قراءة سِيَر بعض الشخصيات التاريخية، يستوي إن كانت الشخصية خيّرة أو شريرة، هي من الأشياء التي تجلب المتعة وتثير التفكير والتأمّل.
وسيزار بورجيا يوفّر نموذجا نادراً للصنف الثاني. كان هذا الأمير الايطالي شخصيّة اجتمعت فيها شتّى المتناقضات. يقال انه كان فيلسوفا وفنّانا على طريقته. كما كان أكثر الرجال وسامةً في ايطاليا في زمانه. لكنه أيضا، وهذا هو الجانب الطاغي في شخصيّته، كان مقاتلا اشتُهر بعنفه وقسوته. وكان من عادته إذا ظفر بأحد خصومه أن يُخضِعه لأشدّ صنوف التعذيب والتنكيل قبل أن يأمر بقتله بالسيف.
وجانب من أهمّية هذا الرجل يتمثّل في حقيقة انه عاصر شخصيّتين أخريين بارزتين، هما نيكولو ميكيافيللي وليوناردو دافنشي. لكن الأخيرَين كانا أكثر منه أهمّية وأعمق أثرا.
كان بورجيا يعمل على توحيد ايطاليا تحت قيادته. وكان ميكيافيللي ينظر إليه بمزيج من مشاعر الإعجاب والكراهية. كان يراقب بطش هذا الرجل وقسوته بحقّ معارضيه، وهو أمر أسهم في تعميق فهم ميكيافيللي لطبيعة ومنطق السلطة. ولم يكن مفاجئا أن بورجيا أصبح النموذج الذي بنى عليه ميكيافيللي مادّة كتابه المشهور "الأمير".
دافنشي هو الآخر أصبح من أصدقاء بورجيا المقرّبين. ولأنه كان يفهم في علوم الحرب، فقد عيّنه بورجيا مهندسا عسكريا في جيشه. كما استعان بمعرفته في رسم الخرائط وبناء الجسور التي كان جيشه يسلكها في المعارك.
لكن طبيعة الفنّان داخل دافنشي جعلته يكره بورجيا بعد أن تيقّن من طبيعته الشرّيرة ووحشيّته المتجاوزة. لذا قرّر أن يتكتّم على بقيّة اختراعاته ويحجبها عنه.
الغريب أن تأثير بورجيا على دافنشي كان واضحا في الموناليزا. فمنظر الطبيعة الفانتازية التي تظهر في خلفية اللوحة مقتطع من منظر لوادٍ كان دافنشي قد سلكه أثناء إحدى غزوات بورجيا في ايطاليا.
جهود بورجيا لتوحيد ايطاليا باءت بالفشل بعد مقتله في إحدى المعارك عن عمر لا يتجاوز الثلاثين عاما. وقبيل موته أمر بأن يُكتب على ضريحه عبارة تقول: تحت هذه البقعة الصغيرة، يرقد رجل كان يخشاه الجميع وكان يمسك بيديه مقادير الحرب والسلام".
لكن ضريحه لم يلبث أن هُدم، ونُقلت رفاته إلى ارض كانت تُستخدم كممشى للحيوانات والبهائم. وكان القساوسة قد حظروا دفن جثّته في إحدى الكنائس بعد أن رُوّعوا بكثرة جرائمه وخطاياه.
قصّة سيزار بورجيا وعلاقته بكلّ من ميكيافيللي ودافنشي ذكّرتني، مع الفارق طبعاً، بقصّة الوزير السلجوقي نظام المُلك وعلاقته بكلّ من عمر الخيّام والحسن الصبّاح.
التاريخ يعيد نفسه هنا أيضا، ولكنْ في زمان ومكان مختلفين.
القائد العسكري، خاصّة إن كان طاغية مستبدّا، قد ينجح في استمالة الفنّان أو الشاعر أو المفكّر إلى جانبه، ولكن لبعض الوقت. وهو يفعل ذلك، ليس لأنه يقدّر الفكر أو يتذوّق الشعر أو يعشق الفنّ، وإنما لكي يخطب ودّ الناس ويجمّل صورته في عيونهم ويُضفي على أعماله وتصرّفاته طابعا من الشرعية. لكن عند نقطة ما، سرعان ما يفترق الأضداد ويختار كلّ طريقه الذي ينسجم مع أفكاره وقناعاته.
