:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، يونيو 30، 2011

طريق الامبراطورية


خلال الفترة من 1833 إلى 1836م، رسم الفنّان الأمريكي توماس كول سلسلة من اللوحات حاول من خلالها رصد مراحل نشوء وصعود الامبراطوريات ومن ثمّ انهيارها وأفولها.
وجانب من شهرة هذه اللوحات يتمثّل في أنها تعكس المشاعر الشعبية الأميركية في ذلك الوقت عندما كان الكثيرون ينظرون إلى الفكرة الرعوية على أنها المرحلة المثالية في تطوّر الحضارة البشرية. كان هؤلاء يخشون من أنّ تتَحَوّل الدولة في النهاية إلى امبراطورية، ما يؤدّي إلى استشراء الجشَع والشرَه ومن ثمّ الانهيار المحتّم.
وتتألّف السلسلة، التي تصوّر على التوالي مراحل نموّ وسقوط دولة وهمية تقع على شاطئ نهر، من خمس لوحات: المجتمع المتوحّش، المجتمع الأركادي أو الرعوي، اكتمال بناء الإمبراطورية، تدمير الامبراطورية، ثمّ خرابها. ويمكن اعتبار هذه اللوحات في نفس الوقت تصويرا للعلاقة ما بين الإنسان والطبيعة. أمّا مصدر الإلهام الأدبيّ الذي استند إليه الفنّان في رسمها فهو قصيدة للشاعر الانجليزي اللورد بايرون كتبها في العام 1818م.
توماس كول كان يعتقد أن الإمبراطوريات والحضارات الإنسانية لا تدوم طويلا. فعلى مرّ التاريخ، سادت امبراطوريات كثيرة ثم بادت. أما الرسالة التي أراد أن يبعثها من خلال لوحاته فهي أن الطبيعة تتمتّع بالسيطرة المطلقة على كلّ شيء. وبغضّ النظر عن مدى ما يمكن أن يفعله الإنسان، فإن تصرّفاته لا يمكن أن تُوقِف عمل الطبيعة. وبعبارة أخرى، فإن الإنسان يمكن أن يهيمن وأن ينشئ حضارة عظيمة. لكنّ كلّ شيء يمكن أن يفعله البشر مآله في النهاية إلى التلاشي والزوال.
وقد رسم كول جميع اللوحات الخمس في نفس الموقع. لكنه استخدم مواسم وأوقاتاً وظروف طقس مختلفة كي ينقل المزاج الذي يناسب كلّ لوحة.
كان توماس كول إنسانا حادّ الذكاء ورسّاما متميّزا وموهوبا. وكانت له آراء كثيرة حول الحياة والطبيعة البشرية والموت. كان يعتقد، مثلا، أن الإنسان يعيش ويموت، مثله مثل جميع الكائنات من نبات وحيوان وخلافه.
وكان يرسم الجبال المتآكلة والأنهار الجافّة كرمز لنهاية دورة الطبيعة التي تماثل دورة حياة الإنسان نفسه. فالإنسان يموت عندما تتقدّم به السنّ، وكذلك الطبيعة تفقد حيويّتها وتجدّدها مع مرور الزمن.



