:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، نوفمبر 28، 2009

على العشاء مع ليوناردو

"العشاء الأخير" لوحة مشهورة ومألوفة كثيرا. وقد تناول النقّاد هذا العمل بالشرح والتحليل من أكثر من زاوية ومنظور.
عمر اللوحة أكثر من خمسمائة عام. وبسبب عوامل التقادم وكثرة عمليات الترميم، فقدت اللوحة جزءا كبيرا من تفاصيلها وألوانها.
بعض أصحاب الخيال الواسع حاولوا إعادة بناء اللوحة من خلال البرامج الرسومية وافترضوا أن هذه كانت صورتها الأصلية عندما فرغ ليوناردو من رسمها. والبعض الآخر أضافوا إليها عنصرا طريفا أو خلعوا عليها حلّة عصرية.
في المقال المترجم التالي يتحدّث "جون فاريانو" عن اللوحة من منظور مختلف.

"العشاء الأخير" تصوّر أشهر مائدة في التاريخ. ومع ذلك، قد لا يلاحظ الكثيرون طبيعة الطعام وأصناف الغذاء الموضوعة فوق المائدة أمام المسيح وحواريّيه.
كان رسّامو عصر النهضة يهتمّون برسم الأحداث التاريخية التي تتضمّنها النصوص المقدّسة.
وكانوا أحيانا يضمّنون لوحاتهم عناصر من عندهم ولغايات فنية قد لا يكون لها علاقة بما تذكره النصوص الدينية.
وبعض الرسّامين كانوا يضعون القصّة في سياق زماني معاصر، كأن يُلبسوا الشخصيات ثيابا حديثة تعكس عادات وثقافة عصرهم.
ليوناردو في "العشاء الأخير" كان مهتمّا بالطعام بشكل خاص.
يذكر جورجيو فاساري، كاتب سيرة ليوناردو، أن الرسّام كان واقعيا وهو يرسم خطوط وتفاصيل مائدة "العشاء الأخير".
غير أن العديد من تلك التفاصيل كانت قد اختفت من اللوحة عندما شرع فاساري في كتابة سيرة ليوناردو. والسبب هو انهماك الرسّام في استكشاف وتجريب المزيد من تقنيات الطلاء ومزج الألوان.
في عام 1566، كنت مظاهر التلف التي لحقت باللوحة الأصلية في ميلانو أكثر وضوحا.
لكن الإنذار الحقيقي عن الخطر الذي يتهدّد "العشاء الأخير" لم يصدر إلا في عام 1901 عندما تحدّث غابرييل اونونتزيو عمّا اسماه "موت تحفة فنية".
غير أن "العشاء الأخير" لم تمت. فقد خضعت اللوحة للكثير من عمليات الترميم والتجديد. وأحيانا أعيد رسمها فأصبحت، لكثرة الترميمات، تخفي أكثر ممّا تكشف.
وقد استمرّ التدهور في اللوحة إلى أن ظهرت الخطوط والاسكتشات الأوّلية التي وضعها ليوناردو فيها عند رسمها. والغريب أن هذا التطوّر، رغم سلبيّته، هو الذي سمح للفنيين بالتعامل مع كلّ جزء وتفصيل في توليف اللوحة. كما انه سمح وللمرّة الأولى برؤية التفاصيل الصغيرة في اللوحة والتي كانت غائبة عن الأعين.
واتضح أن أدوات المائدة تحتوي على عدد من الصحون والسكاكين وأواني الماء وزجاجات النبيذ وقوارير الملح. كما لوحظ وجود قارورة ملح وُضعت أمام يهوذا المتآمر بوضع مقلوب، ربّما في ذروة اللحظة الدراماتيكية للقصّة.
