:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، ديسمبر 30، 2013

علاقة الأشكال الفنّية بالحواسّ

منذ القدم، كان يُنظر إلى حاسّة البصر على أنها النموذج في اكتساب المعرفة ومن ثمّ استيعابها من قبل العقل. أرسطو ركّز على هذا وقارن عملية التذكّر بالنظر إلى لوحة مرارا. وسان اوغستين قال إنه لا غنى عن البصر في التأمّل الروحي والفكري.
ومع ذلك فالأساطير القديمة حافلة بأمثلة وصور عن القلق المتولّد من حاسّة البصر، مثل قصص نرسيس وميدوسا وأورفيوس. وفي أساطير أخرى، ترتبط حاسّة اللمس غالبا بالقوى الايجابية والواهبة للحياة، كما في أسطورة بيغماليون وبروميثيوس.
أما أرسطو فقد حذّر من القوى الخطيرة المرتبطة بالوهم عند استخدام البصر. بينما أثنى، هو وتوما الاكويني، كثيرا على اللمس وقالا إن هذه الحاسّة هي أساس المعرفة التي يحصل عليها الإنسان من جميع الحواسّ.
وهناك اليوم دراسات عديدة عن دور ووظيفة اللمس في أعمال فنّانين مثل سيزان وكاندنسكي والسورياليين.
علماء الانثروبولوجيا وعلم النفس السلوكي والبيولوجيا بدءوا في تثمين حواسّ غير البصر في دراساتهم وتجاربهم. وبعض هؤلاء اقترحوا حاسّة الشمّ كبديل ممكن لما يرون انه مضامين أبوية لظاهرة التركيز على البصر في الثقافة المعاصرة.
فولتير وديدرو ولوك قالوا إن اللمس حاسّة أساسية في اكتساب المعرفة التجريبية عن العالم وأن البصر ما هو إلا وسيلة ثانوية في تأكيد تلك المعرفة.
في القرنين السادس عشر والسابع عشر ظهرت لوحات تصوّر انهماك أشخاص في لمس منحوتات، كما في لوحة الرسّام الاسباني جوسيبي دي ريبيرا (1591-1652) بعنوان "حاسّة اللمس" التي تصوّر رجلا أعمى يتفحّص بيديه تمثالا نصفيا بينما تستقرّ لوحة زيتية صغيرة بإهمال على طاولة بجانبه.
وهناك لوحة أخرى لنفس هذا الرسّام بعنوان "النحّات الأعمى" تحمل نفس الفكرة، ويظهر فيها رجل أعمى وهو يتحسّس بيديه تمثالا نصفيّا.
فكرة اللقاء بين رجل أعمى وعمل نحتي ظهرت أيضا في بعض الكتابات. في بداية القرن السابع عشر، مثلا، زعم كاتب ايطاليّ أن ميكيل انجيلو بعد أن تقدّمت به السنّ وضعف بصره كان يعتمد على اللمس وحده في الحكم على مزايا الأعمال النحتية القديمة أو المعاصرة. كما يقال أن الرسّام الفرنسي إدغار ديغا لجأ إلى النمذجة النحتية وأصبح يهتمّ بها أكثر من الرسم عندما بدأ بصره يضعف.
لوحتا دي ريبيرا المشار إليهما آنفا كانتا ضمن سلسلة من اللوحات المشهورة التي خصّصها الفنّان لتناول الحواسّ الخمس. السلسلة تدفع المتلقّي للتفكير في دور الحواسّ وتأثيرها على الأفراد. وقد رسم اللوحات عندما كان يعيش في روما في وقت ما من القرن السابع عشر.
في لوحة "حاسّة اللمس"، استدعى الرسّام مقارنة بين الصفات الوصفية واللمسية للرسم والنحت، أي بين الفرشاة والإزميل. وهو يبرهن على أنه من خلال حاسّة اللمس يمكن للرجل الأعمى أن يتعرّف على الأعمال النحتية.
هذه اللوحة، من بين جميع لوحات السلسلة، مشهورة بشكل خاص بسبب سخريتها المزعجة. فالرجل الكفيف يقف وجها لوجه مع تمثال نصفي. وهو يريد أن يحسّ بالتمثال الرخامي ذي الأبعاد الثلاثة على الرغم من قربه منه، في حين أن اللوحة ذات السطح المستوي والموضوعة خلفه على الطاولة تذكّر الناظر أن هناك بعض المعلومات التي لا يمكن إيصالها حتى عن طريق اللمس.
تذكّرنا هذه اللوحة مرّة أخرى بمحدودية الاتصال البشري وبالفجوة بين العالم الحقيقي وعالم الصور. الرأس المنحوتة قد تكون رأس ابوللو. أما الشخص الذي يتفحّصها فربّما يكون النحّات الايطالي الأعمى جيوفاني غونيللي، وقد يكون الفيلسوف الإغريقي كارنيديس الذي قيل انه كان يتعرّف على التماثيل النصفية من خلال تحسّسها ولمسها بيده وذلك بعد أن فقد حاسّة البصر. وقد كان من عادة الفنّانين آنذاك أن يربطوا صور الفلاسفة القدماء باستعارات عن الحوّاس.
ترى هل أراد الرسّام أن يقول إن الإنسان الكفيف يمكن أن يتعرّف على النحت، بينما لا يمكن أن يتعرّف على الرسم سوى الإنسان المبصر؟ في ذلك الوقت كان يثور نقاش حول المنافسة بين الأشكال الفنّية من معمار ورسم ونحت وأدب وموسيقى. وبالتالي يبدو أن دي ريبيرا أراد من خلال اللوحة التأكيد على تفوّق الرسم على النحت.
كان هذا الفنّان يرفض الرمز والاستعارة في أعماله ويتعامل مع ما يراه ويلمسه بنفسه. ويبدو أنه لم يخترع من مخيّلته أشخاصا يمثّلون كلّ حاسّة، بل فضّل أن يختارهم من الشارع ورسمهم من واقع الحياة.

الفيلسوف الألماني يوهان هيردر (1744-1803) تحدّث مرّة عن فضائل النحت وخلع عليه هالة من الرومانسية عندما ميّز ما بين الرؤية واللمس. وقد روى هيردر عدّة قصص عن أشخاص مكفوفين ليبرهن على أننا نرى العمل النحتيّ كسطح ثلاثيّ الأبعاد لأننا كبرنا ونحن نستخدم حاسّتي اللمس والبصر في وقت واحد ومتزامن. ويضيف انه لولا حاسّة اللمس لكانت حاسّة البصر مجرّد حقل من الألوان والأشكال.
وهو يرى بأن جوهر النحت شكل جميل ووجود فعليّ وحقيقة ملموسة. وعندما نفهم النحت على انه رؤية فقط، فإن هذا يُُعدّ تدنيسا للنحت واستهانة خطيرة بإمكانياته.
وعلاوة على ذلك، دعا هيردر إلى الفصل ما بين الرسم والموسيقى، في ما بدا وكأنه اعتراض على أعمال فنّانين مثل كاندينسكي وموندريان اللذين قدّما لوحات "موسيقية"، وعلى أعمال بعض الملحّنين الرومانسيين الذين سعوا لرسم صور من خلال موسيقاهم.
وهيردر يميّز ما بين الرسم والنحت. انه يربط الرسم بالرؤية وبعالم الأحلام، بينما يدّعي أن النحت هو مصدر الحقيقة. طبعا هو يقصد النحت الكلاسيكي الذي كان يعرفه في عصره. وبالتالي قد يتساءل المرء عمّا يمكن أن يقوله هيردر لو انه عاش إلى اليوم ورأى النحت التكعيبي الذي ابتعد كثيرا عن التمثيل الدقيق للأشكال في لحظة واحدة وأصبح ينظر إلى الأشياء ذات الحقائق المتعدّدة والمتحرّكة عبر الزمن، وكيف سيتعامل مع التقليلية مثلا ومع غيرها من الظواهر التي تؤكّد استحالة التنبّؤ باتجاهات ونزعات الفنّ.
المعروف أن الرسّام جوسيبي دي ريبيرا كان تلميذا وتابعا لكارافاجيو. وقد قضى معظم حياته في روما وفي نابولي التي كانت في ذلك الوقت أعظم مدن ايطاليا ومركزا مهمّا للفنّ. وكان زملاؤه من الرسّامين الايطاليين يلقّبونه بالاسبانيّ الصغير.
كانت مملكة نابولي وقتها جزءا من الإمبراطورية الإسبانية. وكانت تُحكم من قبل سلسلة من نوّاب الملك الإسباني. أصول دي ريبيرا الاسبانية أعطته الحقّ بأن يصبح مرتبطا بالطبقة الاسبانية الحاكمة في المدينة وبمجتمع التجّار الهولنديين فيها.
كان الفنّان يرسم مثل معاصره وأستاذه كارافاجيو، وتحوّل بعيدا عن التقاليد والنماذج العتيقة والموضوعات المستوحاة من المثل الكلاسيكية العليا. ورسم بدلا من ذلك الحياة البشرية كما تبدو فعلا. وهي في كثير من الأحيان قبيحة وبشعة. وقد صوّر الفنّان كلّ هذا بواقعية كانت تصدم الجمهور وتروق له في الوقت نفسه.
صور دي ريبيرا المروّعة عن التعذيب والمعاناة التي كانت تمارَس في زمانه كانت تحيّر الجمهور والنقّاد معا. وهو كان موهوبا في إظهار الرؤوس والوجوه والأيدي بطريقة اللمس. بنية الجلد والعظام في رسوماته واقعية بحيث أن العديد من مشاهده يمكن أن تؤذي مشاعر الأفراد ذوي الحساسية الشديدة.
ومن الواضح أن دي ريبيرا لم يكن يقصد الإساءة لأحد. ولكن الوحشية لم تكن تصدّه عن تصوير مظاهرها وهو دائما ما كان يتبع مصادر إلهامه. وكان الجمهور قد أصبح معتادا على تصوير حزن الإنسان وبؤسه بتلك الطريقة.
ولـ دي ريبيرا صورة أخرى مشهورة اسمها الشحّاذ العجوز الأعمى يظهر فيها رجل أعمى مسنّ مع مرشده الشابّ. وهذه اللوحة لها علاقة بفكرة التشرّد التي كانت رائجة في الأدب الإسباني آنذاك. لكن الرسّام أراد منها أساسا أن تكون موعظة عن الخيرية المسيحية.
وقد استلهم موضوع اللوحة من رواية بعنوان حياة لازاريللو دي تورميس نُشرت لأوّل مرّة عام 1554 من قبل كاتب مجهول. بطلا الرواية هما رجل أعمى متسوّل وقاسي الطبع وصبيّ مراوغ يضطرّ باستمرار لأن يخدع سيّده كي يحصل على حصّة أكبر من الطعام والصدقات.
وعلى الرغم من أن دي ريبيرا لم يعد أبدا إلى إسبانيا، إلا أن العديد من لوحاته أعيدت إلى هناك من قبل أعضاء الطبقة الحاكمة الإسبانية وعن طريق بعض التجّار. ويمكن رؤية تأثيره في فيلاسكيز وموريللو، بل وفي معظم الرسّامين الإسبان الآخرين من تلك الفترة.
بعد وفاته، دخلت أعمال دي ريبيرا حيّز التجاهل والنسيان، ربّما بسبب سمعته التي كان يخالطها عنف وقسوة. فقد رسم أهوال الواقع ومظاهر توحّش البشر وأظهر انه يقدّر الحقيقة أكثر من المثالية.
لكن بدأت إعادة تأهيل اسمه وفنّه من خلال معرضين أقيما لأعماله في لندن عام 1982 وفي نيويورك عام 1992. ومنذ ذلك الحين اكتسبت لوحاته المزيد من اهتمام النقّاد والدارسين.

Credits
archive.org
artble.com

الخميس، ديسمبر 26، 2013

أغنية البلبل

أنطوني دي ميللو كاهن هنديّ ولد في بومباي عام 1931 وتوفّي في نيويورك عام 1987. درس دي ميللو الفلسفة وعلم النفس واللاهوت. وضمّن أفكاره وتجاربه في العديد من الكتب التي تُرجمت إلى لغات كثيرة.
من أشهر هذه الكتب كتابه "أغنية البلبل" الذي يحتوي على مجموعة من الحكم البليغة والقصص الموحية جمعها من ثقافات متعدّدة ومختلفة. وهو يترك لكلّ قصّة الفرصة لكي تكشف عن عمقها ومعناها الداخلي الذي يذهب بالقارئ إلى ما هو أبعد وأكبر من الكلمات.
في بداية الكتاب، يحدّد المؤلّف الجمهور الذي يستهدفه بالكتاب فيقول: كتبت هذا الكتاب للناس من شتّى الأديان والمذاهب. ومع ذلك لا أستطيع إخفاء الحقيقة عن قرّائي وهي أنني كاهن كاثوليكي. وقد تجوّلت بحرّية في التقاليد الصوفية غير المسيحية وحتى تلك التي لا علاقة لها بالأديان وتأثّرت بها بعمق".
ومن خلال كتاباته، يصحّ اعتبار دي ميللو مزيجا من المعلّم الروحاني وعالم النفس، كما أن في شخصيّته شيئا من الفيلسوف الذي يتمتّع ببصيرة نافذة تتأمّل سلوكيات البشر ودوافعهم.
السطور التالية عبارة عن فقرات مختارة من الكتاب.

  • قال المعلّم لأحد أتباعه: أنت تلميذ، فقط لأن عينيك مغمضتان. وفي اليوم الذي تفتحهما سترى أن لا شيء يمكنك تعلّمه منّي أو من أيّ شخص آخر. وظيفة المعلّم هي أن يجعلك ترى أن وجود معلّم غير مجدي".

  • قال قائد قوّات الاحتلال لعمدة القرية الجبلية: نحن نعرف أنكم تخبّئون خائنا. وما لم تسلّموه لنا فإننا سننتقم من أهل قريتك بكلّ وسيلة".
    كانت القرية بالفعل تخفي رجلا كان في واقع الحال شخصا بريئا. ولكن ماذا بوسع العمدة أن يفعل غير أن يضمن سلامة القرية التي هي الآن في خطر؟
    ودارت مناقشات في مجلس القرية استمرّت أيّاما لكنها لم تؤدّ إلى أيّة نتيجة. لذا اخذ العمدة المسألة إلى كاهن القرية. قضى الاثنان، الكاهن والعمدة، ليلة كاملة للبحث في الكتاب المقدّس عن حلّ للمسألة. وأخيرا وجدا نصّا يقول: من الأفضل أن يموت إنسان واحد كي تُنقذ الأمة".
    وبناءً عليه سلّم العمدة الرجل الهارب إلى جنود الاحتلال. وبعد ليلتين سُمع صدى صرخاته يتردّد في طرقات القرية بينما كان يتعرّض للتعذيب إلى أن مات.
    بعد ذلك بعشرين عاما، جاء نبيّ إلى تلك القرية، وذهب مباشرة إلى العمدة وقال له: كيف يمكن أن تكون قد فعلت هذا؟ ذلك الرجل أرسله الله لكي يكون مخلّصا لهذا البلد وقد سلّمته وعرّضته للتعذيب والقتل".
    فردّ العمدة: ولكن أين اخطأت؟ لقد نظرت أنا والكاهن إلى الكتاب المقدّس وفعلت ما أمر به. قال النبيّ: وهذا هو الخطأ الذي ارتكبتماه. لقد نظرتما في الكتاب وكان ينبغي أن تنظرا في عيني الرجل.

  • الألم ليس بالشيء الايجابي ولا السلبي. انه جزء من الحياة. والحياة عبارة عن نموّ. وأيّ نموّ لا بدّ وأن يكون الألم جزءا من مكوّناته.

  • عثر رجل على بيضة نسر ووضعها في عشّ الدجاج الملحق بفناء بيته. وبعد أيّام فقست البيضة وخرج منها نسر صغير عاش وترعرع مع الكتاكيت.
    وطوال حياته، كان النسر يفعل ما تفعله الكتاكيت ظنّا منه انه دجاجة. كان مثلا يحفر الأرض بحثا عن الديدان والحشرات ويزقزق كالدجاج ويفرد جناحيه ويطير بضعة أقدام في الهواء.
    ومرّت السنوات وكبر النسر في السنّ. وذات يوم رأى طائرا رائعا فوقه في السماء الصافية. كان الطائر يتأرجح في جلال ورشاقة بين تيّارات الرياح القويّة بجناحيه الذهبيين القويين.
    نظر النسر العجوز إلى فوق في رهبة وقال: من ذلك الطائر الذي يحلّق في السماء؟ فردّ جاره الديك: هذا هو النسر ملك الطيور.
    فقال النسر: ذاك مكانه السماء ونحن مكاننا الأرض. إننا دجاج.
    لذا عاش النسر ومات وهو دجاجة لأن ذلك هو ما كان يعتقده طوال حياته.

  • بعد أن عاد الراهب من الصحراء سأله الناس: أخبرنا ماذا يشبه الله"؟
    ولكن كيف يمكن أن يقول لهم ما أدركه بقلبه؟ هل يمكن وصف الله في كلمات؟!
    وأخيرا أعطاهم وصفة غير دقيقة وغير كافية على أمل أن تغري البعض منهم بأن يجرّبوا بأنفسهم. أمسَكوا الوصفة وجعلوا منها نصّا مقدّسا. ثم فرضوها على الآخرين كعقيدة مقدّسة. وذهبوا بعيدا لنشرها في أقاصي الأرض. بل إن بعضهم ضحّى من اجلها بحياته.
    شعر الناسك بالحزن. فكّر انه ربّما كان من الأفضل لو أنه لم يقل لهم شيئا.

  • جاء الناسك لتحويل سكّان المدينة وهدايتهم للإيمان. في البداية كان الناس يستمعون إلى خُطبه باهتمام. ولكن شيئا فشيئا اخذ الملل يتسرّب إلى نفوسهم حتى لم يعد احد منهم يأتي للاستماع إلى كلامه. ومع ذلك استمرّ الرجل يلقي مواعظه بلا جمهور.
    وذات يوم جاء إليه احد الأشخاص وسأله: لماذا تستمرّ في الوعظ مع أن أحدا لا يستمع إلى كلامك؟ فقال النبيّ: في البداية كنت آمل أن أغيّر هؤلاء الناس. وإذا كنت ما أزال مستمرّا في الصراخ إلى اليوم فلكي أمنعهم من تغييري".

  • قال متصوّف عربي: إن فعل الإثم ليس بمثل ضرر الرغبة والتفكير في فعله. وهناك فرق بين أن ينغمس الجسد في متعة للحظة، وبين أن يلوكها ويمضغها العقل والقلب إلى ما لا نهاية.

