:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، نوفمبر 29، 2007

لوحات عالمية

عندما بدأت التفكير في تخصيص مدوّنة للحديث عن اللوحات التشكيلية العالمية كان في ذهني أن تتضمّن السلسلة مائة لوحة كحدّ أقصى.
لكنّي اكتشفت بعد ذلك أن من الصعب فعلا حصر اللوحات الجديرة بالتنويه والإشادة في رقم محدّد.
لذا رأيت في ما بعد أن أضيف خمسين لوحة أخرى إلى السلسلة كي تكتسب شيئا من الشمولية والتنوّع.
وقد سبق وأن ذكرت في حديث سابق انه روعي أن تكون التعليقات والشروحات المرافقة لكلّ لوحة سهلة وميّسرة وخالية من المفردات والصيغ الأكاديمية الجافّة والصعبة.
ولم يغب عن ذهني أن المدوّنة تخاطب في الأساس القارئ العادي الذي يرغب في معرفة شيء عن الفنّ التشكيلي بطريقة مختصرة ومبسّطة وبعيدا عن التفلسف غير الضروري والبلاغيات التي تهتمّ عادة بالشكل دون المضمون.
ومع بلوغ الحلقات العدد 150، يحسن إيضاح بعض الأمور التي رافقت الإعداد لحلقات المدوّنة والتي احسب أنها تنطوي على بعض الأهمية.
لا بدّ في البداية من إدراك حقيقة أظنّ أنها بدهيّة، وهي أن مجالات الإبداع ومظاهر التميّز التي يوفّرها الفن التشكيلي كثيرة ومتعدّدة بما لا يتأتّى حصره أو قياس أثره. وفي البال طبعا أن هناك العديد من الأعمال التشكيلية الرائعة التي لم تجد طريقها بعد الى المدوّنة، وأتمنّى ان يسعف الوقت في إدراجها نظرا لشهرتها الواسعة وأهمّيتها الكبيرة.
وأشير هنا وعلى وجه الخصوص إلى لوحتين: الأولى زهور عبّاد الشمس لـ فان غوخ والثانية سوسن الماء لـ كلود مونيه. هاتان اللوحتان بالذات لا أتصوّر أنهما يمكن أن تغيبا عن قوائم اللوحات العالمية المتميّزة والمشهورة وذلك لأسباب قد لا يكون هذا أوان استعراضها وشرحها.
وعلى نطاق أوسع قليلا، أتمنى أن تتضمّن السلسلة أعمالا أخرى لا تقلّ شهرة وأهمية. على سبيل المثال لا الحصر، يخطر بالبال لوحة فيلاسكيز بعنوان هيلانديراس، وجبال سييرا نيفادا للأمريكي البيرت بيرشتادت، ولوحة دافنشي المسمّاة الإنسان الفيتروفي، وخلق آدم لـ ميكيل انجيلو، والربيع لـ بوتشيللي، ولا سكابيلياتا أو رأس أنثى لـ دافنشي، وعروس الريح للنمساوي اوسكار كوكوشكا، وليلة مقمرة في نابولي للروسي شيدرين، ولوحة اوماي للبريطاني جوشوا رينولدز، ولوحة بورتريه الكونتيسة هوسونفيل للفرنسي آنغـر.
والقائمة تطول، لكن لا أتخيّل أنها يمكن أن تنتهي دون الإشارة إلى أسماء فنّية لا تقلّ أهميّة، مثل الأمريكي توماس ايكنز، والمكسيكي دييغو ريفيرا، صاحب اللوحة الشهيرة بائعة الزهور.
وقد اكتشفت أنني أغفلت ذكر بعض الأسماء الفنّية الكبيرة على ما لها من شهرة وتأثير كبيرين، الأمر الذي أعدّه احد أوجه القصور والنقص في السلسلة. على سبيل المثال، لم يسعفني الوقت ولا التركيز في أن أشير إلى شيء من لوحات فنّان عصر النهضة الايطالي الكبير كارافاجيو. وإذا توفّر الوقت الكافي سأختار لوحته الجميلة عشاء في ايموس أو لوحته الاخرى غشّاشو الورق ضمن اللوحات التي تستحقّ التنويه.
وفي الختام، اتقدّم بالشكر الجزيل الى كافة الزملاء والزميلات على تشجيعهم ودعمهم المتواصل. كما أثمّن رغبة العديد منهم ممّن أرسلوا إليّ عبر البريد الاليكتروني مطالبين بأن تستمرّ حلقات المدوّنة لبعض الوقت. وقد قرّرت في النهاية النزول عند رغبتهم راجيا أن يستمرّ تفاعلهم مع ما يُطرح سواءً بالنقد أو بالتقويم وحتى بالمشاركة في اختيار اللوحات التي يرون انها تستحق أن تُضمّن في السلسلة. مع خالص التحيّة للجميع.

الثلاثاء، أكتوبر 23، 2007

صورة مدام ريكاميـيه

جلست البارحة أتأمّل إحدى لوحات الفنّان رينيه ماغريت التي رسمها اعتمادا على لوحة معروفة جدا للرسّام الفرنسي دافيد.
وكان دافيد قد رسم في العام 1800 لوحة لـ مدام ريكامييه التي قيل إنها كانت أجمل امرأة في زمانها. وقد كانت بالإضافة إلى جمالها الباهر سيّدة تهوى الفنون والشعر والأدب، لذا كان صالونها يضمّ نخبة المجتمع الباريسي آنذاك من ساسة وأدباء وفلاسفة وفنانين.
ماغريت، بأسلوبه السوريالي الجامح وميله لمزج الفنّ بالفلسفة والأفكار الوجودية، قام برسم نسخة مشابهة تقريبا لبورتريه دافيد عن مدام ريكامييه، لكنه استبدل صورة المرأة بصورة تابوت تتدلّى من أسفله قطعة صغيرة من القماش.
وقد أراد ماغريت من خلال لوحته أن يقول إن تلك القطعة من القماش هي كلّ ما تبقى من تلك السيّدة التي كانت أثناء حياتها ملء السمع والبصر ومحطّ إعجاب الناس واهتمامهم.
والحقيقة أن لوحة ماغريت أثارت في ذهني مجدّدا نفس ذلك السؤال القديم الذي طالما شغلني واشغلت به غيري ممن اعرفهم وارتاح للحديث معهم في مثل هذه المواضيع المحيّرة والشائكة.
وأذكر أنني أبديت يوما ملاحظة لزميل ختمتها بسؤال صغته على الشكل التالي: إذا كان الموت هو النهاية الطبيعية لكل مخلوق على هذه الأرض، وإذا كان الموت نفسه ينهي أي وجود مادّي أو فيزيائي للإنسان من على هذه الأرض، فما مبرّر لهاثنا المحموم وراء متع وملذّات الدنيا ونحن نعرف أن الموت هادم اللذات وأن كل اثر لهذه المتع الدنيوية التي نجري وراءها ولا نشبع أو نرتوي منها ينتهي بعد أن نموت وينقطع كل اثر لنا من هذا العالم.
واتذكّر أن ذلك الزميل ردّ على تساؤلي بسؤال آخر عندما قال: هل تعرف انك بهذا السؤال تكون قد وضعت قدمك على أولى العتبات التي تفضي، مع أسئلة أخرى متفرّعة عنه، إلى جوهر الفلسفة البوذية والكيفية التي ينظر بها البوذيّون إلى قضايا معيّنة مثل مفهوم ووظيفة الجسد الإنساني وطبيعة وقيمة وجود الإنسان على هذه الأرض ومصير الإنسان بعد الموت، وغيرها من الأسئلة المصيرية الكبرى.
وقد فهمت بعد ذلك أن الجسد عند البوذيين ليس أكثر من قطعة قماش يلبسها الإنسان ثم يخلعها عند حلول الموت.
ورغم أن البوذية لا تعتقد بوجود جنّة ونار أو حساب أو عقاب، فإن الموت عندهم ليس هو النهاية وإنما بداية لحياة أو حيوات أخرى تتخلق من خلال التناسخ أو انتقال الروح في جسد آخر.
وربّما لهذا السبب نجد الحكيم الهندي اوشو يوصي الإنسان بأن لا يثقل على نفسه كثيرا بالتفكير في ما وراء واقعة الموت، وان يمتّع نفسه في كل لحظة يعيشها في هذه الدنيا، لان لا احد، على حدّ قوله، يعرف يقينا ماذا ينتظرنا بعد الموت.
لقد قرأت سيرة كازانتزاكيس بكثير من الانبهار والدهشة، وكان احد أسباب إعجابي بذلك الكتاب العظيم هو أن كازنتزاكيس تحدّث فيه مطوّلا وبعمق عن نفس هذه الأسئلة التي كانت ولا زالت تشغلني ولا اشكّ أنها تشغل الكثيرين غيري: ما الذي يبقى من الإنسان بعد أن يموت، ولماذا يموت البشر أصلا، وما حاجة الله سبحانه لأن يُميت الإنسان ويفنيه، وأيّ فائدة تعود على الشخص الميّت من تذكّرنا إيّاه بالمدح أو الذمّ، ثم أيّ أهمية في أن يترك الإنسان خلفه نسلا يحفظون اسم سلالته وشجرة نسبه وهو أصلا محكوم بالفناء الأبدي!
لقد ماتت مدام ريكامييه منذ أكثر من مائة وخمسين عاما. ومات قبلها الفنان دافيد بخمسة وعشرين عاما. ثم مات في إثرهما ماغريت. وبقي من المرأة ما تحفظه بطون الكتب عن جمالها الخارق وحضورها الطاغي، وبقي من الرسّامَين لوحتاهما الشهيرتان اللتان رسماهما لتلك المرأة.
وعلى طريقة ماغريت الشاطحة والمستفزّة، يمكن لأيّ إنسان أن يطرح سؤال مماثلا عن جدوى أن يكون الإنسان مشهورا أو مغمورا، طيّبا أو سيّئا، بعد أن يموت.
وأيّ قيمة أو منفعة مادية أو معنوية يمكن أن تعود على الموتى من ذكر الأحياء لهم بالخير أو بالشرّ.
وأختم حديثي بالآية القرآنية الكريمة: "إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار". صدق الله العظيم.


