:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، يونيو 24، 2011

الرحيل إلى سيثيرا


لم تحدث رحلة مثل هذه في الواقع. ولا الرسّام يحاول حملنا على الاعتقاد بأن الرحلة حدثت فعلا. التماثيل الكلاسيكية المطوّقة بالزهور، وكائنات كيوبيد الطائرة في منتصف الهواء، كلّها تبدو مثل عرض على خشبة مسرح. حركة العشّاق البطيئة، النسيم الذي يهفهف الأشجار، والضباب الذي يرحل فيه الرجال والنساء، تثير حالة شبيهة بالحزن الذي يعترينا عند الإحساس بانتهاء العطلة.
ورغم أن طبيعة الحياة اليوم أصبحت مختلفة نوعا ما، إلا أن لوحة جان انطوان واتو الرحيل إلى سيثيرا تثير صدى بعيداً آتياً من وراء القرون. فهذه الجزيرة، أي سيثيرا، تقع في اليونان، وبالتحديد في أقصى جنوب البحر الأيوني. وهي محاطة بالجبال وترتفع عن سطح البحر بأكثر من ألف وستمائة قدم. وفي العصور القديمة ساد اعتقاد بأن هذه الجزيرة كانت المكان الذي ولدت فيه فينوس أو افرودايت إلهة الجمال.
والرسّام يستلهم قصّة تلك الجزيرة ليصوّر الاحتفال الذي كان يحييه ارستقراطيّو فرنسا زمن الملك لويس الرابع عشر. كان أفراد النخبة يذهبون إلى الريف لينغمسوا في الملذّات والحفلات الماجنة في أجواء من البذخ والشهوة. و واتو هنا يخلق إحساسا بالامتداد الواسع بين الغابة البعيدة والضبابية وبين النباتات الخصبة والوفيرة. وهو تأثير يحرّض الناظر على أن يدخل في قلب المنظر.
في اللوحة نرى ريفا متحضّرا مشيّدا من عدّة طبقات فنّية. الرجال والنساء يبدون مستغرقين في أحاديث غزل بلا نهاية. وامرأة شابّة تنظر خلفها بحنين إلى المكان الذي قضت فيه للتوّ ساعات سعيدة. وامرأة أخرى تقبّل يد حبيبها الذي يساعدها على الوقوف. وعاشق آخر يضع يده حول خصر حبيبته كي يحرّضها على مرافقته. السفينة في أقصى يسار اللوحة مزيّنة بالحرير الأحمر بينما تتهادى بخفّة مثل حلم ذهبيّ فوق الأمواج.
الطبيعة الرعوية للمكان تحاول الإمساك بجوهر الجنّة. والجوّ فانتازي أكثر منه واقعيا. الألوان متناغمة. واستخدام فرشاة ناعمة يُنتج منظرا أشبه ما يكون بالحلم. ومن الصعب أن تعرف ما إذا كان الوقت ربيعا أو خريفا، فجرا أو غسَقا. الجانب المهيمن في اللوحة هو منظر الأشجار الرائعة والخضرة السامقة التي تحيط بالمكان والناس.
تماثيل فينوس والملائكة الصغار تولّد هالة ايروتيكية توحي بالجانب الحسّي للموضوع. أيّ مكانٍ يمكن أن يقترحه واتو كي يذهب إليه العشّاق أفضل من سيثيرا، جزيرة الحبّ؟! ومع ذلك، فتفاصيل اللوحة تشير إلى أن العشاّق يوشكون على مغادرة الجزيرة.
عُرف عن واتو ميله لاستخدام فرشاة خفيفة وناعمة كي يخلق جوّا حالما وضبابيّا. وهذا واضح في منظر الغيوم الخفيفة وأوراق الشجر الساكنة. ألوان الطبيعة متوافقة مع ملابس الأشخاص. والضوء في هذا المشهد الحالم ينعكس على ملابس الأشخاص باعثاً كرنفالا من الألوان الساطعة والمبهجة.
ربّما كان حبّ الرسّام للجغرافيا والأماكن الساحرة والفانتازية وعشقه للمسرح من بين الأسباب التي دعته لرسم هذه اللوحة الضخمة. وقد لزمه خمس سنوات كاملة كي ينجز رسمها. أما لماذا هذه الفترة الطويلة نسبيا، فلأنه كان يعمل في نفس الوقت على لوحات أخرى كُلّف برسمها.
