:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، يونيو 02، 2011

صفحة مشرقة من الماضي


عندما تقرأ سيَر بعض علماء المسلمين القدامى وحال مجتمعاتهم التي كانوا يعيشون فيها، ثم تقارن ذلك بحال مجتمعاتنا اليوم، لا بدّ وأن تشعر بالحزن والخجل لما وصلنا إليه من تخلّف فكري ونكوص حضاري.
سيرة حياة أبي بكر محمّد بن زكريّا الرازي توفّر صورة واضحة لما كنّا عليه في الماضي وما أصبحنا عليه اليوم.
لم يكن الرازي مجرّد طبيب مشهور، بل كان أيضا احد أعظم المفكّرين في زمانه. وقد ألف أكثر من مائتي كتاب غطّت اهتمامات شتّى. لكن أشهر أعماله على الإطلاق هو كتابه المسمّى "الحاوي في الطبّ" الذي اشتغل عليه لأكثر من خمسة عشر عاما.
كان الرازي عالما تجريبيا كبيرا. ولم يكن يؤمن بالتفكير الدوغماتي المستند إلى الحلول الجاهزة. وهذا كان واضحا في احتفاظه بسجلّ لكلّ مريض في عيادته يدوّن فيه مسار المرض ونتائج العلاج أوّلا بأوّل.
لكن ما اكسب الرازي شهرةً لا تقلّ أهمّية عن شهرته في مجال الطبّ هو تفكيره الفلسفي العقلاني المستند إلى ربط النتائج بالأسباب ونبذ الخرافة والتفكير الغيبي. كان الرازي يؤكّد على الدوام أن جميع البشر متساوون بطبيعتهم وأن الله انعم عليهم جميعا بالعقل الذي لا يجب أن يحرف الإنسان باتجاه الإيمان بالخرافة، لأن العقل "هو الذي يمكّن صاحبه من معرفة الحقائق العلمية التي يزخر بها الكون".
ومن آرائه الأخرى أن التقاليد البالية والكسل الفكري كثيرا ما يقودان الإنسان إلى اتباع الغير وتقليدهم بشكل أعمى.
لكن للرازي آراءً كانت محلّ جدل كبير بين مفكّري زمانه. فهو مثلا كان يرى بأن الأديان هي السبب الرئيسي في نشوب الحروب الدموية بين البشر وأنها دائماً ما تتبنّى موقفا معاديا للتأمّل الفلسفي والبحث العلمي.
وفي فلسفته السياسية، كان الرازي يعتقد أن الإنسان يمكن أن يعيش في مجتمع منظّم دون أن يتعرّض لإرهاب ومضايقات رجال الدين المتعصّبين. كما كان يؤمن بالتقدّم العلمي والفلسفي وبأن العلم محتّم له أن يتقدّم من جيل لآخر. وكان يؤكّد على أن على الإنسان أن يُبقي عقله مفتوحا وألا يرفض الملاحظات التجريبية لمجرّد أنها لا تنسجم مع قناعاته وأفكاره المسبقة.
كان واضحا أن انتقادات الرازي لتصرّفات بعض رجال الدين في عصره كانت الأقوى والأعنف خلال فترة العصور الوسطى كلّها.
ومع ذلك لم يتعرّض الرجل للاضطهاد أو التضييق أو الحجر أو المصادرة. ولم تصدر ضدّه فتاوى تتهمه بالعلمنة و"كسر بيضة الدين" وتغريب المجتمع، من قبيل ما يفعله الظلاميّون اليوم بحقّ مخالفيهم.
جلّ ما في الأمر أن بعض كتاباته حيل بينها وبين أن تُقرأ على نطاق واسع. لكنها على كلّ حال تظلّ شاهدا على الثقافة الإسلامية المستنيرة التي كانت سائدة آنذاك وعلى طبيعة المجتمع المسالم والمتسامح فكريا الذي عاش في كنفه الرازي.
ربّما لا يتفق الإنسان مع بعض آراء الرازي وأفكاره. لكن من الواضح انه كان متمسّكا بالكثير من القيم التي نقدّسها اليوم وندعو إلى التمسّك بها، مثل العقلانية والإيمان بالمنطق التجريبي ونبذ التفسيرات الجاهزة وأهمّية إعمال العقل وعدم الركون إلى بعض التقاليد العمياء.
الغريب أن المجتمعات العربية والإسلامية تراجعت اليوم، بل وتخلّفت كثيرا بعد أن أضاعت تلك المواصفات والقيم الحضارية الرفيعة التي كانت سائدة في السنوات المبكّرة من القرن العاشر الميلادي.