  • لسنوات كنت إنسانا عصبيّا وقلقا ومكتئبا وأنانيّا. وكان الجميع يحثّونني على أن أتغيّر. كنت مستاءً منهم ومتّفقا معهم بنفس الوقت. كنت أريد أن أتغيّر. ولكنّني لم استطع بالرغم من محاولاتي الكثيرة.
    وما آلمني أكثر هو أن اقرب صديق لي كان أيضا مثل الآخرين يحثّني على أن أتغيّر. لذا شعرت بالعجز وبأنّني محاصَر.
    وفي احد الأيّام قال لي ذلك الصديق: لا تتغيّر. أنا أحبّك كما أنت".
    كانت تلك الكلمات كالموسيقى لأذني. "لا تتغيّر. أنا أحبّك كما أنت".
    أحسست بالارتياح، وبأنني ما زلت على قيد الحياة.
    و فجأة، تغيّرت!
    الآن اعرف أنه ما كان يمكنني أن أتغيّر حقّا لولا أنني وجدت شخصا يحبّني كما أنا، سواءً تغيّرت أم لا.
    هل هكذا تحبّني يا الله؟!

  • كان كاهن القرية يتعرّض لإزعاج الأطفال وهو في صلاته. ولكي يتخلّص منهم ويصرفهم بعيدا قال لهم: أسرعوا بالذهاب إلى النهر، وسترون هناك وحشا ينفث النار من فمه.
    لم يمض طويل وقت حتى كانت القرية بأكملها قد سمعت عن ظهور الوحش وأسرعت إلى النهر لمعاينته.
    ثم لم يلبث الكاهن نفسه أن انضمّ إلى الحشد. وبينما كان يلهث وهو في طريقه إلى النهر قال لنفسه: صحيح أنني اخترعت القصّة. ولكن ما يدريني أنها غير صحيحة؟!
    "أفضل طريقة للإيمان بآلهة خلقناها هي أن نقنع الآخرين بوجودها".

  • الدعاء يمكن أن يكون خطرا في بعض الأحيان. يروي سعدي الشيرازي هذه القصّة المعبّرة. يقول: كان لي صديق، وكان سعيدا بأن زوجته أصبحت حاملا. كان يتوق لأن يولد له طفل ذكر. وقد اخذ على نفسه وعدا بأن ينذر لله نذرا إن هو استجاب لدعائه ورزقه بصبيّ ذكر.
    وقد أنجبت زوجته صبيّا. وفرح صديقي وأقام في منزله حفلا دعا إليه جميع أهالي القرية.
    بعد سنوات عديدة، وفي طريق عودتي من مكّة، مررت بقرية صديقي وقيل لي انه في السجن. سألت: لماذا، ما الذي حدث له؟ فقالوا: لقد قُبض على ابنه وهو في حالة سكر، وقد قتل رجلا ثم هرب. لذلك قُبض على أبيه وأودع السجن.
    "أن نواظب على طلب أن يستجيب الله لما نريد شيء جدير بالثناء. ولكنه أيضا أمر محفوف بالمخاطر أحيانا".

  • حذّر الله قوما من زلزال يبتلع مياه الأرض. وأبلغهم بأن المياه الجديدة التي ستأتي عقب الزلزال ستصيب كلّ من يشرب منها بالجنون.
    وكان هناك نبيّ هو فقط من اخذ تحذير الرب على محمل الجدّ. وقد ادّخر النبيّ بعض الماء في كهفه الجبليّ بما يكفيه حتى موته.
    وكان لا بدّ أن يأتي الزلزال، فاختفت المياه وجرت في الينابيع والبحيرات والأنهار مياه جديدة. وبعد بضعة أشهر نزل النبيّ من الجبل قاصدا السهول. كان كلّ شخص في القرية قد أصبح مجنونا. وقاموا بالهجوم عليه لأنهم اعتقدوا انه مجنون.
    لذا عاد النبيّ إلى كهفه الجبليّ وكان سعيدا بالماء الذي سبق وأن ادّخره. لكنه لم يستطع تحمّل الشعور بالوحدة، لذا نزل إلى السهول مرّة أخرى. غير انه ووجه بالرفض ثانية من الناس لأنه لم يكن يشبههم.
    ثم استسلم النبيّ في النهاية، وألقى بالماء الذي كان قد احتفظ به بعيدا وشرب الماء الجديد مع الناس وأصبح مثلهم مجنونا.
    "الطريق إلى الحقيقة ضيّق. وأنت تمشي فيه لوحدك".

  • كان واعظ القرية مشغولا في منزل أحد الأهالي يجيب على أسئلة الجدّة على فنجان من القهوة.
    سألت السيّدة العجوز الواعظ: لماذا يرسل لنا الربّ الأوبئة بين الحين والآخر؟
    قال الواعظ: حسنا، أحيانا يصبح الناس أشرارا جدّا، ما يحتّم إزالتهم. ولهذا يسمح الرب الطيّب بأن تأتي الأوبئة.
    وهنا تعترض الجدّة على كلامه قائلة: ولكن لماذا يجب أن يموت أناس طيّبون كثيرون مع الأشرار؟
    فيردّ الواعظ: الطيّبون يُستدعَون كشهود. والربّ يريد أن يمنح كلّ إنسان محاكمة عادلة.
    "لا يوجد سؤال لا يمكن للمؤمن المتحمّس أن يجد له جوابا".

  • كان التلاميذ مثقلين بالكثير من الأسئلة عن الله. قال المعلّم: الله غير معروف، مجهول. وكلّ تصريح عنه، وكلّ إجابة على سؤال من أسئلتكم هي تشويه للحقيقة.
    واحتار التلاميذ من كلام المعلّم وقالوا: إذن لماذا تتحدّث عنه دائما؟
    ردّ المعلم: ولماذا يغنّي الطائر؟ انه يغنّي، لا لكي يقول كلاما، وإنما لأن عنده أغنية. كلمات المعلّم يجب أن تُسمع كما يستمع المرء إلى الرياح في الأشجار وإلى صوت النهر وإلى أغنية البلبل.

  • الأربعاء، ديسمبر 18، 2013

    عصر الكمان

    طوال المائة عام الماضية، ظلّت مدرسة عازفي الكمان الروس تفرض سيطرتها على عالم الموسيقى. لكن منذ أوائل تسعينات القرن الماضي، ومع ظهور المزيد من عازفي الكمان الموهوبين والناضجين، تمّت تنحية الروس وإزاحتهم عن العرش. ومن يومها استولى عازفو الكمان الألمان من أمثال آنا زوفي موتار وفرانك بيتر زيمرمان وكريستيان تيتزلوف على عباءة الريادة واستمرّوا يحكمون مملكة الكمان في العالم طيلة ربع القرن الأخير.
    مكسيم فينغيروف ، وهو عازف كمان روسيّ والمنافس الحقيقيّ الوحيد لكلّ من موتار وزيمرمان وتيتزلوف، لم يعد أبدا للعزف بتفرّغ تامّ منذ سبعة أعوام عندما صرّح بأنه يعاني من الإرهاق نتيجة إصابة لحقت به وأصبحت تهدّد حياته المهنية. (شاهد هنا عزف فينغيروف الاعجازي للحركة الثانية من كونشيرتو الكمان الرابع لموزارت).
    موتار وزيمرمان وتيتزلوف هم جميعا عازفو كمان متمرّسون. والثلاثة بلا استثناء من بين أكثر الموسيقيين مكَنة وموهبة في هذا العصر. وهم على درجة من الإتقان والبراعة التي يفتقر إليها معظم عازفي الكمان الأحياء الآخرين.
    تيتزلوف قد يكون الأكثر ثقافة من بين هؤلاء الثلاثة سواءً بالمعنى الجيّد أو الرديء. فهو عازف صارم جدّا ويحسب الأمور بعناية ولا شيء ممّا يفعله غير مقصود أو غير مخطّط له إلى أقصى درجة. ونادرا ما تعتريه نوبات إلهام مثل تلك التي كثيرا ما تميّز أداء زميليه موتار وزيمرمان.
    وعندما يكون أداؤه دون المستوى، فإنه غالبا ما يُتّهم بالافتقار إلى العفوية والعاطفة. وفي السنوات القليلة الماضية، كانت هناك العديد من التحفّظات والانتقادات التي وُجّهت له بسبب طريقته في عزف بعض مقطوعات بيتهوفن. (تابع تيتزلوف هنا وهو يعزف إحدى مقطوعات يوهان برامز).
    وبالنسبة لعازف كمان ذي شهرة عالمية، فإن تيتزلوف يفتقر أيضا للصوت الفريد. فصوته "أو على الأصح صوت كمانه" ينقصه اللون والثراء. وهو أمر يعزوه البعض إلى استخدامه نوعا من الكمان الحديث الذي يكلّف ثلاثين ألف دولار أمريكي فقط.
    وتيتزلوف بالمناسبة هو عازف الكمان الوحيد على مستوى العالم الذي يعزف أمام الجمهور اليوم دون أن يستخدم آلة كمان مصنوعة في القرن السابع عشر أو الثامن عشر على يد صنّاع الكمان المشهورين في ذلك الوقت. وهو يدّعي أن الآلات الموسيقية التاريخية "أو القديمة" تؤدّي إلى نتائج عكسية عند استخدامها في الحفلات الموسيقية المعاصرة.
    الجدير بالذكر أن معظم عازفي الكمان الكبار اليوم يستخدمون آلات تعود إلى العصر الذهبيّ لصناعة آلات الكمان، خصوصا تلك التي من صنع الايطالي انطونيو ستراديفاري (1644 - 1737). ويُعتقد أن ستراديفاري صنع أثناء حياته أكثر من ألف آلة كمان بقي منها حتى اليوم أكثر من ستمائة يعود أقدمها إلى العام 1664م. وقد بيع منذ سنوات في مزاد بلندن كمان من صنع ستراديفاري بمبلغ 16 مليون دولار أمريكي، وهو أعلى سعر بيعت به آلة موسيقية إلى اليوم.
    قبل أسابيع، أقيم في إحدى صالات الموسيقى الفخمة حفل موسيقيّ دُعي له كريستيان تيتزلوف ليعزف بعض ألحان شوبيرت. وكان يرافقه على البيانو العازف الألماني لارس فوغت.
    أداء تيتزلوف كان مذهلا. وكانت تلك ليلة من الليالي النادرة التي كان فيها تركيز الفنّان تامّا ومطلقا. وقد عزف تيتزلوف ثلاث سوناتات للكمان والبيانو: سوناتا موزارت الأخيرة للكمان رقم 32، وسوناتا بارتوك للكمان رقم 1، وسوناتا بيتهوفن للكمان رقم 7.
    وفي كلّ واحدة من هذه المقطوعات كان تيتزلوف محلّقا في سماوات الإبداع. كما عزف خمسة مقتطفات من مؤلّفات الموسيقيّ الهنغاريّ جورج كورتاغ للكمان المنفرد.
    كان عزف تيتزلوف لبارتوك استثنائيّا. وهذا لم يكن مفاجئا، لأنه كان وما يزال أرقى من يعزف لبارتوك من عازفي الكمان منذ أن كان في أوائل العشرينات من عمره. ومن الواضح انه يفهم جيّدا زوايا الكتابة عند بارتوك ويفهم كذلك وحشيّته وغنائيّته.
    غير أن موزارت كان مفاجأة ذلك المساء. وقد جرت العادة أن لا ينظر الناس إلى تيتزلوف كعازف نموذجيّ لأعمال موزارت. فموتار وجوليا فيشر هما اللتان تتسيّدان حاليّا قائمة أفضل عازفي موزارت. لكن عزف تيتزلوف في تلك الليلة كان مقنعا جدّا. موزارت تيتزلوف كان تجريديّا، تماما مثل توماس بيتشام وهو يعزف لأماديوس.
    هذا في ما يتعلق بالكمان. لكن ماذا عن حال البيانو اليوم؟ هل هناك الآن عازفو بيانو يستحقّون أن يُستمع إليهم؟ عازف البيانو الأمريكي من أصل كرواتي ستيفن كوفاتشيفيتش أصبح الآن متقاعدا وتفرّغ للتدريس. ومثله التشيكي ايفان مورافيتش . والعازف الايطالي موريزيو بولليني لم يعد يعمل كما في السابق. أما البولندي كريستيان زيمرمان فقد أصبح عزفه غريبا. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن الأرجنتينية مارتا ارغيريش وعن الأمريكي موراي بيرهيا الذي أضاع اتجاهه في الفترة الأخيرة.
    الواقع أننا لا نعيش الآن في عصر البيانو. وليس هناك في الساحة اليوم من يمكن الاعتماد عليهم للحفاظ على الشعلة متّقدة، اللهم إلا استثنينا الروسيين يفغيني كيسين ودانييل تريفونوف . (إستمع إلى تريفونوف هنا وهو يعزف كونشيرتو البيانو رقم 23 لموزارت، أو إلى كيسين وهو يعزف مقطوعة "ليبيستروم" أو حلم الحبّ لفرانز ليست على هذا الرابط). "مترجم بتصرّف".

    موضوع ذو صلة: مائدة، كرسي، طبق فاكهة وآلة كمَان

    الأربعاء، ديسمبر 11، 2013

    إيشر والفنّ الإسلامي

    رغم أن الكثيرين منّا لا يتذكّرون أو لم يسمعوا أصلا من قبل باسم إيشر، إلا أننا على الأرجح سبق وأن رأينا بعضا من رسوماته المشهورة على مستوى العالم مثل يدان ترسمان وعين ويد مع مجال عاكس وبيت السلالم وغيرها.
    كان إيشر شخصية فريدة ومتميّزة. وقد استحقّ التقدير لمقدرته الفائقة على تطبيق مواهبه الرياضية وتوظيفها في الإبداع الفنّي. وهو معروف على وجه الخصوص بهياكله المستحيلة مثل الصعود والنزول وبأشكاله المتحوّلة مثل التحوّل 1 و 2 و3. ويمكن للمرء أن يرى أعماله اليوم على الملصقات وأغلفة الكتب وورق الحيطان وفي العديد من المواقع على شبكة الإنترنت.
    ولد موريتس كورنيليس إيشر في ليوفاردن بهولندا التي درس فيها المرحلتين الابتدائية والثانوية. مهاراته في الرسم والرسوم البيانية يمكن أن تُعزى إلى أيّام الدراسة، وعلى وجه الخصوص لتأثير أستاذه فان دير هاغن عليه.
    في البداية حاول إيشر أن يرضي طموح والده بأن يصبح مهندسا معماريّا. وفي كلّية الهندسة المعمارية في هارلم درس فنّ الغرافيك والفنون الزخرفية، حيث طوّر مهاراته على يد معلّمه الآخر جيسيرون دي ميسكيتا.
    وعلى مرّ السنين، خلق إيشر عددا من المناظر الطبيعية والصور والتصاميم الهندسية الآسرة، رغم انه اعترف ذات مرّة بأنه كان ضعيفا في الحساب والجبر نتيجة صعوبة استيعابه للمجرّدات.
    في عام 1923، انتقل الفنّان إلى إيطاليا حيث التقى المرأة السويسرية التي ستصبح فيما بعد زوجته. وقد نظّم أوّل معرض لأعماله في لاهاي عام 1924، ثم اتبعه بمعرض آخر ناجح في روما بعد ذلك بعامين. وفي السنوات القليلة التالية، أصبح يُنظر إليه باحترام كبير كرسّام. لكن أعماله طالما انتُقدت لكونها "تخاطب العقل أكثر من اللازم".
    صور إيشر المحيّرة والرائعة مستمدّة من العالم الرياضيّ للتماثلات والتوبولوجيا "وهو فرع من فروع الرياضيات يبحث في الخصائص الثابتة للأشكال الهندسية والأجسام الثلاثية الأبعاد". وفي الوقت نفسه، فإن هذه الصور تبرهن على موهبة فنّية غنيّة ونادرة. وقد أدرك علماء كثيرون أن أعماله هي رسوم توضيحية بسيطة للنظريّات المتطوّرة في الهندسة والجبر.
    في عام 1952، استخدم هيرمان فايل، وهو عالم رياضيّات من جامعة برينستون، لوحة إيشر المشهورة تماثُل غلافا لأحد كتبه. كما وظّف تشن نينغ يانغ، وهو فيزيائيّ حائز على جائزة نوبل، لوحة الرسّام الأخرى المسمّاة الفارس لتوضيح فرضية جديدة له طبّقها على فيزياء الكم. كما ألهم إيشر علماء آخرين في دراساتهم الأكاديمية.
    وعندما نمعن النظر في بعض رسومات إيشر، سيتبيّن لنا مدى تأثّره بأنماط الزخرفة والرسم الإسلامي. والشخص الذي يملك دراية ولو بسيطة بالفنّ الإسلاميّ سيلاحظ على الفور الارتباط الكبير ما بين تحوّلات إيشر الهندسية والأنماط الإسلامية التي تتشكّل فيها الأسطح من خلال ما يُعرف بالتجانب، أي تكرار الصورة الصغيرة لتغطية مناطق أكبر. بل انه يمكن استخدام تقنيات التغطية بالفسيفساء المنتشرة في المعمار الإسلامي لتوليد رسومات تشبه تلك التي أبدعها إيشر.
    لقد استخدم الفنّانون المسلمون الهندسة كعامل مساعد في الارتقاء بفهمهم الروحيّ وكوسيط يوحّد العالمين المادّي والروحيّ معا. ويمكن اعتبار الأنماط الهندسية رموزا للمبادئ الإسلامية عن التوحيد والميزان "أي النظام أو التوازن"، وهما قانونا الخلق في الإسلام.
    وقد أتقن الفنّانون المسلمون تقسيم الأسطح باستخدام الدوائر على شبكات مثلّثة ومربّعة. ولأن الدائرة لا بداية ولا نهاية لها ولأنها رمز للانهائية، فقد أصبحت الشكل الهندسيّ الأكثر مثالية. في المساجد، حيث يمكن العثور على ثروة من هذه الأنماط الهندسية، يستطيع المرء أن يتأمّل الطبيعة اللانهائية لله من خلال النظر إلى الجدران أو الأسقف. ومثل هذه الأشكال الهندسية كانت تعبّر عن افتتان الفنّانين المسلمين بالرياضيات كرمز للنظام الإلهي ولوجود الله. وكان من المألوف أن تُستخدم الأنماط السداسية والمربّعة على الأسقف في المساجد، في حين تُستخدم عادة تنويعات من الأنماط النجمية على الجدران.

