافظن على علاقتهنّ به حتى النهاية. وبعض القصائد التي ألّفها في سنواته الأخيرة أهداها إلى إحداهن.
صورة ميلتون الأعمى وهو يُملي الفردوس المفقود على بناته فتنت مخيّلة الناس لزمن طويل، وكانت موضوعا للعديد من الأعمال الفنّية. ومن بين من رسمه من الفنّانين كلّ من اوجين ديلاكروا وميهالي مونكاتشي وجورج رومني وآخرين. كان ميلتون يزعم انه يتلقّى أوامر مباشرة من السماء. ولا بدّ وأن تدوين مثل ذلك العمل الأدبي الطويل جدّا كان مهمّة صعبة.
في هذه الأيّام، تغيّر الحال كثيرا. فبفضل التكنولوجيا المتطوّرة، أصبح العديد من الروائيين يميلون لاستخدام برامج التعرّف على الصوت لإملاء رواياتهم صوتياً بدلا من كتابتها. وهذه النوعية من البرامج تتحسّن باستمرار، بل وتبتكر تطبيقات لأجهزة الآيفون.
عملية إملاء الروايات عن طريق الصوت إلى قرص كمبيوتر هي في الحقيقة عودة إلى "الكتابة عن طريق الصوت" كما كان يمارسها المؤلّفون عبر التاريخ. جون ميلتون، دستويفكسي وهنري جيمس استخدموا أوّل نموذج من برامج التعرّف على الصوت، أي النساء.
الاختزال، ومن ثمّ الطباعة، وفّرا إمكانية دخول آلاف النساء إلى أماكن العمل. وقبل ذلك، كان إملاء العمل الأدبي أسلوبا للتبادل الحميم. كان من عادة المؤلّف أن يُملي روايته على احد أقاربه، من نساء العائلة غالبا.
الإملاء في حدّ ذاته ليس بالأمر الجديد. غير أن الإملاء على إنسان لا يشبه الإملاء على آلة. فالناسخ البشري يستجيب شعوريا إلى ما يُملى عليه، أحيانا بالضحك وأحيانا بالبكاء أو حتّى بالصراخ. أي أن الناسخ يتفاعل بجسده ومشاعره بالنيابة عن الكاتب.
دستويفكسي كان يصف المرأة التي كانت تنسخ له كتاباته، واسمها آنا غريغورييفنا، بـ "المتعاونة". وقد استعان بها كي يُنهي كتابة روايته المقامر قبل انتهاء عقد كان قد ابرمه مع ناشره ليتمكّن من دفع ديون شقيقه الميّت.
في مذكّراتها، تسرد آنا غريغورييفنا قصّة لقائها بـ دستويفكسي. ثم تصف عملها معه بقولها: في بعض الأوقات، كنت أذهل من جرأتي في التعبير عن آرائي عن الرواية. ولا زلت مذهولة أكثر من الاهتمام الذي كان الكاتب الرائع يبديه في الاستماع إلى تلك الملاحظات والآراء الصبيانية".
ورغم انه لا توجد طريقة لقياس مساهمة غريغورييفنا في تلك الرواية، إلا أن من الواضح أنها كانت تدرك أنها كانت تقدّم ما هو أكثر من مجرّد النسخ والكتابة.
وبفضل مساعدتها، انتهى دستويفكسي من كتابة "المقامر" في الموعد المحدّد. ثم لم يلبث أن تزوّجها، واستمرّ التعاون في ما بينهما. كان دستويفكسي يفهم أن عملهما كان جهدا مشتركا، رغم أن التاريخ قد يكون نسي تلك الأصابع الخفيّة.
برمجيات التعرّف على الصوت، الشائعة هذه الأيّام، لا يمكن لأحد وصفها بـ "المتعاونة". ولا احد يمكنه أن يقول إن الكمبيوتر يكتب بيد ويمسح الدموع باليد لأخرى، كما كانت آنا غريغورييفنا تفعل عندما كان دستويفكسي يُملي عليها مشهدا من الإخوة كارامازوف.
"بعد الانتهاء من الإملاء، كان دائما يسأل: حسنا، ماذا تقولين يا انيشكا؟ وكنت أردّ: رائع. كان زوجي يعلّق أهمّية كبيرة على ردود أفعالي التلقائية على ما يكتب".
كان الكتّاب يُملون قصصهم ومؤلّفاتهم منذ عصر سقراط. وميلتون ودستويفكسي وغيرهما استعانوا بمصادر خارجية لإنتاج فنّهم بسبب الضعف البشري وقيود الجسد.
اليوم، أصبحت العملية ميكانيكية. الكتّاب المعاصرون بإمكانهم أن يستغنوا عن آلات الطباعة وحتى عن لوحات المفاتيح ويؤلّفوا كتبهم من خلال الصوت. وبطبيعة الحال، فإن التكنولوجيا الحديثة لا تعلّق على ما تكتب ولا تذرف الدموع تأثّرا بجمال كلماتك كما كان يفعل الناسخون في الماضي.
الكتّاب الذين يستعينون بتقنيات التعرّف على الصوت هذه الأيّام، يفعلون ذلك لأسباب مختلفة. بعضهم يختارها بسبب الإجهاد المتكرّر. لكن البعض الآخر يفضّلونها لأنها سهلة ومريحة.
وهناك من الكتّاب من لا يرى فارقا بين أن يُملي على إنسان أو على آلة. ويبدو أن ما يحدث الآن يعكس حنين بعض الكتّاب لنموذج من التأليف السمعي ينتفي فيه دور الوسيط. .

Credits
tabletmag.com

الثلاثاء، نوفمبر 22، 2011

بيتهوفن: الحبّ الخالد


بعد وفاة لودفيك فان بيتهوفن في منزله بـ فيينا القديمة عام 1827، تفحّص أصدقاؤه أشياءه ومقتنياته فوجدوا ثلاث رسائل مخبّأة بداخل احد أدراج مكتبه. كانت كلّ رسالة تتصدّرها عبارة كُتبت باللغة الألمانية تقول: إلى حبّي الخالد".
من هنا بدأ اللغز الذي لم يفلح احد في حلّه أبدا: من كانت تلك المرأة الغامضة التي كان بيتهوفن يعتبرها حبيبته وملهمته الخالدة؟
في أماكن أخرى من أوروبّا، كانت الأمور هادئة نسبيا. فقد توقّفت معركة نافارينو، وتوفّي جورج الثالث وبايرون ونابليون، فيما يدخل غوته الآن عامه الثامن والسبعين.
لم يكن هناك شكّ في أن تلك الرسائل كانت حقيقية وليست تدريبات لأوبرا أو سيمفونية ناقصة. لكنْ كان هناك سؤال حول ما إذا كانت تلك الرسائل قد أرسلت فعلا إلى وجهتها. ولماذا انتهى بها المطاف في مكتب بيتهوفن مرّة أخرى؟ بعض الكتّاب يشيرون إلى تقليد كان متّبعا في القرن التاسع عشر، إذ كانت رسائل الحبّ تعاد أحيانا إلى مرسليها عندما تنتهي العلاقة.
رسائل بيتهوفن الغامضة قد لا تندرج ضمن الكتابات الرومانسية العظيمة، وهو ما حاول خبراء بيتهوفن الترويج له دائما. لكنّها تشير إلى أنه كان كاتبا جيّدا وعلى وعي عال بأساليب التعبير عن المشاعر العاطفية دون الوقوع في صيغ لغوية مبتذلة. كما أن الرسائل ولّدت جدلا شغَل العشرات من الكتّاب والمؤلّفين على مرّ السنين. وقد تحوّلت تلك الرسائل في ما بعد إلى فيلم سينمائي بعنوان الحبيبة الخالدة (1994) قام بدور بيتهوفن فيه الممثل غاري أولدمان.
ترى من كانت تلك المرأة التي كان بيتهوفن يخاطبها بـ "حبيبته الخالدة"؟ البعض ذهب إلى أن الرسائل كانت محصّلة عملية غزل سريعة لم تنته إلى شيء. بينما أشار آخرون إلى أن بيتهوفن لا بدّ وانه رأى تلك المرأة مرارا في مرحلة ما من حياته. واستخدام بيتهوفن لوصف "الخالدة" يوحي بأن العلاقة التي ربطته بتلك المرأة كانت طويلة وممتدّة.
غير أن فريقا ثالثا رأى أن تلك الرسائل تتحدّث عن امرأة مثالية، أي ملهمة، وأن المرأة لم تكن أبدا إنسانا من لحم ودم.
في حوالي العام 1800، أتمّ بيتهوفن تأليف سيمفونيّته الأولى، ومن ثمّ أصبح موسيقيا مشهورا. كان وقتها في الثلاثين من عمره.
وفي ذلك الوقت، دخلت العديد من النساء الشابّات والجذّابات حياته عندما كنّ يتعلّمن عنده العزف على البيانو. من بين هؤلاء، هناك ثلاث نساء كلّ منهنّ تصلح لأن تكون مرشّحة للقب الحبيبة الخالدة: الكونتيسة جولييتا جوشياردي، وتيريز وجوزيفين برونزفيك ابنتي الكونت برونزفيك.
أنطون شيندلر، كاتب سيرة بيتهوفن، أشار إلى أن الحبيبة الخالدة كانت شابّة تُدعى الكونتيسة جولييتا جوشياردي التي اقتحمت حياة بيتهوفن فجأة عام 1800م. كانت آنذاك في السادسة عشرة وهو في الثلاثين من عمره.
كانت جولييتا شابّة جميلة ومفعمة بالحياة عندما وصلت مؤخّرا من ايطاليا مع عائلتها. ولأنها كانت معجبة كثيرا بعبقريّته الموسيقية، لم تهتمّ جولييتا بنظرات بيتهوفن القويّة ولا بهندامه غير المرتّب.
يمكن للمرء أن يتكهّن بأن بيتهوفن لم يكن معلّما جيّدا. كان رأسه دائما مليئا بألحانه الخاصّة. وهو لم يكن يبدي إعجابا كبيرا بعزف تلميذاته الأكثر ثراءً.
لكن كيف تعامل مع جاذبية الفتاة الشابّة التي تجلس أمامه؟ وبماذا كان يفكّر؟ وهل من المفترض أن تتناقض الموسيقى مع الأفكار الإيروتيكية؟
لم يكن بيتهوفن يتمتّع بالمال ولا بالمنصب أو الجاه. ثم انه كان شخصا غريب الأطوار. لذا يمكن للمرء أن يفترض أن عائلة الفتاة ما كانت لتوافق على أيّ عرض منه بالزواج من ابنتهم.
شيندلر يذكر أن جولييتا لم تكن أكثر من فتاة لعوب ومغامرة مثل العديد من النساء في مثل سنّها. كانت تتمتّع بقوام جميل وملامح دقيقة، بالإضافة إلى مهارتها الفائقة في الغزل. ولم يكن هناك شكّ أبدا في أنها كانت ستجد لنفسها الزوج المناسب. ولهذا السبب، يُرجّح أنها لم تكن تريد بيتهوفن حقّاً. وهو نفسه كان يدرك ذلك جيّدا.
علاقة بيتهوفن بـ جولييتا تروق للرومانسيين. موسيقاه الجميلة سوناتا ضوء القمر التي أهداها لها تجسّد تماما طبيعة العلاقة التي كانت تربط بينهما. بإمكانك وأنت تستمع إلى هذه الموسيقى أن تتخيّل انعكاس ضوء القمر فوق مياه بحيرة متموّجة.
في شهر نوفمبر من عام 1801، كتب بيتهوفن إلى صديقه المقرّب ويغلر رسالة يقول فيها: لا يمكنك أن تتصوّر كم كانت حياتي مقفرة وحزينة خلال السنتين الأخيرتين. لقد بدأ سمعي يضعف بطريقة أصبحت تؤرقّني. صرت اهرب من الناس. وأشعر أنني ضئيل جدّا وكما لو أنني عدوّ للبشر. لكن تغييرا مهمّا طرأ على حياتي الآن بفعل عذراء فاتنة تحبّني وأحبّها. أخيرا، وجدت بعض لحظات السعادة. ولأوّل مرّة اشعر أن الزواج يمكن أن يجعلني إنسانا سعيدا. لكن لسوء الحظ، لا يبدو أننا متماثلان في الكثير من الأمور". العبارة الأخيرة رأى فيها بعض الكتّاب إشارة شبه مؤكّدة إلى جولييتا.


