عندما تُرجم كتاب ألف ليلة وليلة إلى الانجليزية والفرنسية في بدايات عصر التنوير الأوربّي، أصبح أفضل الكتب مبيعاً بين المثقّفين الغربيين، في حين كان ما يزال يُنظر إليه في العالم العربي باعتباره مجرّد مجموعة من الحكايات الشعبية الرخيصة.
وعلى امتداد تاريخها الطويل، فتنت الليالي العربية الكثير من الكتّاب والفنّانين، من غوستاف فلوبير وأوسكار وايلد وغارسيا ماركيز، إلى نجيب محفوظ وإلياس خوري وريمسكي كورساكوف ودوغلاس فيربانكس وآخرين.
الباحثة والروائية مارينا وورنر تحاول من خلال هذه الدراسة استكشاف قوّة كتاب ألف ليلة وليلة وأثره الكبير والواسع في الثقافة الغربية المعاصرة.
وعلى امتداد تاريخها الطويل، فتنت الليالي العربية الكثير من الكتّاب والفنّانين، من غوستاف فلوبير وأوسكار وايلد وغارسيا ماركيز، إلى نجيب محفوظ وإلياس خوري وريمسكي كورساكوف ودوغلاس فيربانكس وآخرين.
الباحثة والروائية مارينا وورنر تحاول من خلال هذه الدراسة استكشاف قوّة كتاب ألف ليلة وليلة وأثره الكبير والواسع في الثقافة الغربية المعاصرة.
في بعض الليالي المؤرّقة، وعلى الرغم من المفروشات الوثيرة في غرفة نومه الملكية أو الأنغام المهدّئة التي يعزفها له موسيقيّوه أو حتى الاهتمام الرائع الذي تبديه واحدة أو أكثر من محظيّاته الثلاثمائة، لم يكن الخليفة العبّاسي العظيم هارون الرشيد يستطيع النوم بسهولة.
كان من عادة الخليفة أن يتمشّى بصحبة مرافقه المفضّل مسرور في حدائق القصر أو في أسواق بغداد متنكّرا. وكان أحيانا يستدعي العلماء ليتبادلوا معه أطراف الحديث كعلاج يعينه على أرق الليل. وعندما تفشل كلّ هذه الأساليب، كان يأمر مرافقه بأن يجلب له من دمشق علي بن منصور الذي اشتهر بظرفه كي يخفّف عنه تأثير ساعات الليل الطويلة بحكاياته المسلّية والمؤنسة. وفي النهاية كان ذلك النوع من القصص هو ما يجلب الهدوء إلى قلب الخليفة ويعينه على النوم.
هارون الرشيد المسهّد يظهر كشخصية رئيسية في حكايات ما قبل النوم المعروفة بالليالي العربية أو قصص ألف ليلة وليلة. والباحثة مارينا وورنر تشير في كتابها الجديد والبديع عن ذلك العمل إلى أن ألف ليلة وليلة هو في الأساس كتاب عن القصص التي تُروى في السرير. وهي محقّة تماما في هذا الوصف. فالقصص الليلية تتوسّع في الخيال وتصبح معقولة وواضحة عندما يتوارى الظلام خلف المصابيح. هذه القصص عادة لا تسحرنا في ضوء النهار. لكن عندما تسمع صوت الراوي في الظلمة، يُخيّل إليك أنه آتٍ من أقدم ذكريات الإنسان وأن لديه مقدرة شبحية على تمثيل جميع الأصوات التي تأتي من الماضي السحيق.
حكايات الليالي العربية تتمتّع بخاصية مُعْدية، وهي سهولة انتقالها وترديدها على الألسن. وعندما نسمع حكاية فإننا لا يمكن إلا أن ننقلها لآخرين. هذا الجانب الذي لا يقاوم من السرد القصصي صُوّر بشكل فاتن في الليلة التاسعة والأربعين بعد المائة، حيث يقوم ثعلب بخداع ذئب ويستدرجه للوقوع معه في حفرة. وهناك يتبادل الاثنان الحكايات والحكم والأمثال جيئة وذهابا. أي أنه، حتى في أصعب الحالات والمواقف، هناك حاجة إلى رواية الأساطير والحكايات وتداولها.
