:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، يونيو 18، 2011

إلتقاء الأضداد


قراءة سِيَر بعض الشخصيات التاريخية، يستوي إن كانت الشخصية خيّرة أو شريرة، هي من الأشياء التي تجلب المتعة وتثير التفكير والتأمّل.
وسيزار بورجيا يوفّر نموذجا نادراً للصنف الثاني. كان هذا الأمير الايطالي شخصيّة اجتمعت فيها شتّى المتناقضات. يقال انه كان فيلسوفا وفنّانا على طريقته. كما كان أكثر الرجال وسامةً في ايطاليا في زمانه. لكنه أيضا، وهذا هو الجانب الطاغي في شخصيّته، كان مقاتلا اشتُهر بعنفه وقسوته. وكان من عادته إذا ظفر بأحد خصومه أن يُخضِعه لأشدّ صنوف التعذيب والتنكيل قبل أن يأمر بقتله بالسيف.
وجانب من أهمّية هذا الرجل يتمثّل في حقيقة انه عاصر شخصيّتين أخريين بارزتين، هما نيكولو ميكيافيللي وليوناردو دافنشي. لكن الأخيرَين كانا أكثر منه أهمّية وأعمق أثرا.
كان بورجيا يعمل على توحيد ايطاليا تحت قيادته. وكان ميكيافيللي ينظر إليه بمزيج من مشاعر الإعجاب والكراهية. كان يراقب بطش هذا الرجل وقسوته بحقّ معارضيه، وهو أمر أسهم في تعميق فهم ميكيافيللي لطبيعة ومنطق السلطة. ولم يكن مفاجئا أن بورجيا أصبح النموذج الذي بنى عليه ميكيافيللي مادّة كتابه المشهور "الأمير".
دافنشي هو الآخر أصبح من أصدقاء بورجيا المقرّبين. ولأنه كان يفهم في علوم الحرب، فقد عيّنه بورجيا مهندسا عسكريا في جيشه. كما استعان بمعرفته في رسم الخرائط وبناء الجسور التي كان جيشه يسلكها في المعارك.
لكن طبيعة الفنّان داخل دافنشي جعلته يكره بورجيا بعد أن تيقّن من طبيعته الشرّيرة ووحشيّته المتجاوزة. لذا قرّر أن يتكتّم على بقيّة اختراعاته ويحجبها عنه.
الغريب أن تأثير بورجيا على دافنشي كان واضحا في الموناليزا. فمنظر الطبيعة الفانتازية التي تظهر في خلفية اللوحة مقتطع من منظر لوادٍ كان دافنشي قد سلكه أثناء إحدى غزوات بورجيا في ايطاليا.
جهود بورجيا لتوحيد ايطاليا باءت بالفشل بعد مقتله في إحدى المعارك عن عمر لا يتجاوز الثلاثين عاما. وقبيل موته أمر بأن يُكتب على ضريحه عبارة تقول: تحت هذه البقعة الصغيرة، يرقد رجل كان يخشاه الجميع وكان يمسك بيديه مقادير الحرب والسلام".
لكن ضريحه لم يلبث أن هُدم، ونُقلت رفاته إلى ارض كانت تُستخدم كممشى للحيوانات والبهائم. وكان القساوسة قد حظروا دفن جثّته في إحدى الكنائس بعد أن رُوّعوا بكثرة جرائمه وخطاياه.
قصّة سيزار بورجيا وعلاقته بكلّ من ميكيافيللي ودافنشي ذكّرتني، مع الفارق طبعاً، بقصّة الوزير السلجوقي نظام المُلك وعلاقته بكلّ من عمر الخيّام والحسن الصبّاح.
التاريخ يعيد نفسه هنا أيضا، ولكنْ في زمان ومكان مختلفين.