قماش المائدة أيضا ظهر مكويّا ومرتّبا بعناية وعليه نقوش مستوحاة من الأقمشة الايطالية التي كانت شائعة في ذلك الوقت.
في الماضي، لم يكن احد على علم بطبيعة الأطعمة المصفوفة على المائدة. وتأكّد الآن انه لم يكن هناك خروف على المائدة مثل ما قيل.
هناك أيضا ثلاثة صحون كبيرة وُضع الأوّل منها أمام شخص المسيح بينما وُضع الاثنان الآخران عن يمنيه ويساره. كما يمكن رؤية طبق آخر مليء بالسمك المقلي مع شرائح البرتقال.
على المائدة أيضا تظهر أنواع أخرى من الفاكهة كالرمّان وبعضه ما يزال بأوراقه. وهناك النبيذ، وهو السرّ المقدّس الوحيد في كلّ لوحة تناولت قصّة العشاء الأخير.
صحيح أن ليوناردو لم يرسم نفسه في اللوحة. لكن صدى ملامحه واضح في كتاباته النظرية. و"العشاء الأخير" ربّما تعكس بعض عاداته الغذائية.
يقال انه كان نباتيا. ويمكن الاستدلال على هذه الجزئية من دفاعه عن الحيوانات وحديثه عن قدسيّة الحياة.
كما يمكن الاستشهاد بما كتبه رحّالة ايطالي زار الهند في ذلك الوقت وكتب عن أهلها واصفا إيّاهم بقوله: الهنود شعب مهذّب لا يتغذّى على أيّ طعام فيه دم. كما أنهم لا يسمحون لأحد باصطياد الكائنات الحيّة، تماما مثل ليوناردو دافنشي عندنا".
في كرّاس ملاحظاته المكوّن من أكثر من خمسة آلاف صفحة، يشير ليوناردو إلى شرائه خبزا وسمكا ومشمشا وفاصوليا وفاكهة. كان عنده دائما تلاميذ وخدم في بيته. وهو يشير إليهم بأسمائهم في كتاباته.
تقديم شرائح البرتقال مع السمك كان تقليدا رائجا في ايطاليا آنذاك، كما كان طبقا ثابتا في المطبخ الايطالي.
أسقف ميلانو، مثلا، ذكر البرتقال وأنواعا أخرى من الحمضيات التي كانت تُقدّم كزينة لمجموعة من أطباق السمك.
ويمكن القول إن "العشاء الأخير" تحكي عن التقاليد والثقافة الايطالية بمثل ما أنها عمل فنّي مشهور.
عندما بدأ ليوناردو رسم اللوحة عام 1494 كان من الشائع أن تُرسم تلك القصّة على جدران الأديرة. والذين رسموا الموضوع قبل ليوناردو اختاروا أن لا يهتمّوا بتصوير اللحظة التي يحرّك فيها المسيح الخبز والنبيذ باتجاه يهوذا كإشارة إلى إعلانه المفاجئ عن الخيانة.
اندريا ديل كاستانيو، مثلا، ركّز على تصوير ردود فعل الأتباع والحواريّين على ما حدث وجعل ذلك ذروة المشهد.
ومن الواضح أن ليوناردو رسم اللوحة من نقطة عالية، ما يسمح برؤية المائدة ومن ثمّ الطعام نفسه.
ولو كان مهتمّا بالدّقة التاريخية، لكان وضع على المائدة خروفا وأعشابا مُرّة بدلا من السمك، لأن ذلك يتفق مع الروايات التاريخية عن الحادثة.
لكنه اختار أن يعيد النظر في نوعية الطعام كي يتناسب مع ذوق عصر النهضة أو ذوق ليوناردو نفسه، ولكي يضيف إلى اللوحة مسحة من الواقعية والمعاصَرة. وهو أمر يبدو غريبا إلى حدّ ما.