وقد ثبت أن اللوحة هي إحدى تحفه الفنّية الكبيرة. كما أنها تمثل معلما مهمّا في تاريخ فنّ القرن الثامن عشر. ولطالما اُعجِب النقّاد بالبُنية المتناسقة للوحة والشعور الهادئ بالاستمرارية وحيوية ضربات الفرشاة والألوان الجميلة فيها. وبسبب النجاح الكبير الذي حقّقته، كُلّف واتو برسم نسخة ثانية منها بناءً على طلب صديق له يُدعى جان دي جوليان.
لوحة "الرحيل إلى سيثيرا" تثير إحساسا بالسعادة والمزاج المتفائل. فليس هناك أثر للحزن، ولا مكان هنا للقلوب الكسيرة. العشّاق يتجوّلون معا في المكان، بينما تظلّلهم آلهة الحبّ الصغيرة. واللوحة هي استعارة عن الغزل والوقوع في الحبّ. لكن بما أن المنظر يصوّر الرحيل عن موطن فينوس، فقد ذهب البعض إلى أن اللوحة ربّما ترمز إلى أن الحبّ إحساس عابر ولا يدوم طويلا.
وممّا لا شكّ فيه أن الطبيعة الضبابية الغامضة في خلفية المنظر هي احد الملامح المبتكرة في اللوحة. كما أنها تعكس تأثّر الرسّام بنوعية الطبيعة التي كان يرسمها كلّ من روبنز ودافنشي. "مترجم".

الأربعاء، يونيو 22، 2011

الذيب سرْحان


في الوجدان الشعبي، كثيرا ما يقترن الذئب بهالة من الرومانسية والغموض. ولا أعرف شعبا يمتلئ تراثه بالإشارات والحِكَم التي تمجّد الذئب وتثني على "مناقبه وسجاياه" مثل العرب. وقد بلغ من إعجابهم بالذئب أنهم كانوا ولا زالوا يسمّون أبناءهم على اسمه، تيمّناً بهذا الحيوان الذي يرمز عندهم للشجاعة والفطنة والذكاء. وربّما لا ينافس العرب في ولعهم بالذئب وتقديرهم له سوى الهنود الحمر الذين ينسبون للذئب قدرات ميتافيزيقية خارقة.
والذي يعرفه عامّة الناس هو أن الذئاب تنحدر من سلالة القطط والكلاب، وأنها - شأنها شأن غيرها من الحيوانات - عنصر مهمّ في دورة الحياة وفي عملية التوازن البيئي. لكن هناك من علماء البيئة من يذهب إلى أكثر من هذا. فهم يقولون مثلا أن الذئاب تسهم في إنقاذ العالم الفطري من آثار التصنيع والمدنية الحديثة، لأنها تحافظ على الغُدران والشلالات والينابيع.
غير أن هذا كلّه لا ينفي حقيقة أن الذئب حيوان قاتل بل وخطير جدّا. وخطره لا يقتصر على الحيوانات الأليفة والمستأنسة، وإنما يشمل الإنسان أيضا. قبل أيّام شاهدت شريط فيديو يُظهِر عملية افتراس ذئب شرس لقطيع كامل من الغنم داخل حظيرة أقامها أصحابها في ارض خلاء. كان المشهد عبارة عن مذبحة حقيقية. بعض الأغنام المسكينة كانت ما تزال تحتضر بينما كانت أحشاؤها تبرز من بطونها. وكان واضحا أن الذئب لم يكن يقتل بدافع الجوع، وإنما رغبة في الفتك والقتل لا غير.
وقبل ذلك، قرأت في بعض الصحف وقائع معركة ضارية بين ذئب وأحد رجال البادية. ولولا أن سارعت زوجة الرجل لإنقاذه في اللحظات الأخيرة، لكان قد ذهب ضحيّة غدر وشراسة الذئب الكاسر.
وعلى النقيض من هذه الطبيعة القاسية والعنيفة للذئب، يمتلئ الموروث الشعبي العربي بحكايات وقصائد لا حصر لها تمتدح الذئب وتخلع عليه كلّ الصفات الطيّبة والحميدة.