الطاغية المستبدّ بطبيعته لا يأبه كثيرا بالمفاهيم الإنسانية والأخلاقية من قبيل الإيمان بالحبّ والخير والجمال، وهي القيم التي تشكّل الهمّ الرئيس للفنّان والشاعر والمفكّر. ولهذا السبب رأينا أن ميكيافيللي كان الوحيد الذي تمسّك بصداقة بورجيا حتى النهاية. وحتى ميكيافيللي نفسه، لم تكن دوافعه في القرب من الطاغية شخصية محضة. بل كان محكوما بالفضول المعرفي عندما رأى في أفكار بورجيا وممارساته حالة دراسية نموذجية تصلح لأن يُقيم عليها مشروع كتابه.
بالمناسبة، يقال أن ميكيافيللي لم يكن في نيّته أن ينشر كتابه على الملأ. وقد سمح لعدد محدود فقط من أصدقائه المقرّبين بالاطلاع على مضمونه. ولم يظهر الكتاب إلى العلن إلا بعد مرور سنوات على وفاته. ويبدو انه لم يكن يعرف أن "الأمير" سيصبح في ما بعد أهمّ كتاب في علم السياسة الحديث.
وما يلفت الاهتمام في هذا الكتاب، على وجه الخصوص، انه يتضمّن أجزاءً كثيرة يسخر فيها ميكيافيللي من الساسة الذين يستخدمون المناورة والتزييف من اجل خداع الخصوم، لدرجة أن جان جاك روسو اعتبر "الأمير" نوعا من الكتابة الهزلية والساخرة. أما انطونيو غرامشي، الكاتب والمنظّر السياسي الايطالي، فقد ذهب إلى أن الكتاب يتوجّه في الأساس إلى عامّة الناس وليس إلى الحكاّم الذين يعرفون، بحكم الدربة والممارسة، ما الذي ينبغي عليهم فعله للاحتفاظ بالسلطة.
وسيزار بورجيا يوفّر نموذجا نادراً للصنف الثاني. كان هذا الأمير الايطالي شخصيّة اجتمعت فيها شتّى المتناقضات. يقال انه كان فيلسوفا وفنّانا على طريقته. كما كان أكثر الرجال وسامةً في ايطاليا في زمانه. لكنه أيضا، وهذا هو الجانب الطاغي في شخصيّته، كان مقاتلا اشتُهر بعنفه وقسوته. وكان من عادته إذا ظفر بأحد خصومه أن يُخضِعه لأشدّ صنوف التعذيب والتنكيل قبل أن يأمر بقتله بالسيف.
وجانب من أهمّية هذا الرجل يتمثّل في حقيقة انه عاصر شخصيّتين أخريين بارزتين، هما نيكولو ميكيافيللي وليوناردو دافنشي. لكن الأخيرَين كانا أكثر منه أهمّية وأعمق أثرا.
كان بورجيا يعمل على توحيد ايطاليا تحت قيادته. وكان ميكيافيللي ينظر إليه بمزيج من مشاعر الإعجاب والكراهية. كان يراقب بطش هذا الرجل وقسوته بحقّ معارضيه، وهو أمر أسهم في تعميق فهم ميكيافيللي لطبيعة ومنطق السلطة. ولم يكن مفاجئا أن بورجيا أصبح النموذج الذي بنى عليه ميكيافيللي مادّة كتابه المشهور "الأمير".
دافنشي هو الآخر أصبح من أصدقاء بورجيا المقرّبين. ولأنه كان يفهم في علوم الحرب، فقد عيّنه بورجيا مهندسا عسكريا في جيشه. كما استعان بمعرفته في رسم الخرائط وبناء الجسور التي كان جيشه يسلكها في المعارك.
لكن طبيعة الفنّان داخل دافنشي جعلته يكره بورجيا بعد أن تيقّن من طبيعته الشرّيرة ووحشيّته المتجاوزة. لذا قرّر أن يتكتّم على بقيّة اختراعاته ويحجبها عنه.
