:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، يونيو 28، 2011

رُودان: أعيان كاليه

في العام 1346م، أي أثناء حرب المائة عام، فرض الملك الانجليزي ادوارد الثالث حصارا على بلدة كاليه الفرنسية بعد أن حصّنت البلدة نفسها بقوّة رافضةً الاستسلام للجيش الانجليزي الغازي.
كان الملك يطمح في الحصول على موطئ قدم في فرنسا. وكانت كاليه خياره المفضّل. وقد بدأ حصارها في الثالث من سبتمبر من ذلك العام متوقّعا انتصارا سريعا وسهلا. لكن أهالي البلدة قاوموا الحصار بشجاعة طوال عشرة أشهر.
ولما أعيت الانجليز الحيلة، طلبوا المزيد من الإمدادات والدعم من انجلترا. وانتظروا ريثما يشعر المحاصَرون داخل البلدة بوطأة الجوع فيستسلمون.
وبينما كان الحصار على أشدّه، قرّرت ملكة انجلترا، فيليبا، أن تلتحق بزوجها الملك كي تظلّ قريبة منه في المعسكر.
وانتظر مواطنو كاليه من ملكهم فيليب السادس أن يخفّ لنجدتهم. وكتب محافظ البلدة جان دي فيان إلى الملك يقول: لقد أكلنا كلّ شيء، حتى الكلاب والقطط والخيول، ولم يبق أمامنا إلا الموت جوعا ما لم تأتِ على الفور لإنقاذنا". ووصل فيليب مع جيشه. لكن بعد مناوشات قليلة مع الجيش الانجليزي، لم يتمكّن من شقّ طريقه نحو البلدة وغادر دون أن ينقذ أيّاً من مواطنيه.
كان أهالي كاليه قد أنهكهم الجوع والتعب. حتّى الماء كان على وشك أن ينفد. وفي النهاية، اضطرّ محافظ البلدة لأن يضع حدّا لمحنة الأهالي، فأمر بأن يُرفع علم ابيض فوق أعلى بناية فيها.
تنفّس الانجليز الصعداء عندما لمحوا العلم، وأدركوا أن الحصار آتى ثماره بعد طول انتظار. وردّا على تلك الخطوة، أرسل الملك الانجليزي اثنين من مبعوثيه هما السير والتر موني واللورد باسيت. كانت مهمّة الرجلين هي التأكّد ممّا إذا كانت البلدة قد قرّرت الاستسلام أخيرا. وأخبرهما المحافظ دي فيان بأنه سيتخلّى عن القلاع مع كنوزها مقابل إنقاذ حياة الأهالي.
كان الملك غاضبا على أهالي كاليه بسبب ما أظهروه من بسالة ومقاومة منقطعة النظير. وقال للسير والتر: ستنطلق من فورك إلى حاكم كاليه لتبلغه أنني لن اقبل بأقلّ من أن يأتي إليّ ستّة من كبار أعيان البلدة حفاة عراة والحبال في أعناقهم وبأيديهم مفاتيح البلدة والقلاع". وأضاف: سيكون هؤلاء الستّة تحت تصرّفي المطلق، وسأصدر عفواً عن الباقين".
عندما أبلغ اللورد والتر المحافظ دي فيان بقرار الملك، جمع الأخير الناس في سوق البلدة وأخبرهم بقرار الملك وبأنه يريد ردّا فورياً وواضحاً.
كان أغنى أعيان البلدة رجل يُدعى اوستاش دو سان بيير. وقد وقف وسط جموع الأهالي وقال: من المهمّ جدّا أن نضع حدّا لهذا البؤس. وإنّي أثق بأن الله سيمنّ علينا بفضله في النهاية. وإذا كان عليّ أن أموت لأنقذ بلدتي، فأرجو أن تعتبروني أوّل الرجال الستّة". ثمّ تقدّم خمسة رجال آخرين وأعلنوا استعدادهم للخروج معه والتضحية بأنفسهم.
