:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، يوليو 19، 2013

ايفازوفسكي: شاعر البحر

لم يكن ايفان ايفازوفسكي مجّرد رسّام محترف للمناظر البحريّة، بل كان أيضا يعرف البحر وكان يحبّه بصدق. وعلى الرغم من أنه تحوّل في بعض الأحيان إلى أشكال فنّية أخرى كالمناظر الطبيعية والبورتريه، إلا أنه كان يفعل ذلك لفترة وجيزة ثم ما يلبث أن يعود إلى النوع الذي اختاره والذي ظلّ مخلصا له طوال حياته.
كان نجاح ايفازوفسكي مستحقّا بجدارة، إذ لا يوجد رسّام آخر تمكّن من الإمساك بالمزاج المتغيّّر للبحر بمثل هذا التألّق والإقناع والسهولة.
عندما بدأ ايفازوفسكي مسيرته المهنيّة، كان الفنّ الروسي لا يزال يهيمن عليه الاتجاه الرومانسيّ. وكان المزاج الرومانسيّ هو الذي يحدّد معايير رسم المناظر الطبيعية الروسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومن غير المثير للدهشة أن نكتشف وجود عناصر رومانسية، سواءً في أعمال ايفازوفسكي المبكّرة أو في معظم أعماله اللاحقة. فنجده مرارا وتكرارا يرسم المناظر التي تصوّر حطام السفن والعواصف والمعارك البحرية المحتدمة.

تابع ايفازوفسكي السير على تقاليد رسّامي المناظر الطبيعية الروس الكبار في بدايات القرن التاسع عشر دون أن يلجأ إلى التقليد الحرفيّ. وقد خلق مدرسة جديدة في الرسم، ما جعله يفرض بصمته الخاصّة على رسم حياة البحر والتي تأثّرت بها أجيال عديدة لاحقة.
وبالإضافة إلى عمله كفنّان، كان ايفازوفسكي شخصيّة عامّة ذات اهتمامات متنوّعة. فقد كان يولي اهتماما خاصّا بأحداث العالم، وكان متعاطفا بعمق مع البلدان الصغيرة التي تكافح من أجل استقلالها. وفي الوقت نفسه كان يعمل بتفانٍ من أجل خير بلده الأم، وفعل الكثير من اجل مساعدة الفنّانين الشباب.
ولد ايفان ايفازوفسكي في يوليو من عام 1817 في مدينة فيودوسيا القديمة بشبه جزيرة القرم. والده، وهو من أصل أرمني، كان قد استقرّ هناك في بدايات القرن. كان الأب رجلا جيّد التعليم نسبيّا وكان يعرف العديد من اللغات الشرقية. ولكونه تاجرا، لعب دورا هامّا في الحياة التجارية للمدينة. غير أن الأب خسر تجارته بسبب وباء الطاعون الذي ضرب فيودوسيا في عام 1812. وعندما ولد ايفان، كانت العائلة تمرّ بأوقات عصيبة. وهناك بعض الأدلّة التي تشير إلى أن الفقر اضطرّ الصغير ايفازوفسكي للعمل في مقاهي فيودوسيا، حيث تعلّم هناك بعض كلمات من لغات شتّى كالإيطالية واليونانية والتركية والأرمنية والتتارية.

وقد تشرّب عقل الصبيّ كلّ المشاهد والأصوات الملوّنة التي سمعها ورآها في فيودوسيا ذات الأعراق والثقافات المختلطة. كما كان يتمتّع بأذن موسيقية حسّاسة. وسرعان ما تعلّم عزف الألحان الشعبية على آلة الكمان. وفي وقت لاحق، ذكر ايفازوفسكي بعض تلك الألحان لصديقه المؤلّف الموسيقيّ ميخائيل غلينكا، الذي بادر إلى توظيفها في مؤلّفاته.
ولكن كان الرسم هو الذي استولى على خيال الصبيّ الشابّ. ولأنه كان يفتقر إلى موادّ أخرى، فقد كان يرسم بالفحم على الجدران في فيودوسيا. وجذبت هذه الرسومات انتباه حاكم البلدة الذي ساعد ايفازوفسكي على دخول مدرسة سيمفيروبول الثانوية، ثمّ على دخول أكاديمية سانت بطرسبورغ للفنون في عام 1833.
وقد تزامنت فترة دراسة ايفازوفسكي في سانت بطرسبورغ مع مرحلة متناقضة ومرتبكة من التاريخ الروسيّ. فمن ناحية، كانت تلك فترة الحكم الاستبدادي الصارم والركود السياسيّ تحت حكم القيصر نيكولا الأوّل. ومن ناحية أخرى، شهدت تلك الفترة ازدهارا كبيرا للثقافة الروسية في أعقاب ما عُرف بحرب نابليون عام 1812. كان هذا عصر بوشكين وغوغول وليرمونتوف وبيلينسكي وغلينكا وبريولوف. وداخل الأكاديمية، كانت قوانين الكلاسيكية المرتبطة ارتباطا وثيقا بأفكار الواجب المدنيّ والمشاعر الوطنية ما تزال قويّة. غير أن سمات الرومانسية الجديدة كانت أيضا ملحوظة.