1) المجتمع المتوحّش:
جوّ هذه اللوحة يبدو مظلما وغير مروّض. من مسافة بعيدة يمكن للمرء أن يرى الدخان والنار وجمعاً من البشر المتوحّشين. كما يمكن أيضا رؤية جزء من شاطئ نهر يقوم خلفه جبل تغمره الغيوم في فجر يوم عاصف. وفي يسار المنظر، نلمح صيّادا يرتدي ملابس من جلد الحيوان وهو يجري مسرعا في البرّية في إثر أيل. هناك أيضا صيّادون آخرون على التلّة المجاورة ينطلقون للصيد. وفي النهر أسفل الصيّاد، هناك زورق صغير يبحر في النهر.
وعلى الربوة إلى اليسار، تلوح مجموعة من البيوت المبنيّة من القشّ حولها نار مشتعلة. هذه هي نواة المدينة التي ستنشأ في ما بعد. الرسّام اعتمد في رسم تفاصيل هذه اللوحة على حياة وأسلوب معيشة سكّان أمريكا الأصليين.
الجبل الظاهر في الخلفية يتكرّر في كلّ لوحة من لوحات مسار الإمبراطورية. هنا، يضعه كول في منتصف المشهد تقريبا بينما تحيط به الغيوم العاصفة. الجبل هائل ومهيب. انه شكل قويّ يوحي بالسيطرة المطلقة للطبيعة في المجتمع المتوحّش، وأيضا بحالة الإنسان المعرّض للخطر في علاقته بقوى الطبيعة.
تصوّر كول عن الإنسان المتوحّش هو انه صيّاد في حالة ترحال ويحمل القوس والسهم ليقتفي إثر أيل أو أيّ حيوان آخر يصلح للأكل.
الأيل المجروح يعدو فوق مياه النهر أسفل اللوحة محاولا الفرار بينما انغرس في ظهره سهم. وفي هذا إشارة إلى جهد الإنسان للسيطرة على الطبيعة. في مرحلة الصيد، يتجمّع البشر معا لتبادل ضرورات المعيشة والحماية والعبادة. الغيوم العاصفة ترمز إلى الطبيعة المتوحّشة. والزورق البدائي في أقصى يسار المنظر هو إشارة إلى بداية النقل والاستكشاف.



2) المجتمع الأركادي أو الرعوي:
في هذه اللوحة، أصبحت السماء صافية. ونحن الآن في مستهلّ يوم جديد من أيّام الربيع. اللوحة تنقل الناظر إلى نقطة اقرب، بحيث يمكن رؤية جانب اكبر من النهر بعد أن أصبح الجبل الآن في الجهة اليسرى. يمكننا أيضا أن نرى قمّة صخرية متشعّبة خلف الجبل. الكثير من الأرض القفر أفسحت المجال للأراضي المستوية. أصبح هناك مروج وحقول محروثة. الأنشطة المختلفة تجري في الخلفية: حراثة الأرض، بناء القوارب، رعي الأغنام، والرقص. وفي المقدّمة، على الجانب القريب من النهر، يقوم معبد صخريّ ينبعث منه الدخان. هذه الصور تعكس أجواء اليونان القديمة المثالية وما قبل الحضرية. الجبل الذي ظهر للمرّة الأولى في المجتمع المتوحّش أصبح الآن أكثر هدوءا. كما حلّ فلاح مكان الصيّاد، علامة على الاستقرار الدائم. في أقصى يسار اللوحة، نرى رجلا مسنّا يرسم بعصا أشكالا في التراب، في ما يبدو وكأنه إشارة إلى بداية العلم والمنطق.
إلى اليمين، يمكن رؤية صبيّ صغير وهو يرسم الشكل البدائي لامرأة تمسك بمغزل، في إشارة إلى الأصول الأولى للرسم والتصوير. ولو دقّقت أكثر في اللوحة، سترى الأحرف الأولى من اسم الرسّام منقوشة على الكتلة الحجرية المستطيلة التي يجلس عليها الصبيّ. خلف المرأة الواقفة، هناك جذع شجرة مقطوع. وواضح أن من قطعه إنسان. وهي علامة مزعجة ونذير شؤم لما سيأتي. كان كول كثيرا ما يستخدم جذوع الأشجار المقطوعة في لوحاته كي يدلّل على الآثار السلبية للحضارة.
إلى يمين اللوحة، نلمح رجالا ونساءً يرقصون، في إشارة إلى بدايات الموسيقى. الاستيطان الدائم يحلّ محلّ الخيام البدائية المصنوعة من الأشجار أو جلود الحيوانات في المجتمع المتوحّش. الدخان المتصاعد من البيوت يوحي بسيطرة الإنسان على الطبيعة للأغراض المنزلية.
في النهر، هناك سفينة. لقد تغيّرت القوارب التي كان يستخدمها الإنسان في المجتمع المتوحّش وأصبحت الآن سفناً متطوّرة، ما ينذر ببدايات التجارة البحرية والتوسّع الامبراطوري. في وسط المنظر، نرى صبيّا يرعى قطيعا من الأغنام. وجود الأغنام يؤشّر إلى بداية ظهور رسم المناظر الطبيعية المعروفة بالرعوية. إلى يسار الوسط، نرى شخصا يحمل درعاً، وهو أمر يوحي بقدوم الصراعات العسكرية.