Credits
artchive.com

الخميس، أكتوبر 18، 2007

مسلسل نمر بن عدوان

أطرف ما قرأت من تعليقات حول المسلسل الرمضاني "نمر بن عدوان" كان كلاما كتبه عضو في احد منتديات النقاش عندما قال: كنت أظن أن نمر بن عدوان فارس وبطل، ومع ذلك لم نرَ طوال المسلسل غير رجل لا يجيد سوى البكاء والتوجّع".
واعتقد أن هذا الوصف لا يبتعد كثيرا عن الحقيقة. ورغم أنني لا أحبّ مشاهدة المسلسلات عادة، فقد تابعت بعض حلقات ذلك المسلسل من باب " مجبر أخاك لا بطل"، وبحكم أن القريبين مني كانوا حريصين على متابعته.
وقد لاحظت أن مخرج المسلسل اختار ممثلا غير معروف تقريبا للقيام بدور نمر. كما اختار، لأسباب مجهولة، أن تقوم بدور زوجة البطل ممثلة ذات بشرة برونزية وملامح تشبه ملامح نساء ايطاليا أو اسبانيا!
وقد اسقط المخرج من المسلسل أهم واقعة في حياة البطل، وهي قتله لزوجته عن طريق الخطأ. قد يكون ذلك طلبا للسلامة واتقاءً لغضب قبيلة البطل. مع أن ما فعله نمر لا يعدّ سابقة، إذ يحفظ تاريخ العرب العديد من أسماء الرجال الذين قتلوا زوجاتهم ثم قالوا فيهنّ أعذب القصائد والأشعار!
وقد خطر ببالي أن المخرج ربّما تقصّد أن يظهر البطل بتلك الهيئة الباكية والواجمة والحزينة طوال حلقات المسلسل كإشارة خفيّة إلى أن حالة البكاء والفجيعة تلك كانت في حقيقتها تعبيرا عن إحساس البطل نمر بالندم والذنب على ما ارتكبه بحقّ زوجته، أكثر من كونه شعورا عابرا بالحزن يمكن أن يعتري أي رجل تموت زوجته ميتة طبيعية.
في احد مشاهد المسلسل رأينا نمر يتخلى فجأة عن مظهره الباكي والمنكسر لدقائق معدودات، فيمتطي حصانه الشاحب ويستلّ سيفه بعد أن اتفق مع شيخ قبيلة آخر، وهما يبتسمان، على غزو إحدى القبائل المجاورة. وقد انتهت الغارة بقتل عدد من رجال تلك القبيلة والاستيلاء على أملاكهم ومواشيهم وإبلهم وسبي نسائهم.
ولا اعلم أية قيمة درامية أو فنية يمكن أن يبرّر بها المخرج حشره لتلك اللقطة العجيبة التي قد لا تدلّ سوى على خيبة البدو وتخلف العادات العشائرية التي تضفي على مثل تلك التصرّفات الهمجية صفات الإقدام والشجاعة والفروسية.
هذا المسلسل واضح انه حظي بإقبال جماهيري كاسح. والحقيقة أنني لم أفاجأ كثيرا عندما علمت أن بعض النساء على الانترنت أصبحن يضعن صورة نمر بجانب أسمائهن في غرف الدردشة والبالتوك ومنتديات الحوار.
قد يكون السبب هو أن المجتمعات العربية، في الغالب الأعم، هي مجتمعات ذكورية والرجال فيها معروفون بقسوتهم على النساء واحتقارهم لهن. كما أن الرجل العربي بطبيعته بخيل في إظهار عواطفه تجاه النساء، يستوي إن كانت المرأة زوجته أو أخته أو ابنته.
ومن الواضح أن حزن نمر المضني وبكائياته المبالغ فيها على رحيل زوجته، كلّ ذلك وفّر للنساء عامل إزاحة نفسية، بمعنى انه منحهن إحساسا نسبيا بالارتياح والرضا عن النفس والرغبة في أن يتمثل الرجال نموذج بطل المسلسل في وفائه ومحبّته لزوجته ومعاملته إياها كمخلوق موفور الكرامة والإنسانية.
وهي أمور تفتقدها المرأة العربية كثيرا لأسباب ثقافية ودينية واجتماعية.
قد تكون هذه إحدى حسنات المسلسل البكائي الطويل. أما اكبر سيئاته فهو انه قدّم نمر بن عدوان في هيئة تناقض ما استقر في أذهان العامّة عن فروسية الرجل ورباطة جأشه وصبره على المكاره.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوّة هو: ترى ما الفائدة التي نجنيها من نبش التراث العشائري الآن واستعادة تاريخ حياة رموزه المليئة بأخبار الغزو والغدر والسلب والنهب؟!

الأربعاء، سبتمبر 12، 2007

كلمات مضيئة


لا أعلم من قال هذه الكلمات لكنّني قرأتها ولا أدري أين.
ربّما كان ذلك في كتاب أو في مجلة أو جريدة. لم أعد اتذكّر بالتحديد.
لكنّها ما تزال ترنّ في أذني ويتردّد صداها في وجداني وعقلي. وما أزال إلى اليوم أستذكر هذه الكلمات وأتمعّن في صدقها وعمق معناها وروعة صياغتها.

وطـن:
أيّ بقعة في الأرض يجد فيها الإنسان حقّه وكرامته فهي وطنه. وأيّ ثقافة تحقّق للإنسان سلمه وأمنه وسعادته فهي ثقافته. وأيّ لغة تحقّق للإنسان تواصله ومعرفته وفهمه فهي لغته. وأيّ مجتمع يحقّق للإنسان احترامه وآدميّته وخصوصيّته وحرّيته فهو قبيلته. لذا لا زلت أبحث عن وطن أفضل وقبيلة أحسن يستحقّان أن اقدّم روحي ودمي وكلّ ما أملك فداءً لهما.

الأزهار:
الأزهار هي الشيء الوحيد الذي خلقه الله ولم يمنحه روحا، ذلك لأنه يريد لنا أن نعكس أرواحنا فيه.

مكان خفيّ:
كل واحد منّا عنده مكان خفيّ.. مكان ما في أعماق نفوسنا نذهب إليه لننعزل فيه، لنتوحّد، ونكون أنفسنا فقط. هذا المكان الفريد الذي نواجه فيه مخاوفنا العميقة، يصبح مع الأيام مستودعا لكلّ آمالنا واحتياجاتنا وأحلامنا وحتّى مخاوفنا المكتومة. انه يضمّ جوهر كينونتنا وماذا نريد أن نكون. لكن في لحظة ما، وسواءً كان ذلك تخطيطا أم بمحض الصدفة، يكتشف شخص ما طريقه إلى ذلك المكان الذي كنّا نعتقد انه مكاننا الخاص. ونسمح لذلك الشخص أن يرانا ويحسّ بنا وأن يشاركنا كل مشاعرنا التي أودعناها هناك. ومع الأيام يضيف ذلك الشخص معنى لمكاننا الخفي. وبعدها يستقرّ بهدوء في تلك الزاوية الصغيرة من المكان حيث يبقى جزء منه هناك وإلى الأبد. ذلك الشخص هو الذي نسمّيه الصديق.

تصبح.. عندما:
تصبح سعيدا عندما ترى زهرة وتكون ممتنّا لتلك النعمة.
وتصبح قويّا عندما تحتوي حزنك وتعلّمه أن يبتسم.
وتصبح حكيما عندما تدرك حدود حكمتك.
وتصبح حرّا عندما تتحكّم في نفسك ولا ترغب في التحكّم بالآخرين.
وتصبح كريما عندما تجد أن كرامتك تكمن في احترام كرامة الآخرين.
وتصبح شجاعا عندما تتغلب على الخوف وتساعد الآخرين على فعل الشيء نفسه. وتصبح محبّا عندما لا يعميك ألمك عن رؤية آلام الآخرين.
وتصبح حيّا عندما تكون أمال الغد بالنسبة إليك أكثر أهمّية من أخطاء الماضي. وتصبح كبيرا عندما تعرف من أنت وليس ماذا ستكون.
وتصبح سخيّا عندما تستطيع أن تعطي بقدر ما تأخذ.
وتصبح متواضعا عندما لا تعرف إلى أي مدى أنت متواضع.
وتصبح رحوما عندما تغفر للآخرين الأخطاء التي تنكرها على نفسك.
وتصبح جميلا عندما لا تحتاج لمرآة لكي تخبرك بذلك.
وتصبح غنيّا عندما لا تحتاج أبدا لأكثر مما عندك.

الثلاثاء، سبتمبر 11، 2007

محطّات

سحر الصورة


تابعت جانبا من تعليقات القرّاء على صورة فوتوغرافية كانت وكالة الأنباء الإيرانية قد وضعتها على موقعها الاليكتروني ثم لم تلبث أن سحبتها منه دون إبداء الأسباب.
لكن الصورة كانت قد وجدت طريقها إلى العديد من المواقع الاليكترونية ومنتديات النقاش واستقطبت الكثير من التعليقات ووجهات النظر المتباينة، ما يثبت مرّة أخرى ما للصورة من سطوة وتأثير في إذكاء روح النقاش وصوغ الأفكار والقناعات.
الشخص الذي وضع الصورة، وهو إيرانيّ على ما يبدو، اختار لها عنوانا طريفا وموحيا هو "الجميلة والوحوش"، وفيها يظهر أحد أفراد الشرطة الدينية الإيرانية، وهي امرأة صارمة الملامح ترتدي التشادور والملابس السوداء، أثناء محاولتها اعتقال فتاة تبدو بهيئة أنيقة وعصرية وترتدي "جاكيت" أحمر اللون، في إطار حملة يقول المحافظون إنهم يريدون من ورائها فرض "زيّ إسلامي موحّد" على جميع النساء في البلاد.
وقد قرأت جزءا من تلك التعليقات وفهمت من بعض ما قيل أن لون الجاكيت الأحمر هو ما أثار غضب الشرطة الدينية على الفتاة. وجاءت التعليقات مثيرة للاهتمام وبعضها الآخر لا يخلو من منطق، مثل الشخص الذي كتب يقول إن الإسلام يحثّ على الحشمة، لكن طالما أن المرأة تغطّي جسدها في حدود ما أمر به الشرع، فأين المشكلة؟
ومتى كان ارتداء لباس من لون معيّن، أحمر أو غيره، يشكّل تحدّيا للدين أو العرف؟
ولأن الموضوع يتناول عنصرا يتعلّق بالمرأة، فقد كان طبيعيا أن يمتدّ النقاش ليشمل أمورا أخرى ذات صلة بالموضوع، مثل جرائم الشرف وما يُسمّى بحدّ الزنا، و"هما ممارستان مخزيتان ونتاج للعقلية البدائية التي كانت سائدة قبل ظهور الأديان"، كما قال احد المعلّقين.
وقد واستشهد بعض من علّقوا بكلام لطارق رمضان ومهاتير محمد وفاطمة المرنيسي، الذين يُنظر إلى مواقفهم وأفكارهم على أنها تمثّل روح الإسلام الحضاريّ والمعتدل.
وكانت هناك آراء أخرى تستحقّ التأمّل مثل الذي قال: إنه عندما ُينظر إلى الجمال باعتباره شيئا يتعيّن إخفاؤه أو منعه، عندها يجب أن ندرك أن المجتمع الذي نعيش فيه يعاني من مشكلة أو مرض".
وأضاف آخر: إن الجمال نعمة من الله، ورجال الدين والمتدّينون عموما يكرهون الجمال ومن ثمّ يكرهون كلّ امرأة جميلة. لقد فشلوا في فرض الحجاب على النساء طيلة 27 عاما بعد الثورة، وهم اليوم يريدون إعادتنا إلى ما كانت عليه النساء أيّام طالبان".
ومع ذلك وبرغم كل ما قيل وكُتب، تظلّ حال المرأة الإيرانية أفضل بكثير من حال النساء في بعض المجتمعات المجاورة، بل انه في بعض الحالات لا تجوز المقارنة على الإطلاق، لا من ناحية حرّية اللباس والمظهر الخارجي ولا من حيث مساحة الهامش الذي تتحرّك فيه المرأة لتعمل وتنتج وتبدع.
على هذا الرابط ضمن موقع Flickr نقاش متّصل لا يقف عند ظروف التقاط الصورة بل يتّسع ليشمل موضوع لباس المرأة عموما والعوامل السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية التي تؤثّر فيه وتحدّد طبيعته.