في الملاحظات التي كتبها بيتهوفن في ما بعد، تحدّث عن الصدام الذي كان يشعر به بين طموحاته الموسيقية وحبّه للنساء. فالموسيقى يجب أن تأتي دائما في المقام الأوّل. "بالنسبة لي، ليست هناك متعة أكبر من أن أمارس فنّي وأعرضه على الناس". ورغم أن النساء كنّ مصدر إلهام وثراء لموسيقاه، إلا أنهن أيضا كنّ عامل تعطيل وإلهاء.
تجربة بيتهوفن مع بدايات الصمم كانت نقطة تحوّل كبرى في حياته. في إحدى ملاحظاته يسجّل جوانب من معاناته وكيف انه كان يجد التسامي والراحة في الموسيقى. ويبدو أن هذا يتفق مع نظرته إلى الحرّية: الحرّية من الاضطهاد الطبقي، والحرّية من مظاهر الطغيان الموسيقيّ القديم، والتحرّر من الافتتان بالنساء.
تزوّجت جولييتا جوشياردي من الكونت غالينبيرغ في نوفمبر من عام 1803م. وبعد الزواج، تركا فيينا متّجهين إلى ايطاليا. كان الكونت موسيقيّا أيضا، ولكن ليس من مستوى بيتهوفن بالتأكيد. ويبدو أن الزواج لم يكن سعيدا جدّا. كان بيتهوفن وقتها منهمكا في تأليف إحدى أعظم سيمفونياته: البطولة أو السيمفونية الثالثة. ربّما يتعيّن علينا أن نشكر جولييتا بقدر ما أننا ممتنّون لـ نابليون بونابرت على هذه السيمفونية. كان بيتهوفن قد أطلق على هذه السيمفونية اسم "بونابرت" اعتقادا منه أن نابليون سيجلب الديمقراطية والاستنارة إلى كافّة أنحاء أوربا. لكنه في ما بعد غيّر الاسم إلى "البطولة" بعد أن علم بخبر تنصيب بونابرت نفسه إمبراطورا.
بعد سنوات، أي في عام 1822، قابل بيتهوفن جولييتا مرّة أخرى عندما عادت إلى فيينا. في إحدى رسائله، يتذكّر ذلك اللقاء بقوله: إنها تحبّني أكثر من زوجها. لكن يبدو انه يحبّها أكثر من حبّي لها".
بعض الكتّاب يعتقدون أن حبّ بيتهوفن الخالد لم يكن سوى امرأة تُدعى تيريز برونزفيك. لكنّ حظوظ برونزفيك في أن تكون الحبيبة الخالدة انخفضت بعد اكتشاف رسائلها الخاصّة ونشرها في عام 1946م. في إحدى تلك الرسائل تشير بوضوح إلى أنها لم تحبّ بيتهوفن أبدا على الرغم من أنهما تبادلا الرسائل لسنوات. كانت تيريز تصفه بالإنسان الطيّب. وهو أمر صحيح على الأرجح. غير أن هذه ليست كلمات امرأة عاشقة.
ولو أردنا أن نختار لها إحدى مقطوعات بيتهوفن، لما كان هناك أفضل من القطعة المسمّاة إلى إليز. وقد وُجدت النوتة الموسيقية لهذه القطعة بحوزة تيريز فعلا بعد سنوات من تأليفها.
ومع ذلك، يمكن بناء قضيّة أفضل مع شقيقتها الكونتيسة جوزيفين فون برونزفيك. نحن هنا لا نتحدّث عن غزل سريع وعابر كما في حالة جولييتا، بل عن التزام عميق ودائم بين روحَي شخصين وحيدين.
وأفضل دليل على ذلك هو شهادة شقيقتها تيريز التي كتبت في مفكّرتها عام 1860 أن رسائل الحبيبة الخالدة أرسلت إلى جوزيفين التي كان بيتهوفن يحبّها بعمق". والحقيقة أن عددا ممّن سجّلوا سيرة حياة بيتهوفن يرجّحون هذا الاحتمال.
قابل بيتهوفن جوزيفين عام 1800م. لكن أمّها زوّجتها في تلك السنة إلى الكونت الخمسيني فون ديم. ولم يكن زواجهما سعيدا. فالزوج كان يكره الموسيقى. ولا بدّ وأن جوزيفين الشابّة كانت تجد بعض العزاء والإلهام في دروسها مع بيتهوفن. ولحسن الحظّ بالنسبة لها، فقد مات الكونت بعد ذلك بأربع سنوات. وهناك كتّاب كثر يعتقدون أن بيتهوفن وجوزيفين احتفظا بعلاقة وثيقة لسنوات بعد ذلك.
في صيف عام 1806، كان بيتهوفن يقضي إجازته في ضيعة ريفية بالقرب من بودابست عاصمة المجر. وهناك عمّق علاقته مع جوزيفين. لكن لا يوجد دليل على أيّ شيء أكثر من الحبّ الذي كانت تنطق به رسائلهما. كانت تلك البقعة تضمّ بحيرة واسعة تحيطها غابات ساحرة وآثار من العالم القديم. كان إيقاع الحياة في ذلك المكان هادئا ومريحا، بعيدا عن صخب فيينا وضوضائها.
ولو أردنا أن نختار قطعة موسيقية تمسك بجوهر جوزيفين، فلن نجد أفضل من سيمفونية الرعاة. ولا يهمّ إن كان بيتهوفن قد أهداها لها أو لشخص آخر. كان بيتهوفن معتادا على المشي لمسافات طويلة في غابات فيينا المشهورة. وكان القرويون يميّزونه بشعره المبعثر وملابسه الرثّة. وقد ولدت سيمفونية الرعاة أثناء مشاويره اليومية في الغابات.
لم تستمرّ علاقة بيتهوفن وجوزيفين فون برونزفيك طويلا. وقد توقّفا عن تبادل الرسائل بانتظام بعد عام 1805م. ترى، هل انتهت تلك العلاقة لأن بيتهوفن لم يكن ينوي الزواج فعلا، أم بسبب ضغوط عائلة جوزيفين، أم لأن المرأة كانت تريد أبا حقيقيا لأطفالها الأربعة؟
أيّا كان السبب، فإن ممّا لا شكّ فيه أن الفترة من 1807 إلى 1809 كانت من اسعد فترات حياة بيتهوفن. أما جوزيفين فقد تزوّجت ثانية عام 1810م. ومرّة أخرى، لم يكن ذلك الزواج سعيدا. فقد واجه زوجها مشاكل مالية أسهمت في توتير علاقتهما. وأخيرا ترك الزوج البيت نهائيا في يونيو من عام 1812م. وطبقا للعديد من الكتّاب، فإن رسائل الحبيبة الخالدة كُتبت في تلك الفترة بالذات. وهذا يساعد في تفسير سبب اهتمام بيتهوفن بـ جوزيفين واهتمامها هي به في ذلك الوقت.
كانت شقيقتها غير المتزّوجة تيريز تقوم على رعاية أطفالها أثناء وجودها في فيينا. وفي عام 1813 أنجبت جوزيفين طفلا. ومن الواضح أنها كانت تنام مع رجل. والبعض يقول انه ربّما كان بيتهوفن. غير أن بعض المؤرّخين يستبعدون هذا الاحتمال. ومهما تكن الحقيقة، فإن ممّا لا شكّ فيه أن هذه العلاقة الوثيقة والطويلة بين الاثنين تجعل من جوزيفين مرشّحة ممتازة للقب الحبيبة الخالدة.


الذين كتبوا سيرة حياة بيتهوفن ربّما أفرطوا في الحرص على الدفاع عن شرف بطلهم. لكن الحقيقة أن هناك مرشّحات أخريات يمكن أن ينطبق عليهنّ وصف الحبيبة الخالدة. من هؤلاء الكونتيسة آن ماري ايردودي، وتيريز مالفاتي، وأماليا سيبالد، ودوروثيا فون ايرتمان. والقائمة لا تقف هنا. فهناك أيضا بيتينا برينتانو التي قدّمته إلى غوته، بالإضافة إلى ماغدالينا ويلمان وهي مغنّية شابّة من بون.
الكونتيسة ايردودي كانت تملك ضيعة قرب كلوستنبيرغ. وقد بدأ بيتهوفن في التقرّب إليها بعد أن خاب أمله في جولييتا جوشياردي. كانت في السابعة والعشرين من عمرها وقد مضى على انفصالها عن زوجها حوالي ستّ سنوات. بيتهوفن وقتها كان في السابعة والثلاثين. أي انه يمكن القول أنهما كانا قرينين مناسبين.
كان من عادة الكونتيسة أن تستضيف حفلات موسيقية في منزلها. وقد كلّفت بيتهوفن بالترفيه عن ضيوفها. ألا يُحتمل أن تكون اسعد سنوات حياته هي التي قضاها برفقة هذه الكونتيسة؟ الكتّاب من النساء اللاتي تحدّثن عن بيتهوفن يتبنّون هذه النظرية. وقد امتدّت علاقته بالمرأة لعدّة سنوات. لكنّها تُعتبر أكثر نساء بيتهوفن غموضا، إذ لا يُعرف عن حياتها سوى النزر اليسير. وقد أهداها بيتهوفن ثلاثيته المعروفة بـ الشبح. وهي قطعة تناسبها كثيرا لأنها تتحدّث عن أشباح ماكبث. الكونتيسة ايردودي انتهت حياتها بطريقة مأساوية. فقد قُتلت في ذروة عمليات القمع التي قام بها ميترنيك ضدّ الألمان من ذوي الأصول الهنغارية.
في عام 1812، التقى بيتهوفن تيريز مالفاتي ابنة أحد أطبّائه. كانت وقتها في الثامنة عشرة من عمرها. وهناك احتمال أنه تقدّم لخطبتها. لكنّ عائلتها رفضته. ونعرف انه كتب لها على الأقل رسالة رقيقة واحدة. في تلك الرسالة يطلب بيتهوفن من مالفاتي أن تغفر له "سلوكه الوحشي" معها، دون أن يوضّح ما يقصده. ثم يقول: تأكّدي أن لا احد يتمنّى لك حياة سعيدة وحرّة أكثر منّي، أنا خادمك وصديقك المخلص بيتهوفن". من الواضح أنهما لم يكونا منسجمين. وحديثه عن السلوك الوحشي يوحي بأنه حاول استمالتها بطريقة فجّة، فصدّته. وقد غادرت مالفاتي البلاد بعد فترة وجيزة وتزوّجت عام 1816م.
أماليا سيبالد كانت مغنّية موهوبة من برلين. وقد قابلها بيتهوفن في منتجع يقع اليوم في جمهورية التشيك. كان في الثانية والأربعين، وكانت سيبالد في الرابعة والعشرين من عمرها. وقد كتب إليها سبع رسائل يعتذر فيها منها لكونه مريضا. العلاقة بينهما كانت تبدو سطحية وبلا اتجاه. كما أنها تصفه في إحدى رسائلها بـ "الطاغية"، وهي إشارة ليست جيّدة على كلّ حال.
يبدو مرجّحا أن الحبيبة الخالدة كانت متزوّجة. هل يمكن أن تكون هي المرأة التي يشير إليها بيتهوفن في هذه الرسالة التي كتبها إلى صديقه وتلميذه فرديناند رايس في مارس من عام 1816؟ يقول: كلّ التمنيّات الطيّبة لزوجتك. للأسف ليس لديّ زوجة. لم أجد سوى امرأة واحدة، ولن امتلكها أبدا. لكن ذلك لم يجعل منّي رجلا كارها للنساء".
لودفيك فان بيتهوفن سيصبح في ما بعد مادة مفضّلة لـ سيغموند فرويد. وبعض من أتوا بعد فرويد، أي أصحاب مدرسة التحليل النفسي، رسموا للموسيقيّ صورة رجل عجوز وفظّ كان يطارد النساء الشابّات بأسلوب عقيم وقديم وكان يعرف انه محكوم بالفشل.
في سنواته الأخيرة، جاهر بيتهوفن بمعارضته لدولة ميترنيك البوليسية. لكن الشرطة السرّية تركته وشأنه لأنه اعتُبر دائما شخصا مشهورا وغريب الأطوار جدّا لدرجة انه لا يمكن اعتباره تهديدا جدّياً للدولة.
ما أغفلته الكتب التي تناولت سيرة حياة بيتهوفن هو انه كان صاحب ضحكة صافية وعفوية. كان يستمتع بالحياة عندما يريد. وهذا الإحساس بالبهجة تعبّر عنه أفضل قطعه الموسيقية.
اهتمام الناس والكتّاب بقصّة الحبيبة الخالدة ربّما يعود في جزء منه إلى الفضول والتوق لمعرفة طبيعة العلاقة الخفيّة بين مشاهير الرجال والنساء، خاصّة على صعيد الحبّ والعواطف. ويمكن القول أيضا أن افتتان المؤرّخين وكتّاب السير بـ بيتهوفن ونسائه لا يختلف كثيرا عن انجذاب الناس لما تنشره الصحف الشعبية هذه الأيّام من أسرار وفضائح تتناول الحياة الخاصّة لكبار النجوم والمشاهير.
عاش بيتهوفن حياته كلّها بلا زواج. وقبل وفاته بسبع سنوات، فقد السمع نهائيا. كان تأثير تلك المأساة عليه هائلا ومدمّرا. كتب آنذاك يقول: سأقاوم القدر بكلّ ما استطيع. لن اسمح له أن يهزمني بسهولة. آه لو كان بوسع الإنسان أن يعيش أكثر من حياة".
وقد توفّي في فيينا في السادس والعشرين من مارس عام 1827م أثناء عاصفة رعدية. كان عمره وقتها يناهز الخامسة والسبعين.

Credits
lvbeethoven.com
all-about-beethoven.com

الأحد، نوفمبر 20، 2011

لوتريك وأفريل: الرسّام وملهمته


اقترن اسم جان افريل بالرسّام الفرنسي هنري دي تولوز لوتريك. كان الاثنان قد التقيا في أوائل عام 1890م، عندما بدأت افريل تقديم رقصاتها المبتكرة في المولان روج. وقد رسمها في العديد من لوحاته وأفرد لها جانبا مهمّا من مجموعة أعماله التي يصوّر فيها حلبات الرقص وقاعات الموسيقى وحياة النوادي الليلية. كانت افريل صديقة لوتريك المقرّبة وملهمته الخاصّة. ولوحاته التي رسمها لها لا علاقة لها بالأجواء المبهجة والصاخبة التي تطبع أعماله عموما.
رقصات افريل الغريبة ولوحات لوتريك التي تظهر فيها بتعابير جامدة وملامح حزينة كانت جزءا من التوتّرات الثقافية التي شهدتها باريس في نهايات القرن قبل الماضي.
ترى، ما الذي رآه لوتريك في وجه جان افريل؟ ولماذا فضّل أن يرسم شخصيّتها الخاصّة بعيدا عن حياة الرقص والليل؟

في مايو من عام 1894، كان شابّ فوضوي يُدعى اميل هنري يغادر غرفته الصغيرة في حيّ مونمارتر باتجاه شوارع الموضة القريبة من سان لازار في باريس. دخل الشابّ الغاضب والعاطل عن العمل مقهى تيرمينوس الأنيق بينما كان يخبّئ تحت معطفه قنبلة.
وفي الداخل، قام بإشعال الفتيل وألقى بالقنبلة وسط المقهى. وقد انفجرت وسط جموع الناس المنهمكين بالشراب والأحاديث، ما أسفر عن مقتل شخص وإصابة ما يقرب من عشرين شخصا آخرين بجروح.
كانت باريس في ذلك الوقت قد شهدت عددا من التفجيرات على أيدي عناصر فوضوية. لكن هذا الهجوم كان غير مسبوق، لأنه استهدف مدنيين وليس رجال شرطة أو مسئولين حكوميين. وقد تمّ القبض على هنري وحوكم بسرعة ثم اُعدم بالمقصلة. وطبقا للمؤرّخة ماري ماكوليف، لم يعتذر هنري عن جريمته. وعندما وبّخه القاضي على إيذائه أناسا أبرياء ردّ قائلا: لا يوجد برجوازيون أبرياء".
في ذلك الربيع، كان هناك انفجار آخر في فرنسا على هيئة راقصة تُدعى جان افريل. كانت تلك المرأة النحيلة قد بدأت للتوّ أداء رقصاتها النشطة والفريدة في المولان روج. كانت افريل ذات شعر احمر داكن. وهيئتها تشبه إلى حدّ ما صُور نيكول كيدمان في فيلم المولان روج الذي أنتج قبل حوالي عشر سنوات.
انجذاب تولوز لوتريك إلى أماكن الترفيه الناشئة التي تعرض ضروبا من التسلية المنحلّة، مثل الكباريهات وقاعات الرقص، يعود في جانب منه إلى مكانته الهامشية في المجتمع الباريسي. كان هذا الفنّان قد ولد لأسرة أرستقراطية. لكن مرضا أصابه في طفولته فشوّهه وجعله يبدو صغير الهيئة وضئيل الجسم.
كان لوتريك يواجَه في الكثير من الأحيان بالرفض في تلك الأماكن التي كان مفترضا أن ترحّب به نظرا لمكانة عائلته. وقد دفعه إحساسه بالنبذ لأن يحوّل اهتمامه إلى عالم باريس السفلي الذي جعله موضوعا لفنّه الفريد. وكان النقّاد غالبا يلمّحون إلى تشوّهاته الجسدية للنيل من عمله والانتقاص من موهبته.
فنّ تولوز لوتريك يشير إلى رجل عانى الكثير خلال حياته. وقد وجد أخيرا طريقة ينتقم بها من المجتمع الذي ظلمه وهمّشه. قال عنه احد النقّاد آنذاك: إن المرء لا بدّ وأن يفاجأ بمناظر القبح التي يمجّدها لوتريك في لوحاته التي يستعير شخصياتها من قاعات الرقص والأحياء الفقيرة في الشوارع الخلفية".
لوحات لوتريك تتميّز بأسطحها المستوية وضربات الفرشاة السريعة فيها والتي تشبه لوحات معاصرَيه فان غوخ وسيزان. كانت صالونات الفنّ الرسمية في باريس ترفض أعماله باستمرار. وكان الكثيرون يعتبرونها علامة على انحلال باريس في ذلك الوقت.
المحافظون المدافعون عن التقاليد كانوا يتعاملون مع كلّ شيء جديد بالاعتراض والرفض. وكانوا يحاذرون ممّا يعتبرونه فوضى ثقافية. وبدا أن هؤلاء كانوا يستهدفون، على وجه الخصوص، الفنّ الحديث وانحطاط حفلات الرقص في مونمارتر. وفي هذا المناخ، ظهرت قضيّة دريفوس لتزيد هيجان المشاعر الوطنية والمعادية لليهود.


