:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، أبريل 19، 2015

خواطر في الأدب والفن

تيشيان: شمس بين الأقمار


ولد الرسّام الايطالي تيشيان في بلدة كادوري الايطالية لعائلة نبيلة. وعندما بلغ العاشرة أظهر ميلا للفنون والرسم، فأرسله والده إلى بيت احد أعمامه في فينيسيا. وقد استطاع الأخير أن يلمس محبّة الصبيّ للرسم، فعهد به إلى الرسّام البارع والمشهور جدّا وقتها جيوفاني بيلليني.
في ذلك الوقت، كانت فينيسيا أغنى مدينة في العالم، وكان الرسم فيها مزدهرا كثيرا. كانت صناعة الرسم في هذه المدينة تضمّ رسّامين وباعة أصباغ وصانعي زجاج وناشري كتب وخبراء ديكور وصانعي أدوات خزفية وما إلى ذلك.
عندما أصبح تيشيان رسّاما يُشار إليه بالبنان، كان من بين تلاميذه جورجيوني. لكن عندما صار عمل التلميذ غير مختلف عن عمل أستاذه، قرّر جورجيوني انه لم يعد راغبا في أن يكون تلميذا لتيشيان واختطّ لنفسه طريقا آخر مختلفا.
لكن تيشيان لم يلبث أن تفوّق على معاصريه في مدرسة فينيسيا للرسم مثل تنتوريتو وفيرونيزي ولوتو. بل لقد تجاوز حتى القيود الثقافية والفنّية لعصر النهضة وأصبح معروفا باعتباره مؤسّس الرسم الحديث الذي هيمن هو عليه خلال حياته الطويلة. وقد عُرف على وجه الخصوص بابتكاريّته واستخدامه البارع للألوان.
وأجمل لوحات تيشيان مستوحاة من الأساطير التي كان يشبّهها بالشعر البصري. ولوحاته تلك تصوّر ضعف وهشاشة الإنسان بأسلوب يتّسم بالرقّة والغنائية.
في إحدى المرّات، وبناءً على تكليف من ماري ملكة المجرّ، رسم تيشيان مجموعة من أربع لوحات تصوّر شخصيات ملعونة في الأساطير: تيتيوس وسيزيف وتانتالوس وليكسيون. وجميع هؤلاء محكوم عليهم باللعنة وبالعذاب الأبديّ لإثارتهم غضب الآلهة.
ومثل ما فعل أسلافه الذين كانوا يرسمون على أواني الزهور، رسم تيشيان في إحدى هذه اللوحات "فوق" البطل الأسطوري سيزيف ببنية قويّة ومفعمة بالحياة، كما أظهره عَزوماً ثابت الخطى.
في اللوحة، كلّ جسد سيزيف منشغل ووجهه مشدود بفعل الثقل الذي يحمله. وهو لا يدفع بالصخرة لأعلى التلّ، وإنما يحملها فوق كتفه بحسب ما ذكره أوفيد في كتاب التحوّلات، وهو عمل أدبيّ كان مألوفا كثيرا لتيشيان، بل وربّما كان نموذجه الصوريّ.
سيزيف يبدو أنه كان شخصا حكيما، وربّما كان نموذجا للإنسان الذي ينافس الآلهة. تقول القصّة أن سيزيف، عندما حضره ملك الموت، قام بخداعه ثم أحكم وثاقه. ونتيجة لذلك، ولفترة من تاريخ الإنسانية، لم يكن احد من البشر يموت، إلى أن تدخّل زيوس كبير الإلهة وأعاد الأمور إلى نصابها.
الروح المتمرّدة وحبّ الحياة هما سمتان إنسانيّتان ضروريتان، وسيزيف كان يجسّدهما. ورغم كلّ الظلام والعدمية في العالم، فقد تخيّل تيشيان سيزيف وهو يقوم بمهمّته تلك إلى قمّة الجبل بعزيمة وثبات.
البير كامو، الكاتب والفيلسوف الفرنسيّ، اختصر القصّة في أن الصراع لبلوغ الأعالي يكفي لأن يملأ قلب الإنسان بالأمل وأن على المرء أن يتخيّل سيزيف وهو سعيد في مهمّته برغم كلّ المشاقّ والمعاناة التي تحمّلها.
أعمال تيشيان الأخيرة، والتي وصفها المؤرّخ جورجيو فاساري بأنها جميلة ومدهشة، نُفّذت بضربات فرشاة جريئة وبخطوط عريضة بحيث لا يمكن رؤيتها إلا من مسافة. وقد قال بعض النقّاد إن قصائده البصريّة تجسيد لعظمة ميكيل انجيلو ورافائيل، كما أنها تعبير عن الألوان الحقيقية للطبيعة.
بمعنى ما، كان تيشيان شمسا وسط أقمار صغيرة. وقد حرّر الرسم من التخطيط الأوّلي وكرّس ضربات الفرشاة باعتبارها أداة تعبير بحدّ ذاتها.
توفّي تيشيان أثناء انتشار وباء الطاعون في فينيسيا، وتوفّي معه في نفس تلك السنة ابنه وذراعه الأيمن اوراتسيو. والحقيقة أنه لم يترك وراءه أيّة رسائل أو مفاتيح تدلّ على حياته الخاصّة أو رؤيته الفنّية. ولوحاته التي يربو عددها على الخمس مائة تشهد على وفائه الأسطوري لمهنته.
نموّ تيشيان الفنّي رافقه حتى مماته، وأصبحت فرشاته في آخر عمره أكثر حرّية وأقلّ وصفية وأكثر تجريدا. "ها أنا أتعلّم أخيرا كيف أرسم".