القائد العسكري، خاصّة إن كان طاغية مستبدّا، قد ينجح في استمالة الفنّان أو الشاعر أو المفكّر إلى جانبه، ولكن لبعض الوقت. وهو يفعل ذلك، ليس لأنه يقدّر الفكر أو يتذوّق الشعر أو يعشق الفنّ، وإنما لكي يخطب ودّ الناس ويجمّل صورته في عيونهم ويُضفي على أعماله وتصرّفاته طابعا من الشرعية. لكن عند نقطة ما، سرعان ما يفترق الأضداد ويختار كلّ طريقه الذي ينسجم مع أفكاره وقناعاته.
الطاغية المستبدّ بطبيعته لا يأبه كثيرا بالمفاهيم الإنسانية والأخلاقية من قبيل الإيمان بالحبّ والخير والجمال، وهي القيم التي تشكّل الهمّ الرئيس للفنّان والشاعر والمفكّر. ولهذا السبب رأينا أن ميكيافيللي كان الوحيد الذي تمسّك بصداقة بورجيا حتى النهاية. وحتى ميكيافيللي نفسه، لم تكن دوافعه في القرب من الطاغية شخصية محضة. بل كان محكوما بالفضول المعرفي عندما رأى في أفكار بورجيا وممارساته حالة دراسية نموذجية تصلح لأن يُقيم عليها مشروع كتابه.
بالمناسبة، يقال أن ميكيافيللي لم يكن في نيّته أن ينشر كتابه على الملأ. وقد سمح لعدد محدود فقط من أصدقائه المقرّبين بالاطلاع على مضمونه. ولم يظهر الكتاب إلى العلن إلا بعد مرور سنوات على وفاته. ويبدو انه لم يكن يعرف أن "الأمير" سيصبح في ما بعد أهمّ كتاب في علم السياسة الحديث.
وما يلفت الاهتمام في هذا الكتاب، على وجه الخصوص، انه يتضمّن أجزاءً كثيرة يسخر فيها ميكيافيللي من الساسة الذين يستخدمون المناورة والتزييف من اجل خداع الخصوم، لدرجة أن جان جاك روسو اعتبر "الأمير" نوعا من الكتابة الهزلية والساخرة. أما انطونيو غرامشي، الكاتب والمنظّر السياسي الايطالي، فقد ذهب إلى أن الكتاب يتوجّه في الأساس إلى عامّة الناس وليس إلى الحكاّم الذين يعرفون، بحكم الدربة والممارسة، ما الذي ينبغي عليهم فعله للاحتفاظ بالسلطة.

الخميس، يونيو 16، 2011

قصْر الذكريات

صورة فوتوغرافية مبكّرة لـ ميرا بارتوك وهي طفلة بين ذراعي أمها تصوّر ما يمكن أن يكون مشهدا من مشاهد الطفولة الطبيعية.
لكنْ، تحت سطح هذه الصورة الهادئة، يكمن واقع أكثر قتامة وحزنا. تكتب بارتوك: إذا استطعت أن ترى الصورة كاملة، فستلاحظ أنّني، وأنا بين ذراعي أمّي، كنت انظر إليها وأنا أبتسم. غير أن ما لم تستطع هذه الصورة أن تقوله هو أنه لم يمض وقت طويل على التقاطها حتى حاولت أمّي الانتحار بإلقاء نفسها من النافذة".
من خلال تأريخها لفترة شبابها غير التقليدية في مذكّراتها الصادرة حديثا بعنوان قصر الذكريات، تروي ميرا بارتوك جوانب من قصّة حياتها الصعبة والمؤلمة تحت رعاية والدتها المطلّقة، نورما، وهي امرأة رائعة كانت تعاني من انفصام الشخصيّة.
بعد وقت قصير من انتهاء الحرب العالمية الثانية، مرّت نورما، والدة ميرا، بأوّل تجربة لها مع الانهيار العصبي وهي في سنّ التاسعة عشرة. وطوال خمسينات القرن الماضي، كانت حالتها تتراجع شيئا فشيئا. وبنهاية ذلك العقد، وبعد زواجها العابر وولادة ابنتيها في وقت لاحق، كان مرض نورما يزداد سوءا، وضعفت علاقتها بالواقع بشكل مطّرد، ثم انزلقت إلى أعماق عالم مظلم من العذابات والأوهام التي كان ينسجها عقلها المحطّم.