    بدأ افتتان إيشر بالفنّ الإسلامي عام 1922، وذلك عندما زار لأوّل مرّة قصر الحمراء الذي شيّده العرب في القرن الرابع عشر في غرناطة بإسبانيا. لكن التحوّل الحقيقي في فنّه بدأ عام 1936، عندما قام بزيارته الثانية إلى الحمراء التي اعتبرها نقطة تحوّل في حياته. وقد وصف القصر في كتاباته على انه "مصدر عظيم للإلهام الفنّي".
    كان إيشر يعتقد أن الأنماط المتكرّرة في الزخرفة الاسلامية تشير إلى مصدر أعلى من المعرفة التي كانت موجودة قبل البشر. واعتبر أن النظام والانتظام والتكرار الدوري والتجديدات هي "قوانين للظواهر" التي تحيط بنا. ومن ثمّ فإن بنية تصاميمه كانت انعكاسا بسيطا لهذه القوانين من منظوره الخاصّ.
    درس إيشر معمار الحمراء ودوّن ملاحظات تفصيلية عنه ورسم اسكتشات لأنماط البلاط في القصر. وقد وصف إعجابه بالاستخدام المزدوج لخصائص وانقسامات الأسطح فقال: كان العرب سادة في ملء الأسطح بالأشكال المتطابقة. ولم يكونوا يتركون أيّ ثغرات. في قصر الحمراء، خصوصا، قاموا بتزيين الجدران عن طريق وضع قطع متناغمة ومتعدّدة الألوان من الخزف دون ترك فجوات في ما بينها. وممّا يؤسف له أن الإسلام نهى عن رسم الصور، لذا قيّد الفنّان المسلم نفسه بالأشكال ذات الخصائص الهندسية المجرّدة. وأنا أجد هذا التقييد غير مبرّر أو مقبول".
    من الواضح أن إيشر تأثّر بشدّة بالأنماط الإسلامية التي رآها في قصر الحمراء. وقد طوّر أسلوبه غير العاديّ وأتقن مهاراته بعد اكتشافه تقنيات الترصيع أو التغطية بالفسيفساء التي استخدمها الفنّانون المسلمون في إنشاء وتزيين القصر. وفي أعماله اللاحقة، استخدم تقنيات تعتمد على الدائرة والمثلث والمربّع استنبطها من الفنّ الإسلامي للحصول على مجموعة كبيرة ومتنوّعة من الأنماط.
    كان الترصيع، وما يزال، احد المكوّنات الأساسية للفنّ الإسلامي. وهو عبارة عن تقسيم الأسطح إلى وحدات أصغر. وفائدته هي إضفاء المزيد من الواقعية على الأجسام. لكن بدلا من أن يقيّد إيشر نفسه باستخدام الأشكال الهندسية حصرا كما هو الحال في الزخرفة الإسلامية، عمد إلى خلق مئات الأشكال المرصّعة على هيئة أسماك وطيور وكلاب وسرطانات وحشرات وخيول وبشر ومخلوقات أخرى.
    وفي العديد من أعماله التي رسمها في ما بعد مثل التحوّلات والنهار والليل ومحدّبة ومقعّرة ، نجد أن الفكرة الأساسية التي تحكم هذه اللوحات وغيرها هي الأنماط الزخرفية المستخدمة في العمارة الإسلامية.
    خلال حياته المهنية، أنتج إيشر حوالي 500 طبعة حجرية "ليثوغراف" ونقش خشبيّ وأكثر من 2000 رسم واسكتش. وأعماله تكشف عن قدرات رياضية قويّة. كان فهمه للرياضيات بصريّا وحدسيّا إلى حدّ كبير. وقد أنتج صورا رائعة أظهرت منظوره الفريد عن العالم، كما قدّم من خلالها عوالم من ثمرة خياله الخاص.
    ترك إيشر أكثر من 150 من الأعمال الملوّنة التي تشهد على براعته في تقسيم الأسطح. وكان ناجحا جدّا في تصوير العالم الحقيقيّ ببعدين وكذلك في رسم أجسام ثلاثية الأبعاد مثل المجالات والأعمدة والمكعّبات. وبعض أعماله تجمع بين الصور ذات البعدين والثلاثة مع تأثيرات مذهلة، كما هو واضح في لوحته الزواحف من عام 1943.
    بحلول عام 1935، ومع تردّي الأوضاع السياسيّة في إيطاليا حيث كان يعيش، اقتنع إيشر بضرورة الانتقال مع عائلته إلى سويسرا. وفي عام 1941، عاد إلى هولندا. وقد تأثّر شخصيّا بالاضطهاد النازيّ لليهود في وطنه. معلّمه العجوز دي ميسكيتا، وهو يهوديّ، اُخذ بعيدا عن بيته عام 1944 ثم لم يلبث أن قُتل على أيدي النازيّين. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، شارك إيشر في معارض لفنّانين ممّن رفضوا التعاون مع النظام النازيّ.
    بدءا من عام 1960، تدهورت صحّة إيشر، الأمر الذي أثّر على نتاجه الفنّي. وفي عام 1970، انتقل إلى بلدة في شمال هولندا حيث انتظم في مؤسّسة لرعاية الفنّانين المسنّين. وخلال شهر مارس من عام 1972، ساءت حالته الصحّية فجأة ثم ما لبث أن توفّي في السابع والعشرين من ذلك الشهر عن 73 عاما.

    Credits
    artland.com

    الخميس، ديسمبر 05، 2013

    نجمة الشمال

    رغم كثرة الكتب التي اُلّفت عن حياة وحكم كاثرين العظيمة، إلا انه ما يزال هناك دائما شيء ما غامض يحيط بسيرة هذه الإمبراطورة التي كانت تفضّل بأن تخاطَب بكاثرين الثانية فقط.
    مثلا، كيف تسنّى لفتاة من عائلة ألمانية غامضة وأبوين لا يتميّزان بشيء ويعوزها أيّ تدريب في فنّ الحكم، أن تصبح واحدا من أنجح الحكّام الذين عرفتهم روسيا؟ ثمّ كيف استطاعت أن تترك كلّ هذا التعاطف في نفوس الكثيرين ممّن عرفوها، وهو عامل أضاف لشخصيّتها المزيد من الافتتان الذي ما تزال تتمتّع به بعد مرور أكثر من مائتي عام على وفاتها.
    استمرّ عهد كاثرين العظيمة ما يقرب من ثلاثة عقود ونصف. وقد جرت العادة على اعتبار فترة حكمها "العصر الذهبيّ" لروسيا، على الرغم من أن المؤشّرات السياسية والاقتصادية في ذلك الوقت لم تكن تبدو مشرقة. وبعض المؤرّخين يعتقدون أن "الحكم المطلق المستنير" للإمبراطورة أسهم في إبطاء وتيرة التنمية السياسية وفاقم الإقطاع.
    لكنّ أسطورة الملكة العظيمة والعادلة التي كانت تحرص على رفاهية رعاياها وتعمل على ازدهار الدولة راجت بكثرة خلال عهود من أتوا إلى الحكم في ما بعد من أعضاء سلالة رومانوف. وقد استخدم هؤلاء صورة كاثرين في الدعاية الرسمية كمثال نموذجيّ للحكم.
    وعندما توفّيت كانت تحمل لقب "المرأة الروسية الحقيقية"، "ونجمة الشمال" التي لم تكن تتسامح أبدا مع حركات العصيان والانتفاضات الشعبية طوال فترة حكمها.
    في هذا الكتاب بعنوان "كاثرين العظيمة: صورة امرأة"، يسرد روبيرت ماسي، الكاتب الحائز على جائزة بوليتزر ومؤلّف العديد من الكتب مثل "بطرس الأكبر" و"نيكولا والكسندرا" و"سلالة رومانوف"، القصّة غير العادية للأميرة الألمانية الغامضة التي أصبحت إحدى أكثر النساء قوّة وجاذبية في التاريخ.
    ولدت كاثرين عام 1729 باسم "صوفيا فون أنهالت". وعندما كبرت كان أمامها العديد من فرص الزواج بفضل أسلاف والدتها ذوي الدماء النبيلة.
    وفي عام 1744، دُعيت صوفيا البالغة من العمر وقتذاك 15 عاما إلى روسيا من قبل القيصرة إليزابيتا ، ابنة بطرس الأكبر والتي كانت قد تولّت العرش الروسي في انقلاب حدث قبل ذلك بثلاث سنوات فقط . كانت إليزابيتا غير متزوّجة وبلا أطفال. وقد اختارت ابن أخيها بطرس وريثا للعرش. وكانت تبحث له عن عروس.
    وقد شاء القدر أن تحكم هذه المرأة، أي كاثرين، روسيا بفضل عزيمتها وذكائها. وعلى مدى أربعة وثلاثين عاما، كان الحكم والسياسة الخارجية والتنمية الثقافية ورفاهية الشعب الروسي في يدها. كما تعاملت مع الثورات الداخلية والحروب الخارجية والموجة العارمة من التغييرات السياسية والعنف الذي أنتجته الثورة الفرنسية.
    كانت كاثرين امرأة مثقّفة وذكيّة. وقد عرفت فولتير وتبادلت معه الرسائل لمدّة خمسة عشر عاما، منذ صعودها إلى العرش وحتى وفاته في عام 1778. فولتير من جهته كان يشيد بإنجازاتها، وأطلق عليها ألقابا مثل "نجمة الشمال" و"سميراميس روسيا" في إشارة إلى ملكة بابل الأسطورية. وعلى الرغم من أنها لم تلتق به وجها لوجه، إلا أنها نعته بمرارة عندما مات ثم اشترت مجموعة كتبه من ورثته ووضعتها في مكتبة روسيا الوطنية.
    كما كانت الإمبراطورة المستنيرة على علاقة مع الفيلسوف الفرنسي دونيه ديدرو . وقد دعته إلى بلاطها للتحادث معه لمدّة ستّة أشهر. لكنها تجاهلت بعض نصائحه. ومع ذلك نجحت تلك الدعوة في تغيير صورة روسيا كمكان ليس فيه سوى الثلج والذئاب.
    الجزء الأوّل من كتاب ماسي الممتع يفصّل رحلة كاثرين الطويلة من ميناء على بحر البلطيق إلى البلاط الإمبراطوري في سانت بطرسبورغ. كما يتناول علاقتها المعقّدة مع الإمبراطورة إليزابيتا التي رأت في الفتاة المشاكسة نسخة من نفسها.
    عُمّدت كاثرين وهي طفلة باسم صوفيا. كانت ابنة لأمّ مراهقة وانتهازية تدعى جوانا. أما والدها فكان جنديّا ألمانيا بلا انتماء يُدعى الأمير كريستيان اوغستوس وكان يّلقّب بالأحمق.
    كان عمر كاثرين أربعة عشر عاما عندما استدعتها الإمبراطورة إليزابيتا لتُزفّ كعروس لابن أخيها. كاثرين، التي سبق وأن التقت بطرس من قبل مرّة واحدة عندما كانت في العاشرة وكان هو في الحادية عشرة، تتذكّر بطرس كسكّير كان يعذّب الحيوانات الأليفة. كان بطرس وقتها فتى صغير السنّ مع عينين جاحظتين وشعر قليل. وكان، على حدّ وصف ماسي، شخصا جبانا ومخادعا وعدوانيا ومتبجّحا وقاسيا".
    في الكتاب، يأخذنا المؤلّف عبر شبكة واسعة من النبلاء الكبار والصغار، وكلّهم مرتبطون ببعضهم البعض، ومعظمهم من الألمان مع عدد قليل من السويديين والنمساويين والفرنسيين والإنجليز، بالإضافة إلى تواريخ كثيرة وأمراء ودوقات وأباطرة وفلاسفة وجنود.
    كانت كاثرين قد التزمت بأن تتخلّى عن قناعاتها اللوثرية وتعتنق الأرثوذكسية الروسية وأن تتخذ اسم كاثرين "أو ايكاترينا كما يُنطق الاسم بالروسية". كاثرين، المدرّبة جيّدا على يد والدتها الطموحة، مارست تأثيرا فوريّا على إليزابيتا. وقد أجريت مراسم الزواج في أغسطس من عام 1745.
    وبما أن تحضيرات الزفاف لم تكن تتضمّن أيّ تثقيف جنسيّ، فقد ذهب الزوجان إلى الفراش بلا دليل في الليلة الأولى. وظلّت الأمور على هذه الحال "دون أدنى تغيير خلال السنوات التسع التالية" كما كتبت كاثرين في مذكّراتها في ما بعد. بطرس، الذي كان يخفّف وقت الملل في السرير باللعب بدمى الجنود، ذكر لأوّل مرّة كلمة حبّ لزوجته عندما أعلن لها أنه وقع في حبّ إحدى وصيفاتها.
    كان الزواج فظيعا. تقول كاثرين انه لم يدخل عليها قط. فعكفت على قراءة الكتب وغمرت نفسها في أعمال عصر التنوير.
    وبعد سبع سنوات من الزواج، فشلت كاثرين في إنجاب وريث العرش المنتظر. وعندما أصبحت عذريّتها المستمرّة مصدر قلق للدولة، جلبت أوساط القصر فحلا يُدعى سيرغي سالتيكوف كي يحلّ المشكلة. وبعد تسعة أشهر ولدت كاثرين صبيّا. وفي العام التالي، أنجبت طفلها الثاني وكان أبوه غريغوري اورلوف، وهو بيدق وسيم وقويّ العضلات. وعندما ولدت كاثرين طفلها الثالث بعد ذلك بعامين، ازدادت حالة الغباء عند بطرس وتساءل متعجّبا: الله وحده يعلم من أين أتت زوجتي بكلّ هؤلاء الأطفال"!
    وقد أعطت كاثرين مصداقية لهذه الشائعات في مذكّراتها، حيث أشارت إلى أن الإمبراطورة إليزابيتا تواطأت في السماح لها، أي لكاثرين، بأن تقيم علاقة مع سالتيكوف.
    وفور ولادة كل طفلّ من الأطفال الثلاثة، كان يتمّ تهريبه بناءً على أوامر إليزابيتا التي عهدت بهم إلى من يتولّى رعايتهم وتربيتهم.


    في بعض أجزاء الكتاب، يذكر ماسي الطموح الفولاذيّ الذي سيدفع بكاثرين إلى بعض أهمّ وأبرز لحظات التاريخ. فبعد أن ماتت إليزابيتا، تمّ تتويج بطرس إمبراطورا. لكنه كان ضعيفا ولم يكن يحظى بأيّ دعم أو تعاطف من الشعب.
    ومع ذلك، كان بطرس حريصا على وضع بصمته على الأمّة، فأنهى بسرعة حرب روسيا مع بروسيا، وهو قرار ثبت انه لم يكن يحظى بشعبية لدى الطبقة العسكرية في روسيا. كما بدأ في تطبيق برنامج للإصلاحات الداخلية يهدف إلى تحسين حياة الفقراء، ما أدّى إلى نفور واستياء طبقة النبلاء.
    ومع تصاعد حدّة التوتّر، كان هناك من يخطّط ضدّ بطرس في الخفاء. وعندما تكشّفت خيوط المؤامرة في يوليو من عام 1762، تحرّكت كاثرين بسرعة للحصول على دعم أقوى فوج عسكريّ في البلاد.
    كانت كاثرين تعتبر نفسها أكثر تأهيلا من زوجها للحكم. لذا تقبّلت فكرة الانقلاب عليه. وقادت فرقة من خمسة عشر ألف جنديّ لإلقاء القبض على بطرس، وأصدرت تعليماتها إلى الجند وهي تركب حصانا أبيض وترتدي الزيّ العسكري وتتوشّح سيفا. وانصاع بطرس وتنازل عن العرش دون قتال بعد ستّة أشهر فقط من تنصيبه قيصرا. ثم سُجن بعد ذلك في احد القصور المهجورة. لكنّه قُتل بعدها بأسبوع في ظروف غامضة.
    وفي ما بعد راجت تكهّنات تقول إن بطرس اغتيل من قبل الكسي أورلوف، شقيق احد عشّاق كاثرين آنذاك. وعلى الرغم من أنه لا يوجد دليل على أن كاثرين كانت تعلم عن الجريمة مسبقا، إلا أن تلك الواقعة ألقت بظلال قاتمة على حكمها منذ البداية.
    وفي عام 1762، اعتلت كاثرين العرش الروسيّ ونودي بها حاكما أوحد على البلاد. كان "الاستبداد الخيّر"، حسب تعبير فولتير، هو ما طبّقته كاثرين عندما أصبحت إمبراطورة بعد اغتيال بطرس. وقد شهد عهدها توسّعا لأراضي روسيا أدّى إلى مضاعفة خزائن الإمبراطورية، لكن ذلك لم يؤدّ إلى تخفيف معاناة شعبها. وحتى محاولاتها لإصلاح الحكم كثيرا ما تعثّرت بسبب البيروقراطية الروسية المتجذّرة. ومع ذلك، كانت كاثرين تعتبر نفسها واحدة من الحكّام الأكثر استنارة في أوروبّا. والعديد من المؤرّخين يتّفقون على ذلك.
    وقد كتبت كاثرين العديد من الكتب والموادّ التعليمية التي تهدف إلى تحسين نظام التعليم في روسيا. كما كانت محبّة للفنون والآداب. وقد احتفظت بسجلّ لمراسلاتها مع فولتير والعقول البارزة الأخرى في ذلك العصر، وأسّست واحدة من المجموعات الفنّية الأكثر إثارة للإعجاب في العالم في قصر الشتاء في سانت بطرسبورغ، أو ما أصبح يُسمّى اليوم بمتحف الارميتاج الشهير.
    في احد أجزاء الكتاب، يتحدّث ماسي عن التحدّيات التي واجهتها كاثرين في أوقات مختلفة من ولايتها. وأخطر تلك التحدّيات كانت انتفاضة عام 1773، عندما تمردّت مجموعة من القوزاق والفلاحين المسلّحين بقيادة ايميليان بوغاتشوف ضدّ الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية التي كانت تعاني منها الطبقات الدنيا في روسيا.
    وكما هو الحال مع العديد من الانتفاضات التي واجهتها كاثرين، فقد تسبّب تمرّد بوغاتشوف في التشكيك في سلامة حكمها. وكان هذا الرجل، وهو ضابط سابق في الجيش، قد ادّعى أنه القيصر المخلوع "أي بطرس"، وبالتالي فإنه الوريث الشرعيّ للعرش الروسيّ. وفي غضون سنة، اجتذبت حركته الآلاف من المؤيّدين، ونجح في الاستيلاء على مناطق كبيرة من الأراضي. وقد ردّت كاثرين على ذلك التمرّد بقوّة هائلة. وفي مواجهة جبروت الجيش الروسيّ، تخلّى أنصار بوغاتشوف عنه في النهاية. وقد تمّ القبض عليه وحوكم وأدين وصدر ضدّه حكم سريع بالإعدام في يناير من عام 1775.
    في أكثر من مكان من هذا الكتاب، يكتشف القارئ أن كاثرين تستمتع بالضحك، كما أنها امرأة فضولية ومنضبطة ومنظّمة ومفعمة جدّا بحبّ الحياة. وقد ألهمتها قراءة مونتسكيو وصداقتها لفولتير وديدرو سنّ مشاريع قوانين تنصّ على "سلامة كل مواطن".
    كانت تُمضي من ساعتين إلى ثلاث ساعات يوميا لمدّة عامين في العمل على تلك القوانين. وبموجبها تمّ منع التعذيب، ليس فقط باعتباره عملا غير إنسانيّ، وإنّما أيضا لأنه لا يمكن التعويل عليه، إذ كثيرا ما يُجبَر الضحيّة على قول أيّ شيء لإيقاف الألم. وقد اختير أعضاء للجنة تشريعية أنيطت بها مهمّة مناقشة تلك القوانين التي لم تنتج في النهاية سوى الخلافات، ومن ثمّ تمّ نسيانها.
    كان لطفولة كاثرين التعسة، ثمّ زواجها عن غير حبّ، وكذلك تهريب أطفالها بعيدا عنها تأثير سّيء عليها. وقد قضت حياتها كلّها وهي ترغب في أن تحِبّ وأن تحَبّ.
    تقول الأسطورة إن كاثرين كانت تتمتّع بمئات العشّاق. كانت معروفة بشهيّتها الكبيرة للرجال، ونادرا ما كانت تُمضي وقتها دون رفيق. وعندما تقدّمت بها السنّ أصبحت تطلب شبّانا اصغر. شغفها بالحبّ والعلاقات الغرامية لم يخمد حتى آخر يوم في حياتها.
    ولكن ماسي يقول لنا إن العدد كان في الواقع اثني عشر رجلا، وأن أربعة منهم فقط كانوا مهمّين، وأكثرهم أهميّة كان غريغوري بوتيمكين الذي وصفته كاثرين بأنه "واحد من أعظم الرجال المسلّين منذ العصر الحديدي".
    التقت كاثرين غريغوري بوتيمكين لأوّل مرّة أثناء الانقلاب على بطرس. كان يعمل ضابطا بسلاح الفرسان ويصغرها بعشرة أعوام. وقد التحق بوتيمكين بدائرتها الخاصّة وأصبح من أفضل خلصائها. وماسي يصفه كما يلي: كان شخصا رائعا وضخما وقويّا. كان مهتمّا جدّا باللاهوت وبالموسيقى. وكانت لديه القدرة على تقليد الناس. في إحدى المرّات، وبناءً على طلب كاثرين نفسها، قام بوتيمكين بتقليدها وهي تتحدّث الروسية بلهجة ألمانية. وقد سمعته وهو يقلّدها ولم تتمالك نفسها من الضحك".
    كان الاثنان يحتفظان بعلاقة عاطفية قويّة للغاية. لكنّ تلك العلاقة لم تستمرّ طويلا. إذ بدءا في العراك والشجار إلى أن انهارت علاقتهما تماما. "لكنّهما توصّلا إلى تفاهم بأن يتوقّفا عن العيش معا. ذهب هو، أي بوتيمكين، إلى الجنوب وضمّ كلّ ساحل البحر الأسود إلى أراضي روسيا وأصبح سلطانا هناك. كانا ما يزالان يحبّان بعضهما، ولكن من مسافة بعيدة".
    وقد أدرج المؤلّف في الكتاب العديد من رسائلهما المتبادلة. وهو يقتبس بسخاء بعض ما ذكرته كاثرين في مذكّراتها المفصّلة وفي رسائلها الخاصّة. كتبت ذات مرّة إلى بوتيمكين بعد شجار معه تقول: حبيبي الغالي! أخذت حبلا مع حجر ولففتهما حول عنق شجاراتنا ثم قذفت بها جميعا في حفرة عميقة في الجليد".
    وفي رسالة أخرى، تتظاهر بأنها في حالة صدمة من شدّة حبّها له وتعده بأن تحاول أن تتمالك نفسها: لقد أصدرت أوامر صارمة لجسدي كلّه، وحتى أصغر شعرة في رأسي، بأن تخفي عنك اقلّ علامة من علامات الحبّ. وحبست حبّي داخل قلبي وأوثقته هناك عشر مرّات وأخشى أن يختنق أو ينفجر". ثم تقول: شكرا لك يا حبيبي على كلّ القصص المضحكة التي رويتها لي بالأمس. لا أستطيع التوقّف عن الضحك كلّما تذكّرتها. لقد قضينا أربع ساعات معا دون أن يتسلّل إلينا أدنى قدر من الملل. وكالعادة كنت متردّدة في أن أتركك. لا توجد خليّة واحدة في جسدي لا تشتاق إليك. تذكّر أن هناك امرأة في هذا العالم تحبّك ومن حقّها أن تنتظر كلمة رقيقة منك أيّها التتاريّ القوقازيّ الكافر"!

