:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، فبراير 11، 2016

قصّة فينوس دي ميلو

من بين جميع الفينوسات التي يزدحم بها متحف اللوفر، وبينهنّ إلهات الفنّ اليونانيّ والرومانيّ، والإلهات ذوات الوجوه والملامح الطفولية في جداريات الأسقف، والنساء الغامضات اللاتي خلّدهنّ الفنّ الأكاديميّ، تقف فينوس دي ميلو شاهقة ومتفرّدة.
فينوس، النموذج، كانت دائما إنسانية بشكل لا يقاوم، فهي تبتسم، تفرد ذراعيها أو تسحب فستانها كي تغطي عريها. وأحيانا تجمع خصلات شعرها الطويل وهي تبرز من البحر، أو تلهو مع طفلها كيوبيد. لكن في متحف نابولي الوطني، هناك فينوس أخرى تبدو وكأنها على وشك أن تضرب مخلوق "ساتير" بحذائها.
عندما تنظر بتأمّل إلى فينوس دي ميلو سيساورك انطباع بأنها لا تنتمي إلى عالمنا. وفي الحقيقة فإن افتتاننا بها يمكن أن يكشف عن انجذاب عصبيّ لأجسام أو أدوات الحبّ. فينوس دي ميلو محسوسة جسديّا ولا مبالية سيكولوجيا، وقورة وعظيمة وبعيدة.
رأسها يميل قليلا بعيدا، نظراتها لا تقابل نظراتنا، وشعرها متقشّف لولا بضع خصلات تسقط حرّة على مؤخّرة عنقها. لكن استجابتنا لهذا المخلوق البعيد تحكمها هذه الخصوصية الآسرة لبشرتها. هنا يعمل النحّات بعاطفة عاشق، مُشرِكا اليد أكثر من العين.
يمكن للمرء أن يحسّ بالنسيج الشحميّ المنتفخ تحت جلد فينوس وحول ردفيها وفي بطنها وفي الطيّات ما بين ذراعيها وصدرها. حلماتها لا تكاد تُرى، ومن الصعب أن تعتقد انه مسّها الإزميل.
لكن ما الذي تفعله؟ يبدو أنها تثني جسدها قليلا لترفع فخذها كما لو أنها تحاول أن تمنع ملابسها من الانزلاق أكثر إلى أسفل. حركة خاطفة تَمكّن النحّات من الإمساك بها عند نقطة التعليق تماما.
لكن هناك نظريات أخرى، واحدة تقول أنها كانت تحمل رمحا، وأخرى تقول أنها كانت تنظر في مرآة بيدها، وثالثة تذهب إلى أنها كانت تغزل.
حتى اليوم لا احد يمكنه إثبات أيّ نظرية بخصوص ذراعي فينوس المفقودين. لكن السؤال: لماذا ما يزال هذا التمثال يفتن الناس بعد قرنين من اكتشافه، لدرجة أنه يُعتبر اليوم ثاني أشهر عمل فنّي في العالم بعد الموناليزا؟ من الواضح، وعلى نحو غير متوقّع، أن غياب الذراعين هو ما منح هذا التمثال جماله وتفرّده وهو ما يجعل من فينوس دي ميلو تحفة فنّية حديثة وغامضة.
في البداية كانت المرأة ترتدي جواهر معدنية: سوارا وأقراطا ورباط رأس. لكن لم يتبقّ من هذه الأشياء في التمثال سوى الثقوب التي كانت تثبّتها.
أثناء غزواته، قام نابليون بونابرت بنهب احد أجمل المنحوتات الإغريقية: تمثال فينوس دي ميديتشي ، من ايطاليا. وفي عام 1815 أعادت الحكومة الفرنسية التمثال إلى الايطاليين.
لكن في عام 1820، انتهز الفرنسيون الفرصة لملء الفراغ الذي تركه غياب التمثال الايطالي في الثقافة الوطنية، فقاموا بشحن تمثال فينوس دي ميلو من اليونان إلى باريس.
وقد قدّموا التمثال إلى الجمهور باعتباره أعظم حتى من تمثال فينوس دي ميدتشي. ونجحوا في مهمّتهم تلك بدليل أن التمثال قوبل بعاصفة من المديح والتقدير من الفنّانين والنقّاد فور عرضه لأوّل مرّة في اللوفر.
وفي خريف العام 1939، أي عندما كانت الحرب تقترب من باريس، تمّ نقل التمثال مع أعمال نحتية مهمّة أخرى إلى مكان أكثر أمنا في الريف الفرنسي.
إن من حسن حظّ العمل الفنّي انه يعيش أطول من عمر الفنّان الذي صنعه والراعي الذي كلّف بصنعه أو صرف عليه، وأن العمل نفسه يشارك في خلقه خيال الجمهور وأحيانا الصُدفة.
لكن أصلا، تمثال فينوس دي ميلو يروي قصّة مختلفة. التمثال اكتُشف في الثامن من ابريل عام 1820 عندما تعثّر به مزارع يونانيّ يُدعى يورغوس كينتروتاس في طرف مدينة قديمة في جزيرة ميلو.
ويُعتقد بأن من صنعه كان نحّاتا من الحقبة الهيلينية يُدعى الكساندروس في حوالي عام مائة قبل الميلاد. ويقال أيضا أن قاعدة التمثال المفقودة كانت تحمل نقشا باسمه.
بعض المؤرّخين يقولون إن ذراع فينوس الأيسر كان يستريح على عمود، بينما ذراعها الأيمن كان يُمسك بملابسها. وطبقا لشخصَين مستقلّين شهدا عملية شراء التمثال قبل حوالي مائتي عام، فإن بعض القطع المفقودة منه شُحنت مع التمثال إلى فرنسا من بلدة ميلو باليونان حيث اكتُشف. لكن تلك القطع فُقدت بطريقة ما بعد وقت قصير من وصولها إلى اللوفر.
وتقول إحدى الشائعات إن مسئولا كبيرا بالمتحف كان وراء عملية إخفاء تلك القطع، وهي تمثّل القماش والملابس، لأن وجودها كان يتناقض مع قراءته لرمزية التمثال. ومن بين تلك القطع، كانت هناك يد يسرى تمسك بتفّاحة، وقطعة من قاعدة التمثال.