النجاح الكبير الذي حقّقته لوحة كارل بريولوف آخر أيّام بومبي ترك انطباعا دائما على ايفازوفسكي. وقد جسّدت تلك اللوحة انتصار المدرسة الرومانسية في الفنّ الروسي، كما لعبت دورا هامّا في تحفيز التطوّر الإبداعي لـ ايفازوفسكي. وعلاوة على ذلك، فإن ايفازوفسكي نشأ على الروح الرومانسية لأستاذه في الأكاديمية فوروبيوف.
كان الفنّ الروسيّ في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر يجمع بين الرومانسية والواقعية. وكثيرا ما كان هذان الملمحان يجدان تعبيرا لهما في أعمال ايفازوفسكي. وكان هذا واضحا، بشكل خاصّ، في رسم المناظر الطبيعية، وهي شكل من أشكال الفنّ الواقعي الذي استمرّ يحمل ملامح رومانسية لفترة طويلة. وقد اكتسب ايفازوفسكي رؤية رومانسية في سنوات دراسته وحافظ عليها في مرحلة النضج. وظلّ حتى النهاية تابعا مخلصا للرومانسية، رغم أن هذا لم يمنعه من استنباط شكله الخاصّ من الواقعية.
في عام 1836، اشترك ايفازوفسكي في تمارين أسطول بحر البلطيق بناءً على نصيحة من أستاذ مادّة رسم المعارك في الأكاديمية. كان الأستاذ يأمل في أن يسير الفنّان الشابّ على خطاه ويصبح متخصّصا في رسم معارك البحر. وفي خريف ذلك العام، ظهرت أعمال ايفازوفسكي في معرض الأكاديمية. وقد أظهرت تلك الرسومات علامات على الموهبة المتميّزة والإتقان الرائع لرسّام كان ما يزال وقتها في عامه الثاني من التدريب.

جريدة "آرت غازيت" كتبت معلّقة على تلك الصور: إن لوحات ايفازوفسكي تكشف ولا شكّ أن موهبته ستقوده إلى ما هو أبعد وأن دراسته للطبيعة ستفتح له المزيد من الكنوز".
إحدى صور ايفازوفسكي الأولى اسمها الطرق الكبيرة في كرونستات . ورغم أن مقدّمة هذه الصورة، مع شخصيّاتها البشرية المرسومة بسذاجة، تذكّر بالمعلّمين الهولنديّين القدماء، إلا أن المنظور فيه اتساع وعمق، مع منظر الغيوم التي تتراجع عن بعد. الأمواج تبدو ثابتة والحركة أقلّ. ومع ذلك فإن ايفازوفسكي تمكّن من الإمساك، بطريقة أو بأخرى، بالشخصيّة الخاصّة لبحر البلطيق البارد.
في أكتوبر من عام 1837، أنهى ايفازوفسكي دراسته في الأكاديمية وحصل على الميدالية الذهبيّة الكبرى التي منحته الحقّ في الحصول على دورة دراسية طويلة في الخارج على حساب الأكاديمية. وأخذاً في الاعتبار موهبته الاستثنائية، فقد اتخذ مجلس الأكاديمية قرارا غير عاديّ قضى بإرساله أوّلا إلى شبه جزيرة القرم لمدّة عامين كي يتقن مهاراته في النوع الذي اختاره، أي رسم مناظر للمدن الساحلية. ثم بعد هذا يمكن إرساله إلى إيطاليا لمواصلة دراسته فيها.
وعندما عاد إلى فيودوسيا، لم يضيّع ايفازوفسكي وقتا وشرع في العمل على الفور. تفانيه أدهش دائما أولئك الذين عرفوه. وسرعان ما أنتج سلسلة كاملة من المناظر الطبيعية عن جزيرة القرم، وكان حبّه لطبيعة وطنه واضحا في كلّ صورة.

عندما كان ايفازوفسكي ما يزال طالبا، اجتذبته رومانسية المعارك البحرية وجمال السفن الشراعية. مشاركته في مناورات أسطول بحر البلطيق شجّعته على ما هو أكثر. في جزيرة القرم، أصبح لديه الآن فرصة للعودة إلى مواضيعه الأثيرة. وقد اقترح عليه احد قادة حرس السواحل في القوقاز أن يشارك في مناورات أسطول البحر الأسود. وخلال عام 1839، ذهب إلى البحر ثلاث مرّات ورسم عددا من مناظر الطبيعة وتعرّف إلى المزيد من قادة البحر الذين كانوا يعاملونه كفنّان ورجل بمنتهى الاحترام.
في صيف عام 1840، عاد ايفازوفسكي إلى سانت بطرسبورغ قبل أن يباشر رحلته الدراسية إلى الخارج. وبحلول سبتمبر، كان قد وصل بالفعل إلى روما. وهناك، كما في بطرسبورغ، تعرّف على بعض الشخصيات البارزة في ذلك الوقت، فأصبح صديقا لـ نيكولاي غوغول واحتفظ بعلاقة ودّية مع الكسندر ايفانوف وغيره من الفنّانين الروس الآخرين الذين كانوا يعيشون آنذاك في روما. وكان لتلك الصداقات تأثير هائل على حياة الرسّام وأعماله.
وفي الوقت نفسه، واصل ايفازوفسكي الرسم بغزارة. وظهرت لوحاته بانتظام في المعارض الإيطالية، محقّقة له شهرة غير عاديّة. وقد نشرت الصحف مقالات مهمّة عن نجاحه الكبير في إيطاليا وعن اختيار بعض صوره على أنها الأفضل. لوحتاه "خلق العالم" و"خليج نابولي في ليلة مقمرة" تسبّبتا في إحداث ضجّة كبيرة في عاصمة الفنون الجميلة. وأصبح "رسّام الطبيعة القادم من جنوب روسيا" موضوعا لأحاديث الناس في القصور وفي الأماكن العامّة. كما أجمعت الصحف بصوت عال على أن لا احد يتفوّق على ايفازوفسكي في تصويره الضوء والهواء والماء بشكل حقيقيّ ومقنع.