ونفس هذا الحافز هو ما يدفع شهرزاد إلى المحافظة على إدهاش السلطان الضَجِر شهريار وتشويقه ليلة بعد ليلة كي تتمكّن من النجاة من المصير المشئوم الذي حلّ بسابقاتها، أي قطع الرأس عند بزوغ الفجر. وتحت تأثير سحر السرد الذي تتمتّع به شهرزاد، ننسى تقريبا حقيقة أنها تغزل حكاياتها تحت التهديد المستمرّ بالموت.
الجانب المتغيّر في الليالي، والمتمثّل في السفر عبر الزمن والتمازج بين ثقافات وحضارات مختلفة، فارسية وعربية وهندية وتركية ويونانية ومصرية وإسلامية ومسيحية، هو من العناصر التي تفتن المؤلّفة وورنر على ما يبدو. وهي ترى فيه مفتاحا فريدا للعمليات التخيّلية التي تحكم رمزية الصور وغرابة وغموض القوّة في الثقافة الحديثة.
وتخصّص المؤلّفة جزءا من كتابها للحديث عن الجنّ "أو الجان" الذين يتصرّفون مثل الآلهة اليونانية، أي بلا منطق وأحيانا تحت تأثير الهوى والنزوات العابرة. كما تتحدّث عن شخصيّة الملك سليمان، سيّد الجنّ في نسختهم الإسلامية، وتورد عنه قصصا لا تختلف كثيرا عن قصص غلغامش وميرلين وبروسبيرو وغاندالف.
وفي هذا الكتاب أيضا، تناقش الكاتبة كيف أن حكايات الليالي العربية تختبر الحدود بين الأشخاص والأشياء. مثلا، تتحدّث عن الرؤوس المقطوعة التي تتكلّم وعن الكتب التي تقتل أصحابها وعن البساط الذي يطير، محاولةً ربط هذه الظواهر السحرية بأشياء في عالمنا الحديث، كالسينما وسلع الحياة اليومية وماركات المصمّمين وغير ذلك من الأدوات والأشياء التي تحدّد سماتنا وشخصيّاتنا.
وورنر فيها، هي أيضا، شيء من شهرزاد، على الرغم من أنها تنسج حكاياتها في ظروف اقلّ خطرا. شهرزاد تسرد الحكايات التي كانت قد قرأتها وحفظتها. وصوتها هو حلقة في سلسلة من الحكايات التي تعود إلى العصور القديمة. ودور الكاتبة هنا هو ترسّم خطى نموذجها.
العديد من القصص التي يتضمّنها كتاب ألف ليلة وليلة تجري في بغداد الأسطورية أو تستمدّ أصولها من مصادر فارسية أقدم. وبعض القصص نجد لها صدى في الحكايات المصرية القديمة من القرن السابع قبل الميلاد. و وورنر متنبّهة إلى هذه الأصداء المبكّرة، لكنها أكثر اهتماما بالتأثير الثقافي والأدبي لـ الليالي العربية على الموسيقيين والفنّانين والكتّاب.
المعروف أن كتاب ألف ليلة وليلة تمّ جمعه لأول مرّة في مصر المملوكية كي يستعين بحكاياته رواة القصص والكتّاب المتجوّلون أو من يُعرفون بـ "الحكواتيين" الذين شكّلوا نقابة خاصة بهم ووجدوا لهم جمهورا بين روّاد المقاهي المصرية والسورية.
ورغم أن الكتاب كان في البداية مثار احتقار الأدباء العرب الذين اعتبروه "زبالة شعبية"، إلا أنه أصبح يتمتّع بشعبية عالمية بعد أن ترجمه إلى الفرنسية الباحث انطوان غالان ونشره في اثني عشر مجلّدا خلال السنوات من 1704 إلى 1717م. وقد طهّر غالان الليالي من الشبق والشذوذ الجنسي، وأضاف إليها حكايات أملاها عليه صديق لبناني، وربمّا اخترع هذا الأخير حكايتين أصبحتا من أشهر حكايات الليالي، هما "علاء الدين والمصباح السحري" و"علي بابا والأربعون حرامي".
ترجمة غالان لـ ألف ليلة وليلة كان تأثيرها ساحقا. فمن فولتير وغوته، إلى هانز كريستيان اندرسن ووليم بيكفورد، وصولا إلى خورخي لويس بورخيس وايتالو كالفينو، أصبح كتاب الليالي العربية ملء السمع والبصر. ولم يكن تأثير الكتاب مقتصرا على الكتّاب والأدباء، وإنما امتدّ ليشمل الملحّنين الموسيقيين "مثل موزارت" والرسّامين والمصمّمين ومخرجي الأفلام السينمائية الذين وقعوا هم أيضا تحت تأثير سحر هذا الكتاب العجيب.