❉ ❉ ❉

جماليات العمل الفنّي


الفنّ موجود في كلّ مكان حولنا. وبالإمكان رؤية الكثير من أشكاله ومظاهره في حياتنا اليومية. وهو موجود معنا منذ زمن طويل، حتى قبل أن يتعلّم الإنسان فلاحة الأرض وزراعتها. ويمكن رؤية الأعمال الفنّية في العديد من الكهوف التي تُظهِر صورا لبشر يصطادون الجواميس وغيرها من الحيوانات البرّية. هذه هي الأعمال الفنّية التي أبدعها أسلافنا الأوّلون. وكانت تلك هي طريقتهم في تسجيل التاريخ وإعلامنا بطريقة ما كيف كانت تبدو حياتهم وأسلوب عيشهم.
العمل الفنّي تاريخ لا ينتهي. وعلى الأرجح سيظلّ بلا نهاية طالما أن بوسع الإنسان استخدام عقله كي يخلق ويبدع.
لكن، ابتداءً، ما هو العمل الفنّي؟ العمل الفنّي يمكن أن يكون أيّ شيء قادر على أن يثير انفعال الشخص الذي يراه. يمكن، مثلا، أن يكون لوحة أو تمثالا مصنوعا من الجبس أو الطين. ويمكن أن يكون أيّ شيء طالما انه يصوّر مشاعر الفنان أو ما يريد الفنّان من المتلقّي أن يفهمه من خلال عمله.
كما أن لأيّ عمل فنّي أغراضا متعدّدة، أهمّها انه يمكن أن يكون بمثابة سجلّ للتاريخ. وأبسط مثال على هذا رسومات الكهوف التي ما تزال تخبرنا عن شكل الحياة في الماضي.
العمل الفنّي يمكن أيضا أن يوفّر متنفّسا لمشاعرنا. هناك لوحات كثيرة عندما ننظر إليها نجد فيها انعكاسا لما نشعر به من حالات فرح أو حزن. عندما تبدع عملا فنّيا فإنك إنما تعبّر من خلاله عن نفسك كشخص وعن طبيعة أفكارك وانفعالاتك. والتعبير عن الذات هو طريقة صحّية في التنفيس عن المشاعر.
أيضا قد يسهم العمل الفنّي في أن يُظهر لنا جوانب قد نجهلها عن العالم الذي نعيش فيه. فنّ التصوير الفوتوغرافي هو مثال واضح على هذا. فمن خلال الصورة بإمكاننا أن نعرف المزيد عن هذا العالم وعن معاناة الإنسان فيه والتي قد نغمض أعيننا أحيانا عن رؤيتها.
التصوير أداة قويّة جدّا في إثارة العواطف، كما انه يكشف لنا عن الكثير من الحقائق العارية عن حياتنا وعن أنفسنا. لكن هذا النوع من الفنّ يمكنه أيضا أن يثير فينا مشاعر طيّبة مثل التعاطف والسعادة والأمل بالمستقبل. والأمر في النهاية يعتمد على الأفكار التي يوظّفها المصوّر في عمله.
الأعمال الفنّية موجودة حولنا في كلّ مكان: في المنازل والمكاتب وكذلك في المتاحف والمعارض الفنّية.
والأعمال الفنّية البسيطة التي يقوم بها الإنسان في حياته اليومية من تزيين وزخرفة ما هي إلا محاولة لتجميل بيئته الصغيرة ومن ثم إضفاء شيء من البهجة والمتعة على حياته.

❉ ❉ ❉

استراحة موسيقية

❉ ❉ ❉

عريشة البرتقال


كان توماس فيرنلي (1802 - 1842) رسّاما نرويجيا من أصول انجليزية. وقد اشتُهر برسم الحدائق. لوحته هنا اسمها عريشة البرتقال، وهي تُعتبر إحدى تحف هذا النوع من الرسم.
كان فيرنلي عضوا في جماعة من الفنّانين الاسكندينافيين كان من بينهم كريستيان دال ويوهان ايكرسبيرغ. وقد أسهم هؤلاء في تدشين العصر الذهبيّ للرسم في شمال أوربّا خلال القرن التاسع عشر.
كان توماس فيرنلي يرى أن دراسة الجوّ لا يمكن أن تتحقّق بالكامل في الأضواء الصافية للمتوسّط. لذا سافر عام 1832 وهو في سنّ الثلاثين إلى الجنوب الأوربّي قاصدا روما. ويُرجّح انه رسم هذه اللوحة عندما كان هو وعدد من زملائه في زيارة لـ نابولي بجنوب ايطاليا.
وتصوّر اللوحة عريشة ضخمة اصطفّت على جانبيها أشجار البرتقال. وقد استخدم الرسّام أسلوب المنظور الواحد كي يخلق ممرّا مركزيا في عمق المنظر. كما أجاد في تصوير الضوء الذي يخترق الفراغات بين الأعمدة.
تأثيرات الضوء والظلال توحي بأن اللوحة رُسمت في فترة ما بعد الظهيرة. وهناك شخص وحيد يجلس في نهاية الممرّ وهو يمسك بكتاب أو لعلّه يرسم. وقرب الواجهة هناك آنية خزفية ضخمة تضمّ بعض الأزهار.
الأعمدة القائمة على طرفي الممرّ تبدو قديمة ومتهالكة نوعا ما، وهو ملمح شائع في الحدائق بشكل عام.
اهتمام الرسّام بالتفاصيل لافت، وبوسع المرء أن يرى أوراقا ونباتات في كلّ مكان. والإحساس العامّ الذي تثيره اللوحة هو مزيج من الهدوء والسكينة.
ورغم أن اللوحة صغيرة، إلا انه من الواضح أنها شُيّدت بعناية. كما يمكن اعتبارها أكثر من مجرّد دراسة لحالة الضوء والظلال في منتصف النهار.
من الأشياء المثيرة للانتباه أيضا الضوء الرقيق الذي يتخلّل الأسطح والطوب والأوراق. وواضح أن الرسّام استخدم فرشاة صغيرة وألوانا مرهفة وذات وهج خفيف.
عريشة البرتقال لوحة رُسمت بطريقة متوازنة وحسّاسة، ما يجعلها واحدة من أفضل الأعمال التشكيلية في هذا النوع من الرسم.

الاثنين، أغسطس 27، 2007

لا تتركوني وحيدا

سمعتُ بالأمس قصّة عن شيخ عاش حياة ممتدّة إلى أن ناهز عمره الثمانين عاما، مع ما يرتبط بهذه السنّ من متاعب وعلل الشيخوخة المختلفة.
شيئا فشيئا بدأ الرجل يحسّ باقتراب المنيّة، وصاحب ذلك الإحساس شعور متزايد بالخوف والاضطراب، وذات ليلة وقد أصبح على بعد خطوات من القبر أجهش بالبكاء وقال لزوجته وأولاده بصوت مكتوم وكلمات مرتعشة: لا تتركوني وحيدا في الحفرة"!
وكان يقصد بالحفرة القبر الذي جهّز ليدفن فيه.
وشعر أفراد العائلة بالألم والفجيعة مما سمعوه فانخرطوا جميعا في البكاء لهول الموقف وعجزهم وقلة حيلتهم إزاءه.
أهم دلالات هذه القصّة هي أن الخوف من الموت خوف غريزي ومتأصّل في فطرة الإنسان. إذ بالرغم من أن ذلك الشيخ كان قريبا إلى الله مداوما على أداء الفروض والواجبات الدينية ومؤمنا بالقضاء والقدر وبأن الموت قدر محتوم على كل إنسان، فإن ذلك كله لم يفلح في إزالة أو تخفيف رهبة الموت من نفسه.
كما بدا أن الرجل لم يكن قد تصالح بعد مع فكرة الموت، على الرغم من انه عاش كل هذه السنوات الطوال وأخذ نصيبه من الدنيا بما فيه الكفاية.
هذه القصّة، وغيرها من القصص المشابهة التي سمعتها، أثارت في خاطري سؤالا يمكن أن يصاغ على النحو التالي: أيهما أكثر تصالحا مع فكرة الموت وتسليما بها، المسلم أم المسيحي؟
أظن – والله اعلم – أن الغربيين يتقبّلون فكرة الموت برضا وتسليم اكبر من ذلك الذي عند المسلمين. وأحد الشواهد التي تدعم هذا الافتراض أن كثيرا من الغربيين يخطّطون لمراسم الجنازة كما لو أنهم يخطّطون لحفلات زواجهم ومناسبات أنسهم وفرحهم.
بل إن بعضهم يختار مسبقا شكل الكفن ونوعية الملابس التي سيدفن بها والأشياء والتذكارات التي ستوضع معه في قبره.
وقد يمتدّ ذلك أحيانا إلى تحديد أسماء الأصدقاء والمعارف الذين سيحضرون المأتم من رجال دين ووعّاظ ومتحدّثين وخلافه.
في الإنجيل ليس هناك حديث كثير عن الجنة والنار. غاية ما في الأمر انه إذا مات المؤمن المسيحي فإن يسوع الربّ يكون في استقباله على بوّابة السماء وبين الغيم محيّيا ومرحّبا.
أما القرآن الكريم فيتحدّث كثيرا عن أهوال النار والعذاب الذي اعدّ للمذنبين والخاطئين، لكنه أيضا يتحدّث عن الجنّة وما تمتلئ به من صنوف المتع والملذّات من حور عين وفاكهة وغلمان وأنهار من نبيذ ولبن وعسل.. الخ.
وبناءً على ذلك، فإن المسلم يفترض به ألا يجزع ولا يخاف من الموت لأنه سيكون على موعد مع كل هذه النعم الوفيرة والملذّات الكثيرة التي تنتظره عند مغادرته الحياة الدنيا.
لكن من الواضح أن أيّا من هذه الأمور والتصوّرات لم يكن في ذهن ذلك الشيخ المسكين الذي أرعبته فكرة أن يترك وحيدا في ظلمة القبر، إنه لا يأسى كثيرا على فراق الأهل والولد ولا يبالي بالنعيم المقيم الذي ينتظره في الدار الآخرة.
إن ما يخيفه ويشوّش عقله هو أن يموت وأن يوضع لوحده في حفرة صغيرة وموحشة ارتبط ذكرها في عقول الناس بالعذاب وبالشجاع الأقرع وغير ذلك من القصص والتهيّؤات المخيفة والمرعبة.
انه الخوف الغريزي من الموت الذي لا تفلح في تبديده أو تخفيف أثره النصوص الدينية مهما حملت من وعود بالمكافأة وبالخلود والنعيم الأبدي.
إن برود الغربيين ولا مبالاتهم بالموت أمر مثير للاهتمام فعلا، في الوقت الذي ما يزال الموت يشكّل للكثير منا – نحن المسلمين – هاجسا مخيفا لا يريد احد استحضاره أو التفكير فيه، يستوي في ذلك الأبرار والأشرار، والمحسنون والمذنبون.

