:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، يناير 25، 2018

باغانيني: لا كامبانيللا


ما أن تُذكر آلة الكمان حتى يأتي إلى الذهن اسم الايطاليّ نيكولو باغانيني (1782-1840) الذي يعتبره الكثيرون أشهر عازف كمان في تاريخ الموسيقى.
ترك باغانيني بصمته كأحد أعمدة موسيقى الكمان في العالم. لكن ما لا يعرفه الكثيرون أنه كان أيضا مؤلّفا موسيقيّا موهوبا وعازفا بارعا على آلة وترية أخرى هي الغيتار.
عندما زار باغانيني ألمانيا، كانت شهرته كمؤلّف موسيقيّ وعازف لامع على الكمان قد سبقته إلى هناك. وقد التقى في زيارته تلك شوبيرت، ثم عزف في منزل الشاعر والفيلسوف غوته في فيمار ببرلين. وامتدح الأخير عزفه على الكمان بقوله: لقد سمعت شيئا أشبه ما يكون بلمعان الشهب". كما التقى هناك فرانز ليست الذي وصفه "بالمعجزة".
ألّف باغانيني العديد من المقطوعات المعروفة. لكن أشهرها هو كونشيرتو الكمان رقم اثنين، وخاصّة الحركة الثالثة منه المسمّاة لا كامبانيللا والتي أصبحت عنصر إلهام للكثير من الموسيقيين حول العالم.
ولا كامبانيللا معناها بالايطالية "الجرس الصغير"، نسبةً إلى التأثيرات التي تشبه الجرس والتي تُسمع في أجزاء العزف المنفرد وفي الاوركسترا. وقد اقتبس المؤلّف هذه الموسيقى ذات النكهة الغجرية من أغنية شعبية ايطالية بنفس الاسم.
كتب باغانيني هذا الكونشيرتو عام 1826، وعزفه لأوّل مرّة في نفس ذلك العام في ميلانو وكان هو نفسه عازف الكمان.
لا كامبانيللا هي من نوع الروندو، وعزْفُها يعتمد على براعة العازف في استخدام أصابع يديه. كما أن الوقفات المتعدّدة في هذه الموسيقى كانت مثارا لاستمتاع وإعجاب الجمهور، لدرجة أن باغانيني كان غالبا يؤدّيها كقطعة منفردة ومنفصلة عن بقيّة الكونشيرتو.
الحرفية والمهارة اللتان أظهرهما باغانيني في أداء هذه القطعة أثارت إعجاب العديد من الموسيقيين مثل روسيني وشوبان وروبرت شومان وغيرهم.
كما كان ليست أيضا معجبا بها كثيرا، وهذا هو السبب في انه أعاد تكييفها مع تأثيراتها الجرسية كي يوظّفها في احد كونشيرتوهاته للبيانو.
في هذه الأيّام، أصبحت لا كامبانيللا قطعة مشهورة جدّا. وكثيرا ما تُعزف في حفلات الموسيقى الكلاسيكية، بل وأصبحت تُؤدَّى بآلات غير الكمان مثل الغيتار والساكسفون والفلوت وغيرها.
إن كانت هذه الموسيقى قد راقت لك، فالأرجح انك ستحبّ بعض مؤلّفات باغانيني الأخرى مثل هذه المقطوعة أوهذه أوهذه ..