ترجمة غالان لليالي تشكّل أساس التاريخ النصّي لكتاب مارينا وورنر، مثلما كانت تلك الترجمة أصلا للترجمات الأوربّية اللاحقة من الكتاب. وقد ساعدت تلك الترجمة في تشكيل نظرة الأوربّيين إلى الشرق باعتباره مكانا قديما وغير واقعي بعض الشيء، يسكنه الملوك القتلة والفاسقون والنساء الناعمات والمحظيّات الماكرات.
يتألّف كتاب وورنر عن ألف ليلة وليلة من خمسة أقسام وعشرين فصلا. ويتضمّن إعادة سرد لخمس عشرة حكاية من بينها "الصيّاد والجنّي"، و"مدينة النحاس" التي يمكن اعتبارها أعظم قصّة منفردة في الليالي العربية، بالإضافة إلى "علاء الدين" التي توصف بالحكاية اليتيمة لأنه لم يُكتشف نصّها العربي الأصلي إلى اليوم. وبعد كلّ حكاية، تنهمك المؤلّفة في استكشاف سياقاتها ودلالاتها وتشعّباتها الأوسع نطاقا.
والكاتبة بارعة في وصف ما تسمّيه بـ "الشيئية" في القصص، أي الدور المشئوم الذي تلعبه الأدوات والأشياء المنزلية في مصائر البشر.
كما يشتمل الكتاب على فصل مخصّص للحديث عن مخرجة الأفلام الألمانية لوت راينيغر التي صنعت هي وزوجها في عشرينات القرن الماضي فيلم ظلّ صامت عن مغامرات الأمير احمد، وهي إحدى الحكايات التي يرد ذكرها في ألف ليلة وليلة.
وورنر ترى في السحر بكافّة أشكاله مفتاحا لفهم العالم المحتشد في ألف ليلة وليلة. السحر ليس مجرّد فنّ غامض، بل طريقة كاملة للتفكير وللحلم بالمستحيل. وهنا بالذات تكمن قوّته الهائلة في فتح العقل على عوالم جديدة من الإنجاز، بحكم أن الخيال يسبق الواقع دائما. السحر كان دائما مرتبطا بالحكمة، وبفهم قوى الطبيعة، وبالبراعة التي تسمح للإنسان بفعل أشياء ما كان ليحلم بها من قبل. والنموذج الأسمى لهذا التفكير السحري هو كتاب الليالي، ببُسُطِه الطائرة وكنوزه الدفينة وكشوفاته المفاجئة.
غير أن سحر ألف ليلة وليلة ليس مجرّد سحر خيالي، فهو يعتمد على افتراضين غير معلنَين. فطبقا للمعتقدات الإسلامية، فإن عامل السببية أو ربط الأسباب بالنتائج هو من قبيل الأوهام. وما نعتبره سببا، ليس في واقع الأمر سوى من تقدير الله. فهو يعيد خلق العالم في كلّ لحظة. وكلّ ما يحدث هو نتيجة مباشرة لإرادته. والأحداث المحيّرة والرائعة التي تموج بها الليالي العربية هي تصوير دراماتيكي لهذه الفكرة الراديكالية. والعديد من المفكّرين المسلمين يتحدّثون عن ما يسمّونه بالعربية "الألفة"، أي تلك العلاقة الحميمة التي تجمع الأشياء المتباينة بعضها ببعض. هذا النوع من التفكير، الذي يربط اصغر الحشرات على الأرض بأبعد نجمة في السماء، يمكن أن يفسّر العديد من الانتكاسات والتحوّلات المفاجئة في الليالي. وطبقا لهذا التفكير، فإن الأشياء ليس لها جوهر أو ماهيّة ثابتة. وما نراه في الظاهر قد لا يعكس بالضرورة أصل الشيء وحقيقته.
حتى التمييز بين الأرواح والجمادات، بين الأشياء الواعية واللاواعية، يذوب في التفكير السحري لرواة الحكايات، ما يضفي على السرد سيولة وحيوية.