كان لوتريك يركّز في لوحاته على تصوير مشاهد الترفيه والتسلية بأسلوب لا يخلو من التخلّع والمجون. وحدها جان افريل صوّرها لوتريك بشكل مختلف. فملامحها وتقاطيع وجهها تعكس حالات من الاستلاب والحزن. وهي بالتأكيد لا توحي بأيّ شعور بالفرح أو الابتهاج.
في إحدى أشهر لوحاته بعنوان جان افريل تغادر المولان روج، يرسم لوتريك افريل المتعبة والمنبوذة. تعابير وجهها تحمل حزنا لا يُصدّق. وأنت تتمعّن في هذه الصورة لا بدّ وأن تحسّ بضجر هذه المرأة الشابّة التي ترقص لإمتاع الآخرين، بينما تساورها رغبة خفيّة لأن تهرب من هذا الوجود الذي يطلب منها ما لا تستطيع تحمّله.
كانت جان افريل امرأة تتصف بالذكاء الممزوج بشيء من العصبية. وعندما رسم لها لوتريك هذا البورتريه لم يكن عمرها يتجاوز الرابعة والعشرين. ومع ذلك صورّها بشفتين مشدودتين ووجه منقبض، كما لو أنها امرأة في الخمسين.
حياة افريل المبكّرة تختلف كثيرا عن التنشئة الارستقراطية لـ تولوز لوتريك. فقد تعرّضت منذ الصغر لسوء معاملة أمّها، ما دفعها لمغادرة البيت وهي في سنّ الثالثة عشرة. كانت تعاني من مرض تصلّب العضلات. وقد أدخلت مستشفى متخصّصا في علاج الهستيريا واضطرابات الجهاز العصبي عند النساء.
إحدى وسائل العلاج في ذلك المستشفى كانت إلباس المرضى ثيابا خاصّة وجعلهم يؤدّون أنواعا من الفنون أمام جمهور من أفراد الطبقة المتوسطة. وبعد سنتين من العلاج، غادرت افريل المستشفى بعد أن تراجعت آثار الاضطراب العصبي وأصبحت تؤدّي رقصاتها في المولان روج الذي كان قد افتتح حديثا في ذلك الحين.
نجاح افريل على المسرح كان مبنيّا في جزء منه على جاذبية اختلالاتها وصِفاتها الغريبة. وقد ألهمت طريقتها في الرقص عددا من الكتّاب الذين كانوا يرون فيها جزءا من ثقافة أوسع. الفضول لمعرفة أشياء خارج نطاق المظهر الطبيعي كان ظاهرة سيطرت على المشهد الفنّي والثقافي في باريس مطلع القرن الماضي. كان الناس مفتونين وقتها بالجماليات غير التقليدية وبكلّ ما هو بدائي ومجنون.
لوتريك لم يعامل فنّانة بمثل التكريم والاحترام اللذين كانا يخصّ بهما جان افريل. كان حريصا على أن يُبرز في لوحاته وجهها الطويل والجميل وملابسها المحكمة والأنيقة.
وهو لم يكن يرسمها كنجمة لامعة، وإنما كامرأة حزينة ووحيدة ويائسة. والسخرية الكاريكاتيرية التي تطبع لوحاته عادة يستبدلها بتعاطفه وإعجابه بموهبة هذه المرأة محاولا إظهار عزيمتها وشجاعتها المعنوية.
المكانة الهامشية كانت عاملا مشتركا بين كلّ من افريل وتولوز لوتريك.
ويبدو أن الاثنين تشرّبا القواعد البرجوازية وتمثّلاها جيّدا. وقد أنتج كل منهما قيما جمالية جديدة غطّت على تقاليد وحساسيات تلك الفترة.
وبينما توفّي تولوز لوتريك بسبب إدمان الكحول في عام 1901 وقبل بلوغه السابعة والثلاثين، غادرت جان افريل المسرح نهائيا بعد موته بوقت قصير وتزوّجت وعاشت حياة هادئة نسبيا إلى حين وفاتها في العام 1943م. "مترجم".

الخميس، نوفمبر 10، 2011

ألف لوحة ولوحة


"ألف لوحة ولوحة يجب أن تراها قبل أن تموت" هو عنوان الكتاب الذي أحضرته معي بعد زيارتي الأخيرة إلى لندن. الكتاب يقع في حوالي ألف صفحة. وكلّ صفحة مخصّصة للوحة، مع شرح موجز عن الرسّام والعصر الذي عاش فيه.
المؤلّف ستيفن فارذينغ يعمل أستاذا في جامعة الفنون في لندن. كما انه في الوقت نفسه رسّام. وقد ساعده في اختيار اللوحات وكتابة الشروحات مجموعة من تسعين كاتبا، بينهم أساتذة في الفنّ وموسيقيّون ومصمّمو مواقع اليكترونية.
اللوحات المختارة تغطّي الفترة من عام 1420 قبل الميلاد وحتى العام 2006م. وتضمّ نماذج من الفنّ الفرعوني والإسلامي وفنّ عصر النهضة وصولا إلى فنّ القرن العشرين. وقد روعي في اختيار هذه الأعمال أن تكون ممثّلة لمختلف التيّارات والمدارس الفنّية في الرسم.
ويحوي الكتاب أعمالا لفنّانين مشهورين مثل دافنشي وبيكاسو والبريخت ديورر وكلود مونيه وهيرونيموس بوش وكاندينسكي ورافائيل ودي غويا وميكيل أنجيلو وغوستاف كليمت وروبنز وغيرهم.
والملاحظ أن المؤلّف لم يقدّم لكتابه بشرح عن بدايات الرسم. كما أن الكتاب لا يتطرّق إلى ماهيّة الرسم ولا إلى وظيفته.
والملاحظة الأخرى تتعلّق بالعنوان. فالإشارة إلى الموت في عنوان كتاب يتحدّث عن الفنّ لم تكن موفّقة. لكن ربّما استوحى المؤلف العنوان من اسم كتاب شهير ورائج للكاتبة باتريشيا شولتز بعنوان "ألف مكان يجب أن تراها قبل أن تموت".
المقال المترجم التالي يلقي المزيد من الضوء على مضمون هذا الكتاب. وهو خلاصة لآراء مجموعة من الكتّاب ونقّاد الفن.

قد يكون من السهل على شخص ما أن يضع قائمة بلوحاته العشر المفضّلة من تاريخ الفنّ. لكن كيف يمكن لشخص واحد أن يتعاون مع عشرات الكتّاب الآخرين لتأليف كتاب شامل يتضمّن أهمّ وأشهر ألف لوحة في تاريخ الرسم؟
الشيء المحيّر في هذا الكتاب هو انه خفيف جدّا رغم حجمه. وقارئه المستهدف هو بالتأكيد شخص ما يشبه المرأة التي تظهر على غلافه. وهي تبدو واقفة بينما تعطينا ظهرها وقد ارتدت ثوبا أسود أنيقا وغير مبهرج.
في وقت ما من منتصف القرن التاسع عشر، حدثت انعطافة في تاريخ الرسم. فقد توقّف الرسّامون عن فعل ما كانوا يفعلونه من قبل، وبدءوا يطرحون أسئلة تتناول ماهيّة الرسم وغاياته.
وكان هذا مؤشّرا على التحوّلات الهائلة التي مهّدت لدخول العصر الحديث. كان التغيير الأكبر يتمثّل في تخلّي الرسّامين عن تمثيل الأشياء بطريقة واقعية وإهمالهم للمسائل المتعلّقة بالمنظور.
لكن، لسبب ما، كان الناس ما يزالون يشعرون بالرغبة في الرسم. ولا احد يدري لماذا. ربّما كان السبب هو محاولة الإبقاء على تقليد قديم على أمل أن يعيد إنتاج نفسه في عالم جديد.
وأيّا ما كان الأمر، فإن الرسم تمكّن فعلا من إعادة تصنيع نفسه. واندفع الرسّامون إلى القرن العشرين بأفكار وأدوات جديدة. وبدأ بعضهم يتحدّث عن الرسم من داخل لوحاتهم.
لوحة ماليفيتش المشهورة "ابيض على ابيض" يمكن أخذها كمثال. واللوحة هي عبارة عن مربّع ابيض مرسوم بطريقة مائلة على خلفية من اللون الزهري الخفيف. ويمكن اعتبار اللوحة دراسة في الشكل واللون.
هذه اللوحة لن تعثر لها على اثر في كتاب "ألف لوحة ولوحة يجب أن تراها قبل أن تموت". وستجد عوضا عنها لوحة ماليفيتش الأخرى "الدائرة السوداء" والتي تحاول، هي أيضا، إيصال نفس الفكرة تقريبا.
غير أن لوحة الدائرة السوداء تظهر في إحدى صفحات هذا الكتاب بمواجهة بورتريه الكونتيسة آنا دي نوي للفنّان الاسباني إغناثيو ثولواغا.
من المؤكّد أن لوحة ثولواغا قويّة، وإن بطريقة مختلفة. تتمنّى لو انك عرفت هذه الكونتيسة عن قرب. تتأمّل في ملامح وجهها وتتخيّل كما لو أنها تقول: أحضر لي كأسا من النبيذ أيها الأحمق! النصّ تحت صورة الكونتيسة يتحدّث عن ألوان أغطية السرير الداكنة التي تحاكي لون شعر المرأة الفاحم وفستانها.
وإذا ما حوّلت نظرك إلى الصفحة اليسرى من الكتاب، ستجد بضعة أسطر عن ماليفيتش تشير إلى أن الرسّام اختار للوحته توليفاً تجريديا بالكامل.
الفرق بين هاتين اللوحتين كبير جدّا. السواد النقيّ في لوحة ماليفيتش يهدّد بمحو كل العناصر التمثيلية في لوحة الكونتيسة. هنا تقف الألوان الثريّة للباس التقليدي والمظاهر الأندلسية في مواجهة العالم الصامت للتجريد.
ومن بين الأعمال العظيمة التي يتوقّع القارئ أن يجدها في هذا الكتاب رسومات ميكيل انجيلو في سقف كنيسة سيستينا، والغجرية النائمة لـ هنري روسو، والصرخة لـ إدوارد مونك، وظهيرة يوم احد لـ جورج سورا.
لكن هناك مفاجآت أخرى ولوحات غامضة لا يبدو أنها جديرة بأن تُدرج في الكتاب، مثل في الصباح الباكر لـ موريتز لودفيغ فون شوند وأغنية من بعيد لـ فرديناند هولدر.
في هذا الكتاب أيضا، ثمّة لوحات يُفترض أن لا تستطيع رؤيتها قبل الموت لسبب بسيط، هو أنها موجودة ضمن مجموعات فنّية خاصّة.
على أن أفضل ما في الكتاب هو مجموعة اللوحات المختارة. وبطبيعة الحال لن تجد نفسك متّفقا مع جميع الاختيارات. لكنها تغطّي مجموعة كبيرة من الأساليب والتيّارات الفنّية والفترات الزمنية والرسّامين.
من بين الأعمال المختارة لوحة رحلة المجوس إلى بيت لحم للفنّان الايطالي بينوتسو غوتسولي. هذا لوحة غريبة بالفعل. لكنّ منتصف القرن الخامس عشر، أي زمن رسم اللوحة، كان فترة غريبة. ومن الصعب جدّا فهم المشهد الفكري في أوروبّا من بدايات العصور الوسطى وحتى بداية عصر النهضة. كانت هناك قواعد مختلفة. الله كان ما يزال موجودا. وكانت الحياة تُفسّر من خلال شبكة معقّدة من الرموز والاستعارات التي لا يمكننا فهمها اليوم. لكن يمكن للمرء على الأقلّ أن يقدّر ثراء اللون وجمال التصميم في هذه اللوحة. فهي تنقل المتلقّي عبر فضاء حالم. والنصّ المكتوب تحتها يقول: التوليف يبدو غير محسوم. كما أن المنظور غير مقنع". وهذا استنتاج صحيح. فاللوحة عبارة عن محاولة تجريبية في أسلوب تناول التوليف والمنظور.
الربع الأوّل من الكتاب تهيمن عليه الايقونات واللوحات الدينية من ايطاليا. والربع الأخير منه تغلب عليه لوحات فنّاني الحداثة مثل غوردون بينيت وداميان هيرست، بالإضافة إلى فنّان الشوارع البريطاني المشهور بانكسي.
من المعلومات الغريبة التي يوردها الكتاب عن الموناليزا هي أن اللوحة لم تكتسب اسمها المعروف اليوم إلا بعد حوالي نصف قرن من رسمها، عندما كشف المؤرّخ الايطالي جورجيو فاساري هويّة المرأة زاعما أن اسمها الأصلي ليزا جيرارديني.
من أوجه النقص في هذا الكتاب انه لا يتحدّث عن الأسباب التي تجعل من لوحة ما مهمّة وتستحقّ أن تراها. لكنّ المؤلّف يقول في المقدّمة إن كلّ عمل في هذا الكتاب لا يمكن أن يرقى إلى المستوى الممتاز الذي تتبوّأه لوحة مثل لاس مينيناس لـ فيلاسكيز. غير انه يؤكّد لنا أن كلّ لوحة اختيرت، إما لأنها مهمّة أو لأنها مثيرة للاهتمام، أو للأمرين معا. لكن متى تكون اللوحة مهمّة أو مثيرة للاهتمام؟ المؤلّف لا يكلّف نفسه عناء طرح مثل هذا السؤال رغم أهمّيته. كما انه لا يقدّم شرحا مقنعا وكافيا عن سبب اختيار هذه اللوحات بالذات، وكأنه ينصح القارئ بأن يتوقّف عن الكلام وينشغل فقط بالنظر. أي أن هذا الكتاب في النهاية إنما يعرض الصور أو اللوحات، لكنّه لا يتحدّث عنها.