الثلاثاء، يناير 23، 2018

بروست والرَّسم

تتألّف رواية "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست من سبعة مجلّدات وثلاثة آلاف صفحة. وطول الرواية هو احد الأسباب التي تجعل الكثيرين يتردّدون في قراءتها. لكنّ النقّاد يحتفون بها كثيرا لشغفها بكلّ شيء تقريبا، من المعمار والبصريات إلى الموسيقى الكلاسيكية والموضة والطبخ الفرنسيّ.
وهناك من يصف الرواية بأنها احد أكثر الأعمال البصرية ثراءً وعمقا في الأدب الغربيّ بسبب العدد الكبير من اللوحات الفنّية التي يتحدّث عنها المؤلّف في نسيج الرواية. وبروست نفسه قال ذات مرّة للناقد جان كوكتو: كتابي هو عبارة عن رسم".
كان بروست يحبّ الرسم الكلاسيكيّ والحديث، وكان منجذبا إلى الانطباعية والتكعيبية على وجه الخصوص. وقبل أن يكتب روايته، كان يحمل في رأسه متحفا كاملا من اللوحات. إذ كان قد رأى اللوفر كثيرا وقرأ العديد من كتب الفنّ. وقد استدعى هذه الأعمال الفنّية إلى عقله وقام بإعادة استنساخها كي يملأ بها الممرّات الطويلة والمتعرّجة لروايته.
وإذا كنت لم تقرأ بعد رواية بروست وتنوي قراءتها الآن، فإن كتاب ايريك كاربيلز بعنوان "الرسم في رواية بروست" يصلح لأن تتّخذه رفيقا لك أثناء القراءة. وفكرة الكتاب بسيطة، ومن المدهش أن أحدا لم يفكّر بها من قبل. فالمؤلّف يستعرض عشرات اللوحات التي أشار إليها بروست في روايته ويضمّن الكتاب نسخا فاخرة من كلّ لوحة ويورد إلى جوارها المقطع أو الفقرة التي ذكرها بروست فيها في سياق روايته.
كان بروست يتردّد على متاحف باريس باستمرار. وقد تشكّل إحساسه بالفنّ من خلال زياراته تلك، بالإضافة إلى رحلاته الأخرى، سواءً كانت حقيقية أو متخيّلة، إلى متاحف فلورنسا ولندن وفينيسيا.
وهو يشير إلى اللوحات في الرواية لأنه يحبّها، وقد وظّفها لتوضيح أوصافه ولاستثارة أنواع شتّى من الأمزجة والانفعالات في ذهن القارئ. ومن بين تلك اللوحات سلسلة سوسن الماء لمونيه، و الحرس الليليّ لرمبراندت، و صلاة نهاية اليوم لجان فرانسوا ميلليه، و مولد فينوس لبوتيتشيللي، و الربيع لنيكولا بوسان، و خلق الكواكب لميكيل انجيلو، و الفيلسوف المتأمّل لرمبراندت، و بورتريه شابّ مع كتاب لبرونزينو، وبورتريه امرأة لبيير أوغست كوت، وامرأة تمسك بميزان لفيرمير، بالإضافة إلى لوحات لويسلر وروبنز وشاردان وجيوتو وفان دايك وفاتو وغوستاف مورو وغيرهم.
وكلّ لوحة تفتح نافذة على خيال بروست، ولكنها أيضا تثري النصّ بعناصر بصرية وتوفّر للقارئ فضاءً للتأمّل الخاصّ. والإشارة إلى لوحة ما تُظهر الراوي وهو ينظر إلى الحياة من خلال عيون أشخاص آخرين فيدرك أن هناك عوالم خاصّة كثيرة داخل هذا العالم الذي نشترك فيه مع آخرين.
كاربيلز نفسه هو أيضا فنّان وصاحب نثر رائع. وأنت من خلال قراءة كتابه ستزور اللوفر وغيره من المتاحف عديدا من المرّات. وقد واتته فكرة الكتاب من رغبته في رؤية هذه اللوحات مجتمعةً في مكان واحد. لذا سترى اللوحات التي كان بروست يحبّها وستفهم لماذا كان شغوفا بها. كما أن الكتاب يساعدك على رؤية المشاهد التي يصفها وتلمُّس أهميّة الرسم في روايته.
وبروست يتحوّل من لوحة إلى أخرى بما يتناسب مع هذا السياق أو ذاك. هو مثلا يرى امرأة تقف أمام لوحة لرسّام عصر النهضة الايطاليّ جيوتو، ثم يقارنها بامرأة يعرفها. ثم يتحدّث عن لوحة فيرمير منظر لديلفت فيقارنها بحياته هو ويشبّهها بقصيدة تثير أحاسيس مركّبة، فيها انجذاب إلى العالم المحسوس وفي نفس الوقت رفض له. وفي مكان آخر يتحدّث عن سماوات باريس التي تذكّره بأجواء لوحات مونتينا وفيرونيزي.
يقول بروست إن ما يميّز الكتاب الجيّد هو المتعة التي نحصل عليها عندما نعيده إلى الرفّ والحكمة التي نكتسبها في اللحظة التي يغادرنا فيها المؤلّف.
وإذا لم تكن تحبّ الفنّ والرسم، فلن تحبّ بروست، لأن الفنّ في كلّ مكان في كتاباته. والطريقة التي يرى بها العالم الذي رسمه في كتابه توسّع المجال البصريّ للقارئ وتغذّي مخيّلته.
وإن كنت ممّن لهم شغف بالأدب وبتاريخ الفنّ، فإن كتاب كاربيلز يناسبك، وربّما تحتاج لأن تكون قد قرأت ولو صفحات من رواية بروست كي تقدّر هذا الكتاب الجميل.
أما إن كنت قد قرأت الرواية كاملة، فإن تقليب صفحات هذا الكتاب سيمتّعك وينعش حواسّك، لأنه يشبه مطالعة ألبوم صُوَر عن جمال منسيّ.

Credits
paintingsinproust.com