وعندما بدأت ميرا دراستها الابتدائية، بدأت أمّها تدخل المستشفيات بشكل دوري. وكان العلاج يتضمّن الصدمات الكهربائية والمهدّئات الثقيلة.
ثم ما لبث عالم نورما أن أصبح هدفا لـ "أعداء" غير مرئيين: خاطفون يذرعون الشوارع القريبة، جنود نازيّون يخطّطون للقضاء عليها، مخلوقات غريبة تحاول انتزاع رحمها، وأناس أشرار يحاولون حقنها بالغازات المشعّة.
وتشرح بارتوك كيف أن والدتها كانت، في شبابها، طالبة موهوبة وموسيقية استثنائية. "كانت طفلة عبقرية، وكانت على وشك أن تتحوّل إلى عازفة بيانو واعدة".
قبل مرضها، كانت نورما من أكثر الناس مرحا وإشاعة للبهجة. كانت دائما امرأة مشرقة ومحبّة للحياة والموسيقى. لكن مع تطوّر مرضها، أصبحت تتحدّث اقلّ عن شوبان، وأكثر عن خوفها على ابنتيها من الاختطاف أو القتل أو الاغتصاب.
تقول ميرا: كانت أمّي تعاني من الأسلاك المتشابكة ومن أصوات كثيرة في رأسها. وكنت اعرف دائما في أعماقي أن هناك حبّا كبيرا بداخلها، أي في أعماق نفسها الحقيقية التي كانت عليها ذات يوم. لكن الشيزوفرينيا كانت تلتهمها يوما بعد يوم".
لسوء الحظّ، نجح الفصام في طمس نورما الحقيقية على مدى عقود. أصبحت تتحكّم فيها الأوهام وجنون العظمة. ثم ما لبثت أن بدأت تتعامل بعدوانية مع أولئك الذين حولها.
ذات يوم، وبينما كانت نورما تحاول منع ابنتيها من مغادرة البيت، كسرت أمّهما زجاجة وطعنت بها ميرا في عنقها. واضطرّت الشقيقتان إلى الاختباء خلف باب غرفة نومهما لكي تمنعا والدتهما من مهاجمتهما. كانت نورما تسمع أصواتا غريبة. وكانت قد هدّدت قبل ذلك بالإقدام على الانتحار عدّة مرّات.
في أواخر الثمانينات، حاولت بارتوك وشقيقتها نقل والدتهما إلى مستشفى للصحّة العقلية. لكن محاولاتهما باءت بالفشل بناءً على منطق سخيف. فقد قال القاضي انه على الرغم من أنها تشكّل خطرا على نفسها وعلى من حولها، إلا أنها ما تزال امرأة عاقلة لأنه ما يزال باستطاعتها أن تشتري السجائر لنفسها وأن تستخدم قطع النقد بشكل صحيح.
وبينما كان عنف هجمات أمّهما يزداد، اضطرّت بارتوك وأختها للهرب بسبب قلقهما المشروع على سلامتهما. ولم يثن الفتاتين عن قرارهما تهديد والدتهما لهما بأنها ستقتل نفسها إن لم تعدلا عن قرار الرحيل عن البيت. ولم يكن لهما من خيار سوى أن يغيّرا اسميهما وعنوانهما وأن يقطعا كلّ علاقة لهما بوالدتهما كي تبقيا آمنتين.
ولأن نورما أصبحت بعيدة عن ابنتيها ولم يعد هناك من يقوم على رعايتها، فقد قضت السبعة عشر عاما التالية مشرّدة في الشوارع وبلا مأوى.