السبت، نوفمبر 05، 2011

هيروشيغي: مائة منظر لـ ايدو


كان اوتاغاوا هيروشيغي فنّانا يابانيّا كرّس حياته لرسم لوحات رائعة عن الطبيعة اليابانية. وطوال مسيرته الفنّية، ترك هذا الرسّام بصمة خاصّة في تاريخ الرسم العالمي بفضل لوحاته الخشبية الجميلة وأفكاره المبتكرة التي جعلت منه فنّانا مفضّلا بالنسبة للكثيرين.
أحد أشهر أعمال هيروشيغي هو سلسلة لوحاته بعنوان مائة منظر لـ ايدو. وايدو هو الاسم القديم لـ طوكيو عاصمة اليابان.
وتتألّف هذه السلسلة من مائة وثمان عشرة لوحة. وفيها يصوّر هيروشيغي بطريقة شاعرية مظاهر الحياة والطبيعة في كلّ فصل من فصول السنة.
وقد اعتُبرت هذه المجموعة على الدوام واسطة العقد في أعماله الفنّية. كما أنها اليوم من بين أعظم الأعمال الفنّية في اليابان. ويمكن النظر إليها، أيضا، باعتبارها احتفاءً بفنّ وثقافة اليابان في نهايات فترة الشوغن.
رسم هيروشيغي مناظر هذه السلسلة في العام 1856م. ويجب أن نتذكّر أن ايدو (أو طوكيو كما أصبحت تسمّى في ما بعد) كانت وقتها تمرّ بتحوّلات كبيرة. وكانت، كما هي اليوم، إحدى أكبر المدن في العالم.
وأوّل ما ستلاحظه وأنت تنظر إلى هذه اللوحات المطبوعة على الخشب هو اهتمام الرسّام بإظهار التفاصيل الصغيرة. وعندما تتملّى هذه اللوحات أكثر ستشعر كما لو انك تشمّ شذى الأزهار والروائح العطرية المنتشرة في الهواء وتسمع أحاديث الناس وأصوات الكائنات.
وسترى في بعض هذه اللوحات الغيوم الداكنة وهي تجود بأمطارها، بينما يبحث الناس لهم عن ملاذ وهم يعبرون فوق جسور تطلّ على مياه بلّورية زرقاء.


من المثير للاهتمام أن نعرف أن هيروشيغي كان في بدايات حياته يعمل كرجل إطفاء. وعندما بلغ الحادية والثلاثين، قرّر أن يضيف إلى اهتماماته دراسة الطباعة والرسم. لذا درس على يد الفنّان الياباني المشهور اوتاغاوا تويوكوني.
وقد استطاع هيروشيغي بسرعة أن يطوّر قدرته على التقاط تأثيرات الأماكن والناس والمواسم في لوحاته بفضل موهبته ومثابرته وإصراره على أن يصبح فنّانا مختلفا.
في هذه السلسلة تبدو الألوان اقرب ما تكون إلى ألوان الطبيعة الأصلية. وقد استخدم الرسّام لهذه الغاية تقنية متطوّرة لمزج الأصباغ بحيث تنتج أسطحا مظلّلة وانعكاساتٍ جميلة ولمعانا خفيفا يتغيّر بحسب نوعية ودرجة الضوء.
ومن خلال التوليفات البارعة وأنظمة الألوان، استطاع هيروشيغي أن يصوّر القوّة الكبيرة للطبيعة، مستحضرا المزاج الشاعري لتعاقب فصول السنة ودورات الطقس وأوقات اليوم المختلفة.
اليوم تُعتبر هذه الرسومات كنزا ثقافيا مهمّا. وقد عُرضت في العديد من متاحف العالم الكبيرة. كما أعيد استنساخها مرارا. وهي متوفّرة بالكامل على الانترنت، بالإضافة إلى معظم أعمال الرسّام الأخرى.
كان هيروشيغي أثناء حياته فنّانا معروفا وناجحا تجاريا. لكنّ المجتمع الياباني لم يلتفت إليه بالشكل الكافي. ومثل زميله كيتاغاوا اوتامارو، فإن شهرته لم تبدأ إلا بعد أن اكتشف أعماله الأوربّيون.
وقد هيمن، هو وزميله الآخر كاتسوشيكا هوكوساي، على الفنّ الشعبيّ في اليابان خلال النصف الأوّل من القرن التاسع عشر.
في نهايات حياته، أنتج هيروشيغي رسومات اقلّ جودة. والسبب انه كان يرسم بسرعة فائقة ليواكب طلبات الزبائن والسوق.
في أكتوبر من عام 1858 توفّي اوتاغاوا هيروشيغي متأثّرا بإصابته بمرض الكوليرا عن اثنين وستّين عاما. وترك وراءه أكثر من أربعة آلاف لوحة، ما يؤهّله لأن يكون احد أكثر الرسّامين إنتاجا في العالم. "مترجم".

الأربعاء، أكتوبر 26، 2011

سَفَر عبر الزمن


لو قُدّر لك أن تسافر عبر الزمن إلى الوراء، فأين ستكون وجهتك؟
ادوارد غيبون مؤلّف كتاب انحدار وسقوط الإمبراطورية الرومانية اختار القرن الثاني الميلادي كزمن مفضّل وتمنّى لو انه عاش في تلك الحقبة بالذات.
السبب، بحسب غيبون، أن الجنس البشري شهد وقتها أزهى فترات السلام والسعادة والرخاء.
لكن كيف كانت ملامح تلك الحقبة؟
تعاقب على حكم روما آنذاك خمسة أباطرة هم نيرفا، تراجان، هادريان، انطونيوس بايوس وماركوس اوريليوس. وجلبت فترات حكمهم مستوى غير مسبوق من السلام والاستقرار في معظم أرجاء أوروبّا الغربية.
لكن أيّ مكان وزمان ستختاره أنت؟ السؤال يحتاج إلى تفكير أكثر. مثلا، الشخص الذي يكره الألم يفضّل العمليات تحت التخدير ويتمنّى ألا يموت بسبب مرض الجدري. لذا فإنه حتما سيختار أن يعيش في وقتنا الحاضر.
وعندما يتعلّق الأمر بالتكنولوجيا، فإن الحاضر يتفوّق على الماضي دون شكّ. والمسألة لها علاقة بنمط الحياة والأفكار والأخلاق والأشياء التي تمتدّ وتنكمش كحركة المدّ والجزر.
اليوم، ومن خلال جواز سفر وتذكرة، تستطيع أن تسافر لتعيش حياة مريحة في وقت ومكان ما من اختيارك. المهتمّون بالثقافة سيحجزون مقعدا إلى عالم شكسبير في العام 1599 أو إلى هارلم أو إلى عشرينات القرن الماضي. والذين يقدّسون الأبطال سيصطفّون لمشاهدة ميكيل أنجيلو وهو يحمل الإزميل في عام 1501، أو جنكيز خان وهو خارج إلى المعركة في عام 1206 م. الأبيقوريون، الأكثر تعقّلا من بين المسافرين عبر الزمن، سوف يتبعون خطى غيبون إلى روما أو يوقّتون ولادتهم مع نداء الحروب العالمية أو نشأة الإمبراطورية الأمريكية.
السلام والاستقرار جيّدان للغاية. ولكن العديد من القفزات العملاقة التي حقّقتها البشرية حدثت في أوقات الحرب. الديمقراطية وحرّية النقاش بلغا أوجهما في أثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد، أي في الوقت الذي كانت فيه الحرب البيلوبونيسية تستعر في الخارج.
البعض قد يتحمّلون رؤية بشاعة الحروب الدينية في القرن السادس عشر لكي يروا انبثاق عصر الإصلاح، أو حرب الثلاثين عاما ليشهدوا بزوغ فجر التنوير.
وهناك من قد يقول: لقد حرّرنا العبيد ومكنّا المرأة وهززنا عروش الطغاة وأسقطناهم. وينبغي أن نعيش بعدها سعداء دائما. لكننا لسنا سعداء.
من المغري أن تتمسّك بما يمكن أن تشاهده: سقراط يتناقش مع أفلاطون في أثينا. ومعاصرهما كونفوشيوس يسافر متجوّلا في أرجاء الصين. ويوليوس قيصر يتصارع في روما مع شيشيرون عام خمسين قبل الميلاد. ولكن هذا سيكون مجرّد وقت للسياحة. من الصعب أن نجد لمعانا يضاهي لمعان الإمبراطورية البيزنطية في أوج صعودها. غير أن قوّة الكنيسة كانت أعظم بكثير.
الفرسان الذين كانوا يمتطون ظهور الخيل في أوربّا العصور الوسطى أطلقوا حدود الإمبراطورية. ومن بين جميع دول عصر النهضة تقف فيتشينزا في القرن السادس عشر متميّزة وبارزة. في هذا المكان قد يوفّر لك "بالاديو" فيللا ويمنحك فرصة رؤية بعض الفنّانين الفينيسيين الذين تمتلئ متاحفنا هذه الأيام بأعمالهم.
وقريبا منها، تأتي أمستردام في عصرها الذهبي، أي في القرن السابع عشر. ولكن هذا يقتصر على أمور الثقافة والفنّ. ونحن بحاجة إلى شيء ما أوسع وأكبر.
النظام الفرنسي القديم جذّاب بما يكفي لأن يغضّ المرء الطرف عن مساوئ الملكيات المطلقة. تاليران، السياسي الداهية الذي نشأ في ظلّ ذلك النظام ونجا من تقلّباته قال: إن أيّ شخص لم يعش في القرن الثامن عشر، أي قبل الثورة، لن يعرف حلاوة العيش".
جزء من التحدّي هو أننا لا نبحث فقط عن لحظة كاريزماتية واحدة. كما أن الأماكن توجد في الزمن أيضا.
ماذا رأى القدماء؟ ماذا يخبّئ القدر للأطفال؟ إننا نبحث عن نقطة تحوّل؛ عن مكان عاش أثناء التغيّرات وما تزال آثاره باقية معنا إلى اليوم.
هذا يقودنا إلى لندن في تسعينات القرن السابع عشر، وبالتحديد بعد الثورة المجيدة التي دفعت جيمس الثاني للتنازل عن العرش بعد الانقلاب الذي قاده ضدّه الأمير وليام أوف أورانج.
لندن تلك كان تعيش حكاية ثريّة كثراء إمكانياتها. أهلها القدامى ربّما كانوا قد صافحوا يد شكسبير. كما نجوا من حربين أهليّتين. وأحفادهم سيموتون في عاصمة لإمبراطورية عالمية. حولهم كان يتشكّل عالم جديد كليّا. في بيت قهوة جوناثان، يمكنك أن ترى ولادة البورصة. التأمين أيضا كان يشهد ولادته الأولى على يد "لويدز". وبنك انجلترا الجديد كان يضع حجر الأساس للاقتصاد الوطني.
البرلمان الانجليزي بدأ للتوّ تقليدا جديدا في الحكم وسيدوم لقرون. في المكتبات حول ويستمنستر هول، يمكنك ابتياع كتاب "برينسيبيا" أو المبادئ لـ اسحاق نيوتن من المطبعة مباشرة، بالإضافة إلى نصوص تتحدّث للمرّة الأولى عن العرض والطلب وقيمة النقد.
لندن كانت تعيش ازدهارا غير مسبوق في ذلك الوقت: الحدائق الواسعة، انتشار الطعام الفرنسي، حياة المقاهي الليلية. وقتها أيضا أشرق عصر الذكاء: أديسون وستيل وغيرهما. ستراند مليء بالمحلات التجارية الفاخرة. السير في جميع أنحاء المدينة أصبح يستغرق وقتا أطول. سامويل جونسون قال ذات مرّة: عندما يملّ الإنسان من لندن فإنه يملّ من الحياة نفسها".
كان هناك العديد من الأمور الجديدة التي تحدث في لندن: التسامح، حرّية الصحافة، البرلمان، النزعة الاستهلاكية، والاختراقات العلمية والاقتصادية التي ما يزال ملايين الناس يستفيدون منها اليوم بعد مرور أكثر من ثلاثمائة عام.
في بيوت القهوة، يتحدّث الناس عن الرياضيات الجديدة لحساب الاحتمالات. هذا هو جوهر فكرة التأمين. الهوس بالقمار كان يستهوي الأرستقراطيين في جميع أنحاء المدينة ويفسدهم.
الناس يدركون أن المستقبل لن يكون كالماضي. وهذا هو ما يجذب الكثيرين إلى لندن في تسعينات القرن السابع عشر، على الرغم من الباروكات والأطبّاء الدجّالين والرائحة الكريهة لدخان الفحم.
من هناك، بدأ العالم الحديث وتشكّلت معالمه الأولى. "مترجم".

