:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، نوفمبر 25، 2017

ميتسو: عودة إلى الضوء


عندما يأتي الحديث عن الرسم الهولنديّ، فإن أسماء مثل رمبراندت وفيرمير وروبنز هي الأسماء التي يعرفها الناس.
لكن هل سمعت من قبل باسم غابرييل ميتسو؟
فيرمير وميتسو عاشا في نفس العصر، غير أن ميتسو (1629–1667) كان النجم اللامع في العصر الذهبيّ للرسم الهولنديّ في القرن السابع عشر، واستمرّ كذلك لفترة طويلة.
وميتسو كان أيضا الفتى الأوّل في القرن التاسع عشر، أمّا فيرمير فلم يُكتشف إلا في بدايات القرن العشرين.
في أيّامه، كان ميتسو محبوبا كثيرا في مختلف أنحاء أوربّا. وقد رسم في عام 1664 واحدة من أهمّ لوحاته "فوق" واسمها "رجل يكتب رسالة"، ويظهر فيها شابّ وسيم بملابس سوداء وشعر طويل، يجلس للكتابة أمام طاولة مغطّاة بقماش مطرّز.
كما رسم في نفس ذلك العام لوحة أخرى "الصورة أسفل" بعنوان "امرأة تقرأ رسالة"، وفيها تظهر امرأة ترتدي فستانا اصفر وتنّورة زهرية رُصّعت من منتصفها بالذهب، وعلى رأسها وشاح من النوع الذي لم يكن يلبسه في الماضي إلا الملوك. ويُفترض أن الرسالة التي تقرأها المرأة هي نفسها التي كان يكتبها الشابّ في اللوحة السابقة.
الملابس الفخمة مرسومة ببراعة وكذلك التفاصيل. والمرأة تبدو منشغلة كثيرا بقراءة الرسالة، لدرجة أنها لم تنتبه إلى أن إحدى فردتي حذائها انزلقت بعيدا.
في أعماله المبكّرة، رسم ميتسو مناظر دينية بالإضافة إلى صور للحياة اليومية في مدينته الصغيرة ليدن. وعندما انتقل إلى أمستردام عام 1650، رسم مشاهد لأسواق مزدحمة ولأشخاص، في محاولة لمسايرة الذوق الفنّي السائد آنذاك في المدينة المتطوّرة والمزدهرة.


وأيّا كان الموضوع الذي يرسمه، فإن ميتسو كان يضمّن كلّ لوحة من لوحاته قصّة، رغم أن القصّة ليست واضحة دائما. لكنها في النهاية تصوّر مشاعر وانفعالات حقيقية: امرأة تطرّز الدانتيل ، خادمة تقشّر التفّاح، رجل يدخل غرفة بالقرب من مدفأة، طفل مريض، زوج وزوجته يتناولان إفطارهما و امرأة تعزف الموسيقى بصحبة رجل فضوليّ.
كان ميتسو حكواتيّا على طريقته، لكنه غالبا لا يفصح عن بداية ووسط أو نهاية القصّة، بل يريدنا أن نتأمّل مناظره ونفهمها، كلّ بحسب ما يرى. ولوحاته هذه كانت مثار نقاش في غرف الرسم في هولندا في القرن السابع عشر.
ميتسو هو بلا شكّ رسّام سرديّ، وإذا كان لا يخبرنا عن نهاية الفيلم أو القصّة، فإن فيرمير كان أكثر غموضا منه من عدّة أوجه. فتاة فيرمير ذات القرط اللؤلؤيّ، وكذلك نساؤه الأخريات، تبدو حياتهنّ متوقّفة مؤقّتا في لحظة بين اللحظات.
أما شخوص ميتسو فآتون من مكان ما وذاهبون إلى آخر. وأنت لا تستطيع أن تعرف إلى أين سينتهي بهم الطريق.
في القرن العشرين أفل نجم ميتسو أو كاد، بينما أصبح رفيقه فيرمير النجم الهولنديّ الأشهر في العالم، بخلفياته المسطّحة وألوانه الباردة ونظرات شخوصه إلى البعيد، بحيث يبدو أكثر تجريدا بالنسبة للمتلقّي الحديث.
غير أن خبراء الفنّ يتوقّعون لميتسو عودة قويّة ووشيكة إلى مركز الضوء، خاصّة مع تجدّد الاهتمام بفنّه في أوساط الرسم في العالم.

