:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، يونيو 26، 2011

مُستصغَر الشّرَر


ركوب القطار أو المترو في عاصمة غربية تجربة لا تخلو من بعض الطرافة والمفارقة. وقد حدث أن ركبت القطار والمترو عدّة مرّات، واكتشفت أن تلك التجربة توفّر فرصة نادرة للتأمّل في سلوكيات الناس وأحوالهم عندما يجمعهم مكان واحد.
وكما هو معروف فإن الناس يلجئون إلى المترو أو القطار للذهاب إلى مدارسهم وأعمالهم لأنهما أسرع من وسائل المواصلات الأخرى وأرخص.
وأكثر ما لفت انتباهي هو أن كلّ راكب منشغل بنفسه، فتجده إمّا يقرأ جريدة أو كتابا، أو يتحدّث إلى جاره الذي يعرفه بصوت هامس، أو يتكلّم في هاتفه المحمول، أو يتصفّح الانترنت من جهاز اللاب توب الذي يحمله، أو ببساطة يسلم نفسه للنوم.
الشاهد هنا هو أن كلّ إنسان مشغول بنفسه وكلّ شخص تزدحم رأسه بالأفكار والمشاريع والهموم، تماما مثل رواية أو مسرحية لكلّ شخصيّة فيها دور تلعبه.
أحيانا يكون الشخص الذي يجلس أمامك امرأة. هنا لا ينبغي عليك أن تندهش أو تتفاجأ إذا ما رأيتها تفتح حقيبتها فجأة لتضع شيئا من الماكياج أو الحمرة على وجهها أو فمها.
ومن قواعد الايتيكيت التي يجب مراعاتها في القطار أو المترو أو الحافلة أن يتجنّب الإنسان النظر مباشرة في وجه الشخص الذي يجلس أمامه. في التجربة الأولى لم استطع أن أتقيّد بهذه القاعدة الصارمة. وأقنعت نفسي أنني ما زلت أعاني من آثار الصدمة الحضارية. وبناءً عليه، ليس على المصدوم من حرج. صحيح أن لا احد كان ينظر إليّ تقريبا. لكنّي لم استطع، بحكم ما تعوّدت عليه في مجتمعنا، أن أمنع نفسي من استراق نظرات سريعة أو خاطفة إلى هذا الشخص أو ذاك.
وكنت أعلم أن كلّ من يضطرّ إلى الإخلال بهذا الايتيكيت ينبغي عليه أن يفعل ذلك بطريقة متلصّصة وحذرة جدّاً، خوفاً من أن يلاحظه الآخرون فيتحقّق فيه قول الشاعر: كلّ الحوادث مبدؤها من النظرِ ومعظم النار من مُستصغر الشررِ".
ومع التجربة، أدركت أن فكرة أن لا ينظر إليك أحد وأن لا تنظر أنت في وجه شخص آخر في الأماكن العامّة هي من المسلكيات الحضارية الرفيعة التي أتمنّى فعلا أن يتعلّمها الناس عندنا وأن يمارسوها في كافّة شئون حياتهم.
الفضول والتطفّل على الآخرين، ولو من خلال نظرة عابرة، هما من العادات الرذيلة والمستهجنة. لكنّها في المجتمعات المشرقية من الأمور العاديّة والمألوفة. ولو اقتصر الأمر على النظر، أو حتى التحديق، لما كانت هناك مشكلة. المشكلة هي أن التطفّل عندنا يتجاوز كلّ حدود المعقول ليشمل التدخّل السافر والممجوج في حياة الآخرين والتجسّس عليهم وإساءة الظنّ بهم، تارةً باسم الدين وتارةً تحت لافتة العادات والأعراف الاجتماعية.
في احد الأيّام سمعت حوارا بين شخصين. كان الأوّل يمتدح سلوك زميل أعرفه، فأثنى عليه وأفاض في ذكر محاسنه وأخلاقه. فما كان من الثاني إلا أن قال: قد يكون ما ذكرته صحيحا، مع أنني لم أره يصلّي يوماً في المسجد مع الجماعة. فقلت معلّقا: وما علاقة الصلاة بالموضوع؟ هذا أمر بينه وبين ربّه. يمكن أن يكون الإنسان محترما وعلى خلق حتى لو لم تره أنت أو غيرك يصلّي في المسجد. يجوز انه يصلّي بمفرده، وهذا لوحده يكفي. ولعلمك هناك أشخاص يشربون الخمر ويتهاونون أحيانا في أمور العبادات، لكنهم لا يظلمون الناس ولا يتحاملون عليهم أو يغتابونهم. بل إن من هذه الفئة أفرادا هم من أجوَد الناس وأنقاهم وأكثرهم إيثارا وبذلا. وهؤلاء عندي أكثر إنسانية وأكرم خلقا من كثير ممّن يرتدون مسوح التُقى لكنهم يحقدون على الناس ويؤذونهم وينهشون أعراضهم ويتدخّلون في أدقّ أشيائهم وخصوصيّاتهم".
الأمر الذي لا شكّ فيه هو أن بيننا وبين الغربيّين فجوة هائلة في كلّ شيء، سواءً على الصُعد المادّية أو على صعيد السلوكيات والقيم. ولا أعلم كم من الوقت يلزمنا حتى نبلغ مستوى قريباً من مستوى تمدّن مجتمعاتهم فنكفّ شرّنا عن الآخرين ونعيش ويعيش غيرنا في أمن وسلام.