على بعد أمتار، كانت هناك مجموعة من رؤوس الغنم المقطوعة. الأفواه فاغرة والمناخير مفتوحة على اتّساعها. والرؤوس تنظر إليك كما لو أنها مستعدّة للغناء.
رأيت هذا المنظر قبل سنوات في سوق حلب الكبير، أي في قلب المدينة التي يقال إنها أقدم مدينة مأهولة في العالم. وبعد بضع ساعات من التجوال في شوارعها، أدركت أن باستطاعتي أن أجد أيّ شيء تقريبا في محلاتها التي يربو عددها على الألف.
كان هذا السوق مركز المدينة حتى في زمن الرومان. وأكثر معروضاته لم تتغيّر منذ ذلك الحين. وفي نهاية اليوم، عاينت محلا لبيع التحف القديمة ولاحظت أن الهواء حوله مشبع بروائح التفّاح المحترق المتصاعد من الاراغيل في مقهى مجاور والتي يخالطها روائح عرق وتوابل وشاي.
وبعد قليل ظهر من داخل المحلّ رجل أخذ ينظر إليّ شزرا ثم سألني: هولندي أم فرنسي أم انجليزي؟! قلت: أمريكي. فقال بابتهاج: أهلا أمريكا! ثم لوّح بيديه باتجاه أواني البصل والمخلّل ورؤوس الغنم المقطوعة وقال: هل تأكل شيئا يا سيّد أمريكا؟
شكرته وواصلت سيري بحثا عن رؤوس من نوع آخر.
في كلّ دليل سياحي عن سوريا، هناك إشارة إلى أن رفات النبيّ زكريا يمكن رؤيتها في مسجد حلب الكبير. ومثل الرؤوس المقطوعة المعروضة للبيع في ذلك المطعم، فإن حقيقة أن شخصية غامضة من التاريخ المسيحيّ ينظر إليها المسلمون نظرة احترام وتوقير كان بالنسبة لي أمرا مدهشا.
وكدين، يعتبر الإسلام نفسه الأخير في سلسلة الأديان الموحّدة. وعلى مرّ القرون، لم يستوعب الإسلام ذكريات وقصص الأنبياء الأوّلين فحسب ، وإنما اقترض عظامهم أيضا. المسجد الكبير في دمشق معروف أيضا بأنه يؤوي رأس شخصية كبيرة من العهد القديم هو النبيّ يحيى "أو يوحنّا المعمدان" الذي أمرت سالومي بفصل رأسه عن جسده في القصّة المشهورة.
وعلى الحدود السورية مع لبنان، يمكن للمرء أن يجد قبر هابيل ابن آدم الذي يقول عنه القرآن والإنجيل انه أوّل من مات من البشر وأوّل من دُفن في الأرض أيضا.
وهناك قبور أخرى في أماكن مختلفة من العالم الإسلامي لشخصيّات مسيحية أخرى مثل أيّوب وقابيل وإسماعيل وشيت وهارون وقائمة طويلة من الأسماء. أنبياء يتمّ تذكّرهم في المسيحية واليهودية بالكلمات فقط، ولكن الإسلام منحهم أجسادا وقبورا.
قبر آدم وحوّاء مسألة مختلف عليها. يقال إن حوّاء مدفونة في جدّة بالمملكة العربية السعودية، وإن رأس آدم مدفونة في المسجد الإبراهيمي في الخليل وساقيه مدفونتان تحت قبّة الصخرة بالقدس. والإسلام لا يعلّق على الزعم المسيحي بأن جمجمة آدم مدفونة تحت الموقع الذي صُلب فيه المسيح.
تجاوزتُ تجّار التوابل والمجوهرات وباعة السجّاد وتجوّلت بحثا عن طريق تقود إلى المسجد أو حتى عن طريق للخروج من السوق. وأخيرا لمحت مجموعة من أربع نساء متّشحات بالسواد من الرأس حتى القدمين. وقد تبعتهنّ مثل صائد اسماك يتعقّب كتلة سوداء تتحرّك تحت الأمواج.
دخلت النساء عبر مجموعة من الأبواب الخشبية. وفعلت أنا نفس الشيء. ووجدت نفسي في مكان بارد وواسع ومفروش بالسجّاد الأخضر. وعندما وقفت في المدخل، هبّت من داخل المسجد نفحة من هواء مضمّخ بروائح المسك.