3) اكتمال بناء الامبراطورية:
في هذه اللوحة، يحوّل الرّسام نظر المتلقّي إلى الشاطئ الآخر. الوقت: ظهيرة يوم رائع من أيّام الصيف. ضفتّا النهر أصبحتا مكانا تقوم عليه بنايات تزيّنها أعمدة رخامية وسلالم توصل إلى الماء.
المعبد الحجري في اللوحة السابقة تحوّل إلى بناء تعلوه قبّة ضخمة. والنهر أصبحت تحرسه منارتان تطلان من بعيد. وهناك سفن تبحر في النهر قاصدة البحر الذي وراءه. لكنّ أكثر ما يلفت الانتباه في المشهد هو هذا الحشد المبتهج من الناس الذين يتجمّعون في المدرّجات والشرفات. لو نظرت إلى الجهة اليسرى من اللوحة، سترى ملكا أو ربّما جنرالا يرتدي ملابس قرمزية ويعبر جسرا يصل ما بين طرفي النهر في ما يشبه موكب النصر. المظهر العام يذكّر بذروة صعود روما القديمة.
ما كان يوما جبلا، صار الآن مكانا تغطّيه بنايات من صنع الإنسان. أي أن الجبل أصبح يخضع تماما لسيطرة الإنسان.
المعبد الإغريقي الطراز يحتوي على تماثيل تصوّر مشهد صيد يذكّر بالصيّاد الذي يظهر في لوحة المجتمع المتوحّش. إلى يمين اللوحة، يظهر بناء عال يقف فوقه تمثال لامرأة يشبه تمثال دايانا إلهة الصيد الرومانية. الرماح والأزياء العسكرية توحي بالطابع العسكري للمجتمع. الأبواق النحاسية حلّت محلّ المزامير البسيطة للمجتمع الرعوي. وفي أقصى يمين اللوحة، هناك مؤرّخ يسجّل تاريخ اكتمال بناء الامبراطورية، في موازاة دور الرسّام الذي يخلق نوع آخر من التسجيل من خلال الصور.



4) تدمير الإمبراطورية:
في هذه اللوحة، يتراجع الرسّام قليلا إلى منتصف النهر تقريبا للسماح بمساحة فعل اكبر. هذا الفعل أو الحدث هو تدمير الامبراطورية أثناء عاصفة تلوح نذرها من بعيد. ويبدو أن أسطولا من المحاربين الأعداء قد أطاح بالدفاعات الأمامية بعد أن شقّ طريقه وسط مياه النهر. وهو الآن منشغل بإحراق وتدمير الامبراطورية وقتل واغتصاب سكّانها.
الجسر الذي عبر فوقه موكب النصر من قبل أصبح الآن مهدّما. وهناك بموازاته جسر مؤقّت ينوء تحت ثقل الجنود والسكّان المرعوبين. الأعمدة تحطّمت والنيران تشتعل من الطوابق العليا لقصر يقوم على الضفّة اليمنى للنهر. التمثال الضخم إلى يمين اللوحة يصوّر بطلا مقطوع الرأس ويحمل ترسا، لكنه ما يزال يخطو إلى الأمام باتجاه مستقبل غير واضح. هيئة التمثال تذكّرنا بالصيّاد في لوحة المجتمع المتوحّش. وربّما كان هذه المشهد مقتبسا من حادثة تخريب ونهب روما في العام 455م.
الجبل، مرّة أخرى، يصبح أكثر وضوحا. وهو الآن في نهاية اللوحة، ما يوحي بقرب عودة الطبيعة. الطبيعة نفسها أصبحت صدى للفوضى والدمار اللذين لحقا بالامبراطورية، على شكل غيوم عاصفة ورياح ونار. شرفة المعبد تحوّلت إلى قاعدة لإطلاق المنجنيق، في إشارة إلى أن عنف الحضارة أفسد الفنّ والدين. الجسر الذي عبر عليه ذات يوم الحاكم، إنهار الآن تحت ثقل جيوشه. والسفن التي كانت في يوم من الأيّام رافدا للتجارة هي الآن تحترق وتغرق في جحيم الحرب. وهناك أمّ تنعي موت ابنها. وغير بعيد عنها، امرأة أخرى تهرب من جندي لتلقي بنفسها في مياه النهر، ما يدلّ على انهيار الحضارة وتحوّلها إلى عنف جنسي. لا شيء هنا سوى المجازر والعنف والدمار. والقتال يدور في كلّ مكان، بينما الموتى والمحتضرون يملئون الطرقات والميادين.