مفهوم الضوء، على وجه الخصوص، كان مهمّا جدّا بالنسبة لـ ايفازوفسكي. والمُشاهِد المدرك سيلاحظ انه بينما يرسم الغيوم والسماء، فإن تركيزه كان دائما على الضوء الذي يضفي على مناظره إحساسا عاطفيا وحالما. في لوحات ايفازوفسكي، الضوء هو الرمز الخالد للحياة ورمز الأمل والإيمان.
البابا غريغوري السادس عشر اشترى صورته "خلق العالم" وأمر بتعليقها في الفاتيكان، وهو المكان الذي لا توضع فيه سوى صور الرسّامين الأعظم في العالم. هذه اللوحة، أي خلق العالم، لا مثيل لها ولا تشبه أيّ شيء آخر رآه الناس من قبل، بل لقد قيل وقتها إنها معجزة من معجزات الفنّ.
الفنّانون البارزون في ذلك الوقت اعترفوا بموهبة وإتقان ايفازوفسكي. وخلال رحلة له إلى إيطاليا عام 1842، أعجب رسّام المناظر الطبيعية الانجليزي الشهير جوزيف وليام تيرنر بلوحة "خليج نابولي في ليلة مقمرة"، لدرجة انه كتب قصيدة بالايطالية عن اللوحة وأهداها إلى ايفازوفسكي.
وفي حين كان فنّانون كبار يمتدحون الرسّام، بدأ آخرون بتقليده. وفي إيطاليا التي لم تكن تعرف حتى ذلك الحين رسم المناظر البحريّة، بدأ هذا النوع من الرسم يشيع وينتشر شيئا فشيئا.
وقد تمتّع ايفازوفسكي بنفس هذا القدر من النجاح عندما أحضر لوحاته إلى باريس في عام 1842. مجلس أكاديمية باريس منحه ميدالية ذهبية، ثمّ في عام 1857، مُنح وسام جوقة الشرف الذي نادرا ما يُمنح لرسّامين أجانب.

ترى كيف تسنّى لـ ايفازوفسكي أن يدهش الخبراء ومحبّي الفنّ العاديّين على حدّ سواء؟ كانت أمانة الرسّام غير العاديّة في تعامله مع الطبيعة هي ما أذهلت معاصريه عندما نظروا في لوحاته. قدرته على نقل تأثير المياه المتحرّكة وانعكاسات الشمس والقمر كانت استثنائية. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن تصويره الدقيق، وفي نفس الوقت المشحون للغاية والدراماتيكي، للبحر. ومع ذلك، استغرق ايفازوفسكي بعض الوقت لاكتشاف سرّ خلق مثل هذه الصور المعبّرة والمثيرة للإعجاب. وقد كرّس كلّ سنوات دراسته وبدايات بعثته الخارجية لمتابعة وتجويد أسلوبه.
من المثير للاهتمام أن يُشبّه ايفازوفسكي بالفنّان الروسي سيلفستر شيدرين الذي توفّي في إيطاليا قبل عشر سنوات من وصول ايفازوفسكي إليها. وقد احدث شيدرين قطيعة مع التقاليد الأكاديمية للمناظر الطبيعية التقليدية في عشرينات القرن التاسع عشر. وكان يرسم صوره مباشرة من الحياة الواقعية ويمزج فيها بين الواقعية الشديدة ومستوى معيّن من الشعر. كان شيدرين محبوبا من الفنّانين الشباب الذين كانوا يتوقون للوصول إلى الحقيقة في فنّهم. وكان ايفازوفسكي، هو الآخر، واقعا تحت سحر سلفه العظيم، وكان هدفه هو السير على خطاه. ولأنه كان راغبا في أن يكتشف سر فنّه، فقد حاول حتى رسم المناظر الطبيعية من نفس الأمكنة كما فعل شيدرين. ومع ذلك، ولأن ايفازوفسكي كان شخصا ذا مزاج مختلف ومنتميا لعصر آخر، فإنه لم يكن بإمكانه أن يصبح شيدرين آخر.