مذكّرات بارتوك الجميلة والحزينة، تلفت الانتباه لمرض لا يُناقش إلا نادرا وغالبا ما يُساء فهمه. وهي في الرواية لا تسخر أبدا من مرض والدتها، كما أنها لا تحاول استدرار الشفقة. كانت ميرا بارتوك تسعى لفهم عقل والدتها المحطّم الذي كانت تعبث به شياطين كثيرة وكائنات ضارّة لم يكن يراها احد غيرها، ما اضطرّها لأن تعيش في حالة رعب دائم حوّلها إلى امرأة مذعورة وموسوسة إلى الأبد.
ثم، وفي يوم واحد، تغيّرت حياة ميرا بارتوك إلى الأبد بعد أن وقع لها حادث سيّارة مروّع نجت منه بما يشبه المعجزة. حدث هذا في العام 1999 وكانت ميرا آنذاك تدخل عامها الأربعين. وبينما كانت تكافح للتعافي من إصابة شديدة في المخّ نتيجة الحادث، شعرت بالحاجة إلى ترتيب سياق حياتها السابقة. كان عليها أن تتعلّم من جديد كيف ترسم وتقرأ وتكتب وكيف تتفاعل مع العالم الخارجي.
غادرت ميرا المستشفى بذاكرة ضعيفة وبالكثير من الآثار الجسدية والنفسية. لكنها كانت عازمة على متابعة مسيرتها كفنّانة وكاتبة. فذهبت لاستكشاف الرومانسية القديمة في فلورنسا، والغموض الغريب لمناطق شمال النرويج وصحراء فلسطين النقيّة. كانت أسفارها من اجل النقاهة وإعادة اكتشاف الذات والنسيان. لكن ذكريات والدتها المؤرّقة لم تكن بعيدة عنها.
وأثناء بحثها عن طريق العودة إلى ذاتها الضائعة، أدركت ميرا أنها بحاجة لأن تعيد رابطتها مع أمّها كي تملأ بعض الفجوات الفارغة. لذا اتصلت بملجأ المشرّدين حيث كانت تعتقد أن أمّها تعيش. وعندما وصلت إلى هناك، اكتشفت أن نورما كانت في حالة احتضار. وقرّرت هي وشقيقتها أن تبقيا إلى جانبها في أيّامها الأخيرة. ووجدت ميرا عند والدتها عددا من المفاتيح. احدها يفتح صندوقا وجدتا بداخله يوميات والدتهما وألعابا من زمن الطفولة وصورا كانتا تعتقدان أنها فُقدت إلى الأبد.
هذه التذكارات هي التي قدحت ذاكرة ميرا المفقودة وسمحت لها بأن تتعلّم أشياء عن ماضيها، وهو أمر بدا لها من قبل انه مستحيل. واكتشفت ميرا أن يوميّات والدتها كانت تمتلئ بالبصيرة وبالعاطفة الصادقة. كانت يوميّات نورما رحلة في عقل امرأة محبّة للفنون ومتحرّقة شوقا لأطفالها، رغم كونها مصابة بالفصام.
"قصر الذكريات" هو عبارة عن سرد يحبس الأنفاس عن المعاني المعقّدة للحبّ والحقيقة والقدرة على الصفح بين أفراد العائلة والمرض الذي يمكن أن يفصل أو يجمع شمل الأسرة معا.
كان بإمكان ميرا أن تكتفي بالكتابة عن الطفولة المروّعة التي عاشتها هي وشقيقتها، وعن المصاعب التي اعترضت طريق والدتهما. لكنها فضّلت أن تأخذ اليوميات إلى مستوى أعلى من خلال إشراكها للقارئ في بعض ذكرياتها وقصصها عن زمن الطفولة وعن طبيعة العلاقات التي كانت تربط بين أفراد عائلتها.
مذكّرات ميرا بارتوك عمل إبداعي ثريّ بالتفاصيل ومشيّد بطريقة جميلة. وقد تطلّب تأليفه شجاعة كبيرة وقوّة جبّارة من قبل الكاتبة. وكلّ صفحة من صفحات هذه الرواية مليئة بشيء ما يستحقّ المشاركة والنقاش.
"يوما ما"، تكتب ميرا بارتوك ، "سأعيش في مكان اخضر وهادئ أمام طريق ريفيّ متعرّج. الغرف يغمرها الضوء والأرضيات ملوّنة بالأحمر".