5) الخراب:
هذه اللوحة تُظهِر نتائج ما حدث للامبراطورية بعد سنوات من انهيارها. ونحن نرى ما تبقّى منها في ضوء قمر شاحب. الليل هادئ والنهر يضيئه جوّ من الهدوء والسكينة. الضوء الباهت ينعكس في مياه النهر الراكدة. الحياة البرّية تعود إلى طبيعتها الأولى. لم يعد بالإمكان رؤية بشر. لكنّ أطلال بنيانهم تبرز من تحت عباءة مجموعة من أشجار اللبلاب. أقواس الجسر المدمّر وأعمدة المعبد ما تزال ظاهرة للعيان. وهناك بقايا عمود واحد ضخم في المقدّمة كان ذات يوم يدعم معبدا أو قصرا وأصبح الآن مكانا تعشعش فيه الطيور.
الطبيعة أخذت تستعيد مركز الصدارة شيئا فشيئا على أنقاض الإمبراطورية. وعلى الرغم من أن هذه علامة على نهاية الحضارة، إلا أن القطع المعمارية ما تزال تحتفظ بجمال حزين. الأيل الذي شوهد للمرّة الأولى في المجتمع المتوحّش وهو يحاول الفرار من الصيّاد، أصبح الآن يتجوّل بحرّية في الطبيعة.
بقايا المعبد والقصر والأبنية الأخرى تؤشّر إلى أن دورات الطبيعة أقوى من أيّ شيء شيّدته يد الإنسان مهما كان كاملا.
شروق الشمس في لوحة المجتمع المتوحّش يحلّ مكانه هنا ضوء القمر. لقد سقطت الحضارة وعاد الجبل إلى هيئته الأولى وهو الآن يعيد تأسيس نفسه كمعْلَم رئيسيّ في المشهد. وهكذا تكتمل الدورة التي بدأت بالمجتمع المتوحّش عند الفجر.
هامش:
مسار الامبراطورية: نظرة بانورامية