خلعت النساء أحذيتهنّ ونزلن أسفل الدرج. وتبعتهن. ونظرت إلى يساري فوجدت حشدا من الناس. الرجال منفصلون عن النساء. والجميع يمدّون أيديهم متوسّلين باتجاه الجدار.
وما أن تحرّكت بضع خطوات باتجاههم حتى سمعت صوتا يشبه هسيس إطار مثقوب. ثم تبيّنت مصدر الصوت. كان هناك رجل ملتح يرتدي ثوبا طويلا وينزل درج المنبر. اعتقدت انه المؤذّن أو المسئول عن نظافة المسجد. حرّك الرجل إصبعه نحوي وأشار إلى قدمي ثمّ إلى الباب. ارتبكت قليلا ثم تراجعت بضع خطوات بسرعة وقفلت عائدا إلى السوق والمتاهة.
رأيت هذا المنظر قبل سنوات في سوق حلب الكبير، أي في قلب المدينة التي يقال إنها أقدم مدينة مأهولة في العالم. وبعد بضع ساعات من التجوال في شوارعها، أدركت أن باستطاعتي أن أجد أيّ شيء تقريبا في محلاتها التي يربو عددها على الألف.
كان هذا السوق مركز المدينة حتى في زمن الرومان. وأكثر معروضاته لم تتغيّر منذ ذلك الحين. وفي نهاية اليوم، عاينت محلا لبيع التحف القديمة ولاحظت أن الهواء حوله مشبع بروائح التفّاح المحترق المتصاعد من الاراغيل في مقهى مجاور والتي يخالطها روائح عرق وتوابل وشاي.
وبعد قليل ظهر من داخل المحلّ رجل أخذ ينظر إليّ شزرا ثم سألني: هولندي أم فرنسي أم انجليزي؟! قلت: أمريكي. فقال بابتهاج: أهلا أمريكا! ثم لوّح بيديه باتجاه أواني البصل والمخلّل ورؤوس الغنم المقطوعة وقال: هل تأكل شيئا يا سيّد أمريكا؟
شكرته وواصلت سيري بحثا عن رؤوس من نوع آخر.
في كلّ دليل سياحي عن سوريا، هناك إشارة إلى أن رفات النبيّ زكريا يمكن رؤيتها في مسجد حلب الكبير. ومثل الرؤوس المقطوعة المعروضة للبيع في ذلك المطعم، فإن حقيقة أن شخصية غامضة من التاريخ المسيحيّ ينظر إليها المسلمون نظرة احترام وتوقير كان بالنسبة لي أمرا مدهشا.
وكدين، يعتبر الإسلام نفسه الأخير في سلسلة الأديان الموحّدة. وعلى مرّ القرون، لم يستوعب الإسلام ذكريات وقصص الأنبياء الأوّلين فحسب ، وإنما اقترض عظامهم أيضا. المسجد الكبير في دمشق معروف أيضا بأنه يؤوي رأس شخصية كبيرة من العهد القديم هو النبيّ يحيى "أو يوحنّا المعمدان" الذي أمرت سالومي بفصل رأسه عن جسده في القصّة المشهورة.
وعلى الحدود السورية مع لبنان، يمكن للمرء أن يجد قبر هابيل ابن آدم الذي يقول عنه القرآن والإنجيل انه أوّل من مات من البشر وأوّل من دُفن في الأرض أيضا.
وهناك قبور أخرى في أماكن مختلفة من العالم الإسلامي لشخصيّات مسيحية أخرى مثل أيّوب وقابيل وإسماعيل وشيت وهارون وقائمة طويلة من الأسماء. أنبياء يتمّ تذكّرهم في المسيحية واليهودية بالكلمات فقط، ولكن الإسلام منحهم أجسادا وقبورا.
قبر آدم وحوّاء مسألة مختلف عليها. يقال إن حوّاء مدفونة في جدّة بالمملكة العربية السعودية، وإن رأس آدم مدفونة في المسجد الإبراهيمي في الخليل وساقيه مدفونتان تحت قبّة الصخرة بالقدس. والإسلام لا يعلّق على الزعم المسيحي بأن جمجمة آدم مدفونة تحت الموقع الذي صُلب فيه المسيح.
تجاوزتُ تجّار التوابل والمجوهرات وباعة السجّاد وتجوّلت بحثا عن طريق تقود إلى المسجد أو حتى عن طريق للخروج من السوق. وأخيرا لمحت مجموعة من أربع نساء متّشحات بالسواد من الرأس حتى القدمين. وقد تبعتهنّ مثل صائد اسماك يتعقّب كتلة سوداء تتحرّك تحت الأمواج.