Credits
rijksmuseum.nl

الاثنين، نوفمبر 20، 2017

موسيقى الأرابيسك


عندما تستمع إلى بعض أغاني الأرابيسك التركية، فلن تميّزها عن الأغاني العربية من حيث اللحن أو الأنغام، بل وحتى نوعية المشاعر التي تعكسها. كما أن أداء مغنّييها لا يختلف كثيرا عن أسلوب الغناء العربيّ من حيث وفرة المناجاة والألم كتعبير عن الانكسارات والخيبات العاطفية.
لكن كيف ولدت أغاني الأرابيسك وما هي الظروف التي استدعت ظهورها؟
بعد مجيء مصطفى كمال أتاتورك إلى السلطة في تركيا، وفي محاولة منه لإنهاء أيّ اثر يُذكّر بالنظام السابق "أي السلطة العثمانية"، اصدر أمرا بمنع بثّ الموسيقى التراثية التركية من الإذاعة الرسمية. وأحلّ مكانها الموسيقى الغربية التي لم تكن لها جاذبية سوى عند بعض النخب الحضرية المثقّفة.
كانت الموسيقى العثمانية ذات طابع شرقيّ صميم وكانت مفضّلة داخل تركيا. ولأنها تعتمد نفس الصيغ ونفس الآلات الموسيقية الموظفة في الموسيقى العربية كالناي والقانون والكمان والعود "أو الطنبور"، فقد وجدت طريقها بسهولة إلى العالم العربيّ.
ولمع نجم العديد من روّادها مثل جميل بيه الطنبوري وديدي افندي ورفيق طلعت بيه وتاتيوس افندي ويوسف باشا وغيرهم ممّن وصلت شهرتهم وموسيقاهم إلى العالم العربيّ. وإلى هؤلاء يعود الفضل في ابتكار العديد من الأشكال الموسيقية التي دخلت الموسيقى العربية، كالمقامات والسماعيات والفواصل والبشارف والتقاسيم بأنواعها المختلفة.
ويكفي للتدليل على تأثير الموسيقى التراثية التركية على الموسيقى العربية أن كثيرا من المقطوعات التي تعزفها الفرق الموسيقية العربية بانتظام وأصبحت أنغامها مألوفة للأذن الشرقية كتبها وألّفها أولئك الموسيقيون الكبار منذ مئات السنين.
قرار أتاتورك بمنع موسيقى التراث أراد من ورائه إحداث قطيعة مع ماضي البلاد وإحلال النموذج الثقافيّ الغربيّ باعتباره الضمانة الوحيدة للتطوّر واللحاق بروح العصر.
غير أن المواطنين في الأرياف لم يرتاحوا لذلك القرار ووجدوا أنفسهم غرباء في الثقافة الجديدة التي جلبت نوعا من الموسيقى التي لم يألفوها أو يفهموها ولم يشعروا بالتعاطف معها. لذا تحوّلوا إلى الاستماع إلى إذاعتي مصر ولبنان اللتين كانتا تبثّان الأفلام والموسيقى العربية القريبة من وجدانهم.
وفي ذلك الوقت بالتحديد ولدت موسيقى الارابيسك التركية.




وعند ظهورها لأوّل مرّة، كان من السهل ربطها بجذورها العربية . ولأن هذه الموسيقى تشير إلى العرب والشرق، وبالتالي إلى الماضي، فقد شعر العلمانيون والحداثيون الأتراك بضرورة حظرها أيضا، على اعتبار أنها لا تتوافق مع الأفكار القومية للجمهورية الناشئة.
ورغم منعها، إلا أن الناس أحبّوها شيئا فشيئا ووجد مغنّو الارابيسك جمهورا يتحمّس لموسيقاهم ويطرب لها. ومع أن الاسم، أي "الارابيسك"، ذو إيحاءات سلبية لدى البعض، إلا أن الكثيرين فضّلوها على غيرها من أنواع الموسيقى الأخرى، باستثناء الموسيقى التراثية التركية.
ولقيت موسيقى الارابيسك قبولا واسعا على وجه الخصوص في أوساط المهاجرين من الريف من أصحاب المهن البسيطة الذين استوطنوا أطراف الحواضر والمدن الرئيسية مثل اسطنبول وغيرها.
السمة الأساسية لموسيقى وأغاني الارابيسك هي أنها نغمية وعاطفية. والأفكار الرئيسية التي تتناولها هي الحبّ والحنين إلى الماضي والشوق والألم والفراق والهجرة وغير ذلك.
وعلى الرغم من اسمها، إلا أن الارابيسك ليست موسيقى عربية خالصة، لأنها تتضمّن أيضا تأثيرات من موسيقى بلاد البلقان وتنويعات من الموسيقى الصوفية والعثمانية القديمة.
وفي الثمانينات، توسّع جمهور هذه الموسيقى ليشمل قطاعات من الطبقة الوسطى والنخب الاقتصادية المهمّة.