الخميس، أكتوبر 20، 2011

الشرق بعيون إيطالية


كانت حملة نابليون العسكرية على مصر، بالإضافة إلى حكايات المستشرقين ومغامرات الرحّالة من بين العوامل التي أسهمت في إلهاب مخيّلة القارّة الأوربية العجوز وتحفيز الأوربيّين على معرفة المزيد عن حياة وحضارة الشرق.
وقد أسَرَ ما تبقّى من خيال الأوربّيين ما كان يصلهم من أخبار المتع المحرّمة والمحظيّات والحريم في قصور سلاطين وملوك بلاد الشرق.
كانت تحدو الأوربيّين رغبة جارفة في معرفة واكتشاف وفهم الأراضي البعيدة والمختلفة عنهم ثقافة وتاريخاً. ولا بدّ وأن الكثيرين منهم كانوا متأثّرين بكتابات الأديب الفرنسي فلوبير الذي كان قد سبقهم إلى مصر وأقام فيها طويلا وأسهب في وصف مشاهد الحريم والرقص هناك.
الايطاليون لم يكونوا بمنأى عن تأثير سحر وفتنة الشرق التي طبعت الرسم الغربي في القرن التاسع عشر.
فالرسّام الفينيسي فرانشيسكو هايز، الذي لم يسافر أبدا خارج ايطاليا، أصابته عدوى الافتتان بالشرق، فرسم العديد من اللوحات المتخيّلة عن ثقافة الشرق وحياة شعوبه.
لكن رسّاما آخر، هو ايبوليتو كافي، قرّر أن يعيش التجربة شخصيا. فباشر في العام 1843 رحلة طويلة أخذته في البداية إلى القسطنطينية حيث رسم فيها بازار العبيد وبعض المساجد الكبيرة مثل ايا صوفيا. ثم قصد أزمير، ومنها إلى القاهرة التي رسم فيها مناظر تصوّر نكهة الحياة في المدينة الخالدة. ومن القاهرة ذهب كافي عبر النيل إلى الأقصر ثم اللاذقية فـ أثينا، قبل أن يعود إلى روما في ربيع السنة التالية حاملا معه مئات الرسومات والاسكتشات عن زياراته ومشاهداته في بلدان الشرق.
ثم قرّر كلّ من البيرتو باسيني وروبيرتو غواتسالا القيام برحلة للحجّ إلى "مدائن الشمس"، فجابا العديد من حواضر الشرق وتحدّثا عن ثقافته وعادات سكّانه. كان الأوّل يحمل معه عدّة الرسم والألوان بينما حمل الثاني آلة أخرى اختُرعت حديثا هي الكاميرا. وقد ذهب باسيني أوّلا إلى بلاد فارس ثم القسطنطينية التي أقام فيها طويلا بعد أن فُتن بألوانها وثقافاتها وتنوّع حياة أهلها.
ومن فلورنسا غادر إلى مصر الرسّام ستيفانو اوسي بُعيد افتتاح قناة السويس مباشرة. وفي القاهرة عمل عند احد الباشاوات قبل أن ينتقل إلى المغرب مع صديقه تشارلز بيسيو.
ومن نابولي غامر الفنّان دومينيكو موريللي، الذي لم يسبق له أن وضع قدما في الأراضي الغريبة، برسم لوحات بارعة تصوّر الحريم والأجواء العربية الغامضة وطقوس الصلاة. كما رسم الحمّام التركي بألوان برّاقة وأسلوب أنيق يحاكي من خلاله لوحة جان ليون جيروم عن نفس الموضوع.
أما فرانشيسكو نيتي فقد دفعه حبّه لثقافة الشرق إلى القيام برحلة طويلة انتهت به في تركيا. وهناك رسم بعضا من لوحاته البديعة التي جسّد فيها جمال وأمجاد المدن المتوسطيّة.


ومن فلورنسا، ذهب رسّام آخر هو ستيفانو باسيني إلى مصر عام 1869 كي يحضر الاحتفال بافتتاح قناة السويس وليرسم لوحة عن المناسبة بتكليف من باشا مصر.
الرسّام ليوناردو دي مانغو غادر هو الآخر ايطاليا إلى بلاد المشرق، فسافر إلى سوريا ومصر واستقرّ في اسطنبول التي اختار أن يعيش فيها حتى وفاته في العام 1930م.
وفي العقد الأخير من القرن الماضي وصل الرسّام فوستو زونارو إلى اسطنبول التي كان قد قرأ عنها كثيرا منذ طفولته وكان يسمّيها جنّة الله على الأرض. وسرعان ما ذاع صيته بين الأوساط الارستقراطية في اسطنبول بسبب براعته في رسم البورتريه ومشاهد الحياة اليومية في المدينة. وقد دعاه منير باشا رئيس تشريفات السلطان إلى قصر يلديز وعرّفه على الرسّام التركي الشهير عثمان حمدي بيه. وفي العام 1896 عُيّن زونارو رسّاما أوّل في قصر السلطان عبد الحميد الثاني. وقد صوّر في لوحاته الشوارع والمساجد والنوافير والاحتفالات الدينية وحفلات الزواج والصيّادين ومختلف جوانب الحياة في اسطنبول القديمة بأسلوبه الحيّ وألوانه المتوهجة. كما رسم السلطان نفسه عدّة مرات وسجّل بعض حروبه وحملاته العسكرية في العديد من لوحاته.
وقد رحل زونارو أخيرا إلى ايطاليا بعد أن أقام في تركيا عشرين عاما. كان الايطاليون في ذلك الوقت قد هاجموا طرابلس التي كانت وقتها تابعة للسلطان العثماني. واعتبر الأتراك ذلك الهجوم انتهاكا لسيادتهم، فقرّروا طرد جميع الايطاليين المقيمين في البلاد، ولم يُستثنَ من ذلك القرار حتى زونارو نفسه.
الرسّامون الايطاليين الذين ذهبوا إلى الشرق غمروا أنفسهم في أجوائه بأقصى ما يستطيعون. فصوّروا في لوحاتهم مجاهل الصحراء وعالم القوافل والعطورات والبخور والألوان والمدن المزدحمة وغرف الحريم السرّية والحركات المُسكرة لراقصي المولوية والمتصوّفة.
كان هؤلاء الرسّامون مسكونين بهاجس المغامرة والفضول المعرفي. فسافروا مع القوافل والبدو، ووقفوا على بساطة الحياة في الصحراء، كما تعرّفوا على ترف قصور السلاطين والأمراء والباشاوات. وصوّروا بألوانهم الساطعة الطبيعة الدافئة والحميمة للشعوب الشرقية.
كما كانوا واقعين تحت تأثير افتتانهم الغريزي بالثقافات البعيدة والغامضة وانجذابهم نحو المجهول والفانتازي ورغبتهم في التعلّم والبحث عن مصادر جديدة للإلهام.
وقد تجلّى هذا واضحا في لوحات الفنّانين الايطاليين، والأوربيين بشكل عام، ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر.
ولا شكّ أن بعض الفضل يعود لأعمال أولئك الفنّانين الكبار في تعريف العالم الغربي لأوّل مرّة ببعض مظاهر الحضارة الإسلامية والعربية.

الاثنين، أكتوبر 10، 2011

عالَم مارك شاغال


في لوحات مارك شاغال كائنات خرافية وحيوانات طائرة ومخلوقات هجينة نصفها إنسان ونصفها الآخر وحش. ويُفترض أن الرسّام رأى هذه المخلوقات أو تَمثّلها في صور الشياطين المرسومة في الأيقونات والتماثيل العائدة للعصور الوسطى والتي كان معجبا بها كثيرا في بلده الأم روسيا. ولا بدّ وأن شاغال رأى أيضا وهو طفل سلسلة لوحات النزوات التي رسمها الفنّان الاسباني الكبير فرانشيسكو دي غويا.
منذ صغره، كان شاغال مفتونا بهذه النوعية من الصور الخليطة أو المهجّنة التي تمزج صورة الإنسان والحيوان معا، وهي سمة رافقت تاريخ الرسم منذ بداياته الأولى.
وهو في هذا يقتفي خطى العديد من الرسّامين الذين كانوا منجذبين لهذا النوع من الرسومات، مثل هنري فوسيلي وهيرونيموس بوش.
بعض معاصريه من الرسّامين كانوا، هم أيضا، يتبنّون هذا التقليد في الرسم، من بيكاسو إلى برانكوزي إلى جان "هانز" آرب إلى فيكتور برونر وآخرين.
والأمر الثابت هو أن مثل هذه الرسومات التي تصوّر البشر بهيئة وحوش أو طيور خرافية ظهرت بكثرة في فنّ القرن العشرين.
تكرار الأشكال الهجينة هو من ابرز خصائص لوحات شاغال. فهو كثيرا ما يستبدل رأس الإنسان برأس حيوان. كما انه يرسم الوحوش أو الحيوانات بأطراف تشبه أطراف البشر، كي تستخدمها في الرسم أو عزف الموسيقى. وفي بعض لوحاته، قد تندهش عندما ترى رؤوسا أو أيادي تبرز من الآلات الموسيقية كي تعزف لنفسها.
ما المعنى الذي يمكن أن نعزوه لهذه الكائنات؟
الحقيقة أن لهذه الصور رمزية دينية وشعبية ترتبط بالتقاليد اليهودية التي كانت سائدة في فيتبسك، بلدة الفنّان ومسقط رأسه.
الحيوانات المنزلية الحاضرة دوما في لوحات شاغال، كالأبقار والماعز والدجاج، كانت تستثير ذكريات من زمن طفولته التي قضاها في تواصل حميم مع تلك الحيوانات.
عمّه كان جزّارا. وكان يضحّي بالبقر بينما يهمس لها بكلمات مهدّئة. العنزة التي تعزف على الكمان في لوحاته تحلّ مكان عازف الكمان المتجوّل الذي كان يراه وهو طفل في احتفالات القرية السحرية.
السمك، هو الآخر، يذكّره بوالده الذي كان يعمل في مستودع للأسماك.
وإذا كانت الطيور، أيضا، تعزف الكمان أو البوق، فلأن أغنياتها تشبه في خيال الرسّام أنغام الموسيقى السماوية.





لوحات شاغال لا تخلو من روح النكتة والدعابة. فهو لا يتردّد أحيانا في تصوير نفسه على هيئة ديك أو بملامح عنز؛ وهو الحيوان الذي كان شاغال يعبّر دائما عن تعاطفه معه وحبّه له.
الجحش أيضا تظهر صوره كثيرا في لوحات شاغال. الحمار بطبيعته حيوان مطيع ومتواضع. لكنه بنفس الوقت حيوان يهودي ومسيحي. وذات مرّة، رسم الفنّان بورتريها لنفسه بصحبة حمار بالإضافة إلى ساعة جدّه القديمة.
في العام 1941، قال أندريه بريتون إن الفضل يعود لـ شاغال في إدخال المجاز والاستعارة بطريقة مظفّرة إلى الرسم الحديث. كما أشار إلى قدرة الرسّام في تحرير الأشياء والكائنات من اسر قوانين الجاذبية كي يكسر قوانين الطبيعة ويمنح تعبيرا بصريا للأحلام الخفيّة كجوهر للكائنات والأشياء.
ولد مارك شاغال في العام 1887 لعائلة يهودية فقيرة في روسيا. وكان أكبر أشقائه التسعة. وقد ظهرت بوادر موهبته الفنّية أثناء دراسته في المدرسة الروسية. وعلى الرغم من رفض والده، إلا انه بدأ عام 1907 دراسة الفنّ على يد ليون باكست في سانت بطرسبرغ. وفي هذا الوقت اتضحت ملامح أسلوبه المميّز الذي نعرفه به اليوم.
في عام 1910، انتقل مارك شاغال إلى باريس ومكث فيها أربع سنوات. وخلال هذه الفترة، رسم بعضا من أشهر لوحاته عن قريته وطوّر السمات التي أصبحت علامة فارقة على فنّه.
ألوان شاغال القويّة والساطعة تصوّر العالم في حالة أشبه ما تكون بالحلم. الفانتازيا، الحنين والدين، كلّ هذه العناصر تمتزج معا لتخلق صورا عن عالم آخر.
في عام 1914، أي قبل نشوب الحرب العالمية الأولى، أقام شاغال معرضا مفردا للوحاته في برلين. وأثناء سنوات تلك الحرب، اختار أن يبتعد عن باريس ويقيم في روسيا.
وفي عام 1922، غادر روسيا ليستقرّ في فرنسا بعد ذلك بعام. وقد عاش في باريس بشكل دائم، باستثناء الفترة من 1941 إلى 1948، عندما هرب من فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية ليقيم في الولايات المتحدة.
وقد عبّر شاغال عن رعبه من صعود النازية إلى السلطة في العديد من اللوحات التي تصوّر مآسي النزوح والتشريد والموت.
ويمكن القول إن مواضيع لوحاته موزّعة بين قصص التراث الديني وعناصر الفولكلور والقصص الشعبية ومن تفاصيل الحياة الدينية في روسيا.
وقد نال شاغال العديد من الجوائز اعترافا بفنّه. كما كان احد الرسّامين القلائل الذين عُرضت أعمالهم في متحف اللوفر أثناء حياتهم.