ومن القصص المشهورة عن الرفقة النادرة بين الإنسان والذئب قصّة "مْخَاوي الذيب" التي تحكي عن رجل من أعيان العرب كان مسافرا في الصحراء. وفي إحدى الليالي ظهر له ذئب فجأة. حاول الرجل أن يبعده فلم يبتعد. لكن الذئب حرص على أن لا يقترب كثيرا. وبدا للرجل أن الذئب لا ينوي به شرّا. وبعد أن تناول عشاءه، أعطى الذئب ما تبقّى من طعام. وعلى مرّ الليالي التي تلت، كان الذئب يظهر للرجل من مسافة. وظلّ يتابعه طوال رحلته، يظهر في الليل ويختفي في النهار. واستمرّ الرجل يشرك الذئب في عشائه. وعندما وصل إلى وجهته واستقرّ به المقام بين ربعه، قام بذبح ناقته وقرّبها إلى الذئب. ثم قال لأفراد عشيرته: هذا الذئب ضيفي ورفيق سفري وهو "في وجهي". ومن يعتدي عليه كأنّما يعتدي عليّ". فقال له احد أبناء عمومته معاتبا: هذا ذئب، ونحن لا نأمنه على أولادنا وحلالنا. فردّ: لقد سمعتم ما قلت، وأنا اضمن أن لا يصيب أحدا منه مكروه". وعندما انتصف الليل قام ابن عمّه إلى الذئب فقتله. وفي الصباح سأل الرجل جماعته عمّن قتل ضيفه. فأشاروا إلى ابن عمّه. فأطلق عليه النار وقتله.
وهناك أشعار نبطية كثيرة تتغنّى بمناقب الذئب، بل وتحاول أنسَنَته وتجريده من طابع التوحّش والبهيمية. فهذا شاعر يخاطب الذئب واصفا إيّاه بأنه "اخو النشامى" ومفضّلا صحبته على سائر البشر:
شان الخلا يا الذيب ولا ينفعه ليت يا ليتني وايّاك بارضٍ تِماما
حتى نشبّ النار في جانب البيت ونسكب دلالٍ ما يجي له نِداما
في وسط روضٍ بالخلا لا تمشّيت ريح النِفَل فايح وريح الخزاما".
وهذا شاعر آخر لا يجد سوى الذئب يبثّه شكواه من تقلّبات الزمن وضياع المروءة وقلّة الوفاء. ثم يبدي الشاعر أسفه على تلاشي حضور الذئب في حياتنا بسبب انتشار المدنية وزحف مظاهر العمران:
يا ذيب عزّك في زمان السيف من قبل يهوي وقبل زمان العولمة للناس واتيكيتها
يا ذيب واقنب خل صوتك يدوّي العالم دويّ مادام خانتك الظروف الله يخرب بيتها".
وأغرب من هذا وذاك، هذا الشاعر الذي وجد في الذئب صدرا رءوما وقلبا كتوما يستحقّ أن يكاشفه بقصّة حبّه ويشكو له جفاء محبوبه:
ابا اشتكي للذيب مُرّ الزماني وابا أسأله وشلون جوّ الطبيعة
سمعت صوت الذيب يعوي عشاني متسندٍ له فوق تلّةْ رِفيعة
ناديت له يا الذيب خِلّي جِفاني عرّضني دروب الوَعَر والقِطِيعة
ياما بكثر الصدّ عني كواني أسقاني العلقم وانا اطلب ربيعه".
ثم لا يلبث الذئب أن يردّ على معاناة الشاعر. ومن خلال ردّه نكتشف انه خبير بأسرار الحبّ وشئون المحبّين وأنه، هو نفسه، سبق وأن جرّب مرارة الهجر والفراق:
عوى بصوتٍ هزّ كلّ المكاني كنّه يقول اسمع كلامي جِميعه
محبوبك مبدّلك بانسان ثاني ولا تْصَدّق كل عينٍ دميعة
هذا زمن والله ما به أماني به الدروب المسعدة والمريعة
شانك معا وِلفِكْ أبدْ زي شاني ومن باعنا برخيص لازم نبيعه".