و"قصر الذكريات" يشي بأن المؤلّفة كانت تشيّد ذلك المكان الأمن طوال حياتها، ولكن في خيالها فقط. "مترجم".

الثلاثاء، يونيو 14، 2011

مار جرجس والتّنين

في الماضي كان الفنّانون يتنافسون في رسم اللوحات التي تصوّر قصصا دينية مستوحاة من الكتب المقدّسة. اليوم لم يعد هناك من يهتمّ كثيرا برسم مثل هذه القصص. ومن أشهر، وربّما أطرف القصص الدينية التي فتنت الرسّامين في العصور المتقدّمة قصّة القدّيس جورج "أو مار جرجس كما يُعرف في بلاد المشرق" مع التنّين.
هذه القصّة يقال أنها حدثت في مكان ما في فلسطين. لكن هناك من ينسبها إلى ليبيا. وهي تحكي عن أهل إحدى القرى الذين كانوا يعتمدون في حياتهم على مياه احد الينابيع. وفي احد الأيّام، حلّ بأرضهم تنّين شرّير كان يترصّدهم ويحول بينهم وبين النبع. ولكي يبلغوا النبع، كان يتعيّن عليهم أن يضحّوا كلّ يوم بخروف يقدّمونه للتنّين إلى أن انقرضت جميع مواشيهم.
لكنهم كانوا ما يزالون بحاجة إلى الماء. لذا اضطرّوا للتضحية ببناتهم واحدة بعد الأخرى، إلى أن أتى الدور على آخر فتاة تبقّت في القرية وكانت أميرة جميلة وابنة لزعيم القرية.
في ذلك اليوم، تصادف أن كان مار جرجس مارّاً بالقرية. ولما رأى الفتاة وهي على وشك أن تُقدّم قربانا للتّنين، انقضّ على الوحش برمحه والتحم معه في قتال دام إلى أن تمكّن من قتله.
دائرة المعارف الكاثوليكية تقول انه لا مجال للتشكيك في وجود القدّيس جرجس نفسه. لكنّها ترجّح أن قصّة التّنين مجرّد خرافة وأن أصلها ربّما يعود إلى قصص مشابهة من النصوص القديمة حول العالم. وقد تكون هذه القصّة صدى لأسطورة اندروميدا وبيرسيوس الإغريقية.
غير أن القصّة تطرح قضيّة أخلاقية مهمّة. لماذا، مثلا، كانت الأميرة آخر فتاة تُقدّم قربانا للتّنين؟ ولماذا لم يظهر القدّيس المخلّص إلا عندما أصبحت حياتها، هي بالذات، معرّضة للخطر؟ وقد يقول قائل: والفقراء، أليس لهم ربّ؟!
هناك احتمال بأن يكون مؤلّف القصّة شخصا منحازا طبقيا. وقد يكون المغزى من جزئية الأميرة في الحكاية دغدغة مشاعر ملوك ونبلاء ذلك الزمان حتى يقبلوا على اعتناق المسيحية وينبذوا الأفكار الوثنية. الاحتمال الثاني يبدو أكثر إقناعا. وما يرجّح صحّته حقيقة أن معظم قصص التّنين تقترن في الغالب بأميرات. حتى في قصص الأطفال، هناك دائما إشارات متواترة إلى التّنين وعلاقته بالأميرات. لكن لماذا التنّين بالذات وليس أيّ حيوان كاسر آخر؟ لا يوجد جواب واضح على هذا السؤال.
ومثلما سبقت الإشارة، كانت هذه الأسطورة محطّ اهتمام الرسّامين منذ القدم. وقد رسمها كثيرون، من بينهم رافائيل وغوستاف مورو وروبنز وتينتوريتو وجيوفاني بيليني وغيرهم.