دخلت النساء عبر مجموعة من الأبواب الخشبية. وفعلت أنا نفس الشيء. ووجدت نفسي في مكان بارد وواسع ومفروش بالسجّاد الأخضر. وعندما وقفت في المدخل، هبّت من داخل المسجد نفحة من هواء مضمّخ بروائح المسك.
خلعت النساء أحذيتهنّ ونزلن أسفل الدرج. وتبعتهن. ونظرت إلى يساري فوجدت حشدا من الناس. الرجال منفصلون عن النساء. والجميع يمدّون أيديهم متوسّلين باتجاه الجدار.
وما أن تحرّكت بضع خطوات باتجاههم حتى سمعت صوتا يشبه هسيس إطار مثقوب. ثم تبيّنت مصدر الصوت. كان هناك رجل ملتح يرتدي ثوبا طويلا وينزل درج المنبر. اعتقدت انه المؤذّن أو المسئول عن نظافة المسجد. حرّك الرجل إصبعه نحوي وأشار إلى قدمي ثمّ إلى الباب. ارتبكت قليلا ثم تراجعت بضع خطوات بسرعة وقفلت عائدا إلى السوق والمتاهة.
عدت إلى حيث الرؤوس المقطوعة قبل أن أدرك أن المؤذّن إنما كان يشير فقط إلى حذائي الذي نسيت أن اخلعه قبل أن انزل درجات السلّم.
وناداني الجزّار مجدّدا: هل عدت لتأكل يا مستر أمريكا؟ وما الذي تبحث عنه؟
نظرت إلى عدد من الدروب الممكنة ولم أتذكّر بالتحديد الطريق الذي أخذني إلى مدخل المسجد.
أخبرني يا صديقي عن ماذا تبحث؟
- رأس زكريا.
مرّة أخرى رمقني الجزّار بنظرة ازدراء وكأنه يقول: رؤوس الأغنام نعم، رؤوس الأنبياء لا..
وعدت إلى شوارع حلب. أتذكّر أننا كنّا في يونيو والحرارة على أشدّها في المدينة. وما زاد الإحساس بحرارة الجوّ أغطية النساء المارّات بالجوار. لم يكنّ يرتدين الخمار فقط بل الملابس الطويلة والكاملة التي لا تترك أثرا عن أيّ شيء مكشوف. حتى أصابعهنّ كانت ملفوفة بقفّازات من النايلون الأسود. وقد اكتشفت ذلك بعد ملاحظتي لبعض الأيدي الممدودة طلبا للمساعدة.
حتى عندما تصرف النظر عن جميع الأسئلة عن عدالة مثل هذه الأغطية الدينية الصارمة، فإنك لا تستطيع أن تفهم كيف تمكّنت هؤلاء النساء من البقاء على قيد الحياة. وطبعا البقاء مسألة نسبية في الحياة كما هو في الدين والسياسة.
بعد أسابيع من وصولي إلى حلب، جرت انتخابات في سوريا. ورغم عدم وجود منافسين، فإن الرئيس بشّار الأسد كان قد أمطر المدينة بوابل من الملصقات الدعائية التي تحمل صورته. ومن كلّ سطح بيت أو بناية، كانت الوجوه المتعدّدة للأسد تحدّق إلى أسفل. ولم يكن بالإمكان تجنّب نظراته. إلى اليمين الأسد، وإلى اليسار الأسد. كان وجه الرئيس المنتخب مدى الحياة في كلّ مكان لدرجة أنني بدأت أتمنّى لو أن رأسه كان الرأس الذي جئت إلى هنا باحثا عنه.
تابعت المشي عبر الأزقّّة الملتوية لحلب القديمة. وفجأة انطلقت كرة عبر احد الأبواب، وخرج في إثرها شابّ صغير ابتسم عندما رآني وقال: أهلا يا صديقي. عن ماذا تبحث؟ قلت: المسجد. قال: من السهل أن تضيع هنا. لكنّ طريق المسجد من هناك. وأشار إلى طريق منحدر ثم قال: إذهب إلى أعلى التلّ حتى ترى السحلية على جدار القلعة، ثم اتّجه يمينا.