الثلاثاء، يونيو 28، 2011

رُودان: أعيان كاليه

في العام 1346م، أي أثناء حرب المائة عام، فرض الملك الانجليزي ادوارد الثالث حصارا على بلدة كاليه الفرنسية بعد أن حصّنت البلدة نفسها بقوّة رافضةً الاستسلام للجيش الانجليزي الغازي.
كان الملك يطمح في الحصول على موطئ قدم في فرنسا. وكانت كاليه خياره المفضّل. وقد بدأ حصارها في الثالث من سبتمبر من ذلك العام متوقّعا انتصارا سريعا وسهلا. لكن أهالي البلدة قاوموا الحصار بشجاعة طوال عشرة أشهر.
ولما أعيت الانجليز الحيلة، طلبوا المزيد من الإمدادات والدعم من انجلترا. وانتظروا ريثما يشعر المحاصَرون داخل البلدة بوطأة الجوع فيستسلمون.
وبينما كان الحصار على أشدّه، قرّرت ملكة انجلترا، فيليبا، أن تلتحق بزوجها الملك كي تظلّ قريبة منه في المعسكر.
وانتظر مواطنو كاليه من ملكهم فيليب السادس أن يخفّ لنجدتهم. وكتب محافظ البلدة جان دي فيان إلى الملك يقول: لقد أكلنا كلّ شيء، حتى الكلاب والقطط والخيول، ولم يبق أمامنا إلا الموت جوعا ما لم تأتِ على الفور لإنقاذنا". ووصل فيليب مع جيشه. لكن بعد مناوشات قليلة مع الجيش الانجليزي، لم يتمكّن من شقّ طريقه نحو البلدة وغادر دون أن ينقذ أيّاً من مواطنيه.
كان أهالي كاليه قد أنهكهم الجوع والتعب. حتّى الماء كان على وشك أن ينفد. وفي النهاية، اضطرّ محافظ البلدة لأن يضع حدّا لمحنة الأهالي، فأمر بأن يُرفع علم ابيض فوق أعلى بناية فيها.
تنفّس الانجليز الصعداء عندما لمحوا العلم، وأدركوا أن الحصار آتى ثماره بعد طول انتظار. وردّا على تلك الخطوة، أرسل الملك الانجليزي اثنين من مبعوثيه هما السير والتر موني واللورد باسيت. كانت مهمّة الرجلين هي التأكّد ممّا إذا كانت البلدة قد قرّرت الاستسلام أخيرا. وأخبرهما المحافظ دي فيان بأنه سيتخلّى عن القلاع مع كنوزها مقابل إنقاذ حياة الأهالي.
كان الملك غاضبا على أهالي كاليه بسبب ما أظهروه من بسالة ومقاومة منقطعة النظير. وقال للسير والتر: ستنطلق من فورك إلى حاكم كاليه لتبلغه أنني لن اقبل بأقلّ من أن يأتي إليّ ستّة من كبار أعيان البلدة حفاة عراة والحبال في أعناقهم وبأيديهم مفاتيح البلدة والقلاع". وأضاف: سيكون هؤلاء الستّة تحت تصرّفي المطلق، وسأصدر عفواً عن الباقين".
عندما أبلغ اللورد والتر المحافظ دي فيان بقرار الملك، جمع الأخير الناس في سوق البلدة وأخبرهم بقرار الملك وبأنه يريد ردّا فورياً وواضحاً.
كان أغنى أعيان البلدة رجل يُدعى اوستاش دو سان بيير. وقد وقف وسط جموع الأهالي وقال: من المهمّ جدّا أن نضع حدّا لهذا البؤس. وإنّي أثق بأن الله سيمنّ علينا بفضله في النهاية. وإذا كان عليّ أن أموت لأنقذ بلدتي، فأرجو أن تعتبروني أوّل الرجال الستّة". ثمّ تقدّم خمسة رجال آخرين وأعلنوا استعدادهم للخروج معه والتضحية بأنفسهم.