❉ ❉ ❉

بترارك ودي نوفيس


ألّف فرانشيسكو بترارك، شاعر عصر النهضة الايطالي، عدّة قصائد عبارة عن تأمّلات حول طبيعة الحبّ. وقد كتبها من وحي علاقته العاطفية مع ملهمته لاورا دي نوفيس التي كان لها تأثير كبير على حياته وأشعاره.
في إحدى تلك القصائد، يتأمّل الشاعر في الحالة المحيّرة التي وضعه فيها حبّه لتلك المرأة. فهو في حبّه لها يشعر بأنه مسجون وفي نفس الوقت حرّ، وبأنه محترق بالنار وفي الوقت نفسه مغمور بالثلج. وفي قصيدة أخرى يصف حالة الجمال والصفاء في حبّه وأثر ذلك على السماء والطبيعة.
الموسيقيّ "فرانز ليست" قد تكون سوناتات "أو رباعيّات" بترارك حرّكت مشاعره، لذا ترجم بعضها موسيقيّا على البيانو بطريقة جميلة أمسك من خلالها بجوّ ومشاعر كلمات الشاعر. ومن أشهر ما ألّفه من وحي ديوان بترارك الرباعيّة رقم 104 . المعروف أن "ليست" قضى سنوات في ايطاليا، ألّف خلالها أيضا مقطوعات موسيقية أخرى من وحي بعض الأعمال التشكيلية التي رآها هناك مثل زواج العذراء لرافائيل وتمثال لورينزو دي ميديتشي لميكيل انجيلو وغيرهما.
المرأة التي ألهمت بترارك، أي لاورا دي نوفيس، كانت زوجة للكونت هيوز دي ساد الذي يُعتبر من أسلاف الماركيز دي ساد. غير أن المعلومات التاريخية المتوفّرة عنها قليلة. لكن معروف أنها ولدت في افينيون بفرنسا عام 1310 وكانت تكبر بترارك بستّ سنوات.
وقد رآها الشاعر للمرّة الأولى في إحدى الكنائس وذلك بعد زواجها بعامين، فوقع في حبّها من النظرة الأولى وأصبح مهجوسا بجمالها بقيّة حياته. وقضى السنوات التالية في فرنسا يغنّي لها حبّه الأفلاطوني ويتبع خطاها إلى الكنيسة وفي مشاويرها اليومية.
ديوان بترارك المسمّى كتاب الأغاني ألّفه في مديحها واتّبع فيه أسلوب الشعراء المتجوّلين أو التروبادور. ولم يتوقّف عن الكتابة عن لاورا بعد وفاتها، بل كتب عنها قصيدة دينية في رثائها.
دي نوفيس توفّيت عام 1348، أي بعد واحد وعشرين عاما من رؤية بترارك لها. كان عمرها آنذاك لا يتجاوز الثامنة والثلاثين. ولا يُعرف سبب وفاتها. لكن ربّما كان السبب إصابتها بالطاعون أو السلّ، بعد أن وضعت احد عشر طفلا.
وبعد وفاتها بعدّة سنوات عُثر على قبرها واكتُشف بداخله صندوق من الرصاص يحتوي على ميدالية منقوش عليها صورة امرأة وتحتها إحدى قصائد بترارك التي نظمها فيها.