Credits
gastronomica.org

الأربعاء، نوفمبر 25، 2009

ورق سولوفان

منذ أيّام، سمعت القصّة التالية من عامل كهربائي يشتغل بأحد محلات السباكة والكهرباء.
قال: جاءني في المحلّ قبل يومين شخص طلب منّي أن اذهب معه لإصلاح عطل هاتفي في منزل كفيله. وفعلا ذهبت مع الرجل إلى المكان الذي وصفه.
وفي الطريق حدّثني عن عمّه فقال انه من أعيان المجتمع وأن الله آتاه رزقا وافرا وانه ينفق من ثروته على بناء المساجد داخل البلاد وخارجها. وأضاف انه لا يكاد يمرّ شهر دون أن تنشر الصحف خبرا عن بناء مسجد أو جامع جديد في هذا البلد أو ذاك على نفقة ذلك الرجل التقيّ الورع.
كنت اسمع هذا الكلام بكثير من الارتياح والفرح. وقلت في نفسي: جزى الله هذا الرجل الصالح خيرا على غيرته على الدين وحرصه على إعلاء كلمة الله في كلّ الأماكن والأصقاع.
المهم، بعد مسيرة نصف ساعة وصلنا إلى المنزل الذي كانت هيئته تشي بمكانة الرجل وأهميّته وقيمته الاجتماعية العالية.
وأخذني العامل إلى حيث يجب أن أباشر إصلاح الخلل. وبعد حوالي ساعتين من الجهد المضني الذي تطلّب تفكيك "السويتش بورد" وترتيب المفاتيح والخطوط والوصلات والأسلاك لإعادتها إلى وضعها الصحيح، اصطحبني العامل إلى الشيخ كي يعطيني أجري. وعندما رآني قال: كيف العمل؟ قلت: تمام، الآن أصبح كلّ شيء على ما يرام.
ثم سألني: كم تريد أجرا؟ وقبل أن أجيب قاطعني قائلا: عشرة ريالات؟! قلت: اجري خمسون ريالا. ثم اخرج من جيبه عشرة ريالات وأعطاها للعامل كي يناولني إيّاها. ولاحظت أن العامل تردّد في اخذ الورقة وكأنه يريد إفهام الرجل أن المبلغ قليل وغير كاف. لكنه لم يكترث. فتدخّلت قائلا: خلاص، أنا متنازل عن حقّي. حتى العشرة ريالات لا أريدها وبإمكانك أن تحتفظ بها ورزقي على الله. لكن الرجل لم يحرّك ساكنا ولم يلبث أن تركنا وانصرف. بعدها غادرت المكان وأخذت تاكسيّا أعادني إلى المحلّ".
انتهى العامل من سرد قصّته وأخذت أفكّر في مغزى ما سمعته. هذا الرجل يملك الملايين وربّما المليارات وهو يبني المساجد في كلّ مكان كما قيل. أي انه يحبّ عمل الخير. ومع ذلك لا يتردّد في هضم حقوق الآخرين لدرجة انه يستكثر أن يدفع لعامل فقير مبلغا تافها مقابل الخدمة التي أدّاها له.
وتأكّد لي مرّة أخرى صدق ما ترسّخ لديّ من انطباع، وهو أن كثيرا من مظاهر التديّن والتقى التي نراها من حولنا ليست في واقع الأمر سوى أقنعة برّاقة يضعها أصحابها التماسا للوجاهة والبروز الاجتماعي ومن اجل الضحك على الآخرين وخداعهم.
ثم تذكّرت ملاحظة أبداها لي صديق قبل فترة عندما قال انه لكثرة ما أصبحَت المظاهر الدينية نوعا من البيزنس وطريقا للتسلّق والظهور وحيلة لممارسة النصب والاحتيال فإنه صار يفضّل التعامل مع حليقي الوجوه ويثق بهم أكثر من الأشخاص الذين تبدو عليهم مظاهر التديّن السطحية من لحية وثوب قصير وزبيبة ومسواك وما إلى ذلك.
وبالتأكيد، فإن لكلّ قاعدة شواذّا. فهناك أناس متديّنون شكلا ومضمونا وسلوكهم يتسمّ بالصدق والنزاهة والاستقامة.
لكنّهم للأسف قليلون ونادرون هذه الأيّام.