:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، يونيو 16، 2011

قصْر الذكريات

صورة فوتوغرافية مبكّرة لـ ميرا بارتوك وهي طفلة بين ذراعي أمها تصوّر ما يمكن أن يكون مشهدا من مشاهد الطفولة الطبيعية.
لكنْ، تحت سطح هذه الصورة الهادئة، يكمن واقع أكثر قتامة وحزنا. تكتب بارتوك: إذا استطعت أن ترى الصورة كاملة، فستلاحظ أنّني، وأنا بين ذراعي أمّي، كنت انظر إليها وأنا أبتسم. غير أن ما لم تستطع هذه الصورة أن تقوله هو أنه لم يمض وقت طويل على التقاطها حتى حاولت أمّي الانتحار بإلقاء نفسها من النافذة".
من خلال تأريخها لفترة شبابها غير التقليدية في مذكّراتها الصادرة حديثا بعنوان قصر الذكريات، تروي ميرا بارتوك جوانب من قصّة حياتها الصعبة والمؤلمة تحت رعاية والدتها المطلّقة، نورما، وهي امرأة رائعة كانت تعاني من انفصام الشخصيّة.
بعد وقت قصير من انتهاء الحرب العالمية الثانية، مرّت نورما، والدة ميرا، بأوّل تجربة لها مع الانهيار العصبي وهي في سنّ التاسعة عشرة. وطوال خمسينات القرن الماضي، كانت حالتها تتراجع شيئا فشيئا. وبنهاية ذلك العقد، وبعد زواجها العابر وولادة ابنتيها في وقت لاحق، كان مرض نورما يزداد سوءا، وضعفت علاقتها بالواقع بشكل مطّرد، ثم انزلقت إلى أعماق عالم مظلم من العذابات والأوهام التي كان ينسجها عقلها المحطّم.
وعندما بدأت ميرا دراستها الابتدائية، بدأت أمّها تدخل المستشفيات بشكل دوري. وكان العلاج يتضمّن الصدمات الكهربائية والمهدّئات الثقيلة.
ثم ما لبث عالم نورما أن أصبح هدفا لـ "أعداء" غير مرئيين: خاطفون يذرعون الشوارع القريبة، جنود نازيّون يخطّطون للقضاء عليها، مخلوقات غريبة تحاول انتزاع رحمها، وأناس أشرار يحاولون حقنها بالغازات المشعّة.
وتشرح بارتوك كيف أن والدتها كانت، في شبابها، طالبة موهوبة وموسيقية استثنائية. "كانت طفلة عبقرية، وكانت على وشك أن تتحوّل إلى عازفة بيانو واعدة".
قبل مرضها، كانت نورما من أكثر الناس مرحا وإشاعة للبهجة. كانت دائما امرأة مشرقة ومحبّة للحياة والموسيقى. لكن مع تطوّر مرضها، أصبحت تتحدّث اقلّ عن شوبان، وأكثر عن خوفها على ابنتيها من الاختطاف أو القتل أو الاغتصاب.
تقول ميرا: كانت أمّي تعاني من الأسلاك المتشابكة ومن أصوات كثيرة في رأسها. وكنت اعرف دائما في أعماقي أن هناك حبّا كبيرا بداخلها، أي في أعماق نفسها الحقيقية التي كانت عليها ذات يوم. لكن الشيزوفرينيا كانت تلتهمها يوما بعد يوم".
لسوء الحظّ، نجح الفصام في طمس نورما الحقيقية على مدى عقود. أصبحت تتحكّم فيها الأوهام وجنون العظمة. ثم ما لبثت أن بدأت تتعامل بعدوانية مع أولئك الذين حولها.
ذات يوم، وبينما كانت نورما تحاول منع ابنتيها من مغادرة البيت، كسرت أمّهما زجاجة وطعنت بها ميرا في عنقها. واضطرّت الشقيقتان إلى الاختباء خلف باب غرفة نومهما لكي تمنعا والدتهما من مهاجمتهما. كانت نورما تسمع أصواتا غريبة. وكانت قد هدّدت قبل ذلك بالإقدام على الانتحار عدّة مرّات.
في أواخر الثمانينات، حاولت بارتوك وشقيقتها نقل والدتهما إلى مستشفى للصحّة العقلية. لكن محاولاتهما باءت بالفشل بناءً على منطق سخيف. فقد قال القاضي انه على الرغم من أنها تشكّل خطرا على نفسها وعلى من حولها، إلا أنها ما تزال امرأة عاقلة لأنه ما يزال باستطاعتها أن تشتري السجائر لنفسها وأن تستخدم قطع النقد بشكل صحيح.
وبينما كان عنف هجمات أمّهما يزداد، اضطرّت بارتوك وأختها للهرب بسبب قلقهما المشروع على سلامتهما. ولم يثن الفتاتين عن قرارهما تهديد والدتهما لهما بأنها ستقتل نفسها إن لم تعدلا عن قرار الرحيل عن البيت. ولم يكن لهما من خيار سوى أن يغيّرا اسميهما وعنوانهما وأن يقطعا كلّ علاقة لهما بوالدتهما كي تبقيا آمنتين.