في اللوحة فوق، يرسم الايطالي جاكوبو تينتوريتو القدّيس معتليا صهوة جواده بينما يدفع بالرمح بين عيني التّنين محاولا الإجهاز عليه. وفي مقدّمة اللوحة تبدو الأميرة وهي تحاول الفرار من المكان وقد أخذتها المفاجأة على حين غرّة. وفي كلّ اللوحات التي تصوّر القصّة، يظهر القدّيس دائما راكبا حصانا، وأحيانا معتمرا خوذة. لكن هيئة الفتاة في المشهد تتغيّر من لوحة لأخرى. هي هنا تهمّ بالفرار. بينما تظهر في لوحات أخرى وهي جاثية تصلّي بخشوع شكرا لله على هذه المعجزة.
جيوفاني بيليني، من ناحيته، رسم القصّة بعد أن انتهت المبارزة. إذ تصوّر لوحته القدّيس وقد سقطت خوذته ورمحه على الأرض بعد أن طعن الوحش حتى الموت.
التّنين كما تروي الحكاية، مات مقتولا. في حين أن الراوي لو اختار سيناريو مختلفا، كأن يتمكّن القدّيس من ترويض الحيوان والسيطرة عليه بدلا من قتله، لكانت القصّة أبلغ وأكثر تأثيرا على مشاعر المؤمنين.
نهاية القصّة هي بيت القصيد كما يقال. إذ تذكر أن أهالي القرية اعتنقوا المسيحية في الحال تأثّرا بما رأوه. ومن يومها عاشوا في سلام وأمان بعد أن خلّصهم القدّيس من ذلك الوحش الكاسر الذي كان ينغّص حياتهم ويتهدّد وجودهم.
ومن الواضح أن الحكاية، مثل كثير من الحكايات المشابهة، تتضمّن معنى رمزيا. فهي تجسّد انتصار البطل أو المخلّص المسيحي على الشرّ، وربّما على الوثنية التي يمثلها التّنين.

الاثنين، يونيو 13، 2011

الطبيعة في لوحات فريدريش

الرسّام الرومانسي الألماني كاسبار ديفيد فريدريش ولد عام 1774م، وكان احد كبار أنصار الطبيعة الرمزية في الرسم الأوربّي.
درس فريدريش في أكاديمية كوبنهاغن قبل أن يستقرّ في دريسدن. كما سافر كثيرا في أرجاء ألمانيا. ومناظره الطبيعية جميعها مستوحاة من طبيعة الشمال الألماني. وتتضمّن تصويرا جميلا للأشجار والتلال والموانئ والضباب الصباحي وغيرها من تأثيرات الضوء الذي يعتمد على الملاحظة اللصيقة للطبيعة.
وما يميّز أعمال فريدريش هو تحويله الطبيعة إلى معان رمزية، وغالبا دينية. ومناظره، التي تصوّر أودية ومساقط مياه غامضة وقمم جبال خطرة وبحاراً شاسعة من الثلج، تخلو غالبا من البشر. والطبيعة في هذه الصور ليست كريمة أو معطاءة، بل تبدو كما لو أنها تهديد مخيف ومستمرّ لاستقرار وطمأنينة الإنسان.
ومع ذلك، يُنظر إلى بعض لوحات فريدريش المشهورة كتعبير عن لحظات من التصوّف الديني. فقد رسم عددا كبيرا من الصور التي تهيمن فيها الصُلبان على الطبيعة. لكن التركيز الأساسي هو على الطبيعة ذاتها.
حتّى بعض لوحات فريدريش غير الرمزية بوضوح تحتوي على معان ورموز داخلية تدلّ عليها كتاباته لبعض أصدقائه. مثلا لوحته المسمّاة كنيسة في غابة السنديان تُظهِر منظرا طبيعيا تبدو فيه أطلال كنيسة مغمورة في الثلج. هذه اللوحة يمكن النظر إليها ظاهريا باعتبارها منظرا شتائياً كئيباً.