غير أن أشهر، وربّما أفضل شعر قيل في الذئب هو قصيدة الشاعر شالح القحطاني التي يقول في مطلعها:
يا ذيب أنا باوْصِيك لا تاكل الذيب كم ليلةٍ عشّاك عُقْب المِجاعة
كم ليلة عشّاك حِرْش العراقيب وكم شيخ قوم كزّته لك ذراعه".
ولهذه القصيدة قصّة تستحقّ أن تُروى. فقد كان لـ شالح ابن يقال له ذيب عُرف بشجاعته وسماحته وكرمه. وتصادف أن قُتل ذيب في إحدى غزوات القبيلة. وقام رفاقه بلفّ جثمانه ثمّ وضعوه داخل احد الكهوف قبل أن يعودوا إلى مضارب قبيلتهم. ولمّا علم والده بخبر مقتله، حزن عليه حزنا شديدا وارتجل قصيدة مؤثّرة منها الأبيات السابقة. وفيها يطلب من الذئب أن لا يفترس رفات ابنه وأن يتذكّر حسن صنيعه معه وإكرامه إيّاه في الأيّام الخوالي.
لكن لماذا الذئب وحده، من بين سائر الحيوانات، يحظى بمثل هذه المنزلة المميّزة والكبيرة؟ وكيف أصبح محلّ إعجاب الناس ومستودع أسرار الشعراء وخيباتهم العاطفية؟
يقول البعض في سياق حديثهم عن مغزى خصوصية الذئب ومكانته في التراث انه، خلافا لغيره من الحيوانات، لا يمكن استئناسه أو ترويضه. كما انه لا يلجأ للغدر بل يأتي عدوّه من أمامه. "أظنّ أنهم لو شاهدوا طريقة فتكه بالأغنام أو قرءوا رواية الرجل الذي هاجمه ذئب لغيّروا رأيهم". وهناك من يقول إن الذئب هو الحيوان الوحيد الذي تخشاه الجنّ. ويزيد آخرون فيقولون إن الذئب يأكل الجنّ. وطبعا هذه مجرّد تخاريف يصعب أن يصدّقها العقل. إذ لا احد بمقدوره أن يقول انه رأى الجان عياناً، فضلا عن التسليم بأن الجان يمكن أن يأكل أو يُؤكل.
أغلب الظنّ أن جانبا من الارتباط الوجداني بين الذئب والإنسان يعود إلى حقيقة أن الذئاب جزء من آثار العالم القديم والمندثر عندما كان الإنسان واقعا بالكامل تحت سطوة الطبيعة وعاجزا عن السيطرة على عناصرها. كما أن الذئاب تقترن بالحياة في الصحارى والجبال التي تذكّر الإنسان بأسلافه الأوّلين وبخلود العالم. لذا فالذئاب، بمعنى ما، ترمز إلى استمرارية الوجود الإنساني وديمومة الحياة على الأرض.
حضور الذئب في الثقافات الإنسانية ليس بالأمر المفاجئ أو الطارئ. بعض الشعوب ترى فيه تجسيدا لكافّة الشرور على الأرض. لكنّه عند شعوب أخرى مخلوق نبيل ويمكن أن نتعلّم منه أشياء كثيرة.
والذئب في الأساس كائن ليلي وله ارتباط بالظلام والقمر. وما زلت أتذكّر بعض الرسومات الجميلة التي يظهر فيها ذئب يعوي وهو يحدّق في ضوء القمر. وربما يكون لهذه الفكرة أصل في بعض الثقافات الشامانية القديمة التي تقول إن الذئب يمكنه أن يتقمّص روح إنسان عندما يصبح القمر بدراً.
الذئب أيضا دخل اللغة من أوسع أبوابها. هناك مثلا واد يقال له وادي السرحان. والسرْحان اسم من أسماء الذئب الشائعة. ويقال إن هذا الوادي اخذ هذه التسمية منذ القدم بسبب كثرة الذئاب فيه. ومعظمنا لا بدّ قرءوا أو سمعوا الحكاية المشهورة التي تتحدّث عن الذئب في ثوب الحمل، للتدليل على أن المظهر قد يخدع أحيانا. وهناك مصطلح "الذئب الوحيد" الذي يشير إلى الإنسان المستقلّ واللامنتمي الذي غالبا ما يُساء فهمه لأنه لا ينتمي إلى تيّار محدّد أو جماعة بعينها.