الجمعة، أغسطس 10، 2007

سفينة نوح


في القرآن الكريم بضع إشارات عابرة إلى قصّة الطوفان دون توسّع في شرح تفاصيلها وملابساتها. وبالمقابل، يورد كتاب العهد القديم معلومات تفصيلية ومستفيضة عن القصّة. كما يتضمّن إشارات متعدّدة إلى طبيعة السفينة التي بناها النبيّ نوح عليه السلام ونوعية سكّانها.
ويبدو أن السفينة نفسها كانت اكبر بكثير من أيّ شيء آخر كان قائما على الأرض في تلك الحقبة السحيقة من تاريخ البشرية.
وبحسب العلماء، كان هناك أكثر من خمسة وعشرين مليون فصيلة حيوانية تعيش على الأرض. والعلم الحديث عاجز تماما عن تصوّر بناء سفينة كبيرة وضخمة يمكن أن تتّسع لكافّة المخلوقات التي كانت تعيش على الأرض في ذلك الزمان.
ومع ذلك، يشير الإنجيل إلى أن طول السفينة لم يكن يتجاوز خمسمائة قدم، وبعرض أقصاه ثمانون قدما، أي حوالي نصف مساحة سفينة التايتانك.
لكنّ العلماء يتساءلون إن كانت فكرة جمع حيوانات كثيرة ومن قارّات مختلفة وتعيش وفق مناخات متباينة فكرة قابلة للتطبيق أصلا.
وكيف بإمكان السفينة أن تتعامل مع متطلّبات عدد ضخم من الحيوانات كلّ منها له طعام خاصّ وبيئة معيّنة لا يمكنه العيش خارجها. وكيف أمكن لـ نوح وللسفينة التعامل مع فضلات تلك الحيوانات على الفُلك.
المشكّكون في الواقعة يقولون انه لا بدّ وأن السفينة كانت تحتوي على نظم للتهوية والنظافة لا تتوفّر اليوم سوى في ناقلات قليلة وبالغة التعقيد من الناحية التكنولوجية. ويضيفون: إسأل أيّ حارس حديقة حيوانات اليوم كيف يتسنّى له بالكاد التعامل مع احتياجات مئات الحيوانات في حديقته. ثم تخيّل كيف تمكّن رجل واحد وعائلته الصغيرة العدد من الاستجابة لمتطلّبات ملايين المخلوقات الأرضية على ظهر سفينة بدائية.
ثم هناك فكرة الطوفان ذاتها. لا بدّ وأن الأرض كانت في ذلك الزمان مغطّاة بالمياه بالكامل وحتى ذروة قمّة جبل ايفريست. أي ملايين الكيلومترات المكعّبة من المياه. السؤال: من أين جاء الماء بتلك الوفرة الهائلة والى أين تصرّف؟!
الأرض نفسها لا تحتوي على مياه بمثل تلك الكثافة. وليس هناك حاسبة الكترونية قادرة على حساب كم من الماء يكفي لتغطية الأرض حتى قمم جبل ايفريست. لا بدّ وأن مثل ذلك الرقم سيكون فلكيا وهائلا بكلّ المقاييس.
تقول القصّة إن المطر استمرّ نزوله حوالي أربعين يوما متواصلة. وبما أن مياه المطر عذبة بطبيعتها فإن ذلك كفيل بإغراق مياه المحيطات وتغيير ملوحتها، الأمر الذي سيؤدّي إلى إحداث دمار رهيب في البيئة البحرية ونفوق حيواناتها بشكل مريع. إسأل أيّ عارف بالشعاب المرجانية وبالأسماك والكائنات الأخرى التي تعيش فيها عن مدى حساسية ذلك النوع من البيئة للتغييرات المناخية.
إن هطول الأمطار لأربعين يوما متواصلة وبمثل تلك الغزارة سيؤدّي حتما إلى هلاك كافّة أشكال الحياة البحرية في البحار والمحيطات. إذن كيف تسنّى لتلك الكائنات الهشّة أن تحيا طوال تلك المدّة وهي مغمورة تحت الماء؟! خذ بعض النباتات المنزلية واتركها مغمورة في مياه الحديقة أو دورة المياه لبضعة أيّام. ثمّ انظر بعد ذلك لترى ماذا حلّ بها.
لكن لنعد إلى القصّة مرّة أخرى. بعد أن غيض الماء (ولا احد يدري إلى أين)، كان هناك العديد من المشكلات. ماذا فعل نوح، مثلا، بجثث الحيوانات والبشر الكثيرين الذين ماتوا على ظهر الفلك؟ بالتأكيد سيترتّب على بقاء الجثث في السفينة انتشار الطاعون وغيره من الأمراض المعدية والأوبئة الفتّاكة نتيجة اللحم المتعفّن.
الإنجيل يذكر أن الأرض آنذاك كانت مسطّحة ولها أركان أربعة. لكنّه يعود ليشير في جزء آخر إلى أن الأرض دائرية!
غير أن السؤال المهم هو: كيف تمكّنت الحيوانات من العودة إلى بيئاتها الأصلية عقب انتهاء الطوفان؟ كيف استطاع الكوالا والكنغارو العودة إلى استراليا؟ وكيف تمكّنت الدببة والبطريق من العودة إلى القطب المتجمّد؟
وكيف عادت جحافل النمل الاستوائي إلى الأمازون والغابات المطيرة؟
ونفس السؤال عن الماموث والديناصورات وفصائلها الكثيرة.
وبما انه كان هناك زوجان من كلّ فصيلة، فكيف تمكّن كلّ زوجين من السير آلاف الأميال للعودة إلى بيئتهما الأصلية دون أن يتعرّضا للافتراس أو الموت جوعا أو عطشا؟!
تقول القصّة إن نوحا عليه السلام جمع من كلّ مخلوق زوجين. وهنا تثور أسئلة إشكالية. كيف تمكّن نوح، مثلا، من ضبط سلوك الحيوانات على متن السفينة طوال ستّة أشهر. وكيف استطاع إقناعها بألا يأكل بعضها بعضا، حيث لا طعام ولا غذاء على ظهر الفُلك. هل يمكن أن يقتنع الإنسان العاديّ بأن الأسد كان مستلقيا بسلام إلى جوار الخروف أو الأرنب؟! وهل تحوّلت الحيوانات المفترسة إلى آكلات للنباتات طوال أشهر الرحلة مثلا؟ أم هل كان الفلك محمّلا بمئونة تكفي لإطعام الحيوانات والحشرات والطيور طوال تلك الفترة؟! وهل كان بإمكان نوح والطاقم المرافق له، أي زوجته وأبناؤه الثلاثة، تدبير أمر تغذية سكّان السفينة؟
لكنّ هناك مشكلة أخرى تسبّب الكثير من المتاعب لأصحاب نظرية الطوفان. فهم يقولون إن عظام وبقايا الديناصورات التي عثر عليها العلماء الآن تعود إلى تلك الحيوانات الضخمة التي نفقت أثناء الطوفان. والسؤال: لماذا لم يأخذ نوح معه أيّا من تلك الديناصورات؟ الإنجيل والكتب الأخرى المقدّسة تقول، بل وتؤكّد أن نوحا اخذ معه من كلّ حيوان زوجين. فهل كانت الديناصورات مستثناة؟
هناك أيضا الكثير من الأسئلة الأخلاقية التي يمكن إثارتها عندما يأتي الحديث على سفينة نوح. وأولّها هو أن المرء يتعجّب كيف أن الله سبحانه أراد أن يدمّر جميع الكائنات الحيّة التي سبق له أن خلقها على الأرض. تقول القصّة إن الله كان ساخطا على جميع البشر باستثناء نوح وأهله. والغريب أن هذا أصبح تكتيكا مألوفا عند مختلف أنواع الآلهة التي جاءت في ما بعد. والميثولوجيا الإغريقية والرومانية، مثلا، حافلة بقصص الآلهة التي تفتك بأعدائها عندما تغضب عليهم.
الخطّ الذي نلمسه في هذه القصّة ومثيلاتها هو أن الله سبحانه وتعالى يحبّ عباده الأخيار ويمقت الأشرار. وهذا أمر طبيعي. ولهذا السبب سمح الله للأخيار بأن يمتطوا السفينة وأن ينعموا بصحبة أعداد كبيرة من الحيوانات الصديقة. الرسالة هنا واضحة، وهي أن الخالق قويّ ومتجبّر وإليه يدين الخلق بكلّ شيء.
وأحيانا يتساءل الإنسان عن الحكمة في أن الله تعالى اختار أن يُهلك مجموعة من الخطّاءين بهذه الطريقة البالغة الغرابة والتعقيد.
الله الذي يستطيع تدمير مئات، وربّما آلاف المجرّات في لمح البصر ودون أيّ جهد يذكر يأمر إنسانا فقيرا ومسكينا بجمع ألواح بالية ليبني منها سفينة ضخمة يضع فوقها ملايين المخلوقات من جميع أرجاء الكوكب، ثم يغرق الأرض بأكملها انتقاما من حفنة من الآثمين والعصاة!
ما الغاية من هذا كلّه؟ أليس الله هو الذي يقول للشيء كن فيكون؟ أليس بيده القوّة والجبروت الكافيان ليفعل ذلك؟ لماذا يكلّف الخالق عزّ وجلّ نفسه ويتسبّب في موت الملايين من المخلوقات والنباتات والحيوانات والبشر بهذه الطريقة الانتقامية الرهيبة؟ أليس من صفاته عزّ وجلّ انه الرحمن الرحيم واللطيف الرءوف الحليم؟!
واقع الحال يقتضي من الإنسان أن يؤمن إيمانا تامّا بما ذكره القرآن الكريم عن الطوفان والسفينة. لكنّ تفاصيل وملابسات القصّة، كما توردها مصادر أخرى، تطرح تساؤلات كثيرة من منظور العلم الحديث. وإثارة مثل هذه التساؤلات ليس من باب الإنكار أو النفي، بل من باب الاستفهام ومحاولة الفهم.