بالنسبة للمفكّرين الغربيين، فإن غرابة الليالي العربية فتحت رؤى جديدة للتحوّل: أحلام الطيران، الكائنات التي تتحدّث، القيمة الافتراضية للنقود، وقوّة الكلمة وقدرتها على إحداث التغيير. حكايات ألف ليلة تخلق صورة شعرية عن المستحيل وعن المعرفة والقوى السرّية. وفوق هذا كلّه، أصبح الغربيون مفتونين بالاعتقاد أن المعرفة الحقيقية تكمن في مكان ما آخر؛ في عالم غامض من الصور والأعاجيب.
كتاب مارينا وورنر عن سحر الليالي العربية هو عمل فريد من نوعه، يمكن أن تقرأه وأنت جالس إلى جوار المدفأة. لكنه بنفس الوقت كتاب موسوعي، ومن السهل أن تفكّر في أن تضيف إليه مواضيع أخرى مثل العمالقة، على سبيل المثال، أو الدراويش أو الواقعية السحرية. "مترجم".
كان من عادة الخليفة أن يتمشّى بصحبة مرافقه المفضّل مسرور في حدائق القصر أو في أسواق بغداد متنكّرا. وكان أحيانا يستدعي العلماء ليتبادلوا معه أطراف الحديث كعلاج يعينه على أرق الليل. وعندما تفشل كلّ هذه الأساليب، كان يأمر مرافقه بأن يجلب له من دمشق علي بن منصور الذي اشتهر بظرفه كي يخفّف عنه تأثير ساعات الليل الطويلة بحكاياته المسلّية والمؤنسة. وفي النهاية كان ذلك النوع من القصص هو ما يجلب الهدوء إلى قلب الخليفة ويعينه على النوم.
هارون الرشيد المسهّد يظهر كشخصية رئيسية في حكايات ما قبل النوم المعروفة بالليالي العربية أو قصص ألف ليلة وليلة. والباحثة مارينا وورنر تشير في كتابها الجديد والبديع عن ذلك العمل إلى أن ألف ليلة وليلة هو في الأساس كتاب عن القصص التي تُروى في السرير. وهي محقّة تماما في هذا الوصف. فالقصص الليلية تتوسّع في الخيال وتصبح معقولة وواضحة عندما يتوارى الظلام خلف المصابيح. هذه القصص عادة لا تسحرنا في ضوء النهار. لكن عندما تسمع صوت الراوي في الظلمة، يُخيّل إليك أنه آتٍ من أقدم ذكريات الإنسان وأن لديه مقدرة شبحية على تمثيل جميع الأصوات التي تأتي من الماضي السحيق.
حكايات الليالي العربية تتمتّع بخاصية مُعْدية، وهي سهولة انتقالها وترديدها على الألسن. وعندما نسمع حكاية فإننا لا يمكن إلا أن ننقلها لآخرين. هذا الجانب الذي لا يقاوم من السرد القصصي صُوّر بشكل فاتن في الليلة التاسعة والأربعين بعد المائة، حيث يقوم ثعلب بخداع ذئب ويستدرجه للوقوع معه في حفرة. وهناك يتبادل الاثنان الحكايات والحكم والأمثال جيئة وذهابا. أي أنه، حتى في أصعب الحالات والمواقف، هناك حاجة إلى رواية الأساطير والحكايات وتداولها.
ونفس هذا الحافز هو ما يدفع شهرزاد إلى المحافظة على إدهاش السلطان الضَجِر شهريار وتشويقه ليلة بعد ليلة كي تتمكّن من النجاة من المصير المشئوم الذي حلّ بسابقاتها، أي قطع الرأس عند بزوغ الفجر. وتحت تأثير سحر السرد الذي تتمتّع به شهرزاد، ننسى تقريبا حقيقة أنها تغزل حكاياتها تحت التهديد المستمرّ بالموت.
الجانب المتغيّر في الليالي، والمتمثّل في السفر عبر الزمن والتمازج بين ثقافات وحضارات مختلفة، فارسية وعربية وهندية وتركية ويونانية ومصرية وإسلامية ومسيحية، هو من العناصر التي تفتن المؤلّفة وورنر على ما يبدو. وهي ترى فيه مفتاحا فريدا للعمليات التخيّلية التي تحكم رمزية الصور وغرابة وغموض القوّة في الثقافة الحديثة.