الثلاثاء، مايو 31، 2011

مونيه: مناظر انطباعية


كان كلود مونيه معلّما لا يُبارى في رسم الماء. في اللوحة فوق بعنوان "الأمواج المتكسّرة عند شاطئ تروفيل، 1870م"، يصوّر الرسّام ضحالة مياه المحيط وقت الجزر. الجسر والصخور والضفّة البعيدة للماء تتراجع إلى نقطة التلاشي التي تقع عند القارب الأصغر على البعد. المنظور القويّ يوصل إحساسا بأن الماء يفيض في ذلك الاتجاه. في اللوحة هناك بعض التفاصيل التي تكمل المشهد: صيّادان يجلسان على الشاطئ ورمال مبلّلة وأشخاص يمرّون فوق الجسر وآخرون يجلسون على الشاطئ البعيد.
في مثل هذه السماء المكلّلة بالغيوم، هناك فرصة لظهور الانعكاسات والظلال على صفحة الماء. اللوحة تثير إحساسا بالتحوّل والتغيّر. ومونيه ينجز تصوير هذه اللحظة في الوقت المناسب وبحرفية عالية، لدرجة أن المكان يتحوّل إلى شيء ابديّ وخالد. وهذه هي المفارقة الرئيسية في أعمال مونيه، أي قدرته الفائقة على تحويل انطباع زائل وعابر إلى لحظة أبدية ودائمة.


وفي اللوحة المسمّاة "جسر الطريق السريع في ارجنتويل، 1874"، ينسج مونيه تركيبة معقّدة من الأشكال المترابطة أفقيا: الشاطئ القريب، المياه، الشاطئ البعيد ثمّ السماء. العنصر الذي يربط هذه الأشكال معا هو الجسر الذي يمتدّ على مستوى اللوحة بمحاذاة الجهة اليمنى من النهر.
الربط بين الشاطئ والسماء من خلال عدد من العناصر هو حيلة انطباعية مألوفة. وتركيب اللوحة يروق للعين كثيرا، إذ يقود الناظر إلى عمق الصورة ذهابا وإيابا من خلال هذا التفاعل الديناميكي المستمّر من الخطوط والأشكال.


اللوحة فوق اسمها "مجلسا البرلمان، لندن، 1905"، وهي واحدة من سلسلة من اللوحات التي رسمها مونيه لمجلسي البرلمان أثناء زيارته إلى لندن. وكلّ هذه اللوحات رُسمت من نفس النقطة، أي من نافذة مونيه المطلّة على نهر التيمز. ويمكن اعتبار جميع هذه اللوحات التعبير الأسمى عن رؤية الرسّام لتفاعلات الضوء واللون.
غير أن هذه اللوحة مختلفة عن سابقاتها التي تبدو فيها المباني والنهر خاملة وساكنة. هنا تأخذ المباني مركز الصدارة بشكلها الفانتازي والديناميكي. ضربات الفرشاة الحلزونية في البرج تتصاعد إلى فوق بشكل مهيب. النهر أيضا يبدو هنا أكثر نشاطا، بينما يخلق شكل الموج إحساسا بالعلوّ والارتفاع.
ومثلما يمتدّ البرج باتجاه السماء الساطعة في أعلى اللوحة، فإن مونيه ينجح بطريقة بارعة في تجسيد شعور بالتطلّع والسموّ.


وفي لوحته "جسر واترلو، يوم رمادي، 1903، يركّز مونيه على إبراز الخصائص الحضرية لمدينة لندن من خلال عناصر الحركة في اللوحة والجسور المزدحمة ومسارات الدخان. وربّما كان اهتمامه بـ لندن وضبابها الممزوج بالضوء، مدفوعا بإعجابه بالرسّام الانجليزي جوزيف وليام تيرنر. مناظر تيرنر المضيئة كانت تتحدّى الأفكار التقليدية عن رسم المناظر الطبيعية في ذلك الوقت.
حوالي العام 1890، كانت اللوحات التي تصوّر ضباب لندن وأجواءها الداكنة تحظى بالرواج والشعبية بين الفنّانين، بمن فيهم الرسّام الأمريكي المغترب جيمس ويسلر.
ومثل ويسلر، كان معظم الفنّانين يرسمون لوحات هادئة ويوظّفون مجموعة محدودة من الألوان لإنتاج أعمال تحاكي الطابع الرمادي للمدينة. لوحات مونيه عن لندن مختلفة تماما. حتى في هذه المواضيع الملبّدة بالغبار والضباب، كان مونيه يرى لونا في كلّ شكل. الضباب الداكن في اللوحة رسمه بظلال خفيفة من الليلكي والوردي المشوب بالزيتوني الشاحب. الأقواس المظلّلة للجسر رسمها، ليس بالأسود كما جرت العادة، وإنما بالأزرق الغامق مع بقع ساطعة من اللون القرمزي.