قد تكون صورة ما دقيقة ومحكمة، ولكنها ستكون عقيمة ومملّة إذا انتفى بداخلها نبض الحياة. والمتلقّي قد يرى أماكن مألوفة وتفاصيل مستنسخة باهتمام وإحكام شديد، لكنّه يظلّ غير مكترث بما يراه. لذا، وبدلا من النسخ مباشرة من الطبيعة، حاول ايفازوفسكي أن يخلق في مرسمه صورة عن بحر متلألئ؛ بحر يقفز من الذاكرة. وحدثت معجزة. كان الأمر كما لو أن البحر قد بدأ حقّاً يتألّق ويومض، وهو مملوء بالحركة المستمرّة. كان الرسّام قد اكتشف طريقته الخاصّة في تصوير الطبيعة من الذاكرة، حتى من دون دراسات أوّلية ودون أن يقيّد نفسه باسكتشات سريعة بالقلم الرصاص.
وقد برّر ايفازوفسكي طريقته نظريّا بقوله: إن حركة عناصر الطبيعة لا يمكن تسجيلها مباشرة من خلال الفرشاة. ولذا من المستحيل أن ترسم البرق أو الرياح أو الموج مباشرة من الطبيعة، بل يتعيّن على الرسّام أن يستدعي كلّ هذه التفاصيل من الذاكرة".
قوّة ايفازوفسكي الهائلة على التذكّر ومخيّلته الرومانسية الواسعة هما العاملان اللذان مكّناه من توظيف هذا الأسلوب بروعة غير مسبوقة. وفي نفس الوقت، فإن السرعة والسهولة اللتين كان يرسم بهما جعلتاه يكرّر نفسه أحيانا، ما سمح لعناصر الابتذال وجمال الصالون أن تتسلّل إلى بعض أعماله.

في عام 1844، طلب ايفازوفسكي إذنا للعودة إلى وطنه قبل الأوان من جولته الأوروبّية. وقرّر الذهاب إلى روسيا عبر هولندا. وفي أمستردام، نظّم معرضا للوحاته. كان المعرض ناجحا جدّا. وقد كرّمته أكاديمية أمستردام بمنحه لقب "أكاديمي". وعندما عاد إلى سانت بطرسبورغ، منحه مجلس الأكاديمية أيضا نفس اللقب. كما صدر مرسوم من القيصر يكافئه بلقب "رسّام البحرية".
وفي ربيع العام 1845، بدأ ايفازوفسكي رحلة بحريّة حول سواحل آسيا الصغرى والأرخبيل اليونانيّ على متن سفينة بقيادة أدميرال يُدعى لوتكا، وهو باحث مشهور ومؤسّس الجمعية الجغرافية الروسية. ومرّة أخرى، انكبّ الفنّان على العمل المكثّف وسرعان ما امتلأت اسكتشاته بانطباعات جديدة.
وفي طريق عودته، قرّر أن يمكث في شبه جزيرة القرم لبعض الوقت كي يرسم مشاهد لساحل البحر الأسود وللمدن التي زارها خلال رحلته الأخيرة. الصور من هذه الفترة تُعتبر من بين أفضل أعماله، خاصّة تلك التي صوّر فيها القسطنطينية وأوديسا. هنا، في الذهب المتلألئ للسماء والماء، وفي المباني التي ينيرها ضوء القمر، وفي الصور الظلّية ذات المسحة الرومانسية للتماثيل، بل وفي نظام الألوان كلّه، تشعر بنفس تلك الرؤية عن الجنوب الجميل والغرائبي الذي ألهم العديد من قصائد الكسندر بوشكين.

كان الشابّ ايفازوفسكي قد قُدّم إلى بوشكين في معرض الأكاديمية عام 1836. وطوال حياته كان يبجّل الشاعر. وقد رسم بوشكين عديدا من المرّات وهو واقف على شاطئ البحر. وأفضل هذه الصور هي اللوحة التي رسمها للشاعر بالمشاركة مع زميله الرسّام ايليا ريبين عام 1887.
بحلول منتصف أربعينات القرن، كان ايفازوفسكي يفكّر في الاستقرار بصفة نهائية ودائمة في فيودوسيا. كان يفضّل العمل على لوحاته في مدينة ساحلية هادئة ومسالمة. وهكذا مكث الرسّام في فيودوسيا بقيّة حياته. ومن وقت لآخر، كان يسافر إلى سانت بطرسبورغ ويزور موسكو. كما قام بعدّة رحلات إلى القوقاز عبر نهر الفولغا، وسافر إلى مصر بصحبة إحدى بناته بدعوة من الخديوي لحضور افتتاح قناة السويس بعد أن مُنح شرف أن يكون أوّل فنّان يرسم القنال. وأثناء إقامته في مصر، رسم عدّة لوحات للنيل والواحات الخارجة ولأهرامات الجيزة.
في عام 1845، ذهب ايفازوفسكي إلى اسطنبول بدعوة من السلطان العثماني عبدالمجيد. وقد زار اسطنبول بعد ذلك ثمان مرّات متتالية ورسم هناك مناظر للمدينة وبورتريهات للسلاطين وحاشيتهم. وتوجد اليوم ثلاثون من لوحاته في القصر العثماني الكبير وفي عدد آخر من المتاحف التركية. وقد كافأته الدولة بميدالية ذهبية تقديرا لمكانته وموهبته، ولكنه رفضها في ما بعد احتجاجا على مذبحة الأرمن عام 1895. وبعض لوحاته التي رسمها في ما بعد يمكن اعتبارها انعكاسا لسخطه وغضبه من سوء معاملة الأتراك للأرمن، مثل لوحتي "طرد السفينة التركية" و"مذبحة الأرمن في ترابزون".