    على الرغم من كثرة الرجال الذين عرفتهم كاثرين، إلا أن أحدا لم يكن له نفس تأثير بوتيمكين على حياتها وروحها. كان الحبّ الأكبر في حياتها ولا شكّ. ولم يكن هناك حبّ اكبر منه سوى حبّها لروسيا نفسها.
    وقد توفّي بوتيمكين عام 1791 وهو في طريقه من سانت بطرسبورغ لإبرام معاهدة سلام مع الأتراك . لكنّه لم يتمكّن من إتمام تلك المهمّة، فقد عاجله الموت على جانب الطريق إثر إصابته بحمّى الملاريا والفشل الكبدي. وعندما بلغ كاثرين خبر موته بكته طويلا وبحرقة.
    عُرف عن كاثرين وفاؤها الشديد لعشّاقها، سواءً أثناء علاقتها بهم أو بعد انتهائها. ودائما ما كانت تتركهم وهي على علاقة جيّدة معهم. وكانت تخلع عليهم الألقاب والأراضي والقصور وحتى البشر. فقد حدث أن أهدت إلى عشيق سابق أكثر من ألف من الخدم.
    لكن ربّما لا أحد استفاد من كاثرين أكثر من ستانيسلاف بونياتوفسكي، احد أقدم عشّاقها ووالد أحد أطفالها. كان بونياتوفسكي نبيلا بولنديّا. وقد بدأت علاقته معها قبل أن تجلس على العرش، وكان وقتها يعمل موظّفا في السفارة البريطانية في سانت بطرسبورغ. وحتى بعد أن اُجبر على مغادرة البلاط، لأسباب كان من بينها علاقتها به، ظلّ الاثنان قريبين من بعضهما البعض.
    وفي عام 1763، أي بعد فترة طويلة من انتهاء تلك العلاقة، ألقت كاثرين بثقلها العسكريّ والماليّ وراء بونياتوفسكي في جهوده كي يصبح ملكا على بولندا. ومع ذلك، فعندما استقرّ على عرش بولندا، شرع الملك الجديد الذي كانت كاثرين تعتقد أنه سيكون مجرّد دمية وممثّل للمصالح الروسية، في إجراء سلسلة من الإصلاحات التي تهدف إلى تعزيز استقلال بلاده.
    وما كان ذات مرّة رابطة قويّة بين عاشقين سابقين تحوّل في النهاية إلى علاقة متوتّرة، ما دفع كاثرين إلى إجبار بونياتوفسكي على التنازل عن العرش، بينما قادت جهود تفتيت الكومنولث البولندي الليثواني الذي كان قد نشأ آنذاك.
    خلافا للأسطورة الرائجة، توفّيت كاثرين وفاة هادئة. لكن بالنظر إلى سمعتها الصاخبة، لم يكن مستغربا أن تروج الأقاويل والشائعات حولها أينما ذهبت، حتى إلى القبر. وبعد وفاتها في السابع عشر من نوفمبر 1796، بدأ أعداؤها في البلاط وخارج روسيا في نسج إشاعات مختلفة حول أيّامها الأخيرة. وقد زعم البعض أنها ماتت بينما كانت في المرحاض. واستغرق آخرون في خيالاتهم وأخذوا الأمور ابعد من ذلك عندما روّجوا لأسطورة عاشت قرونا، وهي أن كاثرين، التي كانت حياتها الجنسية كتابا مفتوحا، لقيت مصرعها بينما كانت تعاشر أحد خيولها.
    وبطبيعة الحال - يقول ماسي – كانت تلك مجرّد شائعة ولا تمتّ للحقيقة بصلة. وعلى الرغم من أن أعداءها كانوا يتمنّون لها نهاية مخزية، إلا أن الحقيقة البسيطة هي أن كاثرين أصيبت بجلطة دماغية وتوفّيت بهدوء على سريرها في صباح اليوم التالي.
    ويضيف: كان الفرنسيون على الأرجح هم من روّج لقصّة الحصان، لكن تلك كانت محض شائعة سخيفة. وربّما أرادوا من ورائها أن ينتقموا من كاثرين بتشويه سمعتها، إذ لم ينسوا تعاطفها مع الأسرة الملكية الفرنسية التي انتهى أفرادها إلى الإعدام بالمقصلة. صحيح انه كان عند كاثرين الكثير من العشّاق، لكن لم تكن حياتها الخاصّة بأغرب من حياة بقيّة الملوك والحكّام. الفارق الوحيد هو أنها كانت ملكة امرأة. ولهذا راجت عنها الشائعات وأحاديث النميمة".
    ثم يتحدّث الكاتب عن العلاقة العاصفة التي ربطت كاثرين بابنها البكر بول "أو بافيل بالروسية". كان الصبيّ قد اُبعد عن رعاية والدته بعد فترة قصيرة من ولادته ونشأ في كنف القيصرة السابقة إليزابيتا. وبعد أن اعتلت والدته العرش، وخوفا من أن ينتقم لعزل بطرس وموته، اُبقي بول بعيدا عن شئون الدولة، ما أدّى إلى تنفيره من أمّه أكثر فأكثر.
    وقد ازدادت العلاقة سوءا بين الاثنين لدرجة أن بول كان مقتنعا في بعض الأوقات بأن والدته كانت تخطّط لقتله. وفي حين انه لم يكن لدى كاثرين أيّ خطط مثل هذه، إلا أنها كانت تخشى من احتمال أن يكون حاكما غير كفء، لذا بدأت البحث عن مرشّحين بديلين لخلافتها. ومثل إليزابيتا من قبلها، سيطرت كاثرين على تربية وتعليم أبناء بول، وكثرت الشائعات التي تزعم أنها تعتزم تسمية أحفادها كوَرَثة لها متجاوزةً والدهم.
    وهناك من يعتقد أن كاثرين كانت تهدف إلى جعل هذا الأمر موثّقا رسميّا في أواخر عام 1796. لكنها توفّيت قبل أن تتمكّن من فعل ذلك. ولأن بول كان يشعر بالقلق ممّا كانت تضمره والدته، فقد قام بمصادرة الوثيقة قبل الإعلان عنها رسميّا. ألكسندر، الإبن البكر لبول، كان على علم بخطط جدّته، لكنه انحنى للضغوط وقرّر أن لا يقف في طريق والده.
    وقد أصبح بول قيصرا فعلا، ولكنه اثبت انه شخص غريب الأطوار ولا يحظى بشعبية لدى الناس، تماما كما كانت أمّه تخشى. ومن المفارقات الغريبة أنه، وبسبب شعوره بالاستياء من والدته، وافق على قانون يمنع النساء إلى الأبد من تولّي حكم روسيا. وبعد خمس سنوات من اعتلائه العرش، تمّ اغتياله في غرفة نومه على يد عصابة من الضبّاط الذين كان قد اصدر أمرا بفصلهم من الخدمة. وتولّى الحكم من بعده ابنه الكسندر الذي لم يكن حينها قد أكمل عامه الثالث والعشرين.
    في نهاية الكتاب، يصرّح ماسي بأنه سيفتقد صحبة كاثرين العظيمة، الفتاة الصغيرة والمتطلّعة، والشابّة المحبطة المحاصرة بزواج غير سعيد، وفي نهاية المطاف الإمبراطورة القويّة التي كانت تجد عزاءها في الرجال الأصغر سنّا الذين ساعدوها على أن تنسى أنها كانت تتقدّم في العمر".
    ويضيف: أعتقد أن كاثرين هي، بمعنى ما، كتاب حافل بالدروس. كانت هناك الكثير من لحظات اليأس في حياتها. لكنّها كانت تتابع طريقها وتقدّم نموذجا. كانت واحدة من الحكّام الأكثر تأثيرا في تاريخ روسيا. وظلّت تحكم لأكثر من ثلاثين عاما وسّعت خلالها حدود البلاد وحوّلتها إلى قوّة دولية يُحسب لها ألف حساب. كانت كاثرين، من نواح كثيرة، امرأة مستنيرة بقدر ما كانت ملكة مطلقة. وقد طوّرت التعليم ودفعت بعجلة التحديث والإصلاح إلى الإمام. وما حلم به بطرس الأكبر جعلته كاثرين حقيقة".

    Credits
    wsj.com
    history.com

    الخميس، نوفمبر 28، 2013

    شخصيّات في الرسم: سالومي

    سالومي (أو شالوميت بالعبرية) هي واحدة من العديد من "النساء الشرّيرات" في تاريخ الفن. كانت ابنة لزوجة هيرود الذي كان ملكا على الجليل وحيفا في القرن الأوّل الميلادي. وكثيرا ما يأتي ذكر هذه المرأة، أي سالومي، مقرونا بحادثة قتل القدّيس يوحنّا المعمدان.
    كان الملك هيرود متردّدا في قتل يوحنّا خوفا من ردود فعل الناس. وكان يوحنّا قد استنكر زواج هيرود من زوجة أخيه هيروديا، أي والدة سالومي. لذا قرّر هيرود الغاضب أن يُلقي بالقدّيس في السجن.
    زوجة هيرود الجديدة والمثيرة للجدل كانت تريد يوحنّا ميّتا. وقد أتيحت لها فرصة مثالية لفعل ذلك خلال حفلة عيد ميلاد هيرود التي جمع فيها وزراءه وأركان حكمه. وتوسّلت الأمّ إلى ابنتها الجميلة سالومي كي تحاول التأثير على هيرود من خلال رقصها أمام الضيوف.
    ويقال إن سالومي لم تكن قد بلغت سنّ المراهقة عندما أدّت أمام هيرود رقصة الأقنعة السبعة المشهورة. وقد وقع الملك تحت سحر حركاتها المغرية، لدرجة انه عرض عليها وعدا بمكافأة. فطلبت أن يُسلّم لها رأس يوحنّا المعمدان على طبق. كان هذا طلبا دمويّا، خاصّة أنها عبّرت عنه أثناء حفل عشاء. كانت سالومي، مثل أمّها، تريد القدّيس ميّتا. ومن المؤكّد أن غضب أمّها كان دافعا لها لأن تطلب ذلك الطلب الغريب والقاسي.
    وكان واضحا أن سالومي تمكّنت من السيطرة على هيرود في لحظة لم يكن يستطيع فيها رفض طلبها. وكان التنفيذ فوريّا، ما بعث السرور والارتياح في قلب أمّها.
    قصّة سالومي، الشابّة الجميلة والواثقة، وردت تفاصيلها في كتاب العهد الجديد. لكن المرأة لم تُمنح اسما إلا بعد أن أشير إلى حكايتها في الآثار المكتوبة لليهود.
    قصّة سالومي ألهمت أعمالا مسرحية وسينمائية كثيرة، بالإضافة إلى تأثيرها في الأوبرا والباليه والرسم. الفنّانون الكلاسيكيون مثل بيتر بول روبنز وكارافاجيو وتيشيان وغويدو ريني صوّروا سالومي الفاتنة وهي ترقص. وفي العصر الحديث رسم القصّة فنّانون مثل أوبري بيردسلي وغوستاف كليمت واوديلون ريدون وغوستاف مورو وفرانز فون ستاك وروبيرت هنري وآخرين.
    روبنز، مثلا، رسم لوحته حفلة هيرود في آخر عشر سنوات من حياته. موديل سالومي في اللوحة كانت زوجته ذات الستّة عشر عاما التي تزوّجها بعد وفاة زوجته الأولى. وقد رسم اللحظة التي تُقدّم فيها سالومي إلى هيرود رأس يوحنّا على طبق من الفضّة. هيرود الزائغ العينين ينتفض رعبا بينما ترتسم على وجه هيروديا ابتسامة خفيفة وهي تراقب ردّ فعله.
    الرسّام الفرنسي هنري رينو (1843 – 1871) أظهر موهبة واعدة في بداية اشتغاله بالرسم. وقد توجّه إلى المغرب ليركب الموجة الاستشراقية، ورسم صورا استُقبلت استقبالا حسنا في صالون باريس. صورته عن سالومي المغرية وذات الشعر الداكن مع طبقها الفضّي رسمها عام 1870 واعتُبرت واحدة من أفضل لوحاته.
    ومثل زميله الانطباعي الفرنسي فريدريك بازيل، تطوّع رينو في الجيش الفرنسي، وحارب بشجاعة خلال الحرب الفرنسية البروسية. لكنّّه واجه مصيرا مشابها لمصير بازيل، إذ قُتل في ميدان المعركة وعمره لا يتجاوز الثامنة والعشرين.