رافق المحافظ وجميع أهل البلدة الأشخاص الستّة إلى البوابة الرئيسية. وأثناء المسيرة، كان المحافظ دي فيان يتوسّل إلى السير والتر موني طالبا منه أن لا يُنفّذ في الرجال حكم الإعدام. وأكّد له الأخير أنه سيعمل كلّ ما في وسعه لإنقاذ حياتهم.
وعندما مَثلوا أمام الملك، جثا الرجال على رُكبهم. ثم تكلّم كبيرهم سان بيير مخاطبا الملك بقوله: أيّها الملك الهمام! أمامك ستّة من مواطني كاليه. وقد جلبوا لك مفاتيح القلاع والبلدة. إننا نسلّم أنفسنا لك كي ننقذ بقيّة مواطنينا الذين عانوا الكثير من الشدّة والبؤس. ونحن نناشد فيك نبلك وكرمك ونلتمس منك أن تشفق علينا وتعفو عنّا".
لكن الملك كان يضمر في نفسه الكثير من الحقد والكراهية لأهالي كاليه بسبب الخسائر التي تكبّدها جيشه نتيجة مقاومتهم له. لذا أمر بأن تُقطع رؤوس الرجال الستّة دون إبطاء.
وعلى الرغم من نداءات الرحمة التي تقدّم بها رجال حاشيته، إلا أن الملك لم يُبدِ أيّ قدر من الشفقة وظلّ متمسّكا برأيه. غير أن الملكة فيليبا، التي كانت حاملا آنذاك، تقدّمت إلى زوجها وناشدته قائلة: سيّدي الملك! لقد عبرتُ البحر بالرغم من كلّ الأخطار كي أراكم وأكون إلى جوار جلالتكم. وإنني بكلّ تواضع اطلب منكم وباسم حبّكم لنا وتيمّناً بطفلنا القادم أن تكونوا رحماء بهؤلاء الرجال".
ورضخ الملك أخيرا لطلب زوجته. وقبل أن يعود الرجال إلى كاليه، أمرت الملكة بفكّ القيود عنهم وقدّمت لهم ملابس جديدة وأقامت لهم وليمة عشاء. ثم دفعت إليهم ببعض المال وأمرت الحرّاس بمرافقتهم إلى أن يغادروا المعسكر الانجليزي بسلام.
وفي عام 1885، أي بعد مرور أكثر من ستّة قرون على الحادثة، كلّف مجلس بلدية كاليه النحّات المشهور اوغست رُودان بصنع تمثال جماعي من البرونز يكرّم ذكرى أعيان كاليه ويخلّد بطولاتهم وتضحياتهم.
وقد استغرق العمل على هذا التمثال الضخم حوالي سبع سنوات. وهو يصوّر الرجّال الستّة لحظة خروجهم إلى مخيّم الملك بانتظار موتهم المفترض. ويظهر الرجال في التمثال بأقدام حافية وأسمال رثّة وأجساد هزيلة من أثر الجوع وهم يحملون مفاتيح المدينة بينما تلتفّ الحبال حول رقابهم.
ومن الملاحظ أن رُودان حرص على إبراز شخصيّة كلّ رجل على حدة. الرجل الملتحي وسط المجموعة يمثّل نقطة الارتكاز في العمل. حركات الأجساد والرؤوس والأيدي تشي بردّ فعل كلّ منهم على ما قد يحدث تالياً. لكنهم جميعا يبدون في حالة يأس وانكسار.
لاحظ كيف أن رُودان لم يُغفل حتى أدقّ التفاصيل في التمثال، من العضلات المتشنّجة إلى الأوردة النافرة وخصلات الشعر والحبال الملتفّة. والتمثال يُظهرهم في حالة كرب وإنكار. فقد كانوا جميعا يتوقّعون موتا وشيكا. ولم يدركوا أن القدر سيتدخّل في اللحظة الأخيرة لإنقاذ حياتهم.