وفي علم النفس شاع استخدام تعبير "الإنسان الذئب"، كناية عن الشخص الذي يمتلك شعورا دافئا ويهتمّ بمن حوله. وطبعا لا علاقة لهذا المصطلح بالمخلوق الذي تتحدّث عنه أفلام وروايات الرعب.

الاثنين، يونيو 20، 2011

أوليمبيا و مانيه

بلوحة واحدة وصادمة تصوّر مومساً في حالة استرخاء، دشّن إدوار مانيه العالم العاري والجريء للفنّ الحديث.
لم تكن مثل أيّ سيّدة متخففة تمّ رسمها من قبل. لم تكون حوّاء في الجنّة أو فينوس على سرير من الأمواج. ولم تكن إلهة أو ملاكا أو امرأة تغتسل بخجل وتراها العين على حين غرّة.
كانت امرأة معاصرة، لا تبدو خجولة أو مغطّاة، كما أنها ليست رمزا أو استعارة لشيء. كان اسمها فيكتورين موران. لكن إدوار مانيه كان يسمّيها اوليمبيا. وقد غيّرت كلّ شيء.
للوهلة الأولى، قد يتساءل المرء عن سبب كلّ هذه الضجّة. مانيه كان يعتبر نفسه رسّام طبيعة صامتة. وربّما هذا هو السبب في أن أوليمبيا تبدو بمثل هذا الغموض الصامت. هي تتمدّد بهدوء، بدون ثياب وبشكل صارخ، لكنّها ترتدي زينة كلاسيكية. فهناك وشاح أسود حول رقبتها وفردة نعال واحدة في قدمها اليسرى. الفردة الأخرى انزلقت بلا مبالاة. في أذنها زهرة قرنفل. يدها مثبّتة فوق حضنها. الزوايا الخارجية لفمها مرفوعة قليلا وكأنها على وشك الابتسام أو السخرية. عيناها ناعستان. لكنّ وضعية جلوسها متنبّهة بما لا يدع مجالا للشكّ. قارن بينها وبين أي أيّ حورية ساخنة ومبتذلة من عصر الباروك او الروكوكو. وسيتبيّن لك أنها رزينة بشكل ايجابي.
لكنّ هناك شيئا مختلفا في هذه الأنثى. فمن ناحية، هي لا تفعل شيئا. كما أنها تتجاهل باقة الورد التي تقدّمها لها خادمتها السمراء . وقطّتها الصغيرة، خاصّة ذيلها الموحي، تبرز من سفح سريرها. إنها لا تستحمّ ولا تحلم ولا تخلع ملابسها. ونحن في صحبتها، ندرك أنها امرأة متجردة وفي السرير، لنفس السبب الذي تجلس فيه أيّ امرأة متجردة في السرير. وهي تحيّي الناظر بنظرة نصفها دعوة ونصفها جرأة. إنها عشيقة، أو على الأرجح بغيّ. لكنّها يقيناً ليست شبحا اسمه الربيع.
ربّما كان مانيه أوّل فنّان صدم العالم. ونفوذه يتعدّى السمعة السيّئة التي ألصقت به. فهو كان مهذّبا وأنيقا ونبيلا. وقد روّعه ردّ الفعل القويّ على "أوليمبيا" بنفس القدر الذي روّعت فيه اللوحة النقّاد. كان مانيه رسّاما تدرّب على التقاليد الأكاديمية الرصينة. ولكن اندفاعه جعله غير متقيّد بها. كان يستلهم الواقعية الجريئة لـ غوستاف كوربيه والظلمة الأخروية للرسّامين الإسبان الكبار أمثال فيلاسكيز وغويا. وحتما، انجذب الشابّ مانيه إلى المواضيع الأقلّ تقليدية.