    الرسّام الرمزيّ الفرنسيّ غوستاف مورو (1826 - 1898) كان، على ما يبدو، مفتونا برسم النساء الشرّيرات. وقد رسم عدّة صور لسالومي عام 1875. ويقال إن صُوَره لها ألهمت اوسكار وايلد كتابة مسرحيّته سالومي عام 1891. وكان وايلد قد كتب المسرحية في البداية باللغة الفرنسية، لأن إنجلترا آنذاك لم تكن تسمح بإعادة تمثيل قصص الإنجيل أدبيّا أو فنّيا.
    في لوحة مورو المسمّاة الظهور "أو التجلّي"، يصوّر الفنّان الحادثة بعد انتهاء الجريمة. الرسّام استخدم الألوان المائية ورسم جسد المرأة بنغمات لونية غنيّة وتمكّن من إيصال التفاصيل المعقّدة لجسدها المرصّع بالجواهر ولخلفية المشهد الفخم.
    في اللوحة يقف الجلاد صامتا، يداه على مقبض سيفه الطويل المبقّع بالدم. والرأس المقطوع للقدّيس يقطر دما. والعينان الشبحيّتان ترمقان الراقصة بصمت بينما تنهمر منهما الدموع. الفم مشوّه ومفتوح، والعنق يكتسي لونا قرمزيا، والوجه مطوّق بهالة من الفسيفساء.
    التفاتة سالومي نحو الجدار حيث يظهر الرأس المقطوع تشلّ حركتها وتصيب يديها وأصابعها بالتشنّج. هي متكشفة تقريبا. وفي ذروة حماسها للرقص يسقط خمارها. رأس القدّيس يشتعل وينزف بينما الدم يسيل على أطراف لحيته وشعره. سالومي فقط هي التي ترى الرأس. والدتها هيروديا لا يشغلها سوى أنها انتقمت أخيرا. هيرود أيضا لا يرى الرأس، بل يبدو مائلا بجسده قليلا إلى الأمام وواضعا يديه على ركبتيه وقد أخبله عري المرأة المشبعة بروائح البخور والمُرّ.
    الرسّام الأمريكي روبرت هنري (1865-1929) كان القوّة الخلاقة التي وحّدت مجموعة من ثمانية فنّانين شكّلوا في ما بعد ما عُرف بمدرسة آشكان للرسم الواقعي.
    في عام 1909، رسم هنري أكثر من لوحة لسالومي، مع لمسة هزلية. سالومي ذات الخمار والتي ترتدي ملابس مطرّزة تبدو واثقة وهي تخطو إلى الأمام بساقين عاريتين وكأنها تؤكّد مقدرتها على جعل الرجال ينصاعون لأوامرها ويفعلون ما تريده.
    الرسّامة الأمريكية المولد ايلا بيل (1846-1922) درست في باريس مع الأكاديميّ الفرنسيّ جان بول لوران. أعمال بيل ليست معروفة على نطاق واسع. لكن لوحتها عن سالومي كانت ثمرة مجهود رائع. وهي، أي اللوحة، تمثّل وجهة نظر فنّانة أنثى في موضوع ظلّ على الدوام مقتصرا تناوله على الرسّامين الرجال.
    سالومي، كما رسمتها بيل، لها شعر فضفاض يطاول خصرها، بينما تكشف عن جزء من ثديها. ومن خلال تعبيرات الوجه، فإن بيل توحي بقوّة سالومي أكثر من كونها مغرية أو ذات جاذبيّة أنثوية.
    الرسّام الرمزيّ الألمانيّ فرانز فون ستاك (1863-1928) تمكّن من الجمع بين الحسّي والمقدّس في لوحته عن سالومي التي رسمها عام 1906. سالومي فون ستاك تبدو نصف عارية، مع فم واسع ومفترس يتناقض مع حركات يدها المثيرة. وهي ترقص أمام سماء مرصّعة بالنجوم، في حين يظهر عبد حاملا رأس يوحنّا المعمدان على طبق. رأس القدّيس يحيط به شعاع من نور، في إشارة إلى أنه على الرغم من انه أصبح الآن جثّة هامدة، إلا أن إرثه كرجل مقدّس سوف يعيش إلى الأبد.
    ولعلّ أفضل ختام للموضوع هو سماع بعض الموسيقى ذات الصلة. المؤلّف الموسيقيّ الألمانيّ ريشارد شتراوس ألّف أوبرا سالومي التي يعتبرها الكثيرون أشهر عمل موسيقيّ عن القصّة. على هذا الرابط مقطع من تلك الأوبرا عنوانه رقصة الأقنعة السبعة.

    موضوع ذو صلة: كليوباترا في الرسم

    الأربعاء، نوفمبر 20، 2013

    عالم بلا بشر

    ترى ما الذي سيحدث لو اختفى البشر فجأة من الأرض؟ كيف سيعيد هذا الكوكب إصلاح سطحه؟ وكيف يمكن أن تتصرّف الطبيعة في غياب الضغط المستمرّ عليها من البشر؟ وما هي المخلوقات التي ستظهر من الظلام وتندفع بأعداد كبيرة إلى سطح الأرض؟ والى أيّ مدى يمكن لهياكلنا الثمينة، من أنفاق ومنازل وجسور وسدود وغيرها، أن تدوم في كوكب لم يعد يخضع لتدخّل البشر؟
    هذه هي بعض الأسئلة التي يحاول العالم آلان فايتزمان الإجابة عنها في كتابه "العالم من دوننا". وفايتزمان يتخيّل بالتفصيل اضمحلال وتلاشي مظاهر الحضارة المادّية من الأرض التي اختفى منها البشر. وهو لا يقدّم تفسيرا لفرضية انقراضنا كبشر. ولكن الشعور بكارثة بيئية يخيّم بشدّة على الكتاب، وهي فرضية تأتي مباشرة من كتب الخيال العلمي.
    فكرة تأليف الكتاب ولدت في ذهن الكاتب قبل سنوات عندما كتب مقالا يبدي فيه تعجّبه كيف أن الطبيعة في موقع تشيرنوبيل النووي تمكّنت من إصلاح نفسها بسرعة في أعقاب كارثة عام 1986 بعد أن اجلي عن المنطقة جميع قاطنيها من البشر.
    وقد ذهب الكاتب إلى منطقة الحدود بين أوكرانيا وروسيا البيضاء ورأى هناك بقايا سليمة لحوالي خمسة آلاف فدّان من الغابات البدائية التي كانت تغطّي أوروبّا ذات زمن من سيبيريا إلى ايرلندا. وأمام منظر أشجار الزيزفون وغيرها من الأشجار التي تنمو هناك بكثافة، أحسّ فايتزمان انه في غابة تشبه غابات الحكايات الخرافية. "شعرت أن المكان مألوف وأنني في بيتي. وأدركت أن الناس يريدون حقّا أن يعود ذلك الزمن".
    وقد فكّر الكاتب في محاولة استكشاف فكرة أخرى من خلال طرح هذا السؤال عن ما الذي سيحدث لو اختفى البشر فجأة من على وجه الأرض؟ هذا هو السؤال الذي يعيد فايتزمان النظر فيه بتعمّق أكبر في هذا الكتاب. وهو يفتتح الفصول الأولى من كتابه بتوضيح ما الذي سيحلّ بالأرض إذا ما غاب عنها البشر فيقول:
    بعد يومين فقط، ومع عدم وجود فنّيي صيانة يعالجون المضخّات، سيغمر الفيضان جميع الأنفاق في مدن العالم الكبرى.
    وفي غضون أسابيع من اختفاء البشر، ستنفذ إمدادات وقود الطوارئ الذي يغذّي المولّدات التي توصل مياه التبريد إلى قلب المفاعلات النووية. ومن ثمّ ستنصهر جميع المحطّات النووية التي يربو عددها على الأربعمائة وتتحوّل إلى نقاط مشعّة، بينما تتحوّل مصانع البتروكيماويات إلى سخّانات مشتعلة تقذف بالسموم واللهب لعقود قادمة.
    وخلال 20 عاما، ستتآكل وتنثني أعمدة الصلب التي تدعم الشوارع في المدن الكبرى كنيويورك ولندن وغيرهما نتيجة غمرها بالماء.
    وفي جميع أنحاء العالم، ستتحوّل الخضار والفاكهة التي اعتدنا تناولها إلى أنواع برّية أقلّ قابلية للأكل. وخلال الفترة نفسها، ستأتي النار والرياح على ناطحات السحاب وغيرها من المباني الشاهقة في العالم وستنهار في النهاية مثل جذوع الأشجار العملاقة والخاوية.
    وفي حوالي مائة عام، سيتضاعف عدد الفيلة على الأرض عشرين مرّة بسبب انتهاء تجارة العاج. وسوف تجد الحيوانات المفترسة الصغيرة مثل الراكون والثعالب منافسين جددا لها في هيئة القطط المنزلية والكلاب التي ستصبح حيوانات متوحّشة وتنافسها على الغذاء.
    وخلال ثلاثمائة عام، ستنهار الجسور والسدود بسبب امتلائها بالغرين وغمرها بالمياه.
    وبعد خمسمائة عام، ستتحوّل ضواحي المدن بالكامل إلى غابات.
    وفي خلال خمسة وثلاثين ألف عام، ستكون التربة قد تطهّرت تماما من الرصاص المترسّب فيها بفعل المداخن الإنتاجية.
    وبعد مائة ألف عام، أو ربّما أكثر، ستعود نسب ثاني أكسيد الكربون إلى مستوياتها في فترة ما قبل وجود الإنسان.
    وبعد عشرة ملايين عام، سيكون ما يزال ممكنا رؤية المنحوتات البرونزية التي شُيّدت على الأرض.
    وخلال خمسة مليارات عام أو أكثر، سوف تحترق الأرض نفسها عندما تموت الشمس.
    وبعد أكثر من خمسة مليارات عام، ستستمرّ موجات الراديو والتلفزيون الأرضية في السفر إلى أعماق الفضاء الخارجيّ ولأجل غير مسمى.
    وخارج هذه المناطق الساخنة، يرسم فايتزمان صورة لعالم يتحوّل ببطء مرّة أخرى إلى البرّية. فبعد حوالي مائة ألف عام، ستعود الأنواع المدجّنة من الماشية إلى طبيعة وحياة أسلافها البرّية والمتوحّشة.
    وفوق كلّ قارّة أصبحت غير مأهولة، ستحلّ الغابات والمراعي محلّ المزارع ومواقف السيارات والبيوت. وستبدأ الحيوانات في العودة البطيئة مرّة أخرى إلى "جنّة عدن".
    ثمّ يبحث المؤلّف في طبيعة تأثيرنا كبشر على كوكب الأرض حتى الآن. ويتساءل: كيف يمكن أن نكتشف وجه العالم من دوننا من غير أن نتحقّق من مدى تأثير وجودنا عليه؟


    ماذا لو اختفى الجنس البشري بأكمله من هذا الكوكب بسبب وباء أو كارثة طبيعية أو حرب نووية أو بفعل قوّة غيبية أو مجهولة؟ كيف ستبدو الأمور؟ هذا السؤال لا يمكن استبعاده. وبعضنا ربّما يفضّلون عدم التفكير في مثل هذا الاحتمال، في حين قد يجد آخرون أن الفكرة لا يمكن استبعادها.
    غاية فايتزمان من وراء طرح هذه الفرضية، أي الفناء المحتمل للجنس البشري، هي إطلاق نداء بيئيّ للعمل سريعا من اجل إنقاذ الكوكب قبل فوات الأوان. وعلى عكس الكتب التي لا تعدّ ولا تحصى التي تورد سيناريوهات مبتذلة عن يوم القيامة، يصف الكاتب بأسلوب سردي مقنع ما أحدثه البشر من تدمير وإفساد للأرض خلال هذه الفترة القصيرة من وجودهم عليها.
    رجال الصيانة يبدو أنهم أبطال هذا الكتاب بلا منافس. فبدون يقظتهم وجهدهم، فإن كلّ شيء ينهار. فهم الأساس الذي تقوم عليه الحضارة. وفي مدينة مثل نيويورك المبنيّة على أربعين نهرا، يجب أن يُضخّ مائة وثلاثون مليون غالون من المياه كلّ يوم. ولو توقّف الضخّ فإن الماء يفيض بسرعة ولن يمضي وقت طويل حتى تفقد المباني الطويلة أساساتها وتسقط.
    وبينما تتآكل المباني بسبب المياه في أسفلها، ستكون أيضا عرضة لهجوم مماثل من السماء، عندما يأخذ المطر طريقه عبر تسريبات الأسقف ليتسبّب في صدأ المعادن ويلتهم كلّ شيء آخر في طريقه باستثناء الحجر. وعندما تستولي النباتات والحيوانات كالذئاب والدببة على المدينة، لن يعود موجودا هناك سوى تلك المباني المشيّدة من الرخام والذي يدوم إلى الأبد.
    ويرى المؤلّف أن البلاستيك سوف يشكّل مشكلة بالنسبة للكوكب ولسكّانه لفترة طويلة بعد أن نكون نحن البشر قد ذهبنا. فعلى الرغم من أننا بدأنا إنتاج هذه المادّة قبل خمسين عاما فقط، إلا أن كلّ ذلك البلاستيك لا يزال موجودا في مكان ما من البيئة. وقد قام الإنسان بالفعل بإلقاء الكثير منه في المحيطات لدرجة أن بليون طن من البلاستيك عالق في دوّامات المحيطات، حيث تتحلّل كتل البلاستيك الضخمة ببطء إلى قطع اصغر تخنق الحياة البحرية وتزيد تلوّث محيطات وبحار العالم.
    ويوسّع فايتزمان دراسته لتشمل التأثير التراكمي الهائل للإنسان على هذا الكوكب. ويستشير خبراء من جميع أنحاء العالم في كافة العلوم والتخصّصات، لافتا انتباهنا إلى طرق عديدة يمكن من خلالها إثبات دور البشر المدمّر في الإجهاز على الكثير من مظاهر الحياة النباتية والحيوانية على الأرض.
    ويورد أمثلة على تأثير الصدمة الذي يتّسم به وجود الإنسان على الكائنات الأخرى، سواءً تلك التي ما تزال موجودة أو التي تسبّبنا بالفعل في دفعها للانقراض، فيقول إن حوالي سبعين مليون طائر تُقتل سنويا دهسا بالسيّارات. كما يتحدّث عن مائة مليون من اسماك القرش يجري انتزاع زعانفها الظهرية والصدرية سنويا لاستخدامها في تحضير الطبق الصينيّ المسمّى "حساء زعانف القرش"، قبل أن يُلقى بتلك الأسماك مرّة أخرى إلى قاع المحيط لتغرق هناك وتموت.
    ترى ما الشيء المغري الذي يجده بعض الكتّاب، وحتى النقّاد والناس العاديّين، في فكرة الإبادة البشرية الكاملة؟ هل هو المزاج العدمي الذي يجعلهم مهجوسين بالسيناريو الذي يرسمه هذا الكتاب وعشرات كتب الخيال العلمي التي قد تكون في النهاية نتاجا لما وصفه الفيلسوف جون غراي بأنه "ثقافة مصابة بالذهول بسبب انكشاف هشاشتها"؟
    إذا نحّينا جانبا سيناريوهات يوم القيامة، فإن الحقيقة هي أن لا شيء من المحتمل أن يتسبّب في إبادة البشر بشكل تام. حتى لو تخيّلنا انتشار فيروس بقوّة قتل تعادل تسعة وتسعين في المائة، فإنه سيترك أكثر من نصف مليون ناج ممّن لديهم مناعة طبيعية ويمكنهم من خلال التناسل إعادة ملء الأرض إلى المستويات الحالية في بضعة آلاف من السنين.
    احد النقّاد يعلّق ساخرا على التكهّنات القائلة بانقراض البشر بحرب نووية أو بكارثة طبيعية بقوله: حتى لو انقرض معظم البشر من الأرض فإن الأمر لن يكون بذلك السوء الذي نتخيّله. فبعد الصدمة الأولى، ستنظر حولك لتكتشف أن العالم أصبح في الواقع أفضل. ستنتهي الصراعات على الموارد ولن تُهدر حياة البشر في الحروب بعد الآن. والبشر القليلون الذين ستُكتب لهم النجاة بعد الكارثة سيستمتعون ولا شك بهواء نقيّ وبمنظر غروب شمس هادئ وسيتمكّنون من إعادة الكوكب في أقرب وقت إلى ما يشبه الجنّة. الشيء الوحيد الذي يمكن أن نتنبّأ به هو أن الحياة سوف تستمرّ وأنها ستكون مثيرة للاهتمام".
    ويقول ناقد آخر: من المطمئن أن يعرف البشر هذه المعلومة جيّدا، وهي أن الميكروبات لا تهتمّ كثيرا بما إذا كنّا، نحن البشر، هنا على هذه الأرض أم لا. لسنا شيئا مثيرا بالنسبة لها. الميكروبات كانت موجودة وما تزال، على الأرض منذ بلايين السنين. وفي نهاية المطاف، عندما تتمدّد الشمس، ستكون هذه الميكروبات هي كلّ ما يتبقّى لبلايين أخرى من السنين. هذه الحقيقة البسيطة والباردة من شأنها أن تضع الأمور في نصابها في ما يتعلّق بمكاننا وأهمّيتنا كبشر في هذا الكون.
    مؤلّف هذا الكتاب، آلان فايتزمان، هو صحفي ومؤلّف لثلاثة كتب أخرى. وأثناء تحضيره لمادّة الكتاب، سافر إلى بقايا الغابات البدائية في أوربّا وإلى ابعد مناطق المحيط الهادئ، وأجرى العديد من المقابلات مع علماء البيولوجيا التطوّرية وعلماء الآثار وخبراء الفنّ في جهده ليرسم صورة لهذا الكوكب في مرحلة ما بعد الإنسان.
    وليس من المستغرب أن يختتم فايتزمان كتابه بلفت انتباه القرّاء إلى أهمّية دور جماعات ومنظّمات حماية البيئة التي تحاول تنبيه البشر لمخاطر وجودهم الكارثيّ والأنانيّ على البيئة والكائنات الأخرى.