ولأن نورما أصبحت بعيدة عن ابنتيها ولم يعد هناك من يقوم على رعايتها، فقد قضت السبعة عشر عاما التالية مشرّدة في الشوارع وبلا مأوى.
مذكّرات بارتوك الجميلة والحزينة، تلفت الانتباه لمرض لا يُناقش إلا نادرا وغالبا ما يُساء فهمه. وهي في الرواية لا تسخر أبدا من مرض والدتها، كما أنها لا تحاول استدرار الشفقة. كانت ميرا بارتوك تسعى لفهم عقل والدتها المحطّم الذي كانت تعبث به شياطين كثيرة وكائنات ضارّة لم يكن يراها احد غيرها، ما اضطرّها لأن تعيش في حالة رعب دائم حوّلها إلى امرأة مذعورة وموسوسة إلى الأبد.
ثم، وفي يوم واحد، تغيّرت حياة ميرا بارتوك إلى الأبد بعد أن وقع لها حادث سيّارة مروّع نجت منه بما يشبه المعجزة. حدث هذا في العام 1999 وكانت ميرا آنذاك تدخل عامها الأربعين. وبينما كانت تكافح للتعافي من إصابة شديدة في المخّ نتيجة الحادث، شعرت بالحاجة إلى ترتيب سياق حياتها السابقة. كان عليها أن تتعلّم من جديد كيف ترسم وتقرأ وتكتب وكيف تتفاعل مع العالم الخارجي.
غادرت ميرا المستشفى بذاكرة ضعيفة وبالكثير من الآثار الجسدية والنفسية. لكنها كانت عازمة على متابعة مسيرتها كفنّانة وكاتبة. فذهبت لاستكشاف الرومانسية القديمة في فلورنسا، والغموض الغريب لمناطق شمال النرويج وصحراء فلسطين النقيّة. كانت أسفارها من اجل النقاهة وإعادة اكتشاف الذات والنسيان. لكن ذكريات والدتها المؤرّقة لم تكن بعيدة عنها.
وأثناء بحثها عن طريق العودة إلى ذاتها الضائعة، أدركت ميرا أنها بحاجة لأن تعيد رابطتها مع أمّها كي تملأ بعض الفجوات الفارغة. لذا اتصلت بملجأ المشرّدين حيث كانت تعتقد أن أمّها تعيش. وعندما وصلت إلى هناك، اكتشفت أن نورما كانت في حالة احتضار. وقرّرت هي وشقيقتها أن تبقيا إلى جانبها في أيّامها الأخيرة. ووجدت ميرا عند والدتها عددا من المفاتيح. احدها يفتح صندوقا وجدتا بداخله يوميات والدتهما وألعابا من زمن الطفولة وصورا كانتا تعتقدان أنها فُقدت إلى الأبد.
هذه التذكارات هي التي قدحت ذاكرة ميرا المفقودة وسمحت لها بأن تتعلّم أشياء عن ماضيها، وهو أمر بدا لها من قبل انه مستحيل. واكتشفت ميرا أن يوميّات والدتها كانت تمتلئ بالبصيرة وبالعاطفة الصادقة. كانت يوميّات نورما رحلة في عقل امرأة محبّة للفنون ومتحرّقة شوقا لأطفالها، رغم كونها مصابة بالفصام.
"قصر الذكريات" هو عبارة عن سرد يحبس الأنفاس عن المعاني المعقّدة للحبّ والحقيقة والقدرة على الصفح بين أفراد العائلة والمرض الذي يمكن أن يفصل أو يجمع شمل الأسرة معا.
كان بإمكان ميرا أن تكتفي بالكتابة عن الطفولة المروّعة التي عاشتها هي وشقيقتها، وعن المصاعب التي اعترضت طريق والدتهما. لكنها فضّلت أن تأخذ اليوميات إلى مستوى أعلى من خلال إشراكها للقارئ في بعض ذكرياتها وقصصها عن زمن الطفولة وعن طبيعة العلاقات التي كانت تربط بين أفراد عائلتها.
مذكّرات ميرا بارتوك عمل إبداعي ثريّ بالتفاصيل ومشيّد بطريقة جميلة. وقد تطلّب تأليفه شجاعة كبيرة وقوّة جبّارة من قبل الكاتبة. وكلّ صفحة من صفحات هذه الرواية مليئة بشيء ما يستحقّ المشاركة والنقاش.
"يوما ما"، تكتب ميرا بارتوك ، "سأعيش في مكان اخضر وهادئ أمام طريق ريفيّ متعرّج. الغرف يغمرها الضوء والأرضيات ملوّنة بالأحمر".
و"قصر الذكريات" يشي بأن المؤلّفة كانت تشيّد ذلك المكان الأمن طوال حياتها، ولكن في خيالها فقط. "مترجم".