:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، يناير 16، 2013

الطريق إلى كالفاري

الطريق إلى كالفاري لوحة بانورامية غير عاديّة، رسمها الفنّان الهولندي بيتر بريغل الأب على لوح من خشب السنديان، وصوّر فيها طبيعة واسعة يتحرّك فوقها أشخاص كثيرون ومشهد إثر مشهد. واللوحة نموذج لصور بريغل التي تمتلئ بأنماط شتّى من الشخصيات، وكلّ شخص له مهمّة يريد انجازها.
غير أن للوحة أهميّة دينية، إذ أنها تصوّر المسيح في رحلته الطويلة إلى موته النهائي الذي يقال انه حدث في مكان في فلسطين يقال له كالفاري أو جبل الجلجلة. المسيح يظهر في وسط اللوحة. لكن من الصعب تحديد مكانه أو تمييز شخصه من بين الأشخاص الآخرين. ومن الواضح أن الرسّام فعل ذلك عمداً.
في اللوحة نرى أيضا عددا من مشاهد الإعدام. وبريغل يُظهر لامبالاة الناس بخوف وتعاسة الأشخاص المحكوم عليهم. وهناك أيضا مشاهد لنشّالين ومحتالين يمارسون حيلهم ضمن طبيعة تكثر فيها المشانق التي ما تزال الجثث معلقة على بعضها بانتظار أن تأتي الغربان لتأكلها. وفي مقدّمة اللوحة إلى اليمين، تظهر العذراء بخمار ازرق ووجه شاحب وهي على وشك الانهيار، بينما يحيط بها بعض الأشخاص الذين يحاولون تهدئتها ومواساتها. المخرج البولندي ليك مايافسكي في فيلمه، غير العاديّ أيضا، بعنوان الطاحونة والصليب يحاول بعث الحياة في لوحة بريغل عن طريق استخدام مؤثّرات صوتيّة وبصريّة عالية المستوى.
وأنت تشاهد هذا الفيلم، ستلاحظ انه لا يتضمّن سوى القليل من الحوار، وليس هناك راوٍ يشرح ما يحدث ، لأن المخرج يريد من المتلقّي أن يخطو إلى داخل اللوحة ويُعمل أحاسيسه أكثر من عقله. لكن من حين لآخر، نسمع تعليقات مختصرة من الرسّام، وهو في الفيلم أب لستّة أطفال من زوجة تصغره كثيرا.
يتحدّث بريغل، مثلا، مع جامع لوحات يبدو غاضبا بسبب اضطهاد المواطنين الهولنديين على أيدي الغزاة الإسبان. ثمّ يلمّح الرسّام إلى احتجاجه على تلك الهمجية. ونرى المسيح وهو يُصلب مرّة أخرى مع وصول الإسبان وقتلهم كلّ من يرفض اتّباع التعاليم الأرثوذكسية والكاثوليكية. أحد المشاهد الشنيعة في بداية الفيلم يُظهر الإسبان وهم يربطون رجلا قرويّا إلى عجلة نُصبت على عمود بينما تتقاطر النسور لتنهش وجهه.
الأحداث تقع في العام 1564 عندما غزت إسبانيا الأراضي الهولندية وقتل جنودها الكثير من السكّان المحليين. ووسط كلّ تلك المشاهد المروّعة وُلدت فكرة اللوحة في ذهن بريغل. والفيلم يحاول النفاذ إلى داخل عقل الرسّام ليوصل فكرة عن خلفيّات رسمه للوحة.
في بداية الفيلم يظهر الممثّلون في طبيعة معتمة وهم يرتدون ملابس الشخصيّات الرئيسية في اللوحة. ثمّ نرى سلسلة من المشاهد والأحداث غير المترابطة التي تظهر بلا كلام. بريغل يأخذنا إلى داخل لوحته من خلال مجموعة من الأشخاص والأحداث التي تبدو العلاقة في ما بينها غامضة: طائر يسقط عن شجرة في غابة صامتة. مزارعان، رجل وامرأة، يصحوان في سريرهما ويقبّل كلّ منهما الآخر. وطحّان يدفع زوجته بقدمه محاولا إيقاظها من النوم.