وتخصّص المؤلّفة جزءا من كتابها للحديث عن الجنّ "أو الجان" الذين يتصرّفون مثل الآلهة اليونانية، أي بلا منطق وأحيانا تحت تأثير الهوى والنزوات العابرة. كما تتحدّث عن شخصيّة الملك سليمان، سيّد الجنّ في نسختهم الإسلامية، وتورد عنه قصصا لا تختلف كثيرا عن قصص غلغامش وميرلين وبروسبيرو وغاندالف.
وفي هذا الكتاب أيضا، تناقش الكاتبة كيف أن حكايات الليالي العربية تختبر الحدود بين الأشخاص والأشياء. مثلا، تتحدّث عن الرؤوس المقطوعة التي تتكلّم وعن الكتب التي تقتل أصحابها وعن البساط الذي يطير، محاولةً ربط هذه الظواهر السحرية بأشياء في عالمنا الحديث، كالسينما وسلع الحياة اليومية وماركات المصمّمين وغير ذلك من الأدوات والأشياء التي تحدّد سماتنا وشخصيّاتنا.
وورنر فيها، هي أيضا، شيء من شهرزاد، على الرغم من أنها تنسج حكاياتها في ظروف اقلّ خطرا. شهرزاد تسرد الحكايات التي كانت قد قرأتها وحفظتها. وصوتها هو حلقة في سلسلة من الحكايات التي تعود إلى العصور القديمة. ودور الكاتبة هنا هو ترسّم خطى نموذجها.
العديد من القصص التي يتضمّنها كتاب ألف ليلة وليلة تجري في بغداد الأسطورية أو تستمدّ أصولها من مصادر فارسية أقدم. وبعض القصص نجد لها صدى في الحكايات المصرية القديمة من القرن السابع قبل الميلاد. و وورنر متنبّهة إلى هذه الأصداء المبكّرة، لكنها أكثر اهتماما بالتأثير الثقافي والأدبي لـ الليالي العربية على الموسيقيين والفنّانين والكتّاب.
المعروف أن كتاب ألف ليلة وليلة تمّ جمعه لأول مرّة في مصر المملوكية كي يستعين بحكاياته رواة القصص والكتّاب المتجوّلون أو من يُعرفون بـ "الحكواتيين" الذين شكّلوا نقابة خاصة بهم ووجدوا لهم جمهورا بين روّاد المقاهي المصرية والسورية.
ورغم أن الكتاب كان في البداية مثار احتقار الأدباء العرب الذين اعتبروه "زبالة شعبية"، إلا أنه أصبح يتمتّع بشعبية عالمية بعد أن ترجمه إلى الفرنسية الباحث انطوان غالان ونشره في اثني عشر مجلّدا خلال السنوات من 1704 إلى 1717م. وقد طهّر غالان الليالي من الشبق والشذوذ الجنسي، وأضاف إليها حكايات أملاها عليه صديق لبناني، وربمّا اخترع هذا الأخير حكايتين أصبحتا من أشهر حكايات الليالي، هما "علاء الدين والمصباح السحري" و"علي بابا والأربعون حرامي".
ترجمة غالان لـ ألف ليلة وليلة كان تأثيرها ساحقا. فمن فولتير وغوته، إلى هانز كريستيان اندرسن ووليم بيكفورد، وصولا إلى خورخي لويس بورخيس وايتالو كالفينو، أصبح كتاب الليالي العربية ملء السمع والبصر. ولم يكن تأثير الكتاب مقتصرا على الكتّاب والأدباء، وإنما امتدّ ليشمل الملحّنين الموسيقيين "مثل موزارت" والرسّامين والمصمّمين ومخرجي الأفلام السينمائية الذين وقعوا هم أيضا تحت تأثير سحر هذا الكتاب العجيب.
ترجمة غالان لليالي تشكّل أساس التاريخ النصّي لكتاب مارينا وورنر، مثلما كانت تلك الترجمة أصلا للترجمات الأوربّية اللاحقة من الكتاب. وقد ساعدت تلك الترجمة في تشكيل نظرة الأوربّيين إلى الشرق باعتباره مكانا قديما وغير واقعي بعض الشيء، يسكنه الملوك القتلة والفاسقون والنساء الناعمات والمحظيّات الماكرات.