بعد حوالي أربعين عاما من استقرار ايفازوفسكي في فيودوسيا، قام بتمويل إنشاء متحف هناك حمل في ما بعد اسمه. ويضمّ المتحف اليوم مائة وثلاثين من لوحاته بالإضافة إلى بعض أعمال لاغوريو وفولوشين وبوغيفسكي وغيرهم من رسّامي مناطق شرقي القرم التي اشتهرت بثقافتها العريقة وبطبيعتها القاسية والخلابة في آن.
الأعوام من 1846- 1848 شهدت ظهور سلسلة من لوحات ايفازوفسكي المهمّة والمخصّصة للمعارك في عرض البحر. وجميع تلك اللوحات كانت تركّز على الماضي البطوليّ للأسطول الروسي، دون أن تتضمّن أيّ اثر للصيغ المبتذلة التي عادة ما يستخدمها فنّانو المعارك الرسميّون. وهي توصل أجواء الإثارة والرومانسية التي كان يشعر بها الفنّان عند رؤيته مشاهد الصراع البشريّ. وهذا واضح بشكل خاصّ في اللوحة المسمّاة "معركة شيسما" التي تصوّر معركة بحرية في الليل. الأسطول التركيّ المهزوم والذي تندلع في سفنه النار يوفّر مشهدا مثيرا بشكل غير عاديّ. وقد استطاع ايفازوفسكي أن يستخدم المؤثّرات الضوئية إلى أقصى حدّ. النيران المنعكسة في السحب تتنافس مع ضوء القمر وأعمدة الدخان المتصاعدة إلى السماء. الألوان القرمزية والسوداء تتمازج في ارتباك.
حتى في أفضل صور ايفازوفسكي، فإن عناصر التقاليد الأكاديمية واضحة. وهي واضحة هنا أيضا، ليس فقط في العرض المذهل للمعركة، وإنّما كذلك في أوضاع البحّارة الأتراك وهم يحاولون البقاء طافين فوق أجزاء من سفينتهم المنكوبة.
صورة أخرى من صور هذه السلسلة عنوانها معركة مضيق كيوس . هذه اللوحة مليئة بالتوتّر الداخلي. هنا حقّق ايفازوفسكي بمهارة شديدة تأثير العمق من خلال توظيف الصور الظلّية لرسم السفن القريبة والبعيدة.

بحلول خمسينات ذلك القرن، كان العنصر الرومانسيّ في أعمال ايفازوفسكي قد أصبح أكثر وضوحا. ويمكن رؤية هذا بجلاء في واحدة من أفضل وأشهر صوره، وهي "الموجة التاسعة". وفيها نرى مجموعة من الناجين من سفينة غارقة وهم على وشك أن تجتاحهم موجة هائلة. خطر عناصر الطبيعة صوّره الرسّام هنا ببراعة. الأمواج تلتفّ وترتفع، ثم تهوي بكامل قوّتها لتحطّم وتدمّر. حركة الغيوم التي لا تهدأ والرذاذ المتطاير يعزّزان الانطباع عن إعصار هائج. وعلى الرغم من هذا، يبدو الأشخاص متشبّثين بالسارية المكسورة وهم يناضلون كي يبقوا على قيد الحياة. الناظر يفهم رعب العاصفة، لكن مشاعره تنشغل بجمال الصورة.
هذه الثنائية هي ما يميّز لوحات ايفازوفسكي، لكنّها حاضرة أيضا في لوحة بريولوف المشهورة "آخر أيّام بومبي". هاتان اللوحتان يفصل بينهما حوالي سبعة عشر عاما. وهما مختلفتان جدّا في نوعهما، وكذلك في مكانهما في تاريخ الفنّ الروسي. لكن من الناحية الأسلوبية، فإنهما تقفان معا وتمثّلان صعود الرومانسية، سواءً في نموّ الرسّامَين أو في الفنّ الروسي ككلّ.

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أصبحت الاتجاهات الواقعية مهيمنة على الثقافة الروسية. ولم يفت هذا على ايفازوفسكي. الروح الجديدة للواقعية الواعية كان لها تأثيرها على أعماله وعلى أعمال العديد من الرسّامين الآخرين. ولكن ميوله الرومانسية استمرّت دون توقّف.
أثناء حرب القرم (1853 - 1856) أمضى ايفازوفسكي بعض الوقت في مدينة سيفاستوبول المحاصرة، ورسم بعض الاسكتشات هناك. ومع ذلك، فإن هذه الحرب، التي كانت تجري غالبا على اليابسة، لم تجد منه سوى القليل من الاهتمام في عمله. وبعد فترة بسيطة، بدأت المواضيع التي تتناول "الأراضي الجافّة" في جذب انتباهه أكثر فأكثر.
كان ايفازوفسكي يعرف جيّدا السهوب الأوكرانية الفسيحة، لأنه كثيرا ما كان يقطعها في رحلاته إلى سانت بطرسبورغ. كان ذلك الفراغ اللانهائي يشعل خياله. ومن الآن فصاعدا، ستأخذ عربات الفلاحين في حقول الذرة والمنازل الزراعية الأوكرانية مكانها في صور الرسّام. في تلك الفترة، أصبح العديد من الفنّانين الروس ذوي الميول الديمقراطية مهتمّين بفكرة الفلاحين. وربّما كانت هذه النزعة هي التي حوّلت عقل ايفازوفسكي في ذلك الاتجاه. غير أن التقاليد الأكاديمية في الرسم لم تسمح له بملء صوره بالمحتوى الاجتماعي الذي اتسمت به واقعية تلك الفترة. والصور التي رسمها في هذا الوقت ليست من بين أفضل أعماله.