كانت الارابيسك تتضمّن مزايا عديدة، فأنغامها كانت مألوفة للأتراك، خاصّة الذين يحنّون إلى تاريخ البلاد القديم. كما أن كلمات الأغاني تشبع حاجة الشباب في المدن، لأن فيها نزعة فوضوية وبعضها يعكس أفكارا وجودية.
ثم إن كبار رموز موسيقى الارابيسك كانوا أشخاصا موهوبين ومبدعين موسيقيّا، مثل مسلم جورسيس وإبراهيم تاتليسيس وفيردي تايفور وأورهان كنج بيه. والأخير يعتبره الكثيرون مؤسّس الارابيسك، وهو مغنّ مشهور وعازف بارع على آلة الباغلاما التراثية.
في بداياتها، كانت هذه الموسيقى مقتصرة على المغنّين من الرجال. لكن في مرحلة تالية، انضمّت إليهم مطربات من الإناث، من أشهرهنّ سيبيل جان وإيبرو غونديش وغيرهما ممّن أضفين على الكلمات والألحان طبيعة راقصة.
أحيانا توصف موسيقى الارابيسك بأنها تشبه موسيقى الريف والبلوز الأمريكية، من حيث أنها تأتي من الإلهام وتصدر عن المشاعر مباشرة وبلا سابق تحضير أحيانا. وبعض الأغاني تتناول قضايا مثل الهويّات والايديولوجيا والتوتّرات الاجتماعية.
لكن هناك اتفاقا على أن هذه الموسيقى نشأت من التجارب الإنسانية مثل الاضطهاد والتهميش والاقتلاع من الجذور. والذين يؤدّونها هم في الغالب أشخاص قدموا من الأرياف ويحاولون أن يتأقلموا مع مجتمع صناعيّ يعمل على تهميشهم وإقصائهم.
والكثير من مطربي الارابيسك ولدوا في مناطق قريبة من العراق وسوريا، لذا فإن خلفياتهم العائلية عربية. لكنهم في واقع الحال يعيشون في بيئة تركية اجتماعيّا وثقافيّا، وهذه البيئة لا ترتاح كثيرا لتأثيرات الثقافة العربية.
والعديد من هؤلاء قَدِموا إلى اسطنبول بشكل خاصّ وعاشوا في بيوت متواضعة. وبالنسبة لبعضهم، فإن العالم مكان مشوّش وظالم. كما أنهم يرون أن القيم التقليدية للعائلة والقبيلة ضاعت في صخب المدن والحواضر الكبيرة التي يحكم فيها المال والسلطة بشكل مطلق. وبهذا المعنى، فإن مغنيّي الارابيسك هم ناقدون للنموذج الغربيّ التقدميّ الذي تبنّاه ونفّذه أتاتورك.


ولم يكن من قبيل المصادفة أن يتبنّى الحداثيون الأتراك موقفا مناوئا من هذه الموسيقى، وهم ينظرون إليها على أنها فنّ بلا معنى ويأخذون على أغانيها أنها تنحو باتجاه السلبية والإغراق في المشاعر والتمسّك غير العقلانيّ بالشرق المرفوض غالبا.
وأحد أسباب نفور هؤلاء يتعلّق بجمهور الارابيسك نفسه، فهم فقراء غالبا وتعليمهم بسيط ومعظمهم من مهاجري الأناضول الذين وفدوا إلى المدن الكبيرة وأحضروا معهم أسلوب حياة الريف. وهناك سبب آخر يتمثّل في أن المنتقدين ينظرون إلى هذه الموسيقى على أنها تقليد للموسيقى العربية، وبالتالي تنتمي لعالم ما قبل الحداثة.
أما اليسار التركيّ فيصف هذه الموسيقى بأنها حزينة ومتخلّفة وتفتقر إلى الذوق وتحضّ على العزلة والاستلاب. كما أنها بنظرهم تبشّر بالموت والمعاناة ولا توفّر أيّ نوع من الاحتجاج، بل ويمكن وصفها بأنها مخدّرة للجماهير.
وحتى الموسيقيين التقليديين غير راضين عنها، لأنها برأيهم تفسد الموسيقى التراثية بسبب تأثيراتها العربية والغربية.
الجانب المظلم في موسيقى الارابيسك تجسّده المطربة المشهورة "بيرجين" التي شُوّهت ثم قُتلت على يد زوجها السابق بدافع الغيرة. وأغاني هذه المطربة تثير الأحزان، إذ تصف كيف أن المدينة تدمّر العائلات وتخلّف أطفالا يتامى. وبعض أغانيها تتحدّث عن قصص حبّ فاشلة وآلام لا تُحتمل ولا يفهمها الناس في مدن بلا أخلاق وبلا قلب.
وبسبب الكاريزما التي يتمتّع بها بعض مغنيّي الارابيسك المشهورين، فقد أسندت إليهم ادوار نجومية في بعض الأفلام التي يؤدّون فيها أغاني تتتبّع تفاصيل الهجرة المؤلمة عندما يقع المهاجرون في مشاكل تدفع بهم إلى اليأس والعزلة.
في العقود الأخيرة، اكتسبت الارابيسك شعبية متزايدة يمكن عزوها إلى التغييرات السياسية والديموغرافية، مثل دمج المهاجرين من الريف في بنية المجتمع الحضريّ وسعي تركيا الحثيث للانضمام إلى الاتّحاد الأوربّي.

Credits
revolvy.com