الأحد، يونيو 26، 2011

مُستصغَر الشّرَر


ركوب القطار أو المترو في عاصمة غربية تجربة لا تخلو من بعض الطرافة والمفارقة. وقد حدث أن ركبت القطار والمترو عدّة مرّات، واكتشفت أن تلك التجربة توفّر فرصة نادرة للتأمّل في سلوكيات الناس وأحوالهم عندما يجمعهم مكان واحد.
وكما هو معروف فإن الناس يلجئون إلى المترو أو القطار للذهاب إلى مدارسهم وأعمالهم لأنهما أسرع من وسائل المواصلات الأخرى وأرخص.
وأكثر ما لفت انتباهي هو أن كلّ راكب منشغل بنفسه، فتجده إمّا يقرأ جريدة أو كتابا، أو يتحدّث إلى جاره الذي يعرفه بصوت هامس، أو يتكلّم في هاتفه المحمول، أو يتصفّح الانترنت من جهاز اللاب توب الذي يحمله، أو ببساطة يسلم نفسه للنوم.
الشاهد هنا هو أن كلّ إنسان مشغول بنفسه وكلّ شخص تزدحم رأسه بالأفكار والمشاريع والهموم، تماما مثل رواية أو مسرحية لكلّ شخصيّة فيها دور تلعبه.
أحيانا يكون الشخص الذي يجلس أمامك امرأة. هنا لا ينبغي عليك أن تندهش أو تتفاجأ إذا ما رأيتها تفتح حقيبتها فجأة لتضع شيئا من الماكياج أو الحمرة على وجهها أو فمها.
ومن قواعد الايتيكيت التي يجب مراعاتها في القطار أو المترو أو الحافلة أن يتجنّب الإنسان النظر مباشرة في وجه الشخص الذي يجلس أمامه. في التجربة الأولى لم استطع أن أتقيّد بهذه القاعدة الصارمة. وأقنعت نفسي أنني ما زلت أعاني من آثار الصدمة الحضارية. وبناءً عليه، ليس على المصدوم من حرج. صحيح أن لا احد كان ينظر إليّ تقريبا. لكنّي لم استطع، بحكم ما تعوّدت عليه في مجتمعنا، أن أمنع نفسي من استراق نظرات سريعة أو خاطفة إلى هذا الشخص أو ذاك.
وكنت أعلم أن كلّ من يضطرّ إلى الإخلال بهذا الايتيكيت ينبغي عليه أن يفعل ذلك بطريقة متلصّصة وحذرة جدّاً، خوفاً من أن يلاحظه الآخرون فيتحقّق فيه قول الشاعر: كلّ الحوادث مبدؤها من النظرِ ومعظم النار من مُستصغر الشررِ".
ومع التجربة، أدركت أن فكرة أن لا ينظر إليك أحد وأن لا تنظر أنت في وجه شخص آخر في الأماكن العامّة هي من المسلكيات الحضارية الرفيعة التي أتمنّى فعلا أن يتعلّمها الناس عندنا وأن يمارسوها في كافّة شئون حياتهم.
الفضول والتطفّل على الآخرين، ولو من خلال نظرة عابرة، هما من العادات الرذيلة والمستهجنة. لكنّها في المجتمعات المشرقية من الأمور العاديّة والمألوفة. ولو اقتصر الأمر على النظر، أو حتى التحديق، لما كانت هناك مشكلة. المشكلة هي أن التطفّل عندنا يتجاوز كلّ حدود المعقول ليشمل التدخّل السافر والممجوج في حياة الآخرين والتجسّس عليهم وإساءة الظنّ بهم، تارةً باسم الدين وتارةً تحت لافتة العادات والأعراف الاجتماعية.
في احد الأيّام سمعت حوارا بين شخصين. كان الأوّل يمتدح سلوك زميل أعرفه، فأثنى عليه وأفاض في ذكر محاسنه وأخلاقه. فما كان من الثاني إلا أن قال: قد يكون ما ذكرته صحيحا، مع أنني لم أره يصلّي يوماً في المسجد مع الجماعة. فقلت معلّقا: وما علاقة الصلاة بالموضوع؟ هذا أمر بينه وبين ربّه. يمكن أن يكون الإنسان محترما وعلى خلق حتى لو لم تره أنت أو غيرك يصلّي في المسجد. يجوز انه يصلّي بمفرده، وهذا لوحده يكفي. ولعلمك هناك أشخاص يشربون الخمر ويتهاونون أحيانا في أمور العبادات، لكنهم لا يظلمون الناس ولا يتحاملون عليهم أو يغتابونهم. بل إن من هذه الفئة أفرادا هم من أجوَد الناس وأنقاهم وأكثرهم إيثارا وبذلا. وهؤلاء عندي أكثر إنسانية وأكرم خلقا من كثير ممّن يرتدون مسوح التُقى لكنهم يحقدون على الناس ويؤذونهم وينهشون أعراضهم ويتدخّلون في أدقّ أشيائهم وخصوصيّاتهم".
الأمر الذي لا شكّ فيه هو أن بيننا وبين الغربيّين فجوة هائلة في كلّ شيء، سواءً على الصُعد المادّية أو على صعيد السلوكيات والقيم. ولا أعلم كم من الوقت يلزمنا حتى نبلغ مستوى قريباً من مستوى تمدّن مجتمعاتهم فنكفّ شرّنا عن الآخرين ونعيش ويعيش غيرنا في أمن وسلام.