    Credits
    en.wikipedia.org

    الجمعة، نوفمبر 15، 2013

    الحطّاب والأشجار وقصص أخرى

    من الحكايات الجميلة والمعبّرة التي كنّا نسمعها ونحن صغار حكاية الحطّاب والأشجار، حيث يأتي حطّاب إلى الغابة ويتوسّل الأشجار أن تمنحه مقبضا مصنوعا من اصلب أنواع الخشب. وتختار له الأشجار الطيّبة والسخيّة خشب الزيتون البرّي.
    وما أن يأخذ الرجل المقبض ويثبّته على فأسه، حتى يبدأ في قطع فروع وجذوع الأشجار. وتقول شجرة لرفيقاتها وهي تراقب ما يفعله الحطّاب: إننا نستحقّ ما يجري لنا لأننا أعطينا عدوّنا السلاح الذي كان يحتاجه". والدرس الذي تقدّمه هذه الحكاية هو أن عليك أن تفكّر مرّتين قبل أن تقدّم صنيعا لأعدائك.
    وهناك أكثر من تنويع على هذه الحكاية. لكن القصّة الأصلية تُنسب إلى الحكيم الإغريقي ايسوب. وهي تنبّهنا إلى ضرورة أن نكون حذرين من أن نبذل الكرم في غير محلّه خوفا من أن يعود علينا ذلك بالأذى والضرر.
    وإحدى أقدم الإشارات إلى هذه الحكاية وردت في قصّة رجل كان يعمل وزيرا عند احد ملوك الآشوريين. وقد تعرّض هذا الوزير للخيانة من قبل ولد له بالتبنّي. وعندما يتوسّل الابن العفو من والده، يرفض الأب ذلك موردا جملة من الأسباب حول أن العفو سيكون عديم الفائدة وبلا مبرّر. ثم يقول مخاطبا الابن: أنت بالنسبة إليّ مثل الشجرة التي قالت لحطّابها: لو لم يكن في يدك شيء منّي لما وقعت عليّ". وفي هذا إشارة إلى أن فأس الحطّاب له مقبض خشبيّ، وبالتالي فإن الشجرة مسئولة هي أيضا عن هلاك نفسها.
    وهناك عدد من الأمثال المستمدّة من هذه القصّة. لكن المعنى العام أو الدرس المستفاد منها هو أن الإنسان هو الملوم على سوء حظّه أو تصرّفه.
    في اليونان القديمة، كانت هناك ثلاث أساطير تتعامل مع العلاقة بين الأشجار والحطّابين. في إحداها تشتكي أشجار السنديان لزيوس كبير الآلهة من المعاملة التي تلقاها من الحطّابين، فيجيبها أن على الأشجار أن لا تلوم سوى نفسها لأنها من يقدّم الخشب الذي تُصنع منه عصيّ الفؤوس.
    وهناك أسطورة أخرى تتضمّن معنى مماثلا. وفيها تشتكي شجرة صنوبر من أن جذعها صار هدفا لأسافين مصنوعة من فروعها. وتشير التعليقات على هذه الأسطورة إلى أن حجم الألم يزداد عندما يدرك الإنسان أن معاناته من صنع يده أو نتيجة لخطأ ارتكبه، وبصرف النظر عن من يُنزِل عليه تلك المعاناة.
    ومن الحكايات الأخرى الجميلة التي ما يزال الكثيرون منّا يتذكّرونها من زمن الطفولة حكاية الغراب والإبريق. تذكر القصّة أن غرابا أعياه العطش ذات يوم بارد وجافّ عثر على إبريق ماء في فناء بيت. لكن بسبب طول الإبريق وبُعد مستوى الماء بداخله، تعذّر على الغراب الشرب. وبذل محاولات عدّة لتحريك الإبريق أو قلبه، لكن دون جدوى. ثم هداه تفكيره إلى حيلة بارعة. فقام بإسقاط حجارة صغيرة، الواحد تلو الآخر، بداخل الإبريق. وشيئا فشيئا ارتفع مستوى الماء إلى أعلى، وبالتالي استطاع الغراب في النهاية أن يشرب ويطفئ ظمأه.
    الفكرة التي تؤكّد عليها الحكاية هي أن الفكر يتفوّق على القوّة وأن العقل أهمّ من العضلات. ومثابرة الغراب وإصراره يذكّران بالحكمة التي تقول إن الحاجة أمّ الاختراع وبالحكمة الأخرى الأكثر حداثة: حيثما توجد إرادة، فثمّة طريقة أو حلّ".
    التوظيف الفنّيّ لهذه لأسطورة يعود إلى زمن الرومان حيث تظهر منقوشة على قطعة من الموزاييك تعود إلى ذلك الوقت. وعبر العصور المتعاقبة، تغيّرت بعض تفاصيل الحكاية، فالإبريق يتحوّل أحيانا إلى دلو ماء أو آنية بسيطة من الخزف.
    عالم الطبيعة الرومانيّ بليني الأكبر ذكر أن القصّة تعكس سلوك الغراب في الحياة الواقعية. فالغربان تفعل في الحالات المشابهة نفس ما فعله الغراب في الحكاية.
    الدراسات الحديثة أثبتت أن الغراب يفهم أن الإبريق أو الإناء يجب أن يحتوي على سائل وليس مادّة صلبة لكي تنجح الحيلة، وأن الأجسام التي تُلقى بداخل الإبريق يجب أن تغطس، لا أن تطفو. كما أكّدت الدراسات المتعلّقة بقياس ذكاء الطيور أن الإدراك الجسديّ لدى الغربان أفضل منه عند غيرها من الطيور.
    حكاية الغراب والإبريق كانت موضوعا لقصيدة كتبها شاعر يوناني يُدعى بيانور في القرن الأوّل الميلادي. ثم انتشرت الحكاية في الأدب اللاتيني خلال القرنين الرابع والخامس الميلادي.
    وأختم بحكاية مشهورة أخرى هي حكاية الثعلب والعنب التي لا تكاد تخلو ثقافة منها أو من نسخة معدّلة عنها. وهي واحدة من عديد من القصص ذات البطل الواحد، وهو هنا الثعلب.
    تذكر القصّة أن ثعلبا هام على وجهه ذات يوم صيفيّ قائظ وقد اخذ منه الجوع والتعب كلّ مأخذ. وفجأة رأى بعض عناقيد العنب متدلّية من أعلى جدار بستان على طرف الطريق. وقد سال لعابه لمرأى العنب وقفز بكلّ ما أوتي من قوّة للوصول إليه، ولكن دون جدوى. وكرّر محاولته تلك مرارا دون نتيجة.
    وفي النهاية أيقن الثعلب انه لن يظفر بشيء من ذلك العنب. وبينما كان يبتعد عن المكان ردّد قائلا: من الواضح أن هذا العنب لم ينضج بعد وأنا لا احتاج إلى عنب حامض". وكان هناك في الجوار غراب يجلس على فرع شجرة ويستمع إلى كلمات الثعلب ويبتسم.
    الازدراء الذي يعبّر عنه الثعلب تجاه العنب في نهاية القصّة كان يقصد منه التغطية على عجزه. والأشخاص الذين يتحدّثون باستخفاف عن الأشياء التي لا يمكن أن يحقّقوها تنطبق عليهم هذه الأمثولة. وهي تذكّر بالمثل العاميّ القائل: اللي ما يطول العنب يقول عنه حامض".
    وعلى الرغم من أن هذه الأسطورة تصف سلوكا فرديا، إلا أن تعبير العنب الحامض في الانجليزية كثيرا ما يُستخدم اليوم لوصف حالة الشخص الذي يميل إلى الانتقاص من الآخرين أو يحتقرهم بدافع الغيرة أو الحسد. كما يحيل التعبير إلى مثل شائع يقول (الأبناء يأكلون العنب الحامض "وفي العربية الحصرم" والأبناء يضرسون).
    قصّة الثعلب والعنب رائعة ومعبّرة لدرجة أنها يمكن أن تُفسّر على أكثر من وجه وأن تُفهم بطرق مختلفة. مثلا، هذه الحالة التي واجهت الثعلب يمكن أن تواجهنا كبشر. العنب العالي يمكن أن يكون كناية عن الغايات والأهداف التي يقول لنا ذكاؤنا ومشاعرنا أنها بعيدة المنال وليس من السهل تحقيقها.
    والقصّة تقول إن علينا أن نستخدم كلّ قوانا وجهودنا لبلوغ تلك الأهداف. قد ننجح، وقد نفشل مثل هذا الثعلب الذي يعلّمنا أننا يجب أن نحاول ولا ننشغل بالنتيجة أكثر من اللازم.
    كما تعلّمنا القصّة أننا إن لم نصل إلى "العنب الناضج" فإن علينا أن نمضي في طريقنا. ليست غلطتك انك لم تصل إلى "العنب"، بل العنب نفسه غير جدير بأن تبذل من اجله محاولات أكثر. والثعلب بتصرّفه وكلامه لا يريد التقليل من إمكانياته. ونحن أيضا نحتاج لأن لا نستهين بقدراتنا وجهودنا.
    ومثل الثعلب، يجب أن نتعلّم أن لا نتمسّك بما لا نستطيع الحصول عليه وأن ننحّي جانبا الأشياء عديمة القيمة. الثعلب يعلّمنا أيضا كيف نكون أقوياء بالمضيّ إلى الأمام والبحث عن أماكن أكثر خضرة ووفرة.
    يجب أن نلوم الأشياء التي لا يمكننا تحقيقها بدلا من توجيه اللوم لجهودنا. لو فعلنا مثل ما فعل الثعلب، أي لو مضينا في طريقنا، لانتفت من دواخلنا كلّ مشاعر الخيبة والإحباط الناتجة عن الصراع بين ما نريد أن نفعله وما يمكن أن نفعله.
    حضور الغراب في الأسطورة يحمل هو أيضا رسالة مهمّة، وهي انك لن تعدم بعض الأشخاص الذين قد يهوّنون من جهودك ويسخرون منك ومن محاولاتك. لكن في جميع الأحوال، حاول أن تفعل مثل الثعلب: إن لم تستطع فعل شيء، فجاوزه إلى غيره وامضِ إلى الأمام في طريقك.

    الأربعاء، نوفمبر 06، 2013

    أسمال وعظام

    على بعد أمتار، كانت هناك مجموعة من رؤوس الغنم المقطوعة. الأفواه فاغرة والمناخير مفتوحة على اتّساعها. والرؤوس تنظر إليك كما لو أنها مستعدّة للغناء.
    رأيت هذا المنظر قبل سنوات في سوق حلب الكبير، أي في قلب المدينة التي يقال إنها أقدم مدينة مأهولة في العالم. وبعد بضع ساعات من التجوال في شوارعها، أدركت أن باستطاعتي أن أجد أيّ شيء تقريبا في محلاتها التي يربو عددها على الألف.
    كان هذا السوق مركز المدينة حتى في زمن الرومان. وأكثر معروضاته لم تتغيّر منذ ذلك الحين. وفي نهاية اليوم، عاينت محلا لبيع التحف القديمة ولاحظت أن الهواء حوله مشبع بروائح التفّاح المحترق المتصاعد من الاراغيل في مقهى مجاور والتي يخالطها روائح عرق وتوابل وشاي.
    وبعد قليل ظهر من داخل المحلّ رجل أخذ ينظر إليّ شزرا ثم سألني: هولندي أم فرنسي أم انجليزي؟! قلت: أمريكي. فقال بابتهاج: أهلا أمريكا! ثم لوّح بيديه باتجاه أواني البصل والمخلّل ورؤوس الغنم المقطوعة وقال: هل تأكل شيئا يا سيّد أمريكا؟
    شكرته وواصلت سيري بحثا عن رؤوس من نوع آخر.
    في كلّ دليل سياحي عن سوريا، هناك إشارة إلى أن رفات النبيّ زكريا يمكن رؤيتها في مسجد حلب الكبير. ومثل الرؤوس المقطوعة المعروضة للبيع في ذلك المطعم، فإن حقيقة أن شخصية غامضة من التاريخ المسيحيّ ينظر إليها المسلمون نظرة احترام وتوقير كان بالنسبة لي أمرا مدهشا.
    وكدين، يعتبر الإسلام نفسه الأخير في سلسلة الأديان الموحّدة. وعلى مرّ القرون، لم يستوعب الإسلام ذكريات وقصص الأنبياء الأوّلين فحسب ، وإنما اقترض عظامهم أيضا. المسجد الكبير في دمشق معروف أيضا بأنه يؤوي رأس شخصية كبيرة من العهد القديم هو النبيّ يحيى "أو يوحنّا المعمدان" الذي أمرت سالومي بفصل رأسه عن جسده في القصّة المشهورة.
    وعلى الحدود السورية مع لبنان، يمكن للمرء أن يجد قبر هابيل ابن آدم الذي يقول عنه القرآن والإنجيل انه أوّل من مات من البشر وأوّل من دُفن في الأرض أيضا.
    وهناك قبور أخرى في أماكن مختلفة من العالم الإسلامي لشخصيّات مسيحية أخرى مثل أيّوب وقابيل وإسماعيل وشيت وهارون وقائمة طويلة من الأسماء. أنبياء يتمّ تذكّرهم في المسيحية واليهودية بالكلمات فقط، ولكن الإسلام منحهم أجسادا وقبورا.
    قبر آدم وحوّاء مسألة مختلف عليها. يقال إن حوّاء مدفونة في جدّة بالمملكة العربية السعودية، وإن رأس آدم مدفونة في المسجد الإبراهيمي في الخليل وساقيه مدفونتان تحت قبّة الصخرة بالقدس. والإسلام لا يعلّق على الزعم المسيحي بأن جمجمة آدم مدفونة تحت الموقع الذي صُلب فيه المسيح.
    تجاوزتُ تجّار التوابل والمجوهرات وباعة السجّاد وتجوّلت بحثا عن طريق تقود إلى المسجد أو حتى عن طريق للخروج من السوق. وأخيرا لمحت مجموعة من أربع نساء متّشحات بالسواد من الرأس حتى القدمين. وقد تبعتهنّ مثل صائد اسماك يتعقّب كتلة سوداء تتحرّك تحت الأمواج.
    دخلت النساء عبر مجموعة من الأبواب الخشبية. وفعلت أنا نفس الشيء. ووجدت نفسي في مكان بارد وواسع ومفروش بالسجّاد الأخضر. وعندما وقفت في المدخل، هبّت من داخل المسجد نفحة من هواء مضمّخ بروائح المسك.
    خلعت النساء أحذيتهنّ ونزلن أسفل الدرج. وتبعتهن. ونظرت إلى يساري فوجدت حشدا من الناس. الرجال منفصلون عن النساء. والجميع يمدّون أيديهم متوسّلين باتجاه الجدار.
    وما أن تحرّكت بضع خطوات باتجاههم حتى سمعت صوتا يشبه هسيس إطار مثقوب. ثم تبيّنت مصدر الصوت. كان هناك رجل ملتح يرتدي ثوبا طويلا وينزل درج المنبر. اعتقدت انه المؤذّن أو المسئول عن نظافة المسجد. حرّك الرجل إصبعه نحوي وأشار إلى قدمي ثمّ إلى الباب. ارتبكت قليلا ثم تراجعت بضع خطوات بسرعة وقفلت عائدا إلى السوق والمتاهة.

    عدت إلى حيث الرؤوس المقطوعة قبل أن أدرك أن المؤذّن إنما كان يشير فقط إلى حذائي الذي نسيت أن اخلعه قبل أن انزل درجات السلّم. وناداني الجزّار مجدّدا: هل عدت لتأكل يا مستر أمريكا؟ وما الذي تبحث عنه؟
    نظرت إلى عدد من الدروب الممكنة ولم أتذكّر بالتحديد الطريق الذي أخذني إلى مدخل المسجد.
    أخبرني يا صديقي عن ماذا تبحث؟
    - رأس زكريا.
    مرّة أخرى رمقني الجزّار بنظرة ازدراء وكأنه يقول: رؤوس الأغنام نعم، رؤوس الأنبياء لا..
    وعدت إلى شوارع حلب. أتذكّر أننا كنّا في يونيو والحرارة على أشدّها في المدينة. وما زاد الإحساس بحرارة الجوّ أغطية النساء المارّات بالجوار. لم يكنّ يرتدين الخمار فقط بل الملابس الطويلة والكاملة التي لا تترك أثرا عن أيّ شيء مكشوف. حتى أصابعهنّ كانت ملفوفة بقفّازات من النايلون الأسود. وقد اكتشفت ذلك بعد ملاحظتي لبعض الأيدي الممدودة طلبا للمساعدة.
    حتى عندما تصرف النظر عن جميع الأسئلة عن عدالة مثل هذه الأغطية الدينية الصارمة، فإنك لا تستطيع أن تفهم كيف تمكّنت هؤلاء النساء من البقاء على قيد الحياة. وطبعا البقاء مسألة نسبية في الحياة كما هو في الدين والسياسة.
    بعد أسابيع من وصولي إلى حلب، جرت انتخابات في سوريا. ورغم عدم وجود منافسين، فإن الرئيس بشّار الأسد كان قد أمطر المدينة بوابل من الملصقات الدعائية التي تحمل صورته. ومن كلّ سطح بيت أو بناية، كانت الوجوه المتعدّدة للأسد تحدّق إلى أسفل. ولم يكن بالإمكان تجنّب نظراته. إلى اليمين الأسد، وإلى اليسار الأسد. كان وجه الرئيس المنتخب مدى الحياة في كلّ مكان لدرجة أنني بدأت أتمنّى لو أن رأسه كان الرأس الذي جئت إلى هنا باحثا عنه.
    تابعت المشي عبر الأزقّّة الملتوية لحلب القديمة. وفجأة انطلقت كرة عبر احد الأبواب، وخرج في إثرها شابّ صغير ابتسم عندما رآني وقال: أهلا يا صديقي. عن ماذا تبحث؟ قلت: المسجد. قال: من السهل أن تضيع هنا. لكنّ طريق المسجد من هناك. وأشار إلى طريق منحدر ثم قال: إذهب إلى أعلى التلّ حتى ترى السحلية على جدار القلعة، ثم اتّجه يمينا.
    قلت: هل قلت السحلية؟
    قال: نعم، تسلّقتْ إلى ذلك المكان منذ بعض الوقت ولم يجرؤ احد أن ينزلها من مكانها . قف هناك، ثم امش إلى أن ترى جدارا ليس عليه سحالي أبدا".
    عندما وصلت إلى قمّة التل، رأيت القلعة تخيّم فوقي. ولأنني كنت ابحث عن سحلية حقيقية، فقد استغرق الأمر منّي لحظات لأرى ما هو واضح. هناك، كانت معلّقة في الأعالي، فوق المدينة. لم تكن سحلية وإنما ملصقا ضخما جدّا للأسد.
    وأخيرا وجدت طريقي إلى الجامع الكبير. واكتشفت أن هناك مدخلين، الأوّل للمؤمنين، والثاني للسيّاح. وعندما دخلنا قاعة الصلاة، راعني حجمها الهائل. كانت الأصوات تتردّد لتملأ الفراغ مثل فيضان.
    في الجزء الخلفي من المسجد، فُتح باب دخلت منه حفنة من الحجّاج الذين يرتدون الملابس البيضاء من الرأس إلى القدمين. وبعد بضع ثوان، تبعهم عدّة أشخاص آخرين. وشقّوا طريقهم جميعا إلى وسط المسجد وتكدّسوا هناك مثل ثلج منجرف ليملئوا المكان. وجلس الزوّار القرفصاء في صمت. بعضهم كانوا يهزّون أجسادهم ويصلّون بهدوء. ثم تحوّلت الصلاة الفردية إلى زئير جماعي ما لبث أن تحوّل بدوره إلى أغنية. بدا الغناء أشبه ما يكون بأداء جوقة موسيقية. ثم انخفضت وتيرته شيئا فشيئا مفسحا المجال لصوت منفرد صار يعلو على بقيّة الأصوات.
    وبينما كان الرجال يغنّون، رأيت أحدهم يتوقّف أمام علامة كُتبت بالإنجليزية. كان رجلا مديد القامة وذا لحية طويلة مصبوغة بالحنّاء، وهو تقليد يقال انه يعود إلى زمن محمّد نفسه.
    سألته عن عدد أفراد مجموعته ومن أين أتوا ولماذا، فقال: نحن ثمانية وتسعون شخصا وقد جئنا للزيارة من باكستان". ثم سألته عن الأغنية التي كانوا يردّدونها، فقال إنها تحظى بشعبية كبيرة في باكستان وإن جزءا منها قصيدة والجزء الآخر دعاء. وهي تتحدّث عن نبيّ الإسلام وعن الأولياء وتصفهم بأنهم بعيدون جدّا وفي نفس الوقت قريبون. كما أنهم حاضرون في كلّ مكان، كما الكائنات العائمة في السماء ليلا.
    قلت له: إذن فقد جئت كي تكون على مقربة من النبيّ؟. ردّ باستغراب: قريب؟! لا يمكن أن أكون قريبا. لقد جئت لتذكير نفسي ببعد المسافة التي عليّ أن أمشيها قبل أن أصل"..
  • بيتر مانسو – مؤلّف أمريكي "مترجم بتصرّف"
  • الخميس، أكتوبر 10، 2013