رافق المحافظ وجميع أهل البلدة الأشخاص الستّة إلى البوابة الرئيسية. وأثناء المسيرة، كان المحافظ دي فيان يتوسّل إلى السير والتر موني طالبا منه أن لا يُنفّذ في الرجال حكم الإعدام. وأكّد له الأخير أنه سيعمل كلّ ما في وسعه لإنقاذ حياتهم.
وعندما مَثلوا أمام الملك، جثا الرجال على رُكبهم. ثم تكلّم كبيرهم سان بيير مخاطبا الملك بقوله: أيّها الملك الهمام! أمامك ستّة من مواطني كاليه. وقد جلبوا لك مفاتيح القلاع والبلدة. إننا نسلّم أنفسنا لك كي ننقذ بقيّة مواطنينا الذين عانوا الكثير من الشدّة والبؤس. ونحن نناشد فيك نبلك وكرمك ونلتمس منك أن تشفق علينا وتعفو عنّا".
لكن الملك كان يضمر في نفسه الكثير من الحقد والكراهية لأهالي كاليه بسبب الخسائر التي تكبّدها جيشه نتيجة مقاومتهم له. لذا أمر بأن تُقطع رؤوس الرجال الستّة دون إبطاء.
وعلى الرغم من نداءات الرحمة التي تقدّم بها رجال حاشيته، إلا أن الملك لم يُبدِ أيّ قدر من الشفقة وظلّ متمسّكا برأيه. غير أن الملكة فيليبا، التي كانت حاملا آنذاك، تقدّمت إلى زوجها وناشدته قائلة: سيّدي الملك! لقد عبرتُ البحر بالرغم من كلّ الأخطار كي أراكم وأكون إلى جوار جلالتكم. وإنني بكلّ تواضع اطلب منكم وباسم حبّكم لنا وتيمّناً بطفلنا القادم أن تكونوا رحماء بهؤلاء الرجال".
ورضخ الملك أخيرا لطلب زوجته. وقبل أن يعود الرجال إلى كاليه، أمرت الملكة بفكّ القيود عنهم وقدّمت لهم ملابس جديدة وأقامت لهم وليمة عشاء. ثم دفعت إليهم ببعض المال وأمرت الحرّاس بمرافقتهم إلى أن يغادروا المعسكر الانجليزي بسلام.
وفي عام 1885، أي بعد مرور أكثر من ستّة قرون على الحادثة، كلّف مجلس بلدية كاليه النحّات المشهور اوغست رُودان بصنع تمثال جماعي من البرونز يكرّم ذكرى أعيان كاليه ويخلّد بطولاتهم وتضحياتهم.
وقد استغرق العمل على هذا التمثال الضخم حوالي سبع سنوات. وهو يصوّر الرجّال الستّة لحظة خروجهم إلى مخيّم الملك بانتظار موتهم المفترض. ويظهر الرجال في التمثال بأقدام حافية وأسمال رثّة وأجساد هزيلة من أثر الجوع وهم يحملون مفاتيح المدينة بينما تلتفّ الحبال حول رقابهم.
ومن الملاحظ أن رُودان حرص على إبراز شخصيّة كلّ رجل على حدة. الرجل الملتحي وسط المجموعة يمثّل نقطة الارتكاز في العمل. حركات الأجساد والرؤوس والأيدي تشي بردّ فعل كلّ منهم على ما قد يحدث تالياً. لكنهم جميعا يبدون في حالة يأس وانكسار.
لاحظ كيف أن رُودان لم يُغفل حتى أدقّ التفاصيل في التمثال، من العضلات المتشنّجة إلى الأوردة النافرة وخصلات الشعر والحبال الملتفّة. والتمثال يُظهرهم في حالة كرب وإنكار. فقد كانوا جميعا يتوقّعون موتا وشيكا. ولم يدركوا أن القدر سيتدخّل في اللحظة الأخيرة لإنقاذ حياتهم.