يتألّف كتاب وورنر عن ألف ليلة وليلة من خمسة أقسام وعشرين فصلا. ويتضمّن إعادة سرد لخمس عشرة حكاية من بينها "الصيّاد والجنّي"، و"مدينة النحاس" التي يمكن اعتبارها أعظم قصّة منفردة في الليالي العربية، بالإضافة إلى "علاء الدين" التي توصف بالحكاية اليتيمة لأنه لم يُكتشف نصّها العربي الأصلي إلى اليوم. وبعد كلّ حكاية، تنهمك المؤلّفة في استكشاف سياقاتها ودلالاتها وتشعّباتها الأوسع نطاقا.
والكاتبة بارعة في وصف ما تسمّيه بـ "الشيئية" في القصص، أي الدور المشئوم الذي تلعبه الأدوات والأشياء المنزلية في مصائر البشر.
كما يشتمل الكتاب على فصل مخصّص للحديث عن مخرجة الأفلام الألمانية لوت راينيغر التي صنعت هي وزوجها في عشرينات القرن الماضي فيلم ظلّ صامت عن مغامرات الأمير احمد، وهي إحدى الحكايات التي يرد ذكرها في ألف ليلة وليلة.
وورنر ترى في السحر بكافّة أشكاله مفتاحا لفهم العالم المحتشد في ألف ليلة وليلة. السحر ليس مجرّد فنّ غامض، بل طريقة كاملة للتفكير وللحلم بالمستحيل. وهنا بالذات تكمن قوّته الهائلة في فتح العقل على عوالم جديدة من الإنجاز، بحكم أن الخيال يسبق الواقع دائما. السحر كان دائما مرتبطا بالحكمة، وبفهم قوى الطبيعة، وبالبراعة التي تسمح للإنسان بفعل أشياء ما كان ليحلم بها من قبل. والنموذج الأسمى لهذا التفكير السحري هو كتاب الليالي، ببُسُطِه الطائرة وكنوزه الدفينة وكشوفاته المفاجئة.
غير أن سحر ألف ليلة وليلة ليس مجرّد سحر خيالي، فهو يعتمد على افتراضين غير معلنَين. فطبقا للمعتقدات الإسلامية، فإن عامل السببية أو ربط الأسباب بالنتائج هو من قبيل الأوهام. وما نعتبره سببا، ليس في واقع الأمر سوى من تقدير الله. فهو يعيد خلق العالم في كلّ لحظة. وكلّ ما يحدث هو نتيجة مباشرة لإرادته. والأحداث المحيّرة والرائعة التي تموج بها الليالي العربية هي تصوير دراماتيكي لهذه الفكرة الراديكالية. والعديد من المفكّرين المسلمين يتحدّثون عن ما يسمّونه بالعربية "الألفة"، أي تلك العلاقة الحميمة التي تجمع الأشياء المتباينة بعضها ببعض. هذا النوع من التفكير، الذي يربط اصغر الحشرات على الأرض بأبعد نجمة في السماء، يمكن أن يفسّر العديد من الانتكاسات والتحوّلات المفاجئة في الليالي. وطبقا لهذا التفكير، فإن الأشياء ليس لها جوهر أو ماهيّة ثابتة. وما نراه في الظاهر قد لا يعكس بالضرورة أصل الشيء وحقيقته.
حتى التمييز بين الأرواح والجمادات، بين الأشياء الواعية واللاواعية، يذوب في التفكير السحري لرواة الحكايات، ما يضفي على السرد سيولة وحيوية.
بالنسبة للمفكّرين الغربيين، فإن غرابة الليالي العربية فتحت رؤى جديدة للتحوّل: أحلام الطيران، الكائنات التي تتحدّث، القيمة الافتراضية للنقود، وقوّة الكلمة وقدرتها على إحداث التغيير. حكايات ألف ليلة تخلق صورة شعرية عن المستحيل وعن المعرفة والقوى السرّية. وفوق هذا كلّه، أصبح الغربيون مفتونين بالاعتقاد أن المعرفة الحقيقية تكمن في مكان ما آخر؛ في عالم غامض من الصور والأعاجيب.
كتاب مارينا وورنر عن سحر الليالي العربية هو عمل فريد من نوعه، يمكن أن تقرأه وأنت جالس إلى جوار المدفأة. لكنه بنفس الوقت كتاب موسوعي، ومن السهل أن تفكّر في أن تضيف إليه مواضيع أخرى مثل العمالقة، على سبيل المثال، أو الدراويش أو الواقعية السحرية. "مترجم".