    تأمّلات مع حافظ

    "قم بنا نقرع ليلا، باب خمّارٍ حكيم، نطلب الفتح لنروي، عنه أشتات العلومِ.
    قم بنا نجلس في الإيوان في الليل البهيمِ، ندرك السُؤْل ونجني، منه لذّات النعيمِ".
    على الرغم من أن حافظ الشيرازي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي، إلا أن قصائده ما تزال تحظى بشعبيّة كبيرة. حكمته ولغته التعبيريّة وتقديره العميق للجمال جعلت منه شاعرا مفضّلا للعشّاق، وبخاصة محبّي الله.
    وعلى مدى قرون، استُخدمت قصائد حافظ للتدريس بطرق متنوّعة. وكثيرا ما وُظّفت في الأغاني والمسرحيّات ولجأ إليها الناس كنوع من محاولة التنبّؤ بالغيب.
    الشاعر الأميركي دانيال لادينسكي يقدّم في هذا الكتاب بعنوان "عام مع حافظ : تأمّلات يوميّة" وجهة نظر فريدة ومتبصّرة عن حكمة الشاعر الفارسيّ من خلال أكثر من 350 من قصائده. كما يُفرد قسما خاصّا عن ترجمة رالف إيمرسون لشعر حافظ. والقصائد في مجموعها تُمسك بروح العاطفة ومعاني الرحمة اللانهائية والحبّ والشوق والروعة الإلهية كما تتجلّى في الكون.
    في مقدّمة الكتاب، يشير لادينسكي إلى انه يقدّم تفسيرات وشروحات لقصائد الشاعر بدلا من الترجمات الحرفية. وهو يستند في عمله على نقل الروح الحيّة لحافظ بأمانة، مؤكّدا أن لبعض هذه القصائد أجنحة تأخذ المتلقّي خارج الفضاء الثقافي والزمني الذي كُتبت ضمنه لتسمو بقارئها وتنقله إلى مساحة حرّية أوفر وأكبر".
    ولد دانيال لادينسكي عام 1948 في سانت لويس بولاية ميسوري. وقضى في شبابه عشرين عاما بصحبة طائفة روحية في غرب الهند، حيث عمل هناك في عيادة ريفية تقدّم خدماتها مجّانا للفقراء وعاش مع مجموعة من التلاميذ والأتباع.
    ومنذ إصدار أوّل كتاب له بعنوان "سمعت الله يضحك"، تُرجمت كتب لادينسكي إلى اللغات الألمانية والتركية والإندونيسية والعبرية والسلوفينية. كما تصدّرت مؤلّفاته قائمة أفضل كتب الشعر الدينيّ والصوفيّ مبيعا وانتشارا. ونقل عنه الكثير من الكتّاب، كما رخّصت العديد من المنظّمات الإسلامية والمسيحية والبوذية والهندوسية واليهودية والصوفية استخدام مؤلّفاته وإعادة طبعها.
    اطلّع لادينسكي على شعر حافظ في مرحلة مبكّرة من حياته. كما وقف على الترجمة الحرفية لأشعاره التي وضعها الدكتور جواد نوربخش كبير أطبّاء علم النفس في جامعة طهران ورئيس إحدى الطرق الصوفية.
    السمة المميّزة لحافظ، بنظر المؤلّف، هي الحرّية. وشعره يمكن اعتباره محاولة للإفلات من كلّ قفص ومساعدة للروح في أن ترتفع بأجنحتها وتتحرّر من كلّ قيد. وقد نجح في ذلك في كثير من الأحيان بفضل عبقريّته الشعرية وصوره الجميلة ولغته الجزلة والرفيعة.
    حافظ يعتبره الكثيرون واحدا من أفضل شعراء الفارسية غنائية وصوفية. وقد اثّر في العديد من شعراء عصره والعصور اللاحقة. إليزابيث غيلبيرت ، مؤلّفة كتاب طعام وصلاة وحبّ ، اعتبرت حافظ النسخة الفارسية من والت ويتمان شاعر النشوة الإلهية الأميركي. كما أشاد به غوته والرومانسيون الألمان وامتدحه ايمرسون الذي نقل بعض غزلياته إلى الانجليزية، بينما مثّل بالنسبة لنيتشه نموذجا لدايونيسوس وللحكمة المشرقية.
    ولادينسكي ينظر إلى أشعار حافظ باعتبارها دليلا يوميّا للاستنارة والحكمة. وهو يشبّهها "بالمطر المبارك الذي يهمي على الأرض العطشى فيمنحها الحياة". وبرأيه أن أهمّية أشعار حافظ تكمن في أنها تحوي بداخلها أسرارا حكت عنها من قبل الكتب المقدّسة. لكن المؤسف أن الكثير من أسرار حافظ الشعرية إمّا ضاعت مع غبار الزمن أو أنها اختفت بسبب الترجمات المغرضة أو غير الدقيقة.
    ويضيف: لحافظ الشيرازي عينا معلّم روحاني بارع وذكيّ. وهو، وجميع الشعراء العظماء، يساعدوننا على دقّ جرس المعبد؛ الجرس الذي يساعدنا على استدعاء المحبوب ويضربنا بخفّة على الضلوع كي ننتبه ونصحو. حافظ يدعونا لرؤية نظرات الحبيب في أنفسنا وفي بعضنا البعض، ويوقظ عطشنا للتوحّد مع هذا الحبيب من خلال الرقص المنتشي بحبّ الحياة".

    لـغـز لـقـد أعـيا الـورى حـلّه " ... " فـحـيّـر الـزنـديـق والـمـؤمـنا
    يا ربّ ما الحكمة في ما نرى " ... " يــا مـن تـحجّبتَ وراء الـسنا
    جــراحــنـا خــافـيـة جــمّــة " ... " ولـيس لـلشكوى مـجال هنا

    الشعر، بنظر المؤلّف، هو تعبير بكلمات القلب. وقراءته قد تحرّك في داخلك شعورا عميقا بالارتباط مع الشاعر. وكما هو الحال مع حافظ، قد يحوّل شعره نظرك إلى الاتجاه الذي يأتي منه مزيد من الضوء ويسمح للكلمات بأن تغرق في قلبك مثل أغنية تلهم السامعين.

    تاجي علي رأس من أهواه تاجانِ " ... " هـو المليك ولي حجبي وإذعاني
    عـيـناه فـتـنته فـي الأرضِ سـائرة " ... " مـن معبد الهندِ حتى عرشِ إيران
    وكـــم تــراءت بـتـركستانَ طـلـعته" ... " وكـــم تـجـلّـى مـحـيّـاه بـجـرجانِ
    جـرى الـفرات خـفيفا تـحت وطأته " ... " وفــي الـعـراق لــه صــرح وبـابـانِ
    تـأتـي الـعـذارى إلـيه مـن مـنابعها" ... " فــي الـنـيل تـرفـل ألـوانـا بـألوانِ
    وكـيـف أخــرج مـن أطـراف دولـته " ... " وهــو الـمـمجّد سـلطانا بـسلطانِ

    ويؤكّد لادينسكي على أن قصائد حافظ ليست بقايا أدب من الماضي البعيد، ولكنها تحف مليئة بالحكمة العزيزة والخالدة. كما يذكّر بأنه خلال الفترة التي كتب فيها حافظ قصائده، كانت تلك القصائد كثيرا ما تُغنّى في الطرقات ويحفظها الناس عن ظهر قلب.

    لــي حـبـيب لـو انـه رام قـتلي " ... " بـسـهام لـمـا اتـقـيتُ سـهـامه
    أو رمـى مـهجتي بـسهم حديد " ... " لــتـقـبّـلـت شـــاكــرا أنــعــامـه
    إرمِ عــــن حـاجـبـيـك فـــؤادي " ... " بسهام فلست أخشى سهامه
    أمس أعلنت طاعتي وخضوعي " ... " لـحـبـيـبـي مــقــبّـلا أقـــدامــه
    حــانـي الــرأس لا أريــد بـراحـا " ... " عـن مقامي حتى تقوم القيامة

    يقول المؤلّف: ذات مرّة، وبعد قراءتي لبعض أشعار حافظ في نيويورك، تحدّثت مع طبيبة إيرانية شابّة كانت بين الحضور وسألتها قائلا: أريد أن اعرف رأيك بصراحة، أيّهما تفضّلين أكثر: جلال الدين الرومي أم حافظ؟ فردّت المرأة: حسنا، بالنسبة لي، حافظ يُعتبر اقرب كما انه يبقى لفترة أطول". وتعجّبت من إجابتها الموجزة والذكيّة".
    ويضيف: أعتقد أن السبيل الوحيد للخروج من أيّ معضلة هو الاقتراب من شخص، من روح أو فنّ ما يمكن أن يساعدنا على العودة مرّة أخرى إلى السماء ويقرّبنا أكثر من روح الأرض. إن الاتصال بمعلّم روحيّ حقيقيّ أو طلب العون من صديق عنده قدر من الشفافية الروحية يمكن أن يساعدنا على الخروج من متاهة الحياة. الإنسان بحاجة إلى شخص ينظر إليه بين الحين والآخر بحبّ وتقدير حقيقيّ. ومثل هذا الاهتمام له مفعول المطر الثمين الذي نحتاجه وبدونه نموت. وحافظ يقدّم لنا الدروس التي تُعلّمنا كيف نكون سعداء في مواجهة المعاناة والفقد وخيبة الأمل. وهو يعلّمنا أيضا أن الحياة احتمال ومسار يلازمنا طول العمر لنعرف أنفسنا أفضل ولننمو".

    عـجيب أمـر هـذا الـشعر طـفلٌ عـمرهُ ليلة " ... " يـطوف الـعالم الـمعمور يـقطع وعـره سهله
    ويـمضي خـالدا فـي كـلّ قلب ملهبا شعلة " ... " وكـم مـن عـلّة يـأسو وكـم يـنقع مـن غـلّة
    فـيـا وجــدي إلــى ثـغـر الـحبيب كـأنه فـلّة " ... " ويا ظمئي إلى الصهباء تمسح لاعجي كلّه

  • الأشعار ترجمة محمّد الفراتي.
  • الخميس، أكتوبر 03، 2013

    موديلياني: ما وراء الأسطورة

    لم يعد يُنظر إلى الأعمال الفنّية كأشياء منفصلة وذات حياة خاصّة بها. فاللوحة في النهاية هي إسقاط سيكولوجي لروح الإنسان الذي أبدعها. وكلّ ضربة فرشاة وكلّ لون وخطّ يكتسب معناه الحقيقيّ من مزاج الفنّان عندما وضع لونا هنا أو خطّا هناك، وعندما فضّل لونا على آخر، أو عندما قرّر، مثلا، أن يرسم منظرا طبيعيا بدلا من صورة إنسان.
    مزاج الفنّان واختياره لأدواته وموضوعه وتكنيكه وخطوطه وألوانه كلّها عناصر مهمّة في دراسة النسيج الحميمي لروحه. ولأننا لا نعرف سوى القليل عن هذه العناصر، فإن موقفنا ونحن نقف أمام عمل رسّام كبير ليس موقف إعجاب بالفنّان نفسه، وإنّما بعمله كما لو أن العمل منفصل عن الفنّان.
    هذا التمهيد ضروريّ، وعلى أساسه سنشرع في هذه الدراسة السيكولوجية الموجزة عن حياة وفنّ أميديو موديلياني الذي يُعتبر واحدا من أكثر فنّاني الحداثة شهرة وغموضا.

    ولد موديلياني في ليفورنو بإيطاليا في يوليو من عام 1884 وقضى طفولته مريضا، الأمر الذي أدّى إلى انقطاعه عن الدراسة. وفي سنّ السادسة عشرة، كان يبصق دماً، ومع الدم أجزاء من رئته المريضة. وقد أرسلته أمّه إلى مدرسة الرسم في روما. وكان ذلك عاملا مهمّا في أن الصبيّ أصبح يرى في الفنّ عالما آخر أقوى من عالم الموت. وفي عام 1906، ذهب إلى باريس وأدهشه سيزان، كما فتنه بيكاسو الذي كانت عبقريته تلمع مثل نيزك مضيء في سماء فرنسا.
    وعندما عرض موديلياني لوحاته الأولى في صالون المستقلّين، تمّ إغلاق الغاليري من قبل الشرطة بحجّة أن رسوماته العارية تخدش الحياء. وتلك كانت الفترة البطولية في حياة الرسّام. كان موديلياني يعرف انه سيموت قريبا وكان يدرك أن هناك طريقة وحيدة لهزم الموت، وهي أن يعيش بوتيرة سريعة. كان يحاول أن يختزل عدّة حَيَوات في حياة واحدة. وكان يرسم باستمرار. وبين نوبات السعال العنيف وإدمانه الشراب والمخدّرات، كان يحاول أن يشبع غريزته الجنسية مع اكبر عدد ممكن من النساء اللاتي ينظرن إلينا من لوحاته بأعينهنّ اللوزية الضيّقة وملامحهنّ الهشّة والدقيقة.
    كان كلّ يوم من سنوات كفاح موديلياني الأربع عشرة تحت لعنة المرض والفشل والفقر يشبه اليوم الذي قبله. كان يستيقظ متأخّرا. أشعّة الشمس كانت الشيء الوحيد النظيف الذي يدخل غرفته. كان رأسه يؤلمه كلّ صباح مع نوبات سعال وبرد ورجفة. وكلّ شيء في غرفته كان رماديّا: لحاف السرير والمناشف والجدران التي أكلتها الرطوبة، وحتى الوجه المنعكس في المرآة.

    في عام 1918، حصل موديلياني على دخل بسيط بعد أن تمكّن من بيع خمس عشرة من لوحاته إلى صديق. ثمّ ذهب بعد ذلك إلى جنوب فرنسا. وعندما عاد بعد أشهر إلى باريس، دخل احد المستشفيات بسبب تدهور حالته الصحّية. وتوفّي في يناير من عام 1920. وبعد ساعات من موته، أقدمت خطيبته جان إيبيتيرن، في خطوة رومانتيكية نادرة، على الانتحار قفزا من نافذة شقّتهم.
    وعندما توفّي موديلياني بدأت أسطورته في التشكّل. وقد تنحّت الوحوشية والتكعيبية جانبا لإفساح المجال أمام القادم الجديد الذي كان يرسم النساء بأعناق تشبه أعناق الإوز.
    ترى كيف يمكن لعلم النفس أن يلقي بعض الضوء على شخصية موديلياني المعقّدة؟ وهل يمكن أن توفّر الرموز في لوحاته بعض الأدلّة عن طبيعة تهويماته ودوافعه الانفعالية؟
    إحدى الوسائل الأكثر انتشارا في هذا الشأن هي رسومات الشكل الإنساني. وهذه الطريقة تستند إلى فكرة مؤدّاها أن شخصيّاتنا تكشف عن نفسها من خلال أفكارنا وكلماتنا وإيماءاتنا وحركاتنا وأفعالنا. فعلى سبيل المثال، اطلب من أيّ إنسان أن يرسم شخصا، وسيرسم شخصا يتماهى معه لا إراديّا. وفي النهاية فإن صورة الشخص المرسوم ما هي إلا صورة الشخص الذي رسمه كما تتجسّد في لاوعيه. أي أن الشخص المرسوم يرتبط بحميمية مع الإنسان الذي رسمه، بمثل ما أن الخطّ يرتبط بكاتبه.
    وإذا كان بيكاسو تخيّل العالم مصنعا للساعات وأنه هو صانعها وتَوَقّع القنبلة النووية وتحلّل الكون، فإن موديلياني حوّل العالم إلى ألبوم من الشخصيات الفنّية في زمانه والأشخاص الصغار الذين كانوا يعيشون حوله. فقد رسم نحّاتين مثل برانكوزي ولوران، وشعراء مثل كوكتو واخماتوفا، ورسّامين مثل سوتين وكيسلنغ، بالإضافة إلى الرجال والنساء العديدين الذين كان يراهم وهم خارجون من مبنى الأوبرا.
    ورسم أيضا الخادمات والموسيقيين وأطفال الحيّ. كما رسم، وعلى وجه الخصوص، عشيقاته. كانت تتملّك موديلياني رغبة عميقة بتخليد كلّ شخص يعرفه. وبعض النقّاد يعتبرون عارياته أكثر الأشخاص عُريا في تاريخ الرسم. وهنّ يبدين شهوانيات بلا خجل ومغريات بلا تحفّظ.

    شخوص موديلياني دائما ما يعطون انطباعا عن الوحدة والحنين. وهم يعكسون انطوائية الرسّام نفسه. وضعيّاتهم في اللوحات توحي بالانسحاب إلى الداخل، كما لو أنهم يحترسون من بيئاتهم المحيطة. وأيديهم معقودة في أحضانهم في موقف قد يوصف بأنه أمومي.
    الانسحاب والدفاع الذاتي هما السلاحان اللذان يلجأ إليهما شخص يشعر بأنه محاط بقوى عدائية. الخلفيات الدخانية والمكشوفة والصدِئة في اللوحات يُرجّح أنها ترمز إلى العالم السديمي للكحول والمخدّرات، وربّما للحنين الذي يداعب مخيلة الفنّان.
    نساء موديلياني فخورات وذوات كبرياء وبهاء. ولهنّ وقار وَثَن بعينين مصنوعتين من العقيق تُرك مهجورا في صحراء نائية متحمّلا هجمات العناصر وتعاقب الدهور والأزمنة. أما رجاله فيشبهون آلهة الأزتك في لامبالاتهم وسكونهم وخلودهم.
    من الناحية السيكولوجية، كان موديلياني ينظر إلى الآخرين بعيني طفل. وكان يرى الكبار عمالقة أقوياء لا تحرّكهم العواصف. موديلياني الذي لم يتوقّف أبدا عن التصرّف كطفل، كان يجسّد في نسائه النموذج الأمومي. وقد صنع من كلّ امرأة في لوحاته نموذج المرأة/الأم/الإلهة التي تُحبّ وتُحترم في الوقت نفسه.
    العنق كان الملمح الأكثر وضوحا في معظم أعمال موديلياني. وكثيرا ما تظهر الأعناق الطويلة والرفيعة في رسومات الأشخاص المصنّفين سيكولوجيا بأنهم ناقصو النموّ وفصاميّون. وعندما يُظهِر رسّام ما شغفا واهتماما بالأعناق في رسوماته، فإنه يكشف بهذا عن حقيقة انه منشغل بالصراع بين دوافعه الجسدية والانضباط الذي يُمليه عليه عقله.
    العنق هو العضو أو الجزء الذي يفصل بين الحياة الفكرية "الرأس" والحياة الغريزية "الجسد". وحقيقة أن الرسّام كان يطيل أعناق موديلاته أو نسائه خارج كلّ النسب المعقولة والطبيعية يعكس بوضوح الصراع بين دوافعه الغريزية القويّة ورغبته في السيطرة عليهنّ من خلال ملكاته الذهنية أو العقلية.