قلت: هل قلت السحلية؟
قال: نعم، تسلّقتْ إلى ذلك المكان منذ بعض الوقت ولم يجرؤ احد أن ينزلها من مكانها . قف هناك، ثم امش إلى أن ترى جدارا ليس عليه سحالي أبدا".
عندما وصلت إلى قمّة التل، رأيت القلعة تخيّم فوقي. ولأنني كنت ابحث عن سحلية حقيقية، فقد استغرق الأمر منّي لحظات لأرى ما هو واضح. هناك، كانت معلّقة في الأعالي، فوق المدينة. لم تكن سحلية وإنما ملصقا ضخما جدّا للأسد.
وأخيرا وجدت طريقي إلى الجامع الكبير. واكتشفت أن هناك مدخلين، الأوّل للمؤمنين، والثاني للسيّاح. وعندما دخلنا قاعة الصلاة، راعني حجمها الهائل. كانت الأصوات تتردّد لتملأ الفراغ مثل فيضان.
في الجزء الخلفي من المسجد، فُتح باب دخلت منه حفنة من الحجّاج الذين يرتدون الملابس البيضاء من الرأس إلى القدمين. وبعد بضع ثوان، تبعهم عدّة أشخاص آخرين. وشقّوا طريقهم جميعا إلى وسط المسجد وتكدّسوا هناك مثل ثلج منجرف ليملئوا المكان. وجلس الزوّار القرفصاء في صمت. بعضهم كانوا يهزّون أجسادهم ويصلّون بهدوء. ثم تحوّلت الصلاة الفردية إلى زئير جماعي ما لبث أن تحوّل بدوره إلى أغنية. بدا الغناء أشبه ما يكون بأداء جوقة موسيقية. ثم انخفضت وتيرته شيئا فشيئا مفسحا المجال لصوت منفرد صار يعلو على بقيّة الأصوات.
وبينما كان الرجال يغنّون، رأيت أحدهم يتوقّف أمام علامة كُتبت بالإنجليزية. كان رجلا مديد القامة وذا لحية طويلة مصبوغة بالحنّاء، وهو تقليد يقال انه يعود إلى زمن محمّد نفسه.
سألته عن عدد أفراد مجموعته ومن أين أتوا ولماذا، فقال: نحن ثمانية وتسعون شخصا وقد جئنا للزيارة من باكستان". ثم سألته عن الأغنية التي كانوا يردّدونها، فقال إنها تحظى بشعبية كبيرة في باكستان وإن جزءا منها قصيدة والجزء الآخر دعاء. وهي تتحدّث عن نبيّ الإسلام وعن الأولياء وتصفهم بأنهم بعيدون جدّا وفي نفس الوقت قريبون. كما أنهم حاضرون في كلّ مكان، كما الكائنات العائمة في السماء ليلا.
قلت له: إذن فقد جئت كي تكون على مقربة من النبيّ؟. ردّ باستغراب: قريب؟! لا يمكن أن أكون قريبا. لقد جئت لتذكير نفسي ببعد المسافة التي عليّ أن أمشيها قبل أن أصل"..
بيتر مانسو – مؤلّف أمريكي "مترجم بتصرّف"
نظرت إلى عدد من الدروب الممكنة ولم أتذكّر بالتحديد الطريق الذي أخذني إلى مدخل المسجد.
أخبرني يا صديقي عن ماذا تبحث؟
- رأس زكريا.
مرّة أخرى رمقني الجزّار بنظرة ازدراء وكأنه يقول: رؤوس الأغنام نعم، رؤوس الأنبياء لا..
وعدت إلى شوارع حلب. أتذكّر أننا كنّا في يونيو والحرارة على أشدّها في المدينة. وما زاد الإحساس بحرارة الجوّ أغطية النساء المارّات بالجوار. لم يكنّ يرتدين الخمار فقط بل الملابس الطويلة والكاملة التي لا تترك أثرا عن أيّ شيء مكشوف. حتى أصابعهنّ كانت ملفوفة بقفّازات من النايلون الأسود. وقد اكتشفت ذلك بعد ملاحظتي لبعض الأيدي الممدودة طلبا للمساعدة.
حتى عندما تصرف النظر عن جميع الأسئلة عن عدالة مثل هذه الأغطية الدينية الصارمة، فإنك لا تستطيع أن تفهم كيف تمكّنت هؤلاء النساء من البقاء على قيد الحياة. وطبعا البقاء مسألة نسبية في الحياة كما هو في الدين والسياسة.