Credits
worldhistory.org

الثلاثاء، أغسطس 07، 2007

قناة الاحمدية

أثار بدء قناة mta الفضائية التابعة للطائفة الاحمدية الكثير من ردود الفعل التي غلب عليها الشجب والإنكار. مؤسّسة نايل سات المصرية نالها النصيب الأكبر من النقد بقرارها السماح للقناة بالبثّ عبر القمر الفضائي المصري "في محاولة للترويج للأفكار الضالة والغريبة عن الإسلام" كما قال البعض.
والاحمدية هي التسمية المخفّفة للقاديانية المصنّفة فقهيا باعتبارها فرقة فاسدة وضالة منذ أن أسّسها ميرزا غلام احمد في أواخر القرن التاسع عشر.
ومنذ انطلاق بثّ القناة لوحظ تركيز المسئولين عنها على محاولة كسب تعاطف المشاهدين في المنطقة العربية من خلال الإيحاء بان الاحمدية يجمعها مع بقية الطوائف الإسلامية أكثر مما يفرّقها. وفي هذا الاتجاه ظهر مقدّمو برامج القناة وهم يرتدون المشلح والغترة والعقال في إشارة واضحة إلى أن أتباع الفرقة ليسوا من الباكستانيين والهنود فقط كما يشاع عنهم بل إنها تضم أشخاصا من العرب الاقحاح الذين لا بد وأنهم يفهمون تعاليم الإسلام ويغارون عليه من الأفكار الدخيلة والغريبة.
والواضح حتى الآن أن الاحمدية يديرون هذه القناة التي تعتبر أول إطلالة لهم باللغة العربية على جمهور المشاهدين في المنطقة بكثير من الذكاء واللباقة. وضمن هذا المنحى ركّزت القناة في برامجها الحوارية الأولى على انتقاد المسيحية ودحض حججها كما خصّ المتحدّثون القس زكريا بطرس بالكثير من عبارات الهجوم والنقد، في محاولة لمغازلة التيّار الغالب من المسلمين والإيحاء بأن الاحمدية هم مع إخوانهم المسلمين في خندق واحد ضد الأعداء والخصوم المشتركين.
ومع ذلك فهناك من يطالب النايل سات بوقف بثّ القناة على الفور بحجّة أنها تبثّ من إسرائيل "هي في الحقيقة تبثّ من لندن" وعلى أساس أنها "معول يهدف أصحابه إلى هدم الإسلام من الداخل وتفتيت الأمة".
لكن بعيدا عن كلّ هذا السجال، اعتقد أن من حقّ الاحمدية - كما هو من حقّ غيرهم - أن يكون لهم منبر إعلامي يقدّمون من خلاله أنفسهم ويشرحون عقيدتهم، إذ ليس في ذلك ضرر يذكر طالما أن الحوار المنفتح والصريح – لا أسلوب الإملاء والوصاية - هو سبيل الجميع للوصول إلى الحقيقة.
وعلى ما يبدو، فإن جلّ ما يطمح إليه جماعة الاحمدية من إطلاق فضائيتهم ليس أن يحوّلوا الآخرين إلى القاديانية فتلك مهمّة عسيرة وتكاد تكون مستحيلة، بل الأمر لا يتعدّى كونه تمرينا في العلاقات العامة يريدون من خلاله أن يقدّموا عن أنفسهم وعن مذهبهم صورة مختلفة عن تلك الصورة السلبية التي ترسّخت في أذهان غيرهم عنهم على مرّ سنين طوال.
غير أن هذا كله لا يقلل من صعوبة مهمّة الجماعة الاحمدية في إعادة تأهيل نفسها وتبييض صفحتها سيّما وهي تتحدّث إلى جمهور تثقل على عقله كتب التراث والتاريخ وتتحكّم في انفعالاته وأحكامه الكثير من التصوّرات الجاهزة والصور النمطية عن الآخر.
ولا يقلّ عن هذا الأمر صعوبة محاولة إقناع الناس بتقبّل أهم ركن من أركان العقيدة الاحمدية بل وأكثرها إثارة للجدل وهو ذلك الذي يقول إن زعيم الفرقة ميرزا غلام احمد هو المسيح المنتظر والمهدي الموعود!

الأحد، يونيو 17، 2007

مسلم ومسيحي في الوقت نفسه

اليوم استوقفني تحقيق طريف نشره موقع سياتل تايمز عن راهبة أمريكية تدعى آن ريدينغ.
في أيّام الجمع ترتدي المرأة غطاء الرأس الأسود وتذهب إلى المسجد لتصلي مع مسلمي الحي الذي تعيش فيه صلاة الجمعة.
وهي تفعل هذا منذ 15 شهرا.
وفي أيام الأحد تذهب إلى الكنيسة وتؤدّي هناك الصلاة مع جموع المصلين المسيحيين. وهي تفعل هذا طوال العشرين سنة الماضية.
ريدينغ قالت إنها كانت تسمع نداء غامضا يدعوها لان تصبح مسلمة وان تستسلم لله.
وفي وقت لاحق حضرت دروسا ألقاها إمام مسلم علمها خلالها طرق التأمّل وتلا على مسامعها أناشيد تعلم الإنسان كيف يفتح قلبه لله.
لكنها تؤكد أنها مسيحية ومسلمة بنفس الوقت، الأمر الذي أثار شعورا بالدهشة في أوساط المؤمنين من الديانتين ودفعهم لطرح السؤال التالي: هل بالإمكان أن يكون المرء مسلما ومسيحيا في الوقت نفسه؟
رجال الدين المسيحيون رفضوا الفكرة استنادا إلى مكانة المسيح عندهم إذ يعتبرونه شخصية إلهية مقدّسة بينما ينظر إليه المسلمون على انه نبيّ عظيم فحسب وهو في النهاية بشر وليس فيه من صفات الألوهية شيء.
ويضيفون انه يستحيل على الشخص أن يكون ديمقراطيا وجمهوريا في نفس الوقت وكذلك يستحيل أن يصبح مسلما ومسيحيا في آن.
رجال الدين المسلمون من جهتهم واقعون في حيرة، وقال بعضهم إنهم لا يعرفون على وجه اليقين إن كان يمكن تطبيق هذه الفكرة عمليا، أي الجمع بين ديانتين معا.
الطريف في الأمر أن المرأة لا تؤمن بأن الله والمسيح هما شيء واحد، بل الله اكبر من المسيح كما تقول. وهي تؤمن بأن عيسى ابن الله بمثل ما أن كل البشر أبناؤه.
كما تعتقد بان المسيح مات على الصليب وبعث، وتعترف بان هذا يتناقض مع تعاليم القرآن، وهو أمر سيظل يؤرّقها ويشكل لها تحديا سيستمر بقية حياتها.
وتضيف: سأستمر على ما أنا عليه، واستبعد أن يأتي يوم أفضّل فيه دينا على آخر، بل سأموت وأنا مسلمة بنسبة 100 بالمائة ومسيحية بنسبة 100 بالمائة.
الناس العاديّون من كلا الديانتين أثنوا على خطوة ريدينغ وقالوا إنها تبعث على الأمل وتبني جسورا التفاهم والثقة وتعزّز قيم التسامح بين أتباع الديانتين.

الثلاثاء، يونيو 05، 2007

نساء في الرسم

500 Years of Female Portraits in Western Art

الأحد، مايو 06، 2007

حديث عن الصين

أذكر وأنا ما أزال تلميذا صغيرا أنني قرأت مجموعة من قصص الأطفال مترجمة عن الأدب الصيني. وكان من بين تلك الحكايات المصوّرة قصّة جميلة عنوانها "الطائر الأزرق" تحكي عن قصة حبّ حميمة نشأت بين أميرة صينية وطائر صغير اعتاد أن يأتي كلّ صباح إلى شباك غرفة الأميرة ليوقظها من نومها بغنائه العذب الرخيم.
ولأنني كنت طفلا آنذاك فقد بقيت أحداث تلك القصّة راسخة في وجداني إلى اليوم. ومع الأيام تماهت صورة الصين في ذهني مع تفاصيل تلك القصّة وما احتوت عليه من وصف رائع لمناظر الطبيعة هناك من انهار وغابات وشلالات وبحيرات. وكنت أتخيّل تلك البلاد موطنا للجنيّات والطيور والغابات المسحورة، والمخلوقات الأسطورية التي ارتبطت منذ الأزل بتراث وثقافة الصين كالتنين واليونيكورن والعنقاء وسواها.
ومع مرور الأيام جرى على تلك الصورة التي لم تكن تخلو من الخيال الجامح والرومانسية المفرطة بعض التحوير والتعديل، فأضيف إليها عنصر الحكمة المعروف عن الصينيين منذ القدم وبعض التفاصيل الأخرى المرتبطة بالفلسفة البوذية وتفرّعاتها خاصة بعد أن تعرّفت على "كونفوشيوس" و "لاو تسو" و "سان وو" وغيرهم من فلاسفة ومفكّري الصين الكبار.
وهذه الأيام يكثر في الخليج الحديث عن الصين في سياق الترويج للسياحة في ذلك البلد والاطلاع على جانب من ثقافته الثرية وتاريخه العريق الضارب في القدم.
وقد لاحظت في الفترة الأخيرة كثرة الموادّ المكتوبة والمرئية، من مقالات وإعلانات في الصحف والتلفزيون، التي تروّج للسياحة في الصين في محاولة لاجتذاب السيّاح العرب لزيارة تلك البلاد ذات الحضارة العظيمة سيّما وقد أصبح الصيف على الأبواب.
ورغم قدم العلاقة بين العرب والصينيين فإن الصين ظلت لزمن طويل بعيدة عن اهتمام العرب وشهد التفاعل بين الطرفين فترة ركود ليست بالقصيرة.
وقد أثار حنيني إلى الصين مجدّدا حديث سمعته مؤخّرا من شخص إعلامي زار الصين منذ أسابيع وتحدّث بإسهاب عن مشاهداته وانطباعاته هناك بدءا من زيارته للسور العظيم وتجواله في المدينة المحرّمة وميدان تيانان مين والمعبد السماوي وقبور وتماثيل الأباطرة القدامى وانتهاءً بزيارته للمساجد والمتاحف التاريخية ورحلته على ضفاف نهر اليانغتسي ومشاهدته لبعض أجزاء من طريق الحرير القديم.
قد تكون الصين بعيدة جغرافيا عن العالم العربي، لكنها قريبة من وجدان شعوب المنطقة بحكم العلاقة التجارية القديمة وكذلك حقيقة أن الصين ليس لها ميراث استعماري في المنطقة وبالتالي خلوّ العلاقة بين الطرفين من عوامل التوتّر أو التوجّس والضغينة.
وهناك عامل آخر لا يقلّ أهمية ويتمثل في قدرة الصين التي تثير الإعجاب على التغلب على آثار عزلتها الطويلة بل والتحوّل إلى قوّة اقتصادية وسياسية عالمية ُيحسب لها حساب، وهي ظاهرة يتعيّن على العرب أن يدرسوها ويحللوها ليستفيدوا منها وينسجوا على منوالها كي يكون لهم وزن وتأثير في هذا العالم الذي تحكمه الكيانات الاقتصادية الكبرى والفاعلة.

الأربعاء، مايو 02، 2007

مذكّرات كازانتزاكيس

لهذا الكتاب قدرة مدهشة على أن يأسر عقل القارئ ويستولي على مشاعره منذ الصفحة الأولى. والحقيقة أنني لا أجد الكلمات المناسبة لوصف هذا الكتاب وإيفائه حقه أو الحديث عن الأثر الكبير الذي يتركه في النفس والعقل معا.
"تقرير إلى غريكو" لنيكوس كازانتزاكيس ليس مجرّد سيرة ذاتية لأحد أعظم كتّاب وأدباء وفلاسفة اليونان في العصر الحديث، وإنما يمكن اعتباره بحق دليلا روحيا وبحثا معمّقا في معنى الحياة وأسرار الوجود. كما انه بمعنى آخر بحث عن الله وعن الخلود ومحاولة لسبر أغوار الطبيعة الثنائية للإنسان وصراع النفس والجسد.
في هذا الكتاب الرائع صور فلسفية ووجدانية مدهشة ولغة جمالية راقية وقدرة فائقة على النفاذ إلى جوهر الأشياء من خلال مزج الواقع بالرمز والتاريخ بالأسطورة والدين بالطقوس، بأسلوب هو خليط من الشعر والموسيقى والتصوّف.
لقد تأسفت كثيرا على أنني لم انتبه لهذا الكتاب من قبل، لكن مما يخفّف ذلك الشعور حقيقة أنني اقتنيته أخيرا وقرأته بشغف ومتعة ليس لهما حدود، والفضل في ذلك يعود للصديق الشاعر سلمان الجربوع الذي دلّني على الكتاب وحفّزني على قراءته فوجدته مثلما وصفه وأكثر، فله خالص الشكر والتحية.
وفي ما يلي بعض مقاطع مختارة من الكتاب..

صرخة!
إنها رحلة إنسان يحمل قلبه في فمه وهو يصعد جبل مصيره الوعر والقاسي، فروحي كلها صرخة، و أعمالي تعقيب على هذه الصرخة..