    رؤوس الشخوص في لوحات موديلياني تبدو في كثير من الأحيان مشوّهة. والرأس عادة يرمز للأنا، كما انه رمز لكلّ قوانا الفكرية والاجتماعية، بل ورمز لسيطرتنا على دوافعنا الجسدية والمادّية. وعندما يفقد شخص، أو فنّان، السيطرة على نفسه، فإنه يعوّض عن هذا الفقد عادة بتكبير حجم الرأس في رسوماته.
    أفواه شخوص موديلياني، كما تظهر في رسوماته، تأخذ شكل سهم كيوبيد. وتكرار هذا النموذج للفم في لوحاته يشير إلى اهتمام مَرَضي بمنطقة الفم، وهي سمة الأشخاص الشبقين جنسيّا والمدمنين على الكحول والذين يعانون من الطفولية السيكو-جنسية. وهذه النوعية من الأشخاص لديهم غالبا حاجة قويّة للتركيز على الفم كعضو مانح للمتعة.
    العينان نصف المغلقتين اللتان يرسمهما موديلياني لنسائه تشيران إلى عدم النضج العاطفي. إنهما عينا شخص ينظر إلى العالم دون أن يراه، اللهمّ إلا ككتلة سديمية ومنتجة للإثارة. ومن خلال عيون شخوصه نصف المغلقة، فإن الفنّان نفسه يحدّق، دون كثير اهتمام، إلى العالم من المسافة التي يفرضها مرضه وإدمانه على الكحول.
    ومن ناحية أخرى، فإن العيون نصف المغلقة تعبّر عن رغبة في أن يبقي العالم خارجا وأن يركّز فقط على نفسه وعلى هاجسه بجسده المريض.
    فنّ موديلياني يعكس الخصائص السيكولوجية لشخصيّته كرجل، والتي بدورها تحدّد سمات فنّه. وتوق الرسّام لضبط النفس روحيا وفكريا كان دائما في حالة صراع مع متطلّبات طبيعته الحسّية المفرطة. أحلامه عن الفوران الجسدي والجنسي كانت تتناقض مع أدواء جسده. كما أن رغبته في بلوغ المجد كانت تتصادم مع احباطات وفقر الواقع.
    لقد أطلق موديلياني العنان لغرائزه حتى احترق في أتونها، رغم انه كان يحاول جاهدا أن لا يطغى ضعفه البشري على فنّه. واختياره أن يرسم بشرا فقط ربّما يكشف عن رعبه من الوحدة. أما محاولته تخليد شخوصه وذلك بإضفاء مظهر آلهة سرمدية عليهم فقد ينمّ عن رغبته في التسامي فوق قصور وعجز البشر العاديين اللامخلّدين مثله.
    وأخيرا، يبدو شخوص موديلياني بعيدين عن الموت، لأن الرسّام حوّلهم إلى أفكار مثالية منحوتة. أما ذلك الهدوء الحزين الذي كان ينقله إلى شخوصه فربّما كان محاولة منه لتحقيق حلمه بالسلام الذي لم يجده أبدا خلال حياته المنهكة والمضطربة. مترجم.

    السبت، سبتمبر 28، 2013

    الصحراء الكبرى: تاريخ ثقافي

    زيارة الصحراء الكبرى والتجوّل بين معالمها هو حلم كان وما يزال يراود الكثيرين. ومن بين من فتنتهم رمال هذه الصحراء وواحاتها وسكّانها الاسكندر الأكبر ونابليون بونابرت واللورد بايرون والكاتب الأمريكي بول بولز.. وغيرهم.
    في هذا الكتاب بعنوان "الصحراء الكبرى: تاريخ ثقافي"، يغطّي الباحث والمستعرب البريطاني إيمون غِيرون تاريخ الصحراء الكبرى، من عصور ما قبل التاريخ وصولا إلى الدراما السياسية التي تشهدها المنطقة اليوم: آلاف السنين من المستوطنات البشرية، وإحدى عشرة دولة حديثة، وطبيعة تسرّ وتُفزع بشكل متساو: بحار من الرمال وجبال تشبه تضاريس القمر وأراض بُور وواحات ماء وخضرة واهبة للحياة.
    المشهد الإنساني للصحراء يتألّف من البدو والصيّادين والمزارعين وعدد لا يُحصى من الغزاة الذين جاءوا إليها مسلّحين بالسيوف والبنادق. وهناك زوّار آخرون جاءوا يحملون الأقلام وأدوات الرسم وآلات التصوير. وعلى مرّ قرون، وجد الفنّانون والكتّاب والشعراء وصنّاع الأفلام متعتهم في الصحراء الكبرى. المستكشفون والمغامرون والجغرافيّون عبروا، هم أيضا، الصحراء بحثا عن الذهب والعبيد والملح.
    يقول المؤلّف في مقدّمة الكتاب: اسم الصحراء عربيّ. و"صحراء" كلمة تُطلق على جميع الصحارى في العالم. لكنّ هذه الصحراء بالذات، تُعتبر الأكبر والأروع، وهي ببساطة ملكة صحارى العالم. الصحراء الكبرى هي أكبر وأهمّ صحراء على كوكبنا. تمتدّ مساحتها من ضفاف النيل إلى شطآن المحيط الأطلسي، ومن البحر المتوسّط إلى نهر النيجر وأسوار تمبكتو. مساحة سطح الصحراء أكبر من مساحة الولايات المتحدة، ويبلغ عدد سكّانها بالكاد عدد سكّان بروكلين.
    ويناقش المؤلّف ماضي الصحراء المائيّ والذي يعود تاريخه إلى ملايين السنين، عندما كان بحر تيثيس يغطّي الأرض التي تُسمّى اليوم بالصحراء الكبرى. ويشير إلى انه قبل تسعة آلاف عام فقط، كانت الصحراء الكبرى أرضا خضراء ترعى فيها الفيلة والزراف والظباء وغيرها من الحيوانات.
    ثم يتحدّث عن الصحراء كأرض للموتى بالنسبة لمصر القديمة، وكمدفن ضخم لجيش من خمسين ألف مقاتل بقيادة ملك فارسي قديم يُدعى قمبيز. وقد هلك هؤلاء جميعا بعد أن اكتسحتهم عاصفة رملية في القرن السادس قبل الميلاد. ثم يتحدّث عن هانيبال وفيَلته وحرب يوليوس قيصر ضدّ انطوني وكليوباترا وعن الاسكندر الأكبر وجيوش الإسلام ونابليون وحرب رومل ضد مونتغومري.
    كما يتناول الأساطير والألغاز الغامضة المرتبطة بالصحراء الكبرى، مثل بحر الرمال العظيم ومَرْكبات الآلهة وسيّارات المستعمرين ومناجم الملح والذهب وحقول النفط والغاز والأنهار التي صنعها الإنسان.
    ويدلّل الكاتب على أهميّة العامل البشري في تاريخ الصحراء وذلك باقتباس روايات مباشرة من مشاهير الرحّالة كابن بطّوطة وكذلك من بعض المستكشفين الأوروبيين مثل فريدريش هورنيمان وهاينريش بارت وغيرهما. وبعض المقاطع من اليوميات الشخصية والمصادر الأوّلية ترسم لبعض زوّار الصحراء صورة عن أناس ملهمين وحسني النيّة، وللبعض الآخر صورة لبشر موغلين في الجهل وحتى العنصرية.
    تاريخ الصحراء الكبرى حافل بأمثلة عن حضارات وامبراطوريات سادت ثم بادت بسبب الجفاف وندرة الماء. واليوم لا يوجد سوى أربعة ملايين من السكّان الأصليين في الصحراء. لكن على مرّ التاريخ، كان يُنظر إلى الصحراء كمكان للمتمرّدين والخارجين عن القانون. في العصر الروماني، مثلا، كانت المكان المفضّل لكلّ من يريد التهرّب من دفع الضرائب والاختباء بعيدا عن الأعين. وقد رأى فيها المصريون أرض الأموات. ثم أصبحت مخبئاً لقطّاع الطرق الذين يسلبون المقابر على الضفّة الغربية لنهر النيل.
    ثم يتطرّق المؤلّف إلى الإبداعات الفنّية الحديثة المستوحاة من الصحراء الكبرى وكذلك اللقاءات بين شعوب الصحراء الأصليين وزوّارها. ويتناول قصائد الحرب وقصص التجسّس والروايات والأشعار التي استلهمت مواضيعها من الصحراء. القارئ الذي يهوى الأدب سيكتشف كيف أن شخصيّات أدبية كبيرة مثل ووردزوورث وكولريدج وشيلي وكيتس تعرّفوا على الصحراء بشكل حميمي رغم أنهم ظلّوا بعيدين عنها جسديّا.
    الهدف الذي سعى إليه المؤلّف هو تناول مختلف الطرق التي صُوّرت بها الصحراء في مخيّلة أولئك الذين وطأتها أقدامهم ومن ثمّ إجراء تحقيق تاريخي في التشكيل الثقافي للصحراء. وهو يشير إلى أن الانبهار بالصحراء كانت تغذّيه دائما كتب مشهورة مثل الرمال الليبية لرالف باغنولد وكتاب إيماءة جميلة لبرسيفال رين وكتاب يوم الخلق لجيمس بالارد، وهي مراجع ما تزال إلى اليوم حيّة وغنيّة بالمعلومات.
    والحقيقة أن الصحراء الكبرى ألهمت العديد من الشعراء والكتّاب. والكثيرون منهم لم يسافروا أبدا إلى هناك. لكن لم تكن الحال كذلك بالنسبة لشخص مثل انطوان دو سانت إغزوباريه، الرائد الأكثر شهرة للرحلات عبر الصحراء. وإغزوباريه معروف أيضا بروايته الأمير الصغير، وهي حكاية خرافية جميلة للأطفال والكبار يصف فيها تجربة اقترابه من الموت عطشا في الصحراء الكبرى. وقد تُرجمت هذه الرواية إلى مائة وثمانين لغة وباعت أكثر من ثمانين مليون نسخة في جميع أنحاء العالم، ما جعلها تتبوّأ مكان الصدارة في قائمة أفضل الكتب مبيعا باللغة الفرنسية في جميع الأوقات.

    لكن، وحسب المؤلّف، لا يوجد شخص عبّر عن الشعور الحقيقي لزائر أو ساكن الصحراء بمثل بلاغة الكاتب الأمريكي بول بولز الذي قال: لن تجد شخصا عاش في الصحراء فترة من الوقت وظلّ هو نفس الشخص الذي جاء إليها أوّل مرّة. في هذا المشهد الفخم الذي تضيئه النجوم مثل المشاعل، لا شيء يبقى سوى أنفاسك وصوت قلبك وهو ينبض. لا يوجد مكان آخر يوفّر لك الإحساس بالرضا عن الوجود والشعور باللانهائية مثل هذا المكان".
    ويتحدّث الكاتب عن التحف الفنّية التي تضمّها الصحراء الكبرى من عصور ما قبل التاريخ من قبيل ما يُعرف باللوحات الحمراء التي عُثر عليها في كهف السبّاحين وتحدّث عنها الفيلم التذكّري المريض الانجليزي. والمؤسف أن الكثير من هذه التحف تتعرّض للتهديد المستمرّ بإتلافها وحتى سرقتها.
    ثم يتطرّق إلى الكنوز المدفونة في الصحراء والى المبشّرين والسيّاح المغامرين الذين سعوا جميعا إلى ترك بصماتهم الخاصّة على الصحراء. يقول: لا توجد برّية أخرى اجتذبت مثل هذا العدد الكبير من المسافرين غير العاديّين. ثم يستدرك فيقول: طبعا لا يمكن لأحد أن يرسم للصحراء صورة عن الجنّة. فهي بالتأكيد ليست فردوسا من أيّ نوع. وهناك الكثير من الأوروبيين الذين سافروا إلى هناك، إمّا متنكّرين أو بأزياء بلدانهم، وانتهوا مقتولين على أيدي أدلائهم السياحيين".
    وعلى الرغم من انه لا يمكن إنكار مدى عزلة هذه الصحراء ونأيها وقسوتها، إلا أن المؤلّف يدلّل على أن الصحراء ليست بأيّ حال خالية من التاريخ والثقافة والحياة. ويشير إلى واحدة من أكثر فترات الصحراء إثارة للاهتمام، أي عندما أصبحت تمبكتو مركزا للتعلّم، وعندما كانت قوافل الحجّ العظيم، وأشهرها قافلة ملك مالي موسى الأوّل، تعبر الصحراء كلّ عام جالبة معها الكنوز مثل العاج والتوابل والذهب إلى أسواق القاهرة.
    وفي جزء آخر من الكتاب، يتحدّث الكاتب عن ما يسمّيه بـ "صمت الحدود" التي تفصل بين دول الصحراء. فاستقلال جنوب السودان مؤخّرا يعني أن الصحراء تضمّ الآن اثني عشر، وليس أحد عشر بلدا فقط. وبينما لا توجد هويّة واضحة لعموم الصحراء الكبرى، فإنها تبدو واحدة من أهمّ مناطق العالم التي وضعت حدودها القوى الاستعمارية الكبرى بشكل تعسّفي. وعلى سبيل المثال، فإن سكّان واحة سيوة في غرب مصر يشعرون أنهم مرتبطون بمنطقة شرق ليبيا أكثر من ارتباطهم بالحكومة في القاهرة.
    ليس من شكّ في أن ايمون غيمون يحبّ الصحراء بعمق. وهو بارع في العثور على الأوصاف الدقيقة، سواءً من الآخرين الذين يكتب عنهم أو من كلامه هو. وصفه الشاعريّ والجميل لروح الصحراء لا يمكن أن يأتي إلا من شخص يهوى الصحراء بشغف ويفهمها بعمق. وهو يبدي أسفه لأنه جرى إضفاء طابع رومانسي واستشراقي على الصحراء على مدى قرون وتعدّى عليها الكثير من الغرباء لدرجة أن المنطقة تعاني الآن من مشكلة إدراك. وكما هو حال شعوب كثيرة على الأرض، فإن شعب الصحراء متنوّع ومقسّم. والعديد من الصحراويين يحلمون بوضع أقدامهم على الأراضي الخصبة والخضراء في قارّات أخرى.
    اليوم تتعرّض السياحة في الصحراء لتهديدات خطيرة بسبب الحرب وأنشطة قطّاع الطرق وفروع تنظيم القاعدة الإرهابي. وهذه الظروف الصعبة يمكن أن تؤدّي إلى حرمان سكّان الصحراء من البدو الرحّل من الدخل البسيط الذي يبقيهم على قيد الحياة.
    يقول المؤلّف: الفكرة الصحيحة عن الشعب الصحراوي هي اكتفائهم الذاتي. وما يميّز معظمهم هو ضيافتهم المطلقة وغير المشروطة. وإذا صادفوا شخصا ما في الصحراء، فإنهم يُلزمون أنفسهم بتغذيته وسقايته ثلاثة أيّام، حتى قبل أن يسألوه عن اسمه أو من أين قدِم".
    والمؤلّف لا يعتقد أن غموض الصحراء قد اختفى. لكن اكتشاف ذلك الغموض مسألة شخصية. "الصحراء هي المكان الذي يجد فيه الناس أنفسهم. لذا ليس من المستغرب أن الديانات الثلاث الموحّدة الكبرى خرجت منها. وكثيرا ما يسألني الناس عن طبيعة العيش في الصحراء. وأقول لهم في الليلة الأولى أو الثانية ستقول لنفسك "ماذا جئت أفعل هنا بحقّ الجحيم"! وقد يتهدّدك خطر الجنون المؤقّت. ولكن بعد ذلك، سيغمرك شعور لا يوصف بالسلام والسكينة".
    ويضيف: بخلاف الفكرة السائدة عند الكثيرين، فإن الصحراء ليست صامتة كما أنها ليست مجرّد مكان كبير وفارغ. عندما تكون على بعد مئات الأميال من قرية أخرى، ستحسّ بالدم وهو يتدفّق عاليا في أذنيك وتسمع ضخّ العروق في جسدك، ويمكنك أيضا سماع صفير الرياح أو أنين وتذمّر الإبل. أنت لست وحدك أبدا في الصحراء".
    إيمون غِيرون يعرف موضوعه جيّدا بحكم انه عمل وسافر وعاش في الصحراء طوال العشرين عاما الماضية. وهو يقول إن احد أهمّ دوافعه من وراء تأليف الكتاب كان استياءه من سوء الفهم والصورة المبتذلة التي يحتفظ بها كثير من الناس عن المنطقة وأهلها. كما انه لا يشاطر إدوارد سعيد نظريّته في أن الاستشراق كان أداة لسيطرة الغربيين على الشرق. "أعتقد أن هناك العديد من العلماء والفنّانين والرحّالة الذين درسوا الشرق على سبيل حبّ المعرفة ولم يرتبطوا بحكومات ولا جيوش أو بأيّ شيء آخر".
    غِيرون يعمل باحثا وأستاذا في كلّية الدراسات الدولية بجامعة جونز هوبكنز. وقد عُرف بأنه مستكشف للصحراء وخبير بتاريخها. بدأ غِيرون تعليمه الذي رافقه طوال حياته عن أساليب العيش والبقاء في الصحراء منذ العام 1997م. وقد درس حياة البدو في غرب مصر، وذهب منفردا على ظهر جمل لاستكشاف الصحراء المصرية.
    والباحثون عن المغامرة وعشّاق السفر والقرّاء العاديّون الذين يهمّهم أن يعرفوا شيئا عن الصحراء الكبرى، أو عن الصحراء بشكل عام، سيستمتعون ولا شكّ بقراءة كتابه هذا. بل قد يكون الكتاب دافعا للقارئ كي يبيع منزله ويشتري ثلاثة من الجمال لقضاء العامين القادمين في الصحراء. وإذا كان هذا الاحتمال يبدو غريبا أو مستبعدا، فيمكنك أن تكتفي فقط بقراءة كتاب وضعه شخص متنوّر وذو عين لاقطة مع مقدرة كبيرة على السرد الممتع والمحكم.