بعد أسابيع من وصولي إلى حلب، جرت انتخابات في سوريا. ورغم عدم وجود منافسين، فإن الرئيس بشّار الأسد كان قد أمطر المدينة بوابل من الملصقات الدعائية التي تحمل صورته. ومن كلّ سطح بيت أو بناية، كانت الوجوه المتعدّدة للأسد تحدّق إلى أسفل. ولم يكن بالإمكان تجنّب نظراته. إلى اليمين الأسد، وإلى اليسار الأسد. كان وجه الرئيس المنتخب مدى الحياة في كلّ مكان لدرجة أنني بدأت أتمنّى لو أن رأسه كان الرأس الذي جئت إلى هنا باحثا عنه.
تابعت المشي عبر الأزقّّة الملتوية لحلب القديمة. وفجأة انطلقت كرة عبر احد الأبواب، وخرج في إثرها شابّ صغير ابتسم عندما رآني وقال: أهلا يا صديقي. عن ماذا تبحث؟ قلت: المسجد. قال: من السهل أن تضيع هنا. لكنّ طريق المسجد من هناك. وأشار إلى طريق منحدر ثم قال: إذهب إلى أعلى التلّ حتى ترى السحلية على جدار القلعة، ثم اتّجه يمينا.
قلت: هل قلت السحلية؟
قال: نعم، تسلّقتْ إلى ذلك المكان منذ بعض الوقت ولم يجرؤ احد أن ينزلها من مكانها . قف هناك، ثم امش إلى أن ترى جدارا ليس عليه سحالي أبدا".
عندما وصلت إلى قمّة التل، رأيت القلعة تخيّم فوقي. ولأنني كنت ابحث عن سحلية حقيقية، فقد استغرق الأمر منّي لحظات لأرى ما هو واضح. هناك، كانت معلّقة في الأعالي، فوق المدينة. لم تكن سحلية وإنما ملصقا ضخما جدّا للأسد.
وأخيرا وجدت طريقي إلى الجامع الكبير. واكتشفت أن هناك مدخلين، الأوّل للمؤمنين، والثاني للسيّاح. وعندما دخلنا قاعة الصلاة، راعني حجمها الهائل. كانت الأصوات تتردّد لتملأ الفراغ مثل فيضان.
في الجزء الخلفي من المسجد، فُتح باب دخلت منه حفنة من الحجّاج الذين يرتدون الملابس البيضاء من الرأس إلى القدمين. وبعد بضع ثوان، تبعهم عدّة أشخاص آخرين. وشقّوا طريقهم جميعا إلى وسط المسجد وتكدّسوا هناك مثل ثلج منجرف ليملئوا المكان. وجلس الزوّار القرفصاء في صمت. بعضهم كانوا يهزّون أجسادهم ويصلّون بهدوء. ثم تحوّلت الصلاة الفردية إلى زئير جماعي ما لبث أن تحوّل بدوره إلى أغنية. بدا الغناء أشبه ما يكون بأداء جوقة موسيقية. ثم انخفضت وتيرته شيئا فشيئا مفسحا المجال لصوت منفرد صار يعلو على بقيّة الأصوات.
وبينما كان الرجال يغنّون، رأيت أحدهم يتوقّف أمام علامة كُتبت بالإنجليزية. كان رجلا مديد القامة وذا لحية طويلة مصبوغة بالحنّاء، وهو تقليد يقال انه يعود إلى زمن محمّد نفسه.
سألته عن عدد أفراد مجموعته ومن أين أتوا ولماذا، فقال: نحن ثمانية وتسعون شخصا وقد جئنا للزيارة من باكستان". ثم سألته عن الأغنية التي كانوا يردّدونها، فقال إنها تحظى بشعبية كبيرة في باكستان وإن جزءا منها قصيدة والجزء الآخر دعاء. وهي تتحدّث عن نبيّ الإسلام وعن الأولياء وتصفهم بأنهم بعيدون جدّا وفي نفس الوقت قريبون. كما أنهم حاضرون في كلّ مكان، كما الكائنات العائمة في السماء ليلا.
قلت له: إذن فقد جئت كي تكون على مقربة من النبيّ؟. ردّ باستغراب: قريب؟! لا يمكن أن أكون قريبا. لقد جئت لتذكير نفسي ببعد المسافة التي عليّ أن أمشيها قبل أن أصل"..