توحّد!
منذ طفولتي وأنا أحبّ أن أستلقي على ظهري في دارنا لمراقبة الغيوم، و كلما مرّ عصفور أو غراب أو سنونوة أو حمامة، أتوحّد معه حتى أني أحسّ حرارة صدره في راحتي المفتوحة.
- مارغي، أظن أن ابنك سيصبح حالماً أو ذا رؤيا. قالت جارتنا مدام بنيلوب لأمّي، إنه ينظر إلى الغيوم دائما. وأجابتها أمّي: إطمئني يا بنيلوب. ستأتيه الحياة وتجعله يخفض نظره".

صورة أمّي!
كان والدي يحتقر العيون الزرقاء أكثر من أي شيء آخر في العالم. وقد اعتاد أن يقول: "للشيطان عيناوان زرقاوان وشعر احمر"!
أيّ سلام كنا نحسّ به وأبي ليس في البيت! وكم كان الوقت يمرّ بسرعة وسعادة في الحديقة الصغيرة في باحة دارنا المسوّرة. العريشة على الجدار، والاكاسيا الفوّاحة الطويلة في الزاوية، وأصص الحبق والقطيفة والياسمين العربي حول الأطراف. كانت أمي تجلس أمام النافذة ترفو الجوارب أو تنظف الخضراوات أو تمشط شعر أختي الصغيرة أو تساعدها على أن تخطو خطواتها الأولى. وفيما كنت أصغي إلى العابرين خارج الباب المغلق وأستنشق عبير الياسمين والتربة الرطبة، كانت عظام رأسي تطقطق وتنفتح لتحتوي العالم الذي يدخل جسدي.
كانت الساعات التي اقضيها مع أمي مليئة بالغموض. لقد تعوّدنا أن نجلس متواجهين، هي على الكرسي قرب النافذة وأنا على مقعدي. وكنت أحسّ بصدري ممتلئا حتى الكفاية وسط هذا الصمت، وكان الهواء بيننا قد تحوّل إلى حليب.. وأنا كنت ارضع.
امتزجت أمي في ذاكرتي بالاكاسيا والكناري بشكل خالد ولا يقبل الانفصام. وأنا لا استطيع أن أشمّ رائحة الاكاسيا أو اسمع صوت الكناري دون أن أحسّ أمي تنهض من قبرها في أعماقي وتتّحد بالأريج والزقزقة.

مثلُ ليلَكَة!
.. وكان هناك صديق آخر مثل ليلكة لم تُمسّ، كان شاحباً متشائماً له عينان زرقاوان واسعتان ويدان بأصابع طويلة. كان يكتب الشعر. ولم أستطع أن أحفظ إلا القليل من شعره، ولكنني ما أن أردّد هذه الأبيات وحدي حتى تمتلئ عيناي بالدموع. ذلك أن هذا الشاب قد وجد ذات ليلة خارج دير كنسارياني مشنوقاً على غصن شجرة زيتون..

الرقص على حافّة الهاوية!
كان أعيان القرية قد اجتمعوا مع زوجاتهم في غرفة كبيرة في بيت الطفل المعمّد. المطر والبرق يتسرّبان من النوافذ وعبر شقوق الباب. وكان الهواء مشبعا بروائح البرتقال والتراب. وكانت الهدايا والخمر والراكي والميتريد تدخل وتخرج. وبدأ الظلام يحلّ فأشعلت الأضواء وتزايد مرح الرجال وتخلصت النساء من نظراتهن المنخفضة التي تعوّدن عليها. كان الله لا يزال يزأر خارج المنزل. وتعالى الرعد وتحوّلت أزقة القرية الضيقة إلى أنهار.
استمر الطوفان طوال اليوم. هبط علينا الليل وصار العالم في الخارج مظلما وامتزجت السماء بالأرض. وتحوّلنا إلى وحل. كان الشباب والكبار يتهيئون للرقص وجلس عازف الربابة على مقعد وسط الغرفة وأمسك بقوسه وكأنه سيف. ثم همهم بمقطع من تحت شاربيه وبدأ يعزف. راحت الأقدام توقع والأجساد تصفق بأجنحتها. وراح الرجال والنساء يتبادلون النظرات ويقفزون على أقدامهم. وكان أوّل من تقدّم امرأة شاحبة ممشوقة في الأربعين من عمرها. شفتاها برتقاليتان لأنها فركتهما بأوراق الجوز. وكان شعرها الأسود مزيّتا بزيت الغار ومصقولا ولامعا.
"برافو يا سورميلينا"! هتف عجوز قويّ ذو لحية صغيرة. وأزاح منديله الأسود وهو يقفز أمامها. وقدّم احد طرفيه للمرأة وأبقى الآخر في يده. ثم سلم الاثنان نفسيهما للرقص ورأساهما شامخان وجسداهما منتصبان وممشوقان كشمعتين.
كانت المرأة تلبس في قدميها قبقابا خشبيا. وراحت تضربه على الأرض بقوّة فيهتزّ البيت كله معها.
وانحلّ خمارها الأبيض فكشف عن القطع الذهبية التي تزيّن عنقها. وتوسّع منخراها وراحا يستنشقان الهواء. وكانت أنفاس الذكور من حولها عبقة. لوت ركبتيها وراحت تدور فأوشكت على السقوط على الرجل الذي أمامها. ولكنها بغتة وبهزّة من ردفيها تلاشت من أمامه. وراح هاوي الرقص العجوز يصهل كالحصان. امسك بها من وسطها وشدّها بقوّة لكنها أفلتت منه. كانا يلعبان ويطارد كل منهما الآخر. غاب الرعد والمطر. وغرق العالم. ولم يبق فوق الهوّة إلا هذه المرأة، سورميلينا، التي كانت ترقص. ولما لم يعد عازف الربابة قادرا على البقاء فوق مقعده قفز على قدميه. وتوحّش القوس. ولم يعد تحت السيطرة. بل راح يتابع قدمي سورميلينا وهو يتنهّد ويجأر ككائن بشري. وتوحّش وجه العجوز ورمق المرأة وهو محمرّ. وارتعشت شفتاه وشعرتُ انه على وشك أن ينقضّ عليها ويمزّقها إربا. ولا شك أن عازف الربابة قد تملكه الشعور ذاته فتوقف قوسه بشكل مفاجئ. وتوقّف الرقص. وقف الراقصان دون حراك والعرق يتصبّب منهما. وركض الرجال إلى الراقص العجوز وانتحوا به جانبا. وراحوا يدلكونه بالراكي. وأحاطت النسوة بسورميلينا ليمنعن الرجال من رؤيتها. وشققت طريقي بينهن. لم أكن رجلا بعد. ولذا لم يمنعنني. فتحن ِصدارها ورششن ماء الورد البرتقالي على رقبتها وتحت إبطيها وصدغيها. وكانت المرأة تغمض عينيها وهي تبتسم.

وجه الحياة الحقيقي!
للمرّة الأولى، رأى عقلي الطفولي وجه الحياة الحقيقي وراء القناع الجميل للبحر وللحقول الخضراء والدوالي المثقلة بالعناقيد وخبز القمح وابتسامة الأم. وجه الحياة الحقيقي: الجمجمة!

انيكا!
أذكر امرأة، اسمها انيكا، جارة لنا متزوّجة حديثا. وهي أمّ منذ زمن قريب. ممتلئة وجميلة ذات شعر طويل أشقر وعينين واسعتين.
في ذلك المساء كنت العب في الدار. ولا بد أنني كنت في حوالي الثالثة من العمر. كانت الحديقة الصغيرة تفوح بروائح صيف. وانحنت عليّ المرأة ووضعتني في حضنها. وأغمضت عينيّ لأسقط على صدرها البارز وأتشمّم جسدها: الأريج الحارّ الكثيف والرائحة اللاذعة للحليب والعرق. كان البخار يتصاعد من الجسد حديث الزواج. وكنت استنشق العبير بنشوة متهيّجة، وأنا اتدلّى عن صدرها النافر. وأحسست بالدوار وغبت عن وعيي. ووضعتني الجارة المذعورة أرضا، وهي محمرّة رعبا. وتركتني بين اصيصين من الحبق. ولم تحملني بعد ذلك اليوم في حضنها أبدا. بل صارت تكتفي بالنظر إليّ بمودّة فائقة من خلال عينيها الواسعتين وهي تبتسم.
وفي إحدى ليالي الصيف كنت، مرّة أخرى، جالسا في دارنا على كرسيّي الصغير. وأتذكّر أنني رفعت عيني وأبصرت النجوم لأول مرّة. صرخت وأنا اقفز على قدمي خائفا: "شرر، شرر". وبدت لي السماء حريقا هائلا. وبدا لي أن النار قد وصلت إلى جسدي الصغير..

منديل "نيريد"!
لم أر أمي تضحك أبدا. كانت تبتسم ببساطة وتنظر إلى أيّ شخص بعينين عميقتين ممتلئتين بالصبر واللطف. تروح وتجئ في البيت كشبح لطيف تؤدي لنا حاجاتنا دون ضجة أو جهد وكأنما يداها تمتلكان قوة سحرية خيرة وتمارسان تحكّما خيّرا بحاجاتنا اليومية. وبينما كنت أجلس بصمت أرقبها كان يخطر لي أنها ربما كانت "نيريد" المذكورة في قصص الجنيات. وكان خيالي يعمل حسب عقلية الطفولة: لقد رآها أبي ترقص على ضوء القمر ذات ليلة بينما كان يعبر النهر. فهجم وأمسك بمنديلها. وهذا ما كان حين جلبها إلى البيت وتزوّجها. وأمّي الآن تروح وتجيء في البيت طوال النهار تبحث عن منديلها لتضعه على شعرها وتتحوّل من جديد إلى نيريد وترحل. وتعوّدت أن أراقبها وهي تروح وتجيء وتفتح الخزن والصناديق وتكشف عن الجرار وتنحني لتنظر تحت الأسرّة. وكنت أرتعد لفكرة أنها قد تجد صدفة منديلها السحري وتختفي. وقد لازمني هذا الخوف سنوات عديدة وكان يجرح روحي الوليدة بعمق. وظلّ معي حتى هذا اليوم. وما يزال أشد غموضا. إنني أراقب الناس أو الأفكار التي أحبّها بألم لأنني أعرف أنهم يبحثون عن مناديلهم لكي يرحلوا.

روح الإنسان!
إن الروح البشرية زخم وكبرياء، صرخة وسط الصمت الجبان الذي لا يحتمل، رمح يقف منتصباً لا ينحني، ويمنع السماء من أن تسقط على رؤوسنا..

سحر غامض!
كان لكل شخص، بالنسبة لي، أريجه الخاص. وذلك منذ كان عمري سنتين أو ثلاثا. وقبل أن ارفع عينيّ لرؤيته، كنت اعرفه بالرائحة التي تصدر عنه. كانت لامّي رائحة خاصة، ولأبي رائحة غيرها. وكان لكل عم أو خال رائحته الخاصة. وكذلك لكل امرأة في الجوار. وحينما كان يأخذني بين ذراعيه، أو ذراعيها، كنت دائما وبسبب الرائحة إما أن أحبّه أو أبدأ برفضه. ولقد تلاشت هذه القدرة مع الزمن، واختلطت الروائح المختلفة. وغرق الجميع في نتن العرق والتبغ والبنزين.
وكان لبعض الفاكهة، بشكل خاص، نوع من السحر الغامض بالنسبة لي، كالكرز والتين خاصة. ليس التين نفسه كفاكهة بهذه البساطة، بل الأوراق ونكهتها. لقد تعوّدت أن أغمض عينيّ وأتنشقها حتى يشحب لوني من الحبور الجسدي المفعم.
لا، ليس الحبور بل الإثارة والخوف والرعشة، وكأنّني كنت ادخل غابة خطرة معتمة.