اللوحة فوق، واسمها "المنديل الأحمر، صورة كميل مونيه، 1873، تبدو لوحة صامتة على نحو غير معهود. فقط المنديل الأحمر هو الذي يصرخ، مثيراً انتباهنا إلى الشخص الواقف في الخارج.
نعرف من العنوان أن المرأة هي زوجة الرسّام. الباب أو النافذة فكرة مألوفة في الرسم. في العادة يكون الباب أو النافذة مفتوحة لتوفّر صورة بانورامية عن الخارج. السيّدة المسكينة هنا تبدو كما لو أنها منقطعة في الخارج. هي أيضا تحسّ بالبرد وتحاول إحكام معطفها حول جسدها اتقاءً للبرد والثلج. عندما تنظر إلى ملامح المرأة لا بدّ وأن يُخيّل إليك أنها تتوسّل الدخول إلى المنزل هربا من البرد.
ما من شكّ في أن هذه لوحة مقلقة ومتوتّرة. وربّما تكشف عن الصراعات العميقة التي كانت تطبع علاقة مونيه بزوجته كميل في ذلك الوقت. في نهاية ذلك العام وقع مونيه في حبّ سيّدة أخرى تُدعى اليس. كانت هذه المرأة زوجة احد زبائنه. وقد حملت له في ما بعد بابنه جان بيير، وحدث ذلك قبل وفاة كميل بسنتين.


بعد عودته إلى فرنسا عقب انتهاء الحرب الفرنسية البروسية، انتقل كلود مونيه من باريس كي يعيش على مقربة من الريف الفرنسي.
وفي عام 1883، استقرّ في جيفيرني بالنورماندي حيث قضى فيها بقيّة حياته. هناك انشأ حديقة مذهلة بترتيب متقن من النباتات والزهور ذات الألوان المختلفة.
سلسلة لوحاته المشهورة "زنبق الماء" رسمها في الحدائق المائية، أي خارج الاستديو الذي شيّده هناك. كانت تلك اللوحات استجابة لما تراه عيناه. لكنها بنفس الوقت كانت تجسيدا لإحساسه الكوني بالطبيعة. هذه اللوحات تحاصر وتغمر الناظر بسحرها وبهائها. وقد وهب اللوحات إلى الدولة إسهاما منه في استعادة روح السلام.
مونيه، الذي كان يقول انه يخشى الظلام أكثر من الموت، مات أعمى. والأمر الأكثر إثارة للدهشة أن ابنه ميشيل أوصى عام 1966باثنتي عشرة لوحة من سلسلة زنبق الماء وسبع من سلسلة البرك اليابانية إلى متحف مارموتان.
اغرب ما في هذه اللوحات هو المزاج التأملّي الذي تخلقه. ثم هناك تأثيرها المنوّم والغريب. فهي تجذب الناظر أكثر فأكثر إلى أن تذوب في فوضى من الألوان. قال مونيه انه أراد من خلال هذه السلسلة من الرسوم خلق ملاذ للتأمّل الهادئ وسط الأزهار والماء.
"لقد زرعتها من اجل المتعة فحسب ولم يخطر ببالي أن ارسمها يوما"، يكتب مونيه في مذكّراته. لكنّه في ما بعد واظب على رسمها عندما كان المطر يضطرّه للبقاء داخل البيت.
وكان مونيه قد حصل من السلطات المحليّة على إذن بتحويل النهر الصغير المجاور لضيعته كي يوسّع مساحة البركة الصغيرة. ثم أنشأ جسرا على الطراز الياباني وعكف على تزيين المكان بأزهار السوسن والصفصاف وزنبق الماء بألوانها الزهرية والزرقاء والصفراء والحمراء.
في جيفيرني، عاش كلود مونيه السنوات الأربعين الأخيرة من حياته. ويمكن لزائر المكان اليوم أن يرى بيته هناك وقطعة الأرض التي اشتراها وحوّلها إلى منتزه يضجّ بالخضرة والماء.

Credits
artble.com