صحيح أن أسلوبه لم يكن يرتاح لرسم الملاك السمين. لكن هذا لا يعني أن مانيه كان ينظر إلى نفسه على انه لا منتمٍ. فقد كان يؤكّد على انه يرسم ببساطة ما كان يراه. وكان يعرض أعماله على الناس لأنه كان يبحث عن القبول. وما حصل عليه كان المزيد من النقد اللاذع، والمزيد من الشهرة والقوّة الدائمة التي ما كان ليحلم بها أبدا.
عندما عُرضت "أوليمبيا" في صالون باريس عام 1865 أشعلت فضيحة في أوساط الفنّ والأدب لم يسبق لها مثيل. انتزع النقّاد اللوحة من مكانها. والجمهور فعل تقريبا نفس الشيء.
انطوان بروست أشار في وقت لاحق إلى أنه "إن لم تكن اللوحة قد دُمرّت، فإن سبب ذلك كان الاحتياطات التي اتخذتها إدارة المعرض".
الأفكار الفيكتورية لم تكن مقتصرة على البريطانيين فقط. ولم يجرؤ فنّان جادّ على أن يرسم امرأة بمثل تلك السمعة السيّئة دون أن يلفّها على الأقلّ بذلك الرداء الغريب الذي يُلفّ به الحريم عادة. ومع ذلك كان هناك من نظر إلى اوليمبيا على أنها محاكاة ساخرة للوحة تيشيان "فينوس أوربينو". لكنها لم تكن كذلك. فـ مانيه لم يعرض فقط مجرّد بغيّ على أعين العالم. بل كانت لديه الجرأة لعبادتها أيضا. وكان هذا نوعا من التجديف. لكن من سوء حظّ منتقدي مانيه أن الصورة كانت أيضا رائعة.
القصّة تبدأ مع المرأة نفسها، مع الوجه الفتّان لـ فيكتورين موران. كانت موران موديل مانيه المفضّلة منذ وقت طويل. وكانت ملهمته ورفيقته وموضوعا للعديد من لوحاته. ولأكثر من عشر سنوات ابتكرها مانيه مرارا وتكرارا، مرّة كمصارعة ثيران ذات وجه صبياني، ومرّة كموسيقية شوارع، وثالثة كسيّدة كريمة ترتدي جلبابا ورديا.
في العام 1863، وهو العام نفسه الذي تزوّج فيه زوجته سوزان، رسم مانيه لوحتين عاريتين لـ موران، أشهرهما غداء على العشب، التي عرضها في الصالون، لكنّها رُفضت. فمنظر موران العارية في رحلة نزهة اعتُبر منظرا غريبا وغير لائق.


وربّما بسبب غضبه من ردود الفعل على اللوحة، انتظر مانيه سنتين كي يعرض العارية الأخرى. غير أن اوليمبيا تسبّبت في إحداث ضجّة اكبر .
ما الذي اغضب الناس في اللوحة؟ قد يكون السبب أنها بدت غير متأثّرة ولا مبالية. فهي تحدّق بهدوء في الناظر وتضعه في الدور غير السهل لزبون يقف على باب بغيّ مغرية.
مانيه كان يسكن عالما كان يفترض فيه العامّة أن وظيفة المرأة هي التغذية وإشاعة الراحة وأن تكون مصدر إلهام أو إثارة، أي كلّ ما يتعلّق بدورها ومكانتها في المجتمع والأسرة.
لكن أوليمبيا، لسهولة الوصول إليها، تبدو مكتفية ذاتيا بشكل صارخ. ولا يوجد فيها شيء متواضع. بالنسبة لهواة جمع الفنّ والنساء، الذين يعتبرون الصنفين ممتلكات لهم، فإن اوليمبيا جرّدتهم من أوهامهم. جسدها قد نضج وحان قطافه. لكنّ كلّ شيء آخر، بما في ذلك المعنى الكامن وراء تلك الابتسامة الغامضة، تحتفظ به لنفسها.
من بين الأعمال العظيمة في تاريخ الفنّ، لا يوجد سوى القليل من تلك اللوحات التي تظهر فيها امرأة وهي تصوّب نظراتها المتحدّية وغير المساوِمة بشكل مباشر. الموناليزا تنظر بخجل إلى يسارها. وكذلك فتاة فيرمير ذات العقد اللؤلؤي. وفينوس بوتيتشيللي تنظر بطريقة حالمة إلى منتصف المسافة بينما تغرق في أفكارها الخاصّة. في حين أن مدام إكس لـ سارجنت تشيح برأسها بعيدا تماما. وعشرات المادونات تنظرن إلى الملائكة فوقهن بطريقة مفعمة بالنشوة، أو إلى أطفالهن أسفل منهنّ بحنان.