Credits
theartstory.org

الجمعة، أكتوبر 07، 2011

دومينيكينو: عرّافة كيومي

كان دومينيكينو احد أشهر وأكثر الرسّامين الايطاليين نفوذا في القرن السابع عشر. وقد اشتهر بلوحاته الكبيرة، وخاصّة لوحته عرّافة كيومي التي رسمها في العام 1617 بناءً على تكليف من الكاردينال شيبيوني بورغيزي. كانت عرّافة كيومي شخصية شعبية جدّا. وكيومي هي اسم بلدة في جنوب غرب ايطاليا يُعتقد أنها أوّل مستوطنة للإغريق في ايطاليا.
الكاردينال نفسه كان احد جامعي التحف الفنّية الكبار. كما اشتهر برعايته للفنّانين، مثل برنيني وكارافاجيو وغويدو ريني وغيرهم.
وقد تأثّر دومينيكينو في رسمه لهذه اللوحة بلوحة رافائيل المشهورة سانتا سيسيليا. وعرّافة كيومي تقف في طليعة صفّ طويل من الشخصيّات الأنثوية التي رسمها دومينيكينو بعينيها الواسعتين الصافيتين ونظراتها البعيدة، وهما سمتان مألوفتان في أعمال هذا الرسّام.
العرّافة التي تصوّرها اللوحة كانت إحدى كاهنات ابوللو وكانت تعيش في مستعمرة يونانية قرب نابولي بـ ايطاليا. وهناك إشارات متعدّدة إلى هذه العرّافة في الأدب الكلاسيكي. فقد ذكرها كلّ من أوفيد في كتاب التحوّلات وفرجيل في ملحمة الانيادا.
كانت هناك عرّافات كثيرات. لكن يبدو أن هذه العرّافة كانت أكثرهنّ شعبية، وهذا يفسّر كثرة صورها في الرسم الايطالي.
وقد اشتهرت هذه المرأة بإحدى نبوءاتها التي أشارت فيها إلى أن رجلا ستحمل به امرأة عذراء في اصطبل في بيت لحم. المسيحيون احتفوا بهذه الإشارة واعتبروها بشارة بمولد المسيح. كما أصبحت العرّافة نفسها رمزا مهمّا في المسيحية.
ومن بين جميع اللوحات التي تصوّر المرأة، يبدو أن لوحة دومينيكينو كانت الأكثر تفضيلا واحتفاءً عند جامعي التحف الفنّية في القرن التاسع عشر.
وربّما لهذا السبب تنافس الرسّامون في استنساخ اللوحة والنسج على منوالها. وهناك الآن على الأقل سبع عشرة نسخة من لوحة دومينيكينو هذه موجودة في متاحف ومجموعات فنّية عديدة حول العالم.
دومينيكينو رسم ثلاث لوحات للعرّافة. وتظهر فيها جميعا وهي تعتمر وشاحا وترتدي فستانا من القماش النفيس.
اللوحة الأشهر من بين اللوحات الثلاث هي التي توجد اليوم في غاليري بورغيزي في روما. وقد رُسمت في العام 1617م. وتظهر فيها المرأة وهي تمسك بمخطوط يُفترض انه يحتوي على تلك النبوءة، بينما يبدو خلفها جزء من آلة كمان.
كرّس دومينيكينو كلّ حياته لرسم الجداريات الكبيرة، ونادرا ما كان يرسم لوحات صغيرة. كان هذا الرسّام يفضّل العمل في سرّية وعزلة تامّة. ولم يكن يملك مرسما خاصّا به. كما لم يكن مهتمّا بتوقيع اسمه على لوحاته، كما هي عادة الرسّامين في ذلك الوقت.
في العصور القديمة، طبقا لما تذكره الأساطير، كانت هذه العرّافة تسكن الأضرحة والكهوف وتنطق بأحكام ونبوءات غامضة. وأحيانا كانت تكتب نبوءاتها شعراً على أوراق الشجر ثم تضعها عند حافّة الكهف. وإذا لم يأت احد ليجمعها، فإن الريح تبعثرها ولا يعود ممكنا قراءتها بعد ذلك.
وفي القرون الوسطى، ركّز الكتّاب على النبوءات المسيحية للعرّافة، التي تنبّأت، حسب فرجيل، بـ "مخلّص أو قادم جديد من السماء". وقد فُسّر ذلك على انه نبوءة بميلاد المسيح أثناء حكم الإمبراطور اوغستوس. لكن بعض المصادر الأدبية تذكر أن فيرجيل إنما كان يشير على الأرجح إلى الشخص الذي كان يرعاه ويقدّر شعره.
دانتي، وكما هو الحال مع المسيحيين الأوائل، صدّق تلك النبوءة واعتبرها مؤشّرا على ميلاد المسيحية. ولهذا السبب، وكنوع من المكافأة، اختار فرجيل كي يكون مرشده في رحلته إلى العالم السفلي في الكوميديا الإلهية.
في العام 1932، قام بعض علماء الآثار بإجراء حفريات في الكهف الذي يقال بأن عرّافة كيومي كانت تسكنه. وقد وجدوا أن تضاريس وبُنية الكهف تتوافق مع ما ذكره فرجيل الذي وصفه بأنه كهف تقوم على تخومه مائة بوّابة يندفع عبرها صدى صوت العرّافة وهي تسرد نبوءاتها.
في عصر النهضة تجدّد الاهتمام بشخصية عرّافة كيومي. ومن أشهر من صوّروها ميكيل انجيلو الذي رسمها في سقف كنيسة سيستين بـ روما.
وعبر العصور المتعاقبة، ابتُكرت عرّافات أخر ونُسبن إلى أماكن مختلفة في اليونان وليبيا وبابل وإيران وآسيا وأفريقيا، للتدليل على الانتشار الجغرافي للمسيحية.

الأحد، أكتوبر 02، 2011

مونيه: أشجار الحور

يُؤثر عن كلود مونيه قوله ذات مرّة: ليست هناك أمنية اعزّ على نفسي من أن أتوحّد مع الطبيعة وأن أعمل وأعيش بانسجام مع قوانينها، كما تحدّث عنها غوته. الطبيعة هي تجسيد للعظمة والقوّة والخلود". وكذلك قوله: لا توجد طبيعة ثابتة. مظهر الطبيعة يتغيّر باستمرار بفعل البيئة المحيطة من جوّ وضوء وهواء".
في العام 1890، رسم مونيه عدّة لوحات أراد من خلالها أن يدرس موضوعا واحدا، لكنْ في ظروف مناخية متباينة وفي أوقات مختلفة من اليوم. كانت تلك اللوحات جزءا من مشروع حياته، أي الإمساك في الرسم بالمظهر المتغيّر للطبيعة وبالأحوال المختلفة التي تطرأ على البيئة بسبب تغيّرات الضوء والطقس والحركة.
وكان هذا قد جلب لـ مونيه ورفاقه الانطباعيين الكثير من السخرية والانتقاد. لكن قُدّر لهذه المدرسة أن تتطوّر وأن تُحدث تغييرا في مسار الرسم الفرنسي والعالمي إلى اليوم.
في عام 1891، قرّر مجموعة من مالكي أشجار الحور المجاورة لمنزل مونيه في جيفرني بيع أشجارهم الكاملة النموّ في المزاد. وكانت تلك الأشجار قد زُرعت أصلا لأسباب تجارية وليست جمالية. وكان مقدّرا للأشجار أن تتحوّل في النهاية إلى عيدان ثقاب وخشب للسقّالات.
لكنّها كانت قد أسرت خيال مونيه وحازت على جلّ اهتمامه. وقبيل بيعها، قرّر أن يرسمها في الفترة ما بين فصلي الربيع والخريف من تلك السنة. كان قد أكمل رسم ثلاث وعشرين لوحة لـ أشجار الحور. وبعد ذلك بعام، عرض خمس عشرة منها في معرض حقّق نجاحا باهرا في باريس.
رسم مونيه كلّ هذه الدراسات في الهواء الطلق. وكان يأخذ بعضها إلى محترفه كلّما استدعت الحاجة لأن يضيف إليها بعض التفاصيل.
ادوار مانيه، صديق مونيه ومعلّمه، رسم صديقه وهو يجلس أمام لوحة في محترفه العائم. في هذه اللوحة ليس هناك ماء. والشجر يمكن رؤيته من نقطة منخفضة جدّا. وفي المقدّمة ترتفع أربع أشجار رشيقة إلى عنان السماء الزرقاء وهي تتمايل بطريقة إيقاعية.
تنظر إلى هذه اللوحات فيساورك إحساس بالنسيم الخفيف وتتخيّل صوتا يرتفع شيئا فشيئا، وفي النهاية تستحيل الهمسات إلى غمغمات.
استخدام اللون هو إحدى العلامات الفارقة للأسلوب الانطباعي. والألوان المهيمنة في هذه اللوحات هي الأخضر والظلال المتفاوتة للأزرق. لكنّ مونيه استخدم البنّي والأحمر على جذوع الأشجار والأصفر في المقدّمة كي يعطي المنظر عمقا ونسيجا أكثر.

كان مونيه يذهب إلى المكان الذي تقوم فيه الأشجار الرائعة على متن قارب صغير. وفي احد الأوقات، اضطرّ لشراء بعض الأشجار لأنه لم يكن قد انتهى من رسمها بعد. وعندما أكمل مهمّته باع الأشجار إلى احد متعهدّي تجارة الأخشاب.
في استخدامه الثقيل للون، كان مونيه متأثّرا بالرسوم اليابانية التي أصبحت رائجة في فرنسا قبل عشر سنوات من ذلك الوقت.
وبالإضافة إلى النوعية الزخرفية للوحات مونيه عن أشجار الحور وتصويرها الفاتن للضوء والجوّ والطبيعة، فإن الأشجار نفسها لها دلالة رمزية معاصرة. فقد كانت شجرة الحور ومنذ نهاية القرن الثامن عشر، أي منذ الثورة الفرنسية، هي شجرة الحرّية بالنسبة للفرنسيين. وتعزّزت هذه الرمزية بعد حرب فرنسا مع بروسيا. ومونيه في هذه اللوحات يحتفل باستقلال الوطن مثلما انه يحتفل بالطبيعة نفسها.
مونيه يوجّه اهتمام الناظر إلى محاولة فهم ذبذبات الحرارة وحركة الأمواج المضيئة والإحساس بالريح القويّة.
الرسّامة بيرتا موريسو قالت ذات مرّة: أمام لوحة مونيه، أعرف تماما إلى أيّ جانب ينبغي أن أحرّك مظلّتي".
مونيه فنّان لا نظير له في رسم الماء والغدران والأنهار والبحيرات. انه يعرف كيف يفرّق بين ألوانها وتياراتها ودرجات تماسكها. كما انه يتمتّع بحدس عال في تصويره الحميم للمادّة والماء والأرض والهواء والحجر.
هذا الحدس خدمه كثيرا. ويبدو انه ولِد من اجل الرسم. هذه القوّة في اختراق أسرار المادّة والضوء ساعدته على أن يرسم بشاعرية عظيمة.
تأمّل لوحاته عن نهر التيمز وعن حقول القشّ، حيث يمتزج الضباب بقطرات الفضّة والذهب التي تتوهّج مثل كرنفال زهري.
مبدأ تقسيم الألوان ودراسة الألوان المساعدة ادخل مونيه إلى عالم مليء بالكشوفات والرؤى. هو نفسه كان مبتكرا ومثقفا وموهوبا بذكاء صُوري أخّاذ ونادر. افتتانه بالجوّ والمجالات كان مساويا لذلك الذي كان عند الرمزيين. وقد وجد عظمته في حبّه العميق للطبيعة.
في أواخر حياته، وكان قد فقد زوجته وأفراد عائلته، بدأ مونيه البحث عن موضوعات للرسم بالقرب من منزله. فرسم المروج وحقول السوسن البرّي التي كانت تنمو قريبا من المكان.
في رسالة إلى احد أصدقائه قال انه يبحث عن المستحيل في لوحاته. كان يشير بملاحظته تلك إلى دورة الفصول في الطبيعة وتحوّل الألوان والظلال من طور إلى طور.
وفي عام 1890، تزوّج مونيه من أرملة واشترى بيتا جديدا قام بتحويل بركته الصغيرة إلى حديقة مائية. وشيئا فشيئا أصبح يحبّ الزراعة، وحوّل الحديقة أمام منزله إلى أشجار وارفة الظلال وأزهار نضرة.
طريقة تصميمه للحديقة تعكس إعجابه القويّ بالفنّ الياباني. في تلك الفترة، رسم مونيه أوّل لوحة في سلسلة لوحاته عن حدائق الماء والجسر الياباني، والتي تتكوّن من ثمانية عشر منظرا. "مترجم".

الأربعاء، سبتمبر 21، 2011

باخ في بلاط فريدريك الأكبر

احد اغرب اللقاءات في التاريخ هو ذلك الذي جمع بين فريدريك الأكبر ملك بروسيا والموسيقي الألماني العظيم يوهان سيباستيان باخ.
في كتابه "أمسية في قصر العقل: باخ يقابل فريدريك الأكبر في عصر التنوير"، يتحدّث جيمس غينيس عن حياة فريدريك وباخ وكيف أن تحدّيا من الملك دفع الملحّن العجوز لتأليف احد أشهر مؤلّفاته بعنوان هديّة موسيقية، والذي يجمع بين الجمال العقلي والسمعي معا.
غينيس ليس أوّل مؤلّف يكتب عن هذه الحادثة المشهورة. فقد سبق وأن وضع دوغلاس هوفستاتر دراسة عن نقاط الشبه الجمالية التي تجمع هذا العمل المتفرّد لـ باخ مع اكتشافات كيرت غودال الرياضية ورسومات إم سي ايشر. وقد نال ذلك الكتاب عن جدارة جائزة البوليتزر. كما أصبح مثالا على الكيفية التي يُستخدم بها النثر البسيط لإيصال الأفكار العميقة بطرق ليست كاشفة فقط وإنما ممتعة أيضا.
القصّة التي يكتب عنها غينيس هي تذكير بأن بعض قادة الأمم في الماضي كانوا يثمنّون الثقافة الرفيعة. كما كان الفنّانون والمبدعون يكتسبون الشهرة من خلال نبوغهم وعبقريتهم، وليس بسبب تلاعب وسائل الإعلام.
يبدأ الكتاب بسرد سيرة حياة موجزة لشخصيّتي كلّ من باخ وفريدريك. ثم ينتقل للحديث عن ليلة السابع من مايو سنة 1747، عندما كان فريدريك يتفحّص قائمة الزوّار الوافدين إلى قصره في بوتسدام ليجد اسم الموسيقي العجوز من ضمن المدعوّين.
وما يحدث بعد ذلك هو ذروة السرد في هذا الكتاب. فالمؤلّف يحاول أن يقيّم الملك والمؤلّف الموسيقي كنموذجين لاتجاهين متناقضين في التقاليد الجرمانية: فريدريك التوسّعي والمتعطّش للسلطة والبروسي الملحد، وباخ اللوثري المتديّن وذو القلب الرحيم ورجل العائلة وصديق الكنيسة وصاحب الإبداع الذي لا تحدّه حدود.
كان فريدريك رجلا عظيما، ما في ذلك شكّ. على الأقل، قبل أن تتحوّل سلطته إلى شكل من أشكال الاستبداد. وكان دوره مشهودا في رعاية وتشجيع بل وممارسة الفنون.
عندما التقى فريدريك باخ، كان الأخير يقترب من نهاية حياته، وهو سيموت بعد ذلك بعامين. لكن الموسيقي العجوز كان، كما هي عادته دائما، عنيدا وغير مصقول. كان مشهورا كموسيقيّ موهوب. وكانت ارتجالاته الطويلة على لوحة المفاتيح تثير إعجاب أوساط الموسيقى. ولكنه، كمؤلّف موسيقي، كان يُصنّف باعتباره منتميا إلى المدرسة القديمة.
فريدريك، من ناحيته، كان عازفا موهوبا على آلة الفلوت. كان وقتها في سنّ الخامسة والثلاثين وفي ذروة قوّته السياسية. فبعد حربين أدارهما ببراعة ضدّ النمسا، استطاع انتزاع أراض من مقاطعة سيليزيا، ما جعل من بروسيا واحدة من أكثر الأمم الأوروبية قوّة ومنعة.
كان هذا الملك المحارب نموذجا عاليا للحاكم المستنير. كما كان مخطّطا استراتيجيا بارعا في ساحات المعارك. أما في قصره، فقد كان نموذجا للذوق الفنّي الجيّد وتقدير الفنّ والإبداع. كان فريدريك قارئا نهما وواسع الاطلاع، خاصّة في الأدب الفرنسي. ولم يكن يتحدّث اللغة الألمانية سوى بالكاد. كما كان صديقا ومراسلا لـ فولتير.
ومنذ سنوات طفولته الأولى، ورغم رفض والده المخبول الملك وليام الأوّل، كان فريدريك محبّا للموسيقى. وقد ألّف في حياته حوالي أربعمائة قطعة موسيقية لآلة الفلوت ما يزال عدد قليل منها يُعزف إلى اليوم.
منذ البداية، اتخذ وليام الأوّل، والد فريدريك، موقفا معاديا من ابنه. كان الاثنان على خلاف دائم لأنهما كانا مختلفين في كلّ شيء. فريدريك كان عاشقا للكتب وللموسيقى ولكلّ شيء فرنسي. ومنذ صغره كان يُرى بشعره المجعّد وملابسه الحريرية وهو يعزف الفلوت والعود بصحبة أخته الحبيبة ويلهلمينا.
يذكر غينيس أن وليام كان يسعى بلا هوادة لأن يصوغ ابنه على صورته، موظّفا في ذلك درجة من العنف قد تكون فريدة من نوعها في تاريخ الملوك والأمراء.
كان يضرب الصبيّ وهو صغير. واستمرّ في ضربه حتى عندما أصبح رجلا. كان يجلده بالعصا ويسحبه على الأرض ويركله بقدميه. وأحيانا كان يفعل كلّ هذا على مرأى من الحاشية ورجالات البلاط. وبعد إحدى نوبات الضرب، قال الملك العجوز لمن حوله: لو عاملني والدي بمثل هذه المعاملة المهينة، لكنت سارعت إلى تفجير دماغي. لكنّ هذا الرجل لا شرف له".