الغريب أن تأثير بورجيا على دافنشي كان واضحا في الموناليزا. فمنظر الطبيعة الفانتازية التي تظهر في خلفية اللوحة مقتطع من منظر لوادٍ كان دافنشي قد سلكه أثناء إحدى غزوات بورجيا في ايطاليا.
جهود بورجيا لتوحيد ايطاليا باءت بالفشل بعد مقتله في إحدى المعارك عن عمر لا يتجاوز الثلاثين عاما. وقبيل موته أمر بأن يُكتب على ضريحه عبارة تقول: تحت هذه البقعة الصغيرة، يرقد رجل كان يخشاه الجميع وكان يمسك بيديه مقادير الحرب والسلام".
لكن ضريحه لم يلبث أن هُدم، ونُقلت رفاته إلى ارض كانت تُستخدم كممشى للحيوانات والبهائم. وكان القساوسة قد حظروا دفن جثّته في إحدى الكنائس بعد أن رُوّعوا بكثرة جرائمه وخطاياه.
قصّة سيزار بورجيا وعلاقته بكلّ من ميكيافيللي ودافنشي ذكّرتني، مع الفارق طبعاً، بقصّة الوزير السلجوقي نظام المُلك وعلاقته بكلّ من عمر الخيّام والحسن الصبّاح.
التاريخ يعيد نفسه هنا أيضا، ولكنْ في زمان ومكان مختلفين.
القائد العسكري، خاصّة إن كان طاغية مستبدّا، قد ينجح في استمالة الفنّان أو الشاعر أو المفكّر إلى جانبه، ولكن لبعض الوقت. وهو يفعل ذلك، ليس لأنه يقدّر الفكر أو يتذوّق الشعر أو يعشق الفنّ، وإنما لكي يخطب ودّ الناس ويجمّل صورته في عيونهم ويُضفي على أعماله وتصرّفاته طابعا من الشرعية. لكن عند نقطة ما، سرعان ما يفترق الأضداد ويختار كلّ طريقه الذي ينسجم مع أفكاره وقناعاته.
الطاغية المستبدّ بطبيعته لا يأبه كثيرا بالمفاهيم الإنسانية والأخلاقية من قبيل الإيمان بالحبّ والخير والجمال، وهي القيم التي تشكّل الهمّ الرئيس للفنّان والشاعر والمفكّر. ولهذا السبب رأينا أن ميكيافيللي كان الوحيد الذي تمسّك بصداقة بورجيا حتى النهاية. وحتى ميكيافيللي نفسه، لم تكن دوافعه في القرب من الطاغية شخصية محضة. بل كان محكوما بالفضول المعرفي عندما رأى في أفكار بورجيا وممارساته حالة دراسية نموذجية تصلح لأن يُقيم عليها مشروع كتابه.
بالمناسبة، يقال أن ميكيافيللي لم يكن في نيّته أن ينشر كتابه على الملأ. وقد سمح لعدد محدود فقط من أصدقائه المقرّبين بالاطلاع على مضمونه. ولم يظهر الكتاب إلى العلن إلا بعد مرور سنوات على وفاته. ويبدو انه لم يكن يعرف أن "الأمير" سيصبح في ما بعد أهمّ كتاب في علم السياسة الحديث.
وما يلفت الاهتمام في هذا الكتاب، على وجه الخصوص، انه يتضمّن أجزاءً كثيرة يسخر فيها ميكيافيللي من الساسة الذين يستخدمون المناورة والتزييف من اجل خداع الخصوم، لدرجة أن جان جاك روسو اعتبر "الأمير" نوعا من الكتابة الهزلية والساخرة. أما انطونيو غرامشي، الكاتب والمنظّر السياسي الايطالي، فقد ذهب إلى أن الكتاب يتوجّه في الأساس إلى عامّة الناس وليس إلى الحكاّم الذين يعرفون، بحكم الدربة والممارسة، ما الذي ينبغي عليهم فعله للاحتفاظ بالسلطة.