عندما تكون المرأة في مواجهة الناظر مباشرة في لوحة، فيُحتمل أن تكون ملكة وليست محظيّة. أوليمبيا تواجهنا عيناً لِعَين. إنها طريقة مبتكرة ومربكة. وهي، إلى حدّ ما، انتقام من طرف الفنّان.
النقّاد الذين لم يعتادوا على قلب الطاولات في وجوههم سارعوا إلى الرفض. فقد كرهوا الموضوع، وكرهوا الأسلوب المسطّح والبدائي، وكرهوا كلّ شيء في اللوحة. كتب احدهم يقول: ما هذه الجارية ذات البطن الأصفر، هذه الموديل الخسيسة، من التقطها ومن تمثّل؟" وقال آخر: هذا ابتذال لا يُصدّق". وأعلن ثالث: الفنّ الوضيع لا يستحقّ حتى اللوم".
مانيه أحسّ بالدمار. اشتكى لصديقه الشاعر بودلير قائلا: الإهانات تنهال عليّ كالمطر". لكن بينما نظر الكثيرون إلى اوليمبيا كرمز للفساد والتفسّخ، رأى فيها آخرون رمزا للانتصار. اميل زولا اعتبرها تحفة مانيه والتعبير المتميّز عن موهبته القويّة".
وسأل مانيه نفسه: لماذا يتعيّن عليّ أن أكذب، لماذا لا أقول الحقيقة؟" لكن الحقيقة جاءت بكلفة عالية. ورغم أنه واصل الرسم وعرض لوحاته بقيّة حياته، إلا أنه ظلّ هدفا لهجوم وازدراء العامّة. لم يكن مانيه يسعى للإساءة. كان ببساطة يرسم بأفضل طريقة كان يعرفها. تقنياته المبتكرة واختياراته غير التقليدية لمواضيعه أنتجت في نهاية المطاف جيلا جديدا من الفنّانين.
وعلى الرغم من انه رفض أن يُصَوّر نفسه كمعلّم، إلا أن من أتوا بعده أشادوا به باعتباره الأب الروحي للانطباعية. وكان في طليعة الرسّامين الذين مجّدوا، ليس فقط الشخصيات الأسطورية، وإنما أيضا وهَج شاربي الابسنث والبغايا.
أثناء حياة الرسّام، لم تنل أوليمبيا أبدا الثناء الذي تستحقّه. لكنها ظلّت تكبر مع الأيّام. وبعد سنوات من وفاة مانيه، عرض كلود مونيه اللوحة على الحكومة الفرنسية، وأصبحت منذ ذلك الحين منظرا ثابتا في المتحف الباريسي. كان مانيه سيُسرّ لو علم بذلك. وكان يقول: الزمن نفسه يعمل على اللوحات بصورة تدريجية".
يحتاج المرء فقط لأن يتشمّس في الجمال المُسْكر لـ أوليمبيا، والظلال بين أصابعها، ومنحنيات بطنها، وتباينات الضوء والظلام، كي يفهم عمق موهبة مانيه. وعندما ننظر بشكل أعمق إلى تعقيدات وتناقضات وجمال ووحشية عمله، فإن عبقريته الحقيقية سرعان ما تظهر. لم يكن الفنّ بالنسبة لـ مانيه قصّة عن الآلهة أو القدّيسين أو الملوك. كان الفنّ عنده عن الحياة الحقيقية والعادية للناس.
لقد اظهر مانيه إلى الضوء العالم الخفيّ للحياة اليومية وجعله ملحوظا. وتعاطفه يبدو جليّا في كلّ ضربة فرشاة وفي كلّ خط في هذه اللوحة. اوليمبيا ربّما تحاول أن تحجب قلبها. لكننا، نحن الذين لا حيلة لنا، ما نزال واقعين تحت تأثير سحرها وغموضها. .

Credits
musee-orsay.fr
thecrimson.com