لكن اللوحة، من وجهة نظر الرسّام، تمثّل مؤسّسة الكنيسة التي تعصف بها حركة الإصلاح الديني. كما أنها تشير إلى تغيّر وتحوّل الأشياء على الأرض. وعلى مستوى آخر، كان الرومانسيون يجدون في هذه اللوحة استدعاءً أو تذكيرا بالأطلال والموت.
فريدريش كان يحبّ هذا النوع الخاصّ من الصور. وقد كرّر هذه الفكرة عديدا من المرّات في لوحاته.
لوحته الأخرى المسمّاة مقبرة دير في الثلج تُصوّر طللا ضخماً لدير قوطي في منتصف فصل الشتاء. الأشجار المحيطة بالدير عارية من أوراقها تماما، مثلما أن البناء نفسه يبدو بلا سقف وليس هناك مبان ملحقة به.
ومن الواضح أن الدير مهجور منذ زمن طويل. كما أنه تحوّل إلى مقبرة. ويمكن للمرء أن يرى علامات وشواهد القبور في مقدّمة اللوحة.
بالنسبة إلى كاسبار فريدريش، فإن هذا المنظر يمكن أن يرمز إلى عدّة أشياء دفعة واحدة. فهو يرمز إلى أفول الكنيسة القديمة التي كانت في ما مضى صرحا كبيرا للإيمان.
كما أنه يرمز للطبيعة التي تستعيد مكانها القديم. فأشجار السنديان تنمو الآن في نفس المكان الذي كان يقوم فيه الدير والحدائق المزروعة ذات زمن.
وعلى مستوى ثالث، يمكن اعتبار اللوحة رمزا للموت. فالأشجار تبدو بلا حياة، تماما كالدير.
كان فريدريش يميل إلى رسم مَشاهده في منتصف العام، عندما تتحوّل الظلال والضباب إلى أشياء ساكنة وغامضة.
وهو لم يكن يتوقّع من الجمهور أن يفهم ما كان يرمي إليه في لوحاته. ورغم انه كان شخصا محافظا جدّا وغير ميّال لانتقاد المجتمع أو الدين، إلا أن فهمه لأهداف الفنّ جعلته شخصا غريبا وغير منتمٍ. لذا أساء الناس فهمه معظم سنوات حياته.
والواقع أن فريدريش لم يكن يحظى في زمانه بتلك الشعبية الجماهيرية الكبيرة. ومع ذلك استمرّ يتبنّى النظرة التعبيرية في الفنّ وظلّ يرسم صورا جميلة بدا أحيانا أن مواضيعها شخصية وخاصّة.
لاحظ في الصورة التي فوق، مثلا، كيف انه بالرغم من قدراته غير العادية في تمثيل الأشجار إلا أنه لم يركّز على مظاهرها الجمالية فحسب.
ولسوء الحظ، فإن هذه اللوحة تعرّضت للتلف إثر غارة جويّة زمن الحرب العالمية الثانية. وكلّ ما تبقّى منها اليوم هو هذه الصورة الفوتوغرافية لها بالأسود والأبيض. لكن بسبب موضوعها، فإن غياب اللون ليس بالأمر المؤثّر كثيرا. وهي تسمح لنا برؤية كيف أن فريدريش أعاد معالجة لوحة غابة السنديان بحيث أعطاها معنى أكثر رمزية.
وما فعله الرسّام في اللوحة الثانية بحيث تبدو مختلفة عن النسخة المبكّرة هو انه أضفى على الأشجار فيها طابعاً من العظمة والفخامة. الأشجار هنا لا تبدو متطفّلة كما في اللوحة الأولى، بل تقف مثل أعمدة عملاقة تحرس المكان المقدّس وتوفّر له الحماية.
وحجارة المقبرة هي الأخرى تحوّلت إلى رهبان يمشون باتجاه الدير. طبعا الدير لم يعد هناك. والرهبان أيضا لم يعودوا موجودين، وإن كانت أشباحهم ما تزال تخيّم على المكان.
هذه اللوحة المعبّرة يمكن اعتبارها تأمّلا في تحوّل الأشياء على الأرض وسيرورتها وانتقالها من حال إلى حال.