التوحّد مع الله!
ذات ليلة، بينما كنت اعبر الحيّ التركي سمعت امرأة تغنّي موّالا شرقيا بصوت مليء بعاطفة حزينة متشنّجة. كان الصوت عميقا وأجشّ وكئيبا ينطلق من حنايا المرأة ويملأ الليل باليأس والسوداوية الحزينة. وحين أحسست انه من المستحيل عليّ أن أتابع السير وقفت أنصت ورأسي مائل إلى الجدار. لم استطع أن ألتقط أنفاسي. ولما لم تعد روحي المختنقة قادرة على التلاؤم مع قفصها الطيني تدلّت من قمّة رأسي وراحت تتردّد في أن تطير أم لا.
لا. لم يكن الصدر الأنثوي للمرأة التي تغنّي مترعا بالحب أو الغبطة. بل كان مترعا بصرخة. بأمر موجّه إلينا لكي نحطم قضبان سجوننا المؤلفة من الأخلاق والخجل والأمل. وان نسلم أنفسنا وان نهدر أنفسنا أو نتوحّد مع العاشق الرهيب المغوي الذي يكمن منتظرا في الظلام، والذي نسمّيه الله.

.. ولم اعرف أبداً!
ذات يوم أخذني احد أعمامي بين ذراعيه. وكان من الواضح أننا سنذهب لزيارة جار قرب مقبرة القدّيس ماتيو الواقعة داخل أسوار المدينة.
كان باب الكنيسة مفتوحا والكاهن قد وضع بخورا في المبخرة وارتدى بطرشيله. اجتاز العتبة واتجه نحو القبور.
وسألت عمّي وأنا استنشق بعمق أريج البخور والتراب: لم يلوّح بالمبخرة؟"
- إهدأ. ستعرف بعد قليل. اتبعني.
وحين درنا وراء الكنيسة سمعنا حديثا. كانت هناك خمس أو ستّ نسوة متّشحات بالسواد وهن واقفات حول قبر. رفع رجلان بلاطة الضريح ثم نزل احدهما في القبر وبدأ يحفر. اقتربنا ووقفنا إلى جانب الحفرة.
سألت: ماذا يفعلون؟
- ينبشون العظام.
- أية عظام؟
- سترى بعد قليل.
كان الكاهن واقفا على رأس الضريح وهو يلوّح بالمبخرة ويتمتم بالصلوات هامسا. انحنيت على التربة المحفورة مجدّدا. عفن ونتن. وضغطت منخري. ورغم أنني قرفت حتى القيء فإني لم ابتعد. انتظرت. عظام؟ أية عظام؟ رحت اسأل نفسي وأنتظر.
وبغتة استقام الرجل الذي كان يحفر منحنيا. وظهر على جذعه خارج الحفرة. كان يمسك بين يديه جمجمة. مسح عنها الأقذار وهو يمدّ إصبعه ليدفع الوحل من حفرتي العينين. ثم وضعها على حافة القبر وانحنى من جديد وتابع حفره.
سألت عمي وأنا ارتعش: ما هذا؟
- ألا ترى؟ إنها رأس إنسان ميّت. جمجمة.
- جمجمة من؟
- ألا تتذكّرها؟ جمجمة جارتنا انيكا.
- انيكا؟
وانفجرت في البكاء. وبدأت أولول: انيكا! انيكا!". وألقيت بنفسي على الأرض وجمعت ما استطعت أن أجده من الحجارة وبدأت اقذف بها حفّار القبور.
وفيما أنا ابكي واندب رحت اصرخ! كم كانت جميلة وكم كانت رائحتها جميلة! فقد اعتادت أن تأتي إلى بيتنا وتضعني على ركبتيها وتسرّح خصلات شعري بالمشط الذي تنتزعه من شعرها. واعتادت أن تدغدغني تحت ذراعي وأنا أقهقه وأزقزق كالعصفور.
أخذني عمّي بين ذراعيه وأبعدني قليلا ثم راح يكلمّني غاضبا: لماذا تبكي؟ ماذا كنت تتوقّع؟ لقد ماتت، ونحن جميعا سنموت".
لكنني كنت أفكّر بشعرها الأشقر وعينيها الواسعتين وشفتيها الحمراوين اللتين اعتادتا أن تقبّلاني. والآن..
وزعقت: "وشعرها، وشفتاها وعيناها؟"
- ذهبت. ذهبت. أكلتها الأرض.
- لماذا؟ لماذا؟ أنا لا أريد أن يموت الناس.
هزّ عمّي كتفيه وقال: حينما تكبر ستعرف لماذا".
ولم اعرف أبدا. لقد كبرت وصرت عجوزا. ولم أعرف أبدا.

آه.. هكذا أناديه!
.. وسأل الأب: أي اسم تطلقه على الله يا أبتي؟
فأجاب الدرويش: ليس لله اسم. إنه أكبر من أن تحتويه الأسماء. الاسم سجن، و الله حرّ.
و أصرّ الأب: و لكن إذا شئت أن تناديه، حين تكون هناك حاجة، فأيّ اسم تستخدم؟
أطرق الدرويش مفكّراً، ثم افترت شفتاه: آه! هكذا أناديه. ليس الله. بل آه.
و أربك هذا الكلام الأب، فتمتم: إنه على حق"..

حيرة!
عدت إلى اليونان مجروحا. كنت مضطرما بثورة ذهنية واضطراب روحي. وكل شيء في داخلي متضارب ومتردّد. قلت لنفسي: إن لم أبدأ باكتشاف الهدف الأسمى للحياة على الأرض فكيف سأتمكن من وضع هدف لحياتي القصيرة الفانية.
ولقد وجدت مصدرا آخر للعصيان. ذلك أن روح الشباب البسيطة لا تستطيع أن تتسامح مع منظر الجمال وهو يتناقص إلى لا شيء، بينما يقف الإله جانبا، ولا يرفع يده ليجعل الجمال خالدا. لو كنت إلها، هكذا يفكّر الشاب، لوزّعت الخلود بلا حساب، ودون أن اسمح ولو مرّة واحدة لجسد جميل أو لروح شجاعة أن تموت. أي نوع من الآلهة ذلك الذي يقذف بالجميل والقبيح، بالشجاع والجبان في الحمأة ذاتها ويدوسها بقدميه دون تمييز، ويحّولها كلها إلى وحل؟!

حديث!
"قلت لشجرة اللوز:
حدّثيني عن الله يا أخت،
فأزهرت شجرة اللوز"!

السبت، أبريل 21، 2007

كاد المعلم أن يكون قتيلا‏

كثرت في الآونة الأخيرة حوادث اعتداء الطلبة على المعلمين.
وقد قرأت في اليومين الأخيرين نداءات استغاثة وجّهها معلمون إلى السلطات المعنية لتوفّر لهم حماية اكبر بعد تعرّض بعضهم إلى هجمات وعنف جسدي من قبل بعض الطلاب.
جريدة عرب نيوز نشرت تقريرا مزعجا منذ يومين أشارت فيه إلى أن معلما تعرّض للضرب المبرح لدرجة أن أغمي عليه وكاد يفقد حياته بعد أن رفض زيادة درجات احد الطلبة.
وقد قام الطالب المعتدي ورفاقه بتصوير واقعة الضرب بالبلوتوث وقاموا بتوزيعها على نطاق واسع إمعانا في إذلال المدرّس الضحية.
كما ذكر التقرير أن طالبا آخر وجّه مسدّسا إلى صدغ معلمه وقام بإضرام النار في سيارته بعد أن ابلغ المعلم الجهات المختصة بقيام الطالب "بالتفحيط" بسيارته وإزعاج راحة الأهالي.
والحقيقة أن تزايد حوادث الاعتداء على المدرّسين ينبئ عن أزمة أخلاقية وتربوية خطيرة.
فمهنة المعلم لم يعد لها تلك الهيبة والمكانة التي كانت تقترب من القداسة ذات زمن.
ومن الواضح أن ضعف تربية الآباء لأبنائهم، أو انعدامها أحيانا، أدّت إلى ما نراه في مدارسنا اليوم من فوضى وتسيّب وانفلات.
كما أن قرار منع الضرب في المدارس بحجج وذرائع خيرية وحضارية أدّى هو الآخر إلى تضعضع منزلة المدرّس وبالتالي هوانه وذهاب هيبته.
اليوم كنت اقرأ بالصدفة فصلا من سيرة حياة الروائي اليوناني الكبير نيكوس كازانتزاكيس. وفي ذلك الجزء من مذكّراته يروي الكاتب جانبا من تجربته أيام الدراسة وكيف أن العصا التي بيد المدرّس كانت هي الأداة التي تصنع الرجال.
يقول: كنا جميعا ننتظر اليوم الذي ستحوّلنا فيه هذه الضربات إلى رجال. وبعد أن كبرت وراحت النظريات الخيّرة تضلل عقلي، بدأت اصنّف هذا الأسلوب على انه همجي. لكن بعد أن عرفت الطبيعة البشرية بشكل أفضل رحت أبارك وما زلت عصا المدرّس المقدّسة التي كانت تعيننا على الصعود من مرتبة الحيوان إلى الإنسان".
في الأيام الخوالي يوم كانت هناك تربية حقيقية ومربّون عظام، كان الطالب المخطئ يعلّق في نافذة الفصل بعد أن يكتّف ويشدّ وثاقه في القضبان. وهناك يبقى ساعات طوالا على تلك الحال متعرّضا لسخرية زملائه واستهجانهم إلى أن يحضر والده الذي كان كثيرا ما يبارك تصرّف المدرّس ويثني على حزمه مكرّرا على مسامع المعلم وأمام التلاميذ تلك العبارة المأثورة التي سبق وأن ردّدها يوم أن صحب ابنه إلى المدرسة في اليوم الأول: لكم اللحم ولنا العظم!
وختاما أقول لو أن هذه الشرذمة الفاسدة من الطلاب تربّوا على وقع ضربات العصي وهي تلسع جنوبهم وتلهب مؤخّراتهم عندما يخطئون أو ينحرفون لما استهانوا بأساتذتهم ولما استهتروا بنظام أو قانون، بل ولما تحوّلوا إلى زعران وميليشيات مسلحة تمارس استهتارها وبلطجتها داخل المدارس وخارجها دون أن تجد من يوقفها ويلجم سعارها.