الطاحونة التي يسكنها الرجل وزوجته ليست طاحونة عاديّة، فهي مقامة على قمّة جرف صخريّ شاهق، وهي المفتاح لفهم معنى اللوحة. وطبقاً لـ بريغل، فإن الطحّان يأخذ مكان الله الذي كان يُصوّر في لوحات سابقة وهو يفلق الغيم ويحملق بانشداه في الأحداث التي تجري تحته. لكن في غياب الربّ، فإن عجلة الطاحونة هي التي تطحن مصائر البشر. ويقال إن للطاحونة بُعدين: كونيّ وميثيّ. فهي مركز العالم، كما أنها وسيط بين السماء والأرض.
بريغل يعلّق بطريقة بليغة على احد مشاهد الإعدام بقوله: سواءً تعلّق الأمر بموت المخلّص أو سقوط ايكيروس ، فإن هذه الأحداث التي تغيّر العالم تحدث دون أن تلاحظها الحشود". فكرة بريغل التي تتكرّر دائما في لوحاته هي أن الأحداث الكبيرة التي غيّرت العالم مرّت دون أن يلاحظها الناس. وفي هذا عتاب للبشر وتذكير لهم بأن غاية الفنّ هي تنبيه البشر إلى أن ينظروا ويراقبوا وأن يستمدّوا ممّا يحدث الدروس والعِبَر.
الجنود الذين يلاحقون المسيح في لوحة بريغل ليسوا روماناً يضطهدون ملك اليهود، بل مرتزقة ذوو لِحى حمراء يعملون في خدمة فيليب الثاني ملك إسبانيا وحاكم هولندا. وبالتالي فإن اللوحة ليست عن صلب المسيح، بل هي احتجاج من الرساّم على اضطهاد الكاثوليك لبني جلدته من البروتستانت الهولنديين. ومايافسكي يتوقّع منك أن تعرف هذا وأنت تتجوّل، بلا دليل، داخل لوحة بريغل.
ويستحضر المخرج تفاصيل من اللوحة الثريّة عن حياة الناس العاديّين، فهم أشخاص طبيعيون يحبّون الحياة ويرقصون ويعزفون الآلات الموسيقية ويمارسون أنشطتهم اليومية المعتادة بين أسراب البطّ والإوزّ. ومن الواضح أن المخرج يستمتع بفنّ صناعة السينما مثلما كان بريغل يستمتع بالرسم.
المخرج استفاد كثيرا من الموارد التي وُضعت تحت تصرّفه والتي مكّنته من تصوير مشاهده الفخمة في عدد من المواقع الجميلة في بولندا والنمسا وجمهورية التشيك ونيوزيلندا. وأحد مظاهر قوّة الفيلم هو بعض صُوَره، سواءً الطبيعة الحالمة أو المؤثّرات الصوتية المبهرة أو التفاصيل الأخرى التي تعلق في الذاكرة بسهولة.
يقول بريغل في احد مشاهد الفيلم وهو يراقب عنكبوتا منشغلا بنسج بيته: ينبغي أن تكون اللوحة كبيرة بما يكفي لأن تتضمّن كلّ شيء". والفيلم بالتأكيد لا يتضمّن كلّ شيء، لكنّ فخامته البصرية تؤهّله لأن يُشاهَد مرارا. وهو لا يكتفي بمزج اللقطات الحيّة مع لوحة بريغل هذه، بل يتضمّن لقطات مبنيّة على بعض لوحات الرسّام الأخرى.
فيلم الطاحونة والصليب ينطوي على جمال لافت، ومشاهدته هي شكل من أشكال التأمّل. أحيانا يجمّد المخرج جزءا من اللوحة، بينما تتحرّك الأجزاء الأخرى وتعيش. وأحيانا يخطو الفيلم خارج فراغ السرد الضيّق ويقدّم لنا أشياء تحرّضنا على التفكير، مثل هذا السؤال: ما الذي يدفع الإنسان لأن يتصرّف بمثل هذا العنف والقسوة؟
في نهاية الفيلم نرى اللوحة تكشف عن بعض غموضها عندما يأخذنا المخرج إلى متحف فيينّا للفنون، حيث تظهر اللوحة الأصلية معلّقة إلى جوار لوحة بريغل الأخرى برج بابل ، في إشارة إلى أن الفنّ ما هو في النهاية سوى تجسيد لصيرورة واستمراريّة الحياة.