أحيانا كان فريدريك يبدو منصاعا، وأحيانا متحدّيا. وفي سنّ الثامنة عشرة، اتخذ أهمّ قرار، في محاولة لنيل حرّيته. فقد تآمر مع صديقه هانز فون كات، وهو ابن عائلة عسكرية بروسية، على أن يهربا إلى انغلترا ويلتمسا حماية جدّه الملك جورج الأوّل. لكن الخطّة سرعان ما أحبطت. وفي ذروة غضب الأب، فكّر في إعدام ابنه. لكنه بعد ذلك اكتفى بالحكم عليه بالسجن وعلى رفيقه بالإعدام، وبأن تُقطع رأس الأخير تحت نافذة زنزانة فريدريك.
ولم يكن غريبا أن فريدريك كان يتمنّى موت والده العجوز. وقد تحقّق له ذلك عام 1740م. وعندما اعتلى هو العرش كانت الرعيّة تتطلّع إلى التغيير.
كان فريدريك الذي التقاه باخ بعد سبع سنوات من صعوده إلى العرش رجلا بلا أوهام. كان جنرالا صلّبت الحروب عوده. لكنه بنفس الوقت كان شخصية تنويرية يهوى الفلسفة ويعشق الموسيقى والآداب والفنون ويعرف أقدار الرجال جيّدا.
في تلك الليلة، دُهش الملك من ارتجالات باخ العجوز. ثم تحدّاه أن يرتجل "فيوكا" من ستّة أجزاء ألّفها فريدريك بنفسه. كان الملك يدرك أن طلبه أشبه ما يكون بالمستحيل. وكان يظنّ أن باخ سيرحل من ساعته محرجا بعد أن يكتشف عجزه عن مجاراة ذلك التحدّي. لكن باخ خيّب ظنون الجميع وارتجل ما كتبه الملك بأعلى درجات الدقّة والإتقان. وقد ابتهج فردريك بالنتيجة. وعندما عاد باخ إلى ليبزيغ شرع في تأليف ثلاثية لآلات الكمان والفلوت والبيانو وأضاف إليها قطعا أخرى قبل أن يرسلها إلى فريدريك كهديّة موسيقية. ولم ينس أن يمهر الهدية ببعض كلمات المجاملة للملك. هدية باخ الموسيقية تتألّف من إحدى وعشرين نوتة. والكثير من النقّاد يعتبرون هذا العمل احد اكبر الانجازات في تاريخ الموسيقى الغربية.
غينيس يتحدّث في كتابه عن شخصيّتي باخ وفريدريك بقدر محسوب من التوازن. لكنه يميل غالبا إلى كفّة باخ، بينما يقاوم إغراء الحديث بإسهاب عن حياة واحد من أهمّ الشخصيات التي حكمت في أوربّا.
كان فريدريك قائدا رائعا. وكان يهتمّ شخصيا وبشكل مباشر بتسيير الشؤون العامّة لبلاده. وكثيرا ما كان يعمل من الساعة الرابعة صباحا وحتى منتصف الليل. وخلال سنوات السلم، أي قبل نشوب حرب السنوات السبع، بنى المدارس والمستشفيات واستصلح الأراضي وأصلح الاقتصاد.
وقد بقي سحر هذا الرجل العظيم عبر القرون. فبعد عشرين عاما على وفاته، قاد نابليون، بعد احتلاله بروسيا، مجموعة من ضبّاطه إلى قبر فريدريك في برلين. وقال مخاطبا جنوده بعد أن أمرهم بأن يرفعوا خوذاتهم احتراما: لو كان هذا الرجل ما يزال على قيد الحياة، لما كنّا هنا".
عائلة باخ كان منها أفراد مارسوا الموسيقى بشكل متواضع إلى ما قبل قرن من ولادة يوهان سيباستيان باخ. وقد ولد في العام 1685 في ايزيناك، وهي بلدة مسوّرة في قلب غابات ثورينغيا الكثيفة. في هذا المكان عاش مارتن لوثر وبشّر بتعاليمه طوال المائة وخمسين عاما التي سبقت ولادة باخ.
كانت ايزيناك بلدة صارمة تخاف الله. وحتّى في أيّام باخ، كانت هذه البلدة ما تزال ترنو بوجهها نحو الخلف باتجاه القرون الوسطى. ومثل الكثير من نواحي أوربّا الأخرى، شهدت البلدة من وقت لآخر تفشّي الطاعون والمجاعات والحروب.
حرب الثلاثين عاما التي بدأت في 1618خلّفت مساحات كبيرة من الأراضي المدمّرة. وعندما اضطرّت الجيوش المتصارعة إلى وقف عملياتها بسبب الإنهاك، كان ثلث عدد السكّان قد ماتوا. ولم يبق سوى بضعة آلاف من الإمارات والدوقيات الصغيرة المفلسة تركتها اتفاقية ويستفاليا تحت رحمة القوى الأوربية العظمى التي دفعتها في نهاية الأمر للدخول في معاهدات سلام مختلّة ويائسة.
في مثل تلك الظروف، لم يكن مستغربا أن يلوذ الناس بالدين. والد باخ، يوهان امبروزيوس، كان لوثريّاً متشدّداً، في حين كانت والدته تتبع طائفة متطرّفة من البروتستانت المكروهين من أتباع لوثر وكالفين.
وطوال حياته، كان يوهان سيباستيان متمسّكا بدين والده، وبدرجة اقلّ بدين والدته. وكرّس موسيقاه لتمجيد الله الأعظم. لكنه رغم ذلك لم يكن متوجّها بكليّته نحو الحياة الأخرى. كان يستمتع بالسرير، وقد أنجب عددا كبيرا من الأطفال. كما كان يجد بغيته في الطعام والنبيذ الجيّدين.
ويقال انه كان شخصا غضوبا وعنيدا. كما كان مقاتلا شرسا عن مكانته وسمعته. وقد ساعده في ذلك صلاته الوثيقة بالأمراء ورجال الكنيسة والدولة. كان باخ من ذلك الطراز النادر من الفنّانين الذين لا يفقدون ثقتهم بأنفسهم حتى عندما يواجهون لامبالاة الجمهور وعداوة أقرانهم من أصحاب المهنة.
فريدريك، من جهته، كان نقيضا لـ باخ من عدّة نواحٍ. القاسم المشترك بينهما كان عظمتهما، بالإضافة إلى حبّهما الكبير للموسيقى.
"أمسية في قصر العقل" كتاب مدهش وجادّ وعاطفي في احتفائه بموسيقي استثنائي وعظيم وبقائد يعتبره المؤرّخون احد أكثر الحكّام فتنةً في التاريخ الأوربّي كلّه. "مترجم".

الثلاثاء، سبتمبر 06، 2011

حدائق انطباعية

ليس من قبيل المصادفة أن الأعمال التي دشّنت المرحلة الانطباعية وحملت ملامحها، مثل لوحات مونيه وسورا ومانيه، كانت تركّز على تصوير الناس في الحدائق وعلى الشواطئ.
كان الانطباعيون يرمون من وراء ذلك إلى تحقيق غايتين: أن يرسموا رؤيتهم عن الطبيعة من خلال الإمساك بالانطباعات البصرية للضوء والظلّ، وأن يسجّلوا الأنشطة الحياتية للمجتمع الحديث.
ولم يمض وقت طويل حتى تقبّل الناس تلك اللوحات التي تصوّر الباريسيين وهم يستمتعون بالتسلية التي وجدوها أخيرا في الحدائق والمنتزهات العامّة وعلى شاطئ البحر.
ومنذ ذلك الوقت لم تفقد مناظر التسلية والمتعة الانطباعية جاذبيّتها أبدا.
الأعمال الايقونية التي مهّدت لظهور الانطباعية وعزّزت شعبيّتها في أوساط الناس كثيرة. في الذهن مثلا لوحات مهمّة مثل يوم أحد في جزيرة لاغران جات لـ جورج بيير سورا وعشاء على العشب لـ مانيه.
وهناك ايضا تحف فنية مجهولة بعضها يستقر اليوم في بعض المجموعات الفنية الخاصة، مثل لوحة كاييبوت أزهار الاضاليا ولوحته الأخرى عن منظر لأرض ريفية مع زهور حمراء وصفراء. بالإضافة إلى لوحة رينوار بعنوان امرأة بمظلّة في حديقة، وهي عبارة عن شلال من أزهار الخشخاش والأقحوان وغيرها من الأعشاب البرّية، ولوحة فان جوخ الراديكالية بعنوان بستان مُزهر مع أشجار حور والتي رسمها بعيد وصوله إلى آرل في 1888م.
وهناك قصص موازية تخبرنا عن الطريقة التي تمّ بها تصدير الانطباعية الفرنسية ثم مواءمتها مع الخصائص الوطنية لكلّ بلد. الألمان مثلا عُرف عنهم حبّهم لـ مانيه. وأحد متاحف مدينة برلين يحتفظ بنسخة من لوحته بعنوان بيت في روي والتي تتميّز بألوانها الخضراء وأنماطها الهندسية.
وسنجد لفكرة رسم الحدائق صدى في لوحات الفنّان الانطباعي الألماني ماكس ليبرمان . وفي اسبانيا تمكّن الرسّام واكين سورويا من إدخال تقنية جديدة على الحركة الانطباعية سُمّيت بالإنارة من خلال التركيز على التباينات الشديدة والمتطرّفة بين الضوء والظلّ.
الانطباعية الأمريكية كان وهجها أشد. وقد تكّرست الانطباعية في أمريكا بفضل فنّانين مشهورين مثل تشايلد هاسام وتشارلز كورتني كوران وميري فيرتشايلد وجون سارجنت. في إحدى لوحاته المشهورة، يرسم كورتني كوران خطيبته وإحدى صديقاتها على متن قارب وقد أحاطت بهما زهور اللوتس العملاقة مع ضوء شمس يلمع من خلال بتلات الأزهار. اللوتس الذي يظهر في هذه اللوحة اصفر، عريض ولامع. ويمكن اعتباره معادلا شاذّا لزنابق الماء التي كان مونيه يزرعها في حديقته ويرسمها في لوحاته.
وفي الوقت نفسه، انتشر شكل مخفّف من الانطباعية حول العالم دون أن يغفل الخصائص الأساسية التي اتسمت بها الحركة في بدايات ظهورها. "مترجم"

الخميس، أغسطس 11، 2011

خواطر رمضانية


شدّتني هذه الصورة كثيرا. وهي ابلغ من أيّ كلام يمكن أن يُقال. بداية، يمكن أن نقدّر أن هذه السيّدة تجاوزت المائة عام من عمرها. وخلافا لما قد يظنّه الناظر، هي ليست مجنونة ولا مصابة بخرف عقلي. بل هي في تمام حواسّها وكمال عقلها.
قصّة هذه الصورة الايقونية تعود إلى بضع سنوات خلت، وبالتحديد إلى ذروة احتدام الصراع بين الأرمن والآذاريين على إقليم قره باخ الواقع على الحدود بين البلدين. لاحظ نظرات هذه العجوز الأرمنية وعينيها اللتين تلتمعان بالتوجّس والتحدّي والحذر بينما تقوم بحراسة بيتها. ثم تأمّل حركة يديها وهي تمسك بالكلاشنيكوف وأصابعها مثبّتة على الزناد.
ذكّرتني هذه الصورة المعبّرة بصورة ايقونية أخرى. لكن هذه الصورة الأخيرة أشدّ إيلاما وأثقل على النفس وأبلغ كثيرا من حيث دلالتها وقوّتها التعبيرية. إنها صورة تلك العجوز الفلسطينية التي تتشبّث بجذع شجرة زيتون وليس معها من سلاح سوى يديها العاريتين بينما تحاول بيأس منع جنود الاحتلال الصهيوني من اقتلاع الشجرة.
البيت والشجرة هما رمز للوطن الكبير. وحبّ الأوطان والدفاع عنها غريزة فُطر عليها الإنسان منذ الأزل. وعلى ما يبدو، فإن هذه الغريزة تشتدّ وتقوى كلما تقدّم الإنسان في العمر. وأظنّ انه لو كان لدى العجوز الفلسطينية سلاح في تلك اللحظة لما تردّدت في استخدامه، لإحساسها بأن شيئا عزيزا يرمز لوجودها نفسه يتعرّض للتهديد وبأنه لم يعد لديها ما تخسره إن هو ضاع أو فُقد.