الخميس، أبريل 19، 2007

على أجنحة الغيم

ألقيت نظرة عجلى على عناوين الجريدة التي جلبتها المضيفة للتوّ. معظم الأخبار إما سيء أو محزن كالعادة.
وضعت الجريدة جانبا وعدّلت من وضع المقعد قليلا كي يوفّر زاوية أفضل للنظر عبر الشبّاك. كانت السماء تحتنا زرقاء ناعمة تسبح في افقها الممتد قطع من الغيم التي بدت كسفن بيضاء تمخر عباب بحر بلا ضفاف.
وتحت الغيم ظهرت جبال وأودية وخضرة ومياه تحيطها هالات من ضباب خفيف تداخل فيه الأبيض بالفيروزي.
منظر الغيم يثير في النفس شعورا بالجلال والفخامة والغموض. وهذه التشكيلات الغريبة من الغيم التي تخيّم على المشهد تحتنا يمكن للناظر إليها أن يتخيّل صورا وأخيلة لمخلوقات بأجنحة وبملامح وهيئات قد لا تخطر على البال لأول وهلة.
في بعض القصص القديمة يقترن ذكر الغيم بالكائنات الأسطورية مثل التنّين والجياد المجنّحة التي تهبط من الغيم ليلا لتستحمّ في مياه الغابات الفضيّة قبل أن تأخذ طريقها عبر الجبال والسهول إلى حيث القرى النائمة على تهويدات الليل وأحلام العذارى وقصص الجدّات التي لا تنتهي.
خطر ببالي وأنا أتملّى ذلك المشهد الجليل على ارتفاع أربعين ألف قدم كم هو جبّار ومبدع عقل هذا الإنسان الذي استطاع أن يخترع هذا الصندوق المعدني العجيب الذي رفع البشر لأول مرة من سجن الأرض إلى رحابة السماء ومكنّهم من التجوال عبر الأفق ووسط الغيوم مع ما يصاحب ذلك من متعة الإحساس بالتحليق في اللانهائية والتحرّر من إسار الأرض وما تحفل به من قيود ومكبّلات كثيرة.
قلت في نفسي: ربّما كانت هذه النقطة من السماء هي آخر ما يمكن للإنسان العاديّ بلوغه، وهو على كلّ حال إنجاز مبهر ما كان بمقدور أسلافنا أن يتصوّروا حدوثه حتى في الخيال.
وبينما أنا مستغرق في التفكير والتأمّل، خطر لي أن الإنسان – هذا الكائن الذي يختزن، رغم ضآلته، الكثير من أسرار هذا الكون العظيم والغامض – معذور إن شعر أحيانا بهشاشته وضعفه وقابليته السريعة للفناء. فرحلته في هذه الحياة قصيرة جدّا، وسيموت الكثير منّا وهم ما يزالون مسكونين بهاجس رغبتهم الأزلية في أن يطوفوا في أرجاء هذا الكون الفسيح وأن يروا بأنفسهم ما تخبّئه الكواكب والمجرّات المجاورة لكوكبهم من أسرار ومفاجآت.
في هذا الكون المليء بالغرائب والألغاز نقرأ عن كواكب بعيدة تتشكّل في سماواتها غيوم لا تنهمر إلا مطرا حامضيا بلون السخام، وعن كواكب أخرى لا وجود فيها سوى لبراكين هائلة تهدر وتزمجر نافثة حممها ونيرانها آناء الليل وأطراف النهار. وعن نوع ثالث من الكواكب لا يوجد فيه سوى العدم والظلام الدامس والصمت المطبق الذي يحطّم أعصاب اشدّ البشر بأسا وأقواهم تحمّلا.
إننا كثيرا ما نغبط روّاد الفضاء الذين تمكّنوا من النفاذ إلى أعماق الفضاء ورأوا بأمّ أعينهم من أسرار الكون ومعجزاته ودقائقه ما سيظلّ بالنسبة لغيرهم فكرة خيالية أو حلما بعيد المنال.
لكنّ صورة الفضاء ليست وردية دائما. فهناك من هؤلاء من رأى كواكب عملاقة لكن أسطحها ملئى بالصدوع والأخاديد والأودية الشديدة الانحدار التي لا يسمع فيها سوى عواء الريح التي تصل سرعتها في بعض الأحيان إلى ثلاثمائة كيلومتر في الساعة.
في تلك العوالم النائية حيث الصمت المطبق والظلمة القاتلة، لا يسمع الإنسان سوى نبض قلبه وحفيف أفكاره وخوفه الممضّ من احتمال أن يفقد الأرض نهائيا وتنعدم وسيلته في العودة إليها مجدّدا.
وقد قرأت ذات مرّة أن بعض روّاد الفضاء عادوا من رحلاتهم وهم أكثر حبّا للحياة وأكثر عاطفة وحنوّا وأشدّ التصاقا بالأرض. بينما انهمك آخرون في التفكير في مغزى الوجود على الأرض وغير ذلك من الأسئلة والتساؤلات الكبرى.
لكن هل يعقل أن تكون الأرض هي الكوكب البارد الوحيد في هذا الكون وما عداه عوالم لا نهائية من الصمت والظلام والعدم؟ يقول العلماء إن المنطق ينفي هذه الفرضية، ولا بدّ وان هناك كواكب أخرى باردة غير كوكبنا "هناك في الواقع ملايين المجرّات وبلايين النجوم"، والإنسان برغم ما حققّه حتى الآن من اختراقات واكتشافات على صعيد ارتياد الفضاء لم يزل يجهل الكثير من مسالك ودروب هذا الكون الواسع الذي لا يحيط بأسراره وحقائقه سوى من خلقه وأوجده على هذه السويّة من الدقة المتناهية والإحكام المعجز.
وصدق الله العظيم إذ يقول: "تسبّح له السمواتُ السبعُ والأرضُ ومن فيهنْ، وإنْ منْ شيء إلا يسبّح بحمده".

الثلاثاء، مارس 27، 2007

مجلس حُكَماء

الحكّام المغامرون والمتهوّرون ثبت بالتجربة انه لا يمكن كبحهم والسيطرة على نوازعهم ونزواتهم من خلال الهيئات والمنظمات الرسمية التقليدية، مثل مجالس النوّاب والبرلمانات ومجالس الأمن القومي والصحافة ومؤسّسات المجتمع المدني.
وبوش وأحمدي نجاد مثالان واضحان على هذا.
بوش يهدّد بشنّ حرب مدمّرة على إيران بسبب منشآتها النووية.
واحمدي نجاد بدوره يصرّ على مسايرة بوش في جنونه والتضحية بمستقبل بلده وشعبه استنادا إلى شعارات غيبية ودعاوى حماسية لن تنقذ إيران في النهاية من الدمار.
وجورج بوش واحمدي نجاد ماضيان في التصعيد وإذكاء الحرب الكلامية وتبادل التهديد والوعيد.
وهما إذ يفعلان ذلك يحظيان بموافقة مستشاريهما ويجرّان خلفهما البرلمان وقادة الجيش والقوّات المسلحة والصحافة.
وأمام هذا النزوع إلى الخيار العسكري والدفع باتجاه حافة الهاوية واستعجال المواجهة التي تعني قتل الكثير من الأبرياء وتخريب المرافق والعمران، يثور سؤال:
لماذا لا يكون هناك مجلس حكماء في كلّ بلد تكون له الكلمة الفصل في حسم النزاعات والمشاكل، ويتشكّل أعضاؤه من خارج الأطر الرسمية ولا يكون تابعا للحكومة وأجهزتها ولا ملزما باتّباع سياساتها وتبنّي مواقفها.
مثل هذا المجلس يفترض أن يجسّد أعضاؤه روح الأمّة وضميرها الحيّ، وقد يضمّ مفكّرين ومثقفين وفلاسفة ومحامين واقتصاديين وديبلوماسيين ذوي نزعة إنسانية لم تتلوّث بأدران السياسة ولا تحرّكها المصالح الحزبية الضيقة، بل هم فوق الأحزاب والمصالح ومراكز القوى ومناورات رجال الساسة وعرّابيها.
إن فكرة السلام مقابل الحرب، والديبلوماسية مقابل الصراع، تفترض - في ما تفترض - تغليب فكر رجل عاقل ومؤمن بالحوار مثل محمّد خاتمي على أفكار احمدي نجاد، وترجيح أفكار شخصيّات مثل لي هاميلتون ونعوم تشوميسكي على أفكار بوش والفريق اليميني المتطرّف في الإدارة الأمريكية.
إن تحقيق السلام من خلال رجال يتصفون بالحكمة وبالحرص على الحياة الآدمية أمر قد يبدو طوباويا وهو قد لا يتحقق دائما بالنظر إلى كثرة العوائق وتضارب المصالح والأهواء.
لكن سموّ الهدف ونبل الغاية يستحقّان المحاولة..

الأحد، يناير 28، 2007

مرقد بابا شجاع الدين

رأيت في بعض المنتديات صورة لمقام أبي لؤلؤة المجوسي الذي قتل الخليفة عمر بن ‏الخطاب. ‏
في البداية لم اصدّق الصورة وانصرف ذهني على الفور إلى التفكير في احتمال أن ‏تكون الصورة ملفقة، وان هناك من "منتجها" زيادة في إثارة الكراهية وإذكاء نار ‏الخلاف بين السنة والشيعة. ‏
لكن وبناءً على حديث الشيخ تسخيري لموقع العربية، يتّضح أن المقام حقيقي، وانه شيّد في إيران من قبل بعض الجماعات المتطرّفة وهو ليس أكثر من "مقام سخيف لرجل ‏مجرم" كما يقول الشيخ تسخيري.‏
الأضواء التي سلّطت على ضريح أبي لؤلؤة مؤخّرا لم تفعل سوى أنها أضافت مظهرا آخر ‏لمظاهر الافتراق الحادّ بين السنّة والشيعة على خلفية تباين رؤية أتباع كلا الفريقين ‏إلى الخليفة عمر.‏
في عهد عمر بن الخطاب فتحت بلاد فارس ودخلت الإسلام. لكن من الواضح أن هناك في إيران ‏من كان ينظر إلى الفتح باعتباره غزوا، والى أبي لؤلؤة باعتباره وطنيا فارسيا أراد ‏أن ينتقم ممن أمر بغزو بلاده وتدمير امبراطوريتها التي كانت إحدى اكبر ثلاث دول ‏في ذلك الوقت.‏
الذي ينظر إلى الحادثة من هذه الزاوية وبمعزل عن العامل الديني قد يفهم دوافع ‏القاتل ومن أقاموا له مزارا، فهناك الكثير من الأمثلة المشابهة التي اعتبر فيها من يقتل العدو ويثأر لوطنه ‏بطلا قوميا يستحق كل تقدير. ‏
أما الإبقاء على الضريح إلى اليوم رغم ما يثيره ذلك من حساسية وجدل فمسألة ‏يختلط فيها المذهبي بالقومي على نحو يصعب معه الفصل بينهما.
‏ومنذ بعض الوقت قرأت في منتدى الساحات السلفي المتطرّف موضوعا طالب فيه ‏كاتبه بأن يقام مسجد ضخم باسم الجوشن قاتل الإمام الحسين، ردّا على إبقاء إيران ‏على مزار أبي لؤلؤة!
‏هل تقوم إيران بإزالة الضريح كبادرة لإرضاء الطرف السنّي وتبريد مشاعر العداء ‏المتأجّجة بين الطرفين لاكثر من سبب؟
الإجابة على السؤال ليست واضحة تماما، وان كان د. محمد علي آذر شب الأستاذ بجامعة ‏طهران يشير إلى صعوبة إزالة "‎مقام" أبي لؤلؤة لأنه يعبّر عن تيّار ديني معيّن في إيران، وليس من حقّ دعاة ‏التقريب‎ ‎المطالبة بإزالته"‏، كما قال.
‎إيران بالمناسبة سبق لها أن رضخت لمطالب مصر بإزالة اسم الاسلامبولي عن احد شوارع طهران كشرط ‏مسبق لعودة العلاقات المصرية الإيرانية. ‏حديث الشيخ تسخيري لقناة العربية بالإمكان قراءته على هذا الرابط