في عام 1860، زار ايفازوفسكي منطقة القوقاز. وقد تركت فخامة طبيعتها الجبلية في نفسه انطباعا لا يُمحى ورسم مجموعة كاملة من الصور عن المنطقة. كان ايفازوفسكي قد رسم الجبال من قبل، مع أمواج متكسّرة على منحدراتها الداكنة. لكن موضوع الجبل ظهر أكثر فأكثر في السنوات اللاحقة. ومرّة أخرى، وجد الرسّام رومانسيّة ودراما في الاشتباك ما بين عناصر الطبيعة، وخاصّة ما بين الجبل والبحر. في إحدى اللوحات بعنوان "قرية في داغستان" ، ترتفع جبال حمراء مثل موج متجمّد. كلّ شيء في هذه الصورة تمّ تركيبه ليمنحها نوعية رومانسية: عتمة الوديان، الخلفية الضبابية ورجال القبائل الذين يظهرون على الطريق مع دوابّهم وعتادهم. وفي نفس الوقت، فإن هذه الصورة وثائقية، من حيث أنها تسجّل الملامح الفعلية لبلدة حقيقية في القوقاز قبل حوالي مائة وأربعين عاما.

في تلك الفترة تقريبا، تحوّل ايفازوفسكي إلى موضوع آخر محبّب إلى نفسه. ففي عام 1867، بدأ اليونانيون في جزيرة كريت تمرّدا ضدّ الحكم التركيّ. ومنذ طفولة الرسّام وهو يشعر بتعاطف خاصّ مع اليونانيين في نضالهم من أجل التحرّر. وقد ترجم تعاطفه ذاك في لوحة اسماها "فوق جزيرة كريت"، وفيها يصوّر لحظة دراماتيكية يبدو فيها الثوّار وهم يودّعون أهلهم وأحبّائهم الذين تمّ إجلاؤهم على متن سفينة روسية. مزاج الطبيعة يتوافق مع مشاعر الناس، ففوق البحر ثمّة سماء صافية بلا غيوم. لكن فوق الجزيرة، تتجمّع الغيوم العاصفة والثقيلة ملقية بظلالها الداكنة على الشعاب والوديان إلى أسفل، بينما تبدو الأشجار وقد انحنت بفعل الرياح القويّة. هذه الصورة تعكس، بطريقة ما، حالة الرسّام الذهنية. فقد كان وقتها يزحف نحو الخمسين وكان على شفا ثورة جديدة في تطورّه الفنّي.
الثلث الأخير من القرن التاسع عشر شهد ازدهار الواقعية في كافّة أنواع الفنّ الروسي. في ذلك الوقت، برزت أسماء مشهورة مثل ريبين وكرامسكوي وسوريكوف وشيشكين وليفيتان، وكان هؤلاء آنذاك يرسمون أفضل أعمالهم.
موهبة ايفازوفسكي أخذت، هي أيضا، اتجاها جديدا في سبعينات ذلك القرن. الصور "السكّرية" نوعا ما في أعماله المبكّرة أفسحت المجال لمزيد من الرؤية الواقعية للعالم. لكن التوتّر الرومانسي لم يفارق لوحاته، وإن بدأ يأخذ سمة أكثر صرامة وتحفّظا. في لوحة قوس قزح ، يستخدم الفنّان ألوانا أكثر رقّة كما لو انه بدأ ينظر إلى البحر بعينين جديدتين وأكثر قدرة على التمييز. الأمواج والهواء المشبع بالرذاذ مرسومة بطريقة أكثر ابتكارا من ذي قبل.

للوهلة الأولى، لا يوجد شيء غير عاديّ في لوحة "منظر للبحر في ضوء القمر". القمر المكتمل يخترق غطاء من الغيوم الخفيفة بينما تلوح جبال على البعد. انعكاس ضوء القمر يمتدّ مثل طريق متعرّج. لكنّ كلّ هذا مرسوم بطريقة جديدة. فحركة الأمواج أكثر كثافة. وهناك شعور يفرض نفسه بالفراغ وبجمال ليالي الجنوب الذي نقله الرسّام ببراعة.
غير أن أعظم إنجاز لـ ايفازوفسكي في هذه الفترة هو لوحته البحر الأسود . هنا خلق الفنّان صورة عامّة لعناصر البحر في تجليّاتها المتغيّرة باستمرار. الأفق البعيد هادئ. لكنْ في المقدّمة يصبح البحر أكثر اضطرابا، بينما الأمواج تكسر السطح الأملس للماء. حركة الأمواج المهتزّة واتّساع البحر رُسما بقوّة استثنائية.
حتى الآن، يبدو الماء بحالة غضب خفيفة. لكنّ حركته مخيفة ولا هوادة فيها. الزرقة الجميلة للسماء يغالبها جدار رماديّ كثيف من السحب. والظلال الملوّنة تظهر على الماء مع بقع وأضواء مرقّطة، بعضها أزرق وبعضها الآخر فيروزيّ أو أخضر نقيّ.
الرسّام ايفان كرامسكوي، الذي كان بنفس الوقت ناقدا مميّزا وحسّاسا، كتب عن هذه الصورة يقول: ليس بوسعك أن ترى هنا غير السماء والماء. لكنّ الماء محيط لا حدود له. ليس هائجا، ولكنه غير هادئ. كما انه لانهائي، تماما كالسماء التي فوقه. هذه هي إحدى أقوى الصور التي رأيتها في حياتي".