❉ ❉ ❉

بورودين: قصّة حبّ مغولية


من سمات موسيقى المؤلّف الروسي الكسندر بورودين أنها تمتلئ بالأنغام التي يسهل تذكّرها وتعلق بالذهن بسهولة. من بين مقطوعاته الموسيقية المفضّلة لديّ هذه القطعة بعنوان "في سهوب آسيا الوسطى".
مفردة "السهوب" في العنوان تحيل تلقائيا إلى منغوليا وجنكيزخان والقبيلة الذهبية. والكلمة توازيها في المعنى كلمة "براري" في اللغة العربية.
هذه الموسيقى هي جزء من مسرحية بعنوان الأمير إيغور تتحدّث عن قصّة حبّ بين أمير روسيّ وإحدى نساء المغول.
الانطباع السائد لدى الكثيرين عن المغول هو أنهم قوم قساة متوحّشون ومتعطّشون للحروب وسفك الدماء. لكن المسرحية تقدّمهم بشكل مغاير، فهم في العموم لا يختلفون عن غيرهم من حيث المشاعر والعواطف الإنسانية.
وكلّ ما في هذه القطعة، من بناء وتوليف وأنغام، شرقيّ الطابع، وبالتحديد روسي. وقد وظّف فيها المؤلّف عددا من الأنغام الروسية. وهي تبدأ بعزف رقيق لآلتي الكمان والكلارينيت المفرد، ثمّ يتطوّر النغم شيئا فشيئا مع دخول الآلات الوترية.
وأنت تستمع إلى هذه الموسيقى ستتخيّل انك تشاهد قافلة تجارية وهي تقترب شيئا فشيئا. والموسيقى تعطيك هذا الانطباع بمرور موكب من الناس والحيوانات. وربّما مع شيء من التركيز قد تشعر بإحساس بالمشي وبوقع أقدام.
وأكثر ما يثير الانتباه في النغم الأوّل الذي يعزفه الكلارينيت هو كيف أنه يتطوّر ويتداخل مع العناصر الموسيقية الشرقية، وفي النهاية ينتهي بالفلوت والبيانو، ثم يتلاشى النغم، ويُخيّل للسامع انه يرى القافلة وهي تبتعد شيئا فشيئا إلى أن تتحوّل إلى نقطة صغيرة في الأفق البعيد.
إن أعجبتك هذه المقطوعة وأردت سماع شيء مختلف لبورودين أكثر رومانتيكية وقدرة على مخاطبة العواطف، فأظن أن لا شيء أجمل من معزوفته الليلية المشهورة "نوكتورن". توجد توزيعات كثيرة لهذه المعزوفة، لكن التوزيع الذي اعتبره الأفضل هو الموجود هنا ..

❉ ❉ ❉

فيلاسكيز: بورتريه اوليفاريز


هذا هو أشهر بورتريه فروسي رسمه دييغو فيلاسكيز عام 1634، ويصوّر فيه كونت اوليفاريز الذي كان وقتها أقوى رجل في مملكة اسبانيا؛ أقوى حتى من الملك نفسه.
وقد أراد فيلاسكيز التعبير عن كبرياء الرجل فرسمه فوق صهوة حصان، وهو شرف لا يناله غالبا سوى الملوك وزعماء الدول.
كان اوليفاريز مشهورا بحبّه للخيل. وهو يظهر هنا بقبّعة وعصا ودرع مزيّن بالذهب، بينما يجلس فوق حصانه هابطا من مكان عال، وشخصه يملأ كامل مساحة اللوحة.
الجواد الرائع الكستنائي اللون يميل برأسه في الاتجاه الآخر وينظر إلى أسفل اللوحة حيث تدور معركة ويرتفع دخان نار وذخيرة فوق السهل تحت.
اللوحة لا تصوّر معركة بعينها، بل تشير إلى المهارة العسكرية للرجل الذي كان يقود جيوش الملك من نصر إلى نصر.
الزاوية اليسرى إلى أسفل تظهر فيها ورقة بيضاء مثبّتة في حجر. لم يكن من عادة فيلاسكيز أن يوقّع لوحاته أو يسجّل عليها تواريخ. ورغم ذلك ترك هذه الورقة البيضاء في الصورة ولم يكتب عليها شيئا.
شغل اوليفاريز منصب الوزير الأوّل في اسبانيا بدءا من عام 1623. وطوال أكثر من عشرين عاما كان هو الحاكم المطلق للبلاد.
وقد انتهز توسّع حرب الثلاثين عاما كفرصة، ليس فقط لاستئناف الأعمال العدائية ضدّ الهولنديين، ولكن أيضا من اجل محاولة استعادة السيطرة الاسبانية على أوربّا بالتعاون مع أسرة هابسبيرغ.
وفي مرحلة تالية حاول اوليفاريز أن يفرض على الدولة نمط إدارة مركزيّا. لكن تلك الخطوة تسبّبت في اندلاع ثورة ضدّه في كاتالونيا والبرتغال أدّت في النهاية إلى سقوطه.
وأخيرا، إن كان سبق لك أن رأيت لوحة الفرنسي جاك لوي دافيد التي يصوّر فيها نابليون على ظهر حصانه فلا بدّ وأن تلاحظ الشبه الكبير بين تلك اللوحة وبين لوحة فيلاسكيز هذه. وأغلب الظن أن دافيد رسم نابليون بتلك الكيفية وفي ذهنه هذه اللوحة التي يبدو انه كان معجبا بها كثيرا.

Credits
titian-tizianovecellio.org
petrarch.petersadlon.com
diego-velazquez.org