❉ ❉ ❉


بعض قصص التراث تقرؤها فتتخيّل أنها مقتطعة من فيلم هندي حافل بمشاهد الإثارة والفانتازيا، لما تتضمّنه من مفارقات وصُدف غريبة يصعب تصديقها.
من هذه القصص واحدة رواها الأصمعي. يقول: بينما كنت أسير في بادية الحجاز، إذ مررت بحجر كُتب عليه هذا البيت:
أيا معشر العُشّاق بالله خبّروا
إذا حلّ عشق بالفتى كيف يصنعُ؟
فكتب الأصمعي تحت ذلك البيت:
يداري هواهُ ثمّ يكتم سرّهُ
ويخشع في كل الأمور ويخضعُ
ثم عاد في اليوم التالي إلى المكان نفسه فوجد تحت البيت الذي كتبه هذا البيت:
وكيف يداري والهوى قاتل الفتى
وفي كلّ يوم قلبه يتقطّعُ؟
فكتب الأصمعي تحت ذلك البيت:
إذا لم يجد صبراً لكتمان سرّهِ
فليس له شيء سوى الموت ينفعُ!
وهنا يأتي دور المليودراما كي تضع نهاية للقصّة تمتزج فيها السوريالية بالتراجيديا الفاقعة. يقول الأصمعي: فعدتُ في اليوم الثالث إلى الصخرة فوجدت شابّا ملقى تحتها وقد فارق الحياة وقد كتب في رقعة من الجلد هذين البيتين:
سمعنا أطعنا ثمّ مِتنا فبلّغوا
سلامي إلى من كان للوصل يمنعُ
هنيئاً لأرباب النعيم نعيمهم
وللعاشق المسكين ما يتجرّعُ!
مثل هذه النوع من القصص الخيالية مبثوثة بكثرة في كتب التراث. وهي ولا شكّ تعبّر عن مخيّلة واسعة ومقدرة فائقة على التصوير الدرامي. كما أنها توفّر مادّة للمتعة والتسلية بصرف النظر عن مدى واقعيّتها أو مصداقيّتها.

❉ ❉ ❉


في رمضان يحسن قراءة بعض الكتب الخفيفة. وحاليا اقرأ كتابين. الأوّل عنوانه "رحلة إلى تحقيق الذات" للكاتب الهندي بارام يوغاناندا. يقول الكاتب في احد فصول هذا الكتاب الممتع: تعلّم كيف تسيطر على انفعالاتك. إن احد الأسباب المهمّة والموجبة للغضب والثورة هو الكلام القاسي. لا تغتب الآخرين أبدا ولا تتحدّث بحقّهم حديثا مُسيئا. مارس خطابا هادئا ورقيقا، ولا تكن شخصا مشاكسا أو مُغرما بالخصومة. إذا أثار احد غضبك أو أفقدك أعصابك، فلا تردّ بنفس الطريقة. من الأفضل أن تظلّ هادئا إلى أن يسكن غضبك. تجنّب العناد، وفي نفس الوقت إمتنع عن مشاجرة الآخرين. لا تدع أحدا يسرق منك سلامك الداخلي. وفي المقابل، لا تسرق من الآخرين طمأنينتهم بإيذائهم لفظياً والتعدّي على مشاعرهم".
ويمضي الكاتب فيقول: إن إساءة استخدام الكلام هو احد أمضى الأسلحة وأكثرها فتكاً. قد تقول شيئا وأنت غاضب أو منفعل دون أن تقصده، وبعدها تشعر بالندم. لكن لعشرين سنة أو ربّما أكثر، سيظلّ الشخص الآخر يتذكّر ما قلته. إن القلب يطلب الحبّ الحقيقي والصداقة، وفوق كلّ شيء، السلام. وعندما يتدمّر سلامنا الداخلي بالانفعالات، فإن هذا يُعتبر تدنيساً لمعبد الجسد. النظام العصبي السليم هو ما يحافظ على جميع أعضاء الجسد والمشاعر بحالة سليمة. ولكي تحافظ على سلامة أعصابك، من المهم أن تحرّر نفسك من المشاعر المدمّرة مثل الخوف والغضب والغيرة والحسد والانتقام والطمع".
الكتاب الثاني موضوعه خفيف أيضا. وهو يحكي عن "الشاهنامة"، أشهر ملحمة فارسية. وأهميّة هذا الكتاب انه يروي جزءا من تاريخ إيران القديم. ملحمة الشاهنامة تذكّرنا إلى حدّ كبير بتغريبة بني هلال والزير سالم في الأدب العربي. وهي، أيضا، تزدحم بالكثير من القصص الشعبية الجميلة والحكايات الخيالية المُصاغة في قالب شعري. ومؤلّفها هو الشاعر الفارسي الكبير الفردوسي الذي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي. ومن أشهر وأجمل القصص التي تتناولها الملحمة قصّة الأمير الشجاع اصفنديار ومعركته الشرسة مع البطل رستم. في القصّة يعود الأمير اصفنديار وريث العرش منتصرا من حملته العسكرية ضد الشاه تُوران. فقد نجح في قتل ارجاسب عدوّ العرش الأوّل وأسر عائلته. كما استولى على ثرواته وحرّر شقيقته من الأسر "أي شقيقة اصفنديار".
هنا يتوقّع اصفنديار من والده الشاه غوشتاسب أن يحتفي به ويتنازل له عن العرش برّا بقسمه الذي أدّاه من قبل. لكن الشاه الأب لا يُبدي أيّ استعداد بعد لأن يفي بوعده. ويشترط على ابنه أن يقوم بمهمّة أخرى كشرط للتنازل عن العرش. والمهمّة هي إعادة البطل رستم إلى البلاط مقيّدا بالأغلال. غير أن اصفنديار يدرك في قرارة نفسه أن تلك ليست أكثر من خدعة لجأ إليها والده للتخلّص منه. لكنه لا يستطيع عصيان أوامر أبيه على كلّ حال.
الشاهنامة تمتلئ بالأحداث الحربية ومشاهد القتل وقصص الحبّ، وصولا إلى العبرة النهائية وهي أن هزيمة وإذلال الأبطال الوطنيين خطيئة ينبغي تجنّبها وعدم الوقوع فيها تحت أيّ ظرف. والفكرة الانتقادية التي تنطوي عليها الملحمة هي كشف حيل وألاعيب الملوك الذين يستغلّون شجاعة وولاء أبطالهم من اجل خدمة غاياتهم وأهدافهم الأنانية.

الاثنين، أغسطس 08، 2011

مشاهد من الحياة اليومية


  • وليام ميريت تشيس، ساعات خاملة، 1894
    بين عامي 1891 و 1902، عثر وليام تشيس على مواضيع جديدة للوحاته خارج الأبواب وفي الهواء الطلق في ساوثهامبتون بـ لونغ آيلاند، حيث كان يشرف على المدرسة الصيفية للفنون في شينيكوك هيلز.
    في هذا المشهد الذي التقطه من فوق الكثبان الرملية الوعرة على طول خليج شينيكوك، رسم الفنّان أربعة نماذج متكرّرة: امرأة تعتمر قلنسوة حمراء "ربّما كانت زوجته"، واثنتين من بناته، بالإضافة إلى إحدى شقيقات زوجته. وتشيس يدعو الناظر لملء الأشكال غير الواضحة ومحاولة إكمال القصّة المتضمّنة في اللوحة.
    "ساعات خاملة" هي لوحة نموذجية عن سكّان الحواضر الذين يستمتعون بخلواتهم في الضواحي. كما أن فيها تلميحا إلى ازدياد أوقات الفراغ نتيجة ازدياد وتيرة التحضير والتصنيع. في ذلك الوقت أصبحت النساء يشكّلن غالبية روّاد المنتجعات الصيفية. وكنّ يفضّلن قضاء وقت التسلية على الشطان الآمنة، بينما كان أزواجهن منصرفين للاهتمام بأعمالهم في المدينة.
    السرد في هذه الصورة بسيط مثل بساطة ملاحظة منسوبة إلى هنري جيمس قال فيها: "ظهيرة صيفية. بالنسبة إليّ هاتان الكلمتان هما الأكثر جمالا في اللغة الإنجليزية".

  • ❉ ❉ ❉


  • جون سينغر سارجنت، في حدائق لوكسمبور، 1879
    في هذا المنظر، المقدّم بحرّية والعفوي إلى حدّ ما، يرسم جون سارجنت الحوض الكبير في قلب حدائق لوكسمبور في باريس.
    ونظرا إلى انه كان متأثّرا بأسلوب الانطباعيين الفرنسيين، فإن الرسّام يلتقط منظر الشفق في صيف باريس التي تظلّلها سماء برّاقة بلون الخزامى.
    الوتيرة البطيئة لحركة الزوّار الذين يأتون إلى هذا المكان عادة يمثّلها زوجان أنيقان يمشيان باتجاه المنتزه الواقع على الضفّة اليسرى للنهر. ووضعية المرأة والرجل لا تشي بأيّ قصّة واضحة.
    الحياة الحضرية الحديثة كانت موضوعا جوهريا ومثاليا للانطباعيين الذين كانوا يجسّدون في أعمالهم الطبيعة الديناميكية والمتغيّرة لعصرهم.
    كانت باريس آنذاك قد شهدت تحوّلات كبيرة في ما عُرف بعهد الإمبراطورية الثانية (1852-1870). فقد أصبحت هذه المدينة أكثر اتساعا وأكثر حداثة. كما بُني المزيد من حدائقها وأعيد تشكيل البعض الآخر استجابة لازدياد عدد قاطنيها ونموّ وتوسّع خدماتها ومرافقها.

  • ❉ ❉ ❉


  • توماس ويلمر ديونغ، قراءة، 1897
    استجابة لذوق جامعي الفنّ الأثرياء في مطلع القرن الماضي، وكانوا غالبا من الذكور، كان رسّامون أمريكيون كثر يصوّرون النساء ككائنات بديعة ومرتبطة بالبحث عن القيم الجمالية. بعض صورهم كانت تلمّح إلى المبادئ والأفكار الرائجة التي كان يتبنّاها الدكتور وير ميتشل، وهو طبيب أعصاب متنفّذ من فيلادلفيا، كان يصف العزلة والسكون المطلق كعلاج لاضطرابات الجهاز العصبيّ عند النساء.
    وتوماس ديونغ يرسم في لوحته هنا امرأتين ترتديان ملابس أنيقة في إحدى غرف منزله الصيفي الجديد في ولاية نيوهامبشاير.
    وتبدو المرأتان محصورتين ضمن جدران غرفة بلا نوافذ وتجلسان إلى طاولة ضخمة، بينما تحدّق إحداهما في كتاب وتمسك الأخرى بغصن زهرة.
    وقد اظهر فحص بالأشعّة اُجري على اللوحة في ما بعد أن ديونغ رسم المرأة إلى اليسار وهي تومئ لرفيقتها بينما تردّ عليها الأخرى بنظرة مبهمة.
    لكنه لاحقا عدّل في اللوحة كي يضفي بعض الغموض على عنصر السرد فيها وكأنه يدعو الناظر إلى التأمّل في سلبية ولامبالاة المرأتين ومغزى وجودهما في هذا المكان الخانق.

  • ❉ ❉ ❉


  • وليام باكستون، أوراق الشاي، 1909
    في صالون بلا نوافذ يغمره ضوء ناعم وأجواء حالمة، تُمضي سيّدتان أنيقتان وقتهما بعمل القليل جدّا، أو أنهما لا تفعلان شيئا على الإطلاق.
    وليام باكستون يلمّح إلى قصّة ما. لكنّه يطلب من الناظر أن يبتكرها وكأنه يحاكي غموض لوحات فيرمير الذي كان معجبا به.
    كان باكستون يميل في الغالب إلى تصوير نساء أنيقات، مثل زوجات وبنات رُعاته، في أوقات فراغهنّ داخل منازل بوسطن الجميلة. وهنّ يظهرن في هذه اللوحات بمظهر المحافظات على الثقافة والتقاليد لأنهنّ هنّ من يزيّنّ المنازل ويشغلنها.
    ومن خلال مساواة النساء بالأشياء الجمالية الثمينة التي تحيط بهن، كان باكستون يؤكد على أفكار الروائي هنري جيمس الذي كان يصوّر النساء كعنصر مكمّل لعناصر الثقافة المحلية الأخرى.
    أعمال باكستون تتفق أيضا مع آراء عالم الاجتماع ثورستين فيبلين، الذي ضمّن كتابه "نظرية الطبقة المرفّهة" ملاحظة قال فيها إن وجود المرأة الفارغة دليل يؤشّر على ثراء أبيها أو زوجها.

  • ❉ ❉ ❉


  • وليام غلاكنز، المتسوّقون، 1908
    على غرار الشركات التي كانت تعيد تعريف الزراعة والصناعة الأميركية في أواخر القرن التاسع عشر، بادرت المتاجر إلى إعادة تعريف مفهوم التسويق تجاوبا مع الفكرة.
    هذا المشهد ربّما تمّ رسمه في مركز تجاري ضخم في نيويورك حيث كان غلاكنز يعيش مع عائلته. وكما يعرض المتجر بضاعته، رسم الفنان عدّة زبائن حسني الهندام داخل المتجر. زوجته، التي تظهر في الوسط، تبدو منهمكة في تفحّص الملابس المعروضة. وزوجة زميل الرسّام، إلى اليمين، توجّه نظراتها إلى المشاهد.
    كثرة المتسوّقين تشير إلى وفرة منتجات العصر المادّية وتنوّع الاتجاهات التسويقية المتطوّرة.
    كان من عادة نساء الطبقة المتوسطة أن يتوجّهن إلى المخازن العصرية لشراء ما يحتجنه من لوازم وضرورات.
    العلامة الفارقة في اللوحة هي أناقة لباس النساء المتسوّقات. وهذا العنصر يشير إلى واقعية الرسّام وفهمه لطبيعة التكوين الاجتماعي في عصره.

  • ❉ ❉ ❉


  • جون سينغر سارجنت، شارع في فينيسيا، 1882
    اشتُهرت فينيسيا بغرائبيّتها وعزلتها عن التطورّات الحديثة. كما أن وتيرة الحياة البطيئة فيها كانت تروق للسيّاح الذين كانوا يبحثون عن مهرب من ضجيج وصخب الحياة في أوربّا أواخر القرن التاسع عشر.
    وقد أسهمت أزقّة المدينة المائية وبنيتها ومعمارها المحكم في تعزيز التجارب الجديدة للرسّامين. أصبح هؤلاء يهتمّون بتصوير اللون والضوء الزائل بدلا من دراسة الفنّ في العصور القديمة واقتفاء اثر الرسّامين الأوائل، على نحو ما كان يفعله الفنّانون الذين طالما اجتذبتهم المدينة في أوقات مبكّرة.
    في هذه اللوحة يمسك سارجنت بألوان فينيسيا الباردة والمظلمة وبالمنظور الغريب لساحاتها المنعزلة وممرّاتها الضيقة. وهو يصوّر لمحة عابرة لشخصين، رجل وامرأة، وهما يخرجان من متجر للنبيذ في شارع جانبي رثّ ومعتم.
    ربّما كان سارجنت متأثّرا بالتصوير الفوتوغرافي، من حيث انه ركّز على رؤية لحظية. ومن الملاحظ انه قام بطمس المباني المحصورة مُحيلا الساحة الصغيرة إلى مجرّد شريحة من جدار يضيئه نور الشمس. "مترجم".