الفنّان النادر هو الذي يقاوم الشيخوخة ويتجاوز أعماله السابقة. وايفازوفسكي حقّق ذلك مرّتين: مرّة عندما رسم لوحة البحر الأسود وهو في سنّ الرابعة والستين، ومرّة ثانية عندما رسم لوحته الأخرى الضخمة وسط الأمواج وهو يقترب من الثانية والثمانين. في اللوحة الأخيرة، رسم الفنّان شبكة معقّدة من الأمواج بمجموعة من الألوان الرمادية والخضراء والزرقاء وبضربات فرشاة شفّافة وخفيفة. وبمهارة لا تضاهى، خلق صورة لمحيط أثاره إعصار. الأمواج تزمجر وتتصادم وتتكسّر في دوّامات قبل أن تبتلعها الهاوية العميقة. هذا الجسم الواسع من الماء يبدو في حالة حركة محمومة ويمرّ بتحوّلات لا نهاية لها. هذا هو ما يحدث عندما تبلغ قوّة العناصر والحركة أقصى حدودها. هذه الصورة للبحر الغاضب، ولكن الجميل، تشكّل ذروة مناسبة لأعمال الفنّان العظيم.
حافظ ايفازوفسكي على قدرته على العمل وعلى طاقته وذكائه الخلاق حتى اللحظات الأخيرة من حياته. وقد رسم أكثر من ستّة آلاف لوحة، بالإضافة إلى الكثير من الاسكتشات المنفّذة بمهارة. والعديد من أعماله أخذت مكانها بين أعظم إنجازات الفنّ البصري.

في عام 1848، تزوّج ايفازوفسكي في سانت بطرسبورغ من مربّية أطفال انجليزية تُدعى جوليا غريفز وأنجب منها أربعة أطفال. لكن الزواج لم يكن سعيدا فانتهى بالطلاق. وفي سنّ الخامسة والستّين تزوّج مرّة أخرى من أرملة ارمنية من فيودوسيا تصغره بأربعين عاما اسمها آنّا بورنازيان. ورغم فارق السنّ الكبير بينهما، إلا أن الزوجين عاشا حياة سعيدة ومستقرّة. كانت آنّا معجبة بفنّ ايفازوفسكي وكان هو يقدّر جمالها وأخلاقها. وقد رسم لها بورتريها، كما أهداها قصيدة حبّ من نظمه.
كان القدَر كريما مع ايفازوفسكي، فمنحه عقلا صافيا وروحا وثّابة. وقد عمل طوال حياته في بيئة متجانسة من اختياره، وكانت موهبته مشهودا لها عالميّا، وتلقّى كلّ أشكال الاعتراف الرسمي الذي يستحقّه.
ومن منزله في فيودوسيا، ظلّ ايفازوفسكي يعمل لخير سكّان بلدته ولتنميتها وذلك حتى وفاته في التاسع عشر من أبريل عام 1900. وقد اخذ هذا الدور على محمل الجدّ، فقام بتزويد البلدة بالمياه من ماله الخاصّ، وافتتح بها مدرسة للفنّ، وشيّّد متحفا للتاريخ. وبفضل جهوده أيضا، تمّ إنشاء ميناء تجاريّ في فيودوسيا وشبكة لسكك الحديد. وبهذه الأفعال اكتسب ايفازوفسكي حبّ واحترام أهالي بلدته. وحتى هذا اليوم، فإن أهمّ معالم البلدة هو المتحف الذي يحمل اسمه، وقبره الكائن بالقرب من الكنيسة الأرمنية القديمة.
في العصر السوفياتي، كان ايفازوفسكي يُقدّم على انه رسّام روسيّ، مع انه ينتمي أيضا إلى الثقافة الأوكرانية. وعلى الرغم من انه تلقّى معظم تعليمه وتدريبه في روسيا، إلا أنه أنجز أغلب أعماله في أوكرانيا، وبالتحديد في شبه جزيرة القرم. الأرمن، من جهتهم، يصرّون على اعتبار ايفازوفسكي فنّانا أرمنيّا، ويسمّونه "ايفازيان" للتأكيد على هويّته الأرمنية. وقبل سنوات، أقيم للرسّام في يريفان عاصمة أرمينيا تمثال من البرونز تخليدا لذكراه.

Credits
stpetersburg-guide.com
totallyhistory.com

الأحد، يوليو 14، 2013

سوناتا كرويتزر

سوناتا كرويتزر هو اسم لمعزوفة موسيقية ولرواية ولأكثر من لوحة تشكيلية. ظهر الاسم لأوّل مرّة عندما أطلقه بيتهوفن على إحدى مؤلّفاته الموسيقية. كان اسم المعزوفة في البداية "سوناتا الكمان رقم تسعة". وهي معروفة بطولها وبالجزء الخاصّ فيها الذي يتطلّب عزف الكمان. الحركة الأولى غاضبة إلى حدّ ما، والثانية تأمّلية، والثالثة مندفعة مع شيء من المرح.
عندما فرغ بيتهوفن من تأليف هذه القطعة أهداها إلى صديقه عازف الكمان جورج بريدجتاور 1778)- 1860)، الذي عزفها مع بيتهوفن في العرض الأوّل لها في مايو من عام 1803 على مسرح إحدى الحدائق في برلين. لكن حدث بعد العزف أن عمد بريدجتاور إلى إهانة سيّدة كان بيتهوفن يحترمها كثيرا. لذا وتحت تأثير شعوره بالغضب، قام بيتهوفن بإزالة اسم بريدجتاور من المعزوفة ووضع بدلا منه اسم رودولف كرويتزر الذي كان واحدا من أشهر عازفي الكمان في ذلك الوقت.
ومع ذلك، لم يعزف كرويتزر هذه السوناتا أبدا، بل اعتبرها "مزعجة وغير مفهومة". كما انه لم يكن مهتمّا بأيّ من مؤلّفات بيتهوفن، بالإضافة إلى أن الاثنين لم يلتقيا سوى مرّة واحدة فقط وكان لقاءً عابرا.
ليو تولستوي كان معجبا على ما يبدو بـ سوناتا كرويتزر . فقد اختار الاسم عنوانا لإحدى رواياته التي نشرها في العام 1889م وسرعان ما منعتها السلطات الروسية. الرواية تقدّم حججا لفكرة التعفّف الجنسي، كما تتضمّن وصفا متعمّقا للغضب الناتج عن الغيرة العاطفية.
مصدر الرواية كان عددا من الرسائل التي تلقّاها تولستوي من امرأة مجهولة كانت توقع رسائلها إليه باسم "سلافيانكا". وكانت تتبادل الأفكار مع الكاتب حول الوضع المروّع الذي وجدت النساء أنفسهنّ فيه في المجتمع الروسي آنذاك.

وهناك مصدر آخر للرواية هو قصّة رواها لـ تولستوي أحد أصدقائه الذي كان قد سمع مسافرا يتحدّث في القطار عن خيانة زوجته له. وعندما أكمل تولستوي كتابة المسوّدة الأولى، كان صديق للعائلة يدرّس الموسيقى للأطفال في منزل الكاتب. وفي احد الأيّام، سمع الموسيقيّ وهو يعزف سوناتا بيتهوفن هذه. وبعد أدائها، اقترح تولستوي على الرسّام إيليا ريبين، الذي كان حاضرا، أن يساعده في التعبير عن المشاعر التي أثارتها تلك الموسيقى في نفسه.
تتحدّث الرواية عن امرأة تعيش زواجا بلا حبّ. وهي تعزف سوناتا بيتهوفن مع عازف كمان مفعم بالحياة. وتبدو المرأة كما لو أن عاطفة الموسيقى تحملها بعيدا. تقول وهي تصف تأثير الموسيقى عليها: الموسيقى تجعلني أنسى نفسي وحالتي الحقيقية. إنها تحملني بعيدا إلى حالة أخرى من حالات الوجود، حالة ليست حالتي. تحت تأثير الموسيقى، يساورني إحساس واهم بأنني اشعر بأشياء لا اشعر بها حقّا وبأنني افهم أشياء لا افهمها وبأنني قادرة على فعل أشياء لست قادرة على القيام بها. هل من المسموح به حقّا لأيّ شخص يشعر بمثل هذا الشعور، خاصة إن كان عديم الضمير، أن ينوّم مغناطيسيّا شخصا آخر، ثم يفعل معه ما يشاء؟".
زوج المرأة، الذي يعاني من الأوهام والغيرة، يقطع رحلة عمل له ويعود إلى المنزل بشكل غير متوقّع بعد منتصف الليل، ليجد زوجته جنبا إلى جنب مع عازف الكمان في غرفة الطعام بكامل ملابسهما، ولكنهما منهمكان في حديث حميم. واقتناعا منه أنها قد خانته، يقوم بقتلها في نوبة من نوبات الغضب.
ولأن تولستوي يروي هذه القصّة من وجهة نظر الزوج الموسوس والغاضب، فإننا لا نعرف على وجه اليقين ما الذي حدث بين الزوجة البلا اسم وشريكها في عزف السوناتا.
اللوحة فوق اسمها أيضا سوناتا كرويتزر، وهي لرسّام ايطالي اسمه ليونيللو باليسترييري. درس باليسترييري الرسم في روما على يد دومينيكو موريللي. ثمّ انتقل إلى باريس حيث أصبح جزءا من دائرة من الموسيقيين وربطته صداقة وثيقة مع مواطنه الموسيقيّ والشاعر البوهيمي جوسيبي فانيكولا. ومعظم لوحات الرسّام هي إمّا لموسيقيين أو عن أجواء موسيقية.
في اللوحة، يتذكّر باليسترييري ليلة قضاها في باريس بصحبة عدد من أصدقائه الموسيقيين وهم يستمعون إلى فانيكولا الذي كان يعزف سوناتا كرويتزر لـ بيتهوفن. والرسّام يصوّر نفسه جانبيّا بينما هو جالس إلى جوار امرأة ويقرأ كتابا.