من الواضح أن فينوس دي ميلو كانت تمثيلا لأفرودايت المنتصرة وهي تعرض تفّاحتها الذهبية؛ الجائزة التي فازت بها في مسابقة الجمال التي نظّمها الأمير باريس.
لكننا لا نعرف ما إذا كانت الإلهة حصلت على الجائزة بناءً على الجدارة وحدها أم لأنها قدّمت رشوة إلى القاضي. فقد وعدته إن فازت بأن تجعل أجمل امرأة في العالم تقع في حبّه، وكانت تلك بركة غير خالصة.
فكما هو معروف، كانت الأميرة هيلين هي المرأة المقصودة، وقد تصادف أنها كانت متزوّجة من ملك إغريقيّ. وقصّة هيلين تلك مع باريس هي التي أشعلت أشهر صراع في التاريخ وفي الأدب الغربيّين، أي حرب طروادة.
قصّة حكم باريس هي مجرّد توضيح للتناقضات المرتبطة بفينوس ومواهبها وأعطياتها. في الأزمنة القديمة، كانت هي التي تقرّر قصص الحبّ. ومنذ القرون الوسطى فصاعدا صارت تحكم على الجمال، وهو أكثر العناصر غموضا وجاذبية في الفنّ.
ولهذا كانت راعية للعشّاق والفنّانين، وهي مهمّة لم تجامل فيها أيّا من المعسكرين أبدا. وبالإضافة إلى ذلك كانت إلهة الجمال والحبّ متزوّجة من فولكان؛ الشخص الوحيد القبيح الخلقة من بين عشيرة جبل الأوليمب، بينما كان حبّها الحقيقيّ والأوّل مارس إله الحرب.
بطبيعة الحال كلّ هذا أدب؛ أي تلك الحكايات العبقرية المذهلة التي ظلّ الشعراء والفنّانون يحكونها على مرّ العصور. وبالنسبة لجميع الفينوسات من زمن هوميروس إلى زمن الرسّام فرانسوا بوشير، يمكن أن يقال إنهنّ لسن سوى ظلال باهتة وأنيقة لإلهة الخصوبة البدائية، أي افرودايت القبرصية.
وربّما كان الأمر ينطوي على مفارقة أن نعلم انه، من بين كلّ صورها، فإن فينوس دي ميلو فقط، وهي أكثرهنّ تحضّرا، تستدعي ذكريات عن تلك الجذور القديمة.
تبدو فينوس هذه رزينة ووقورة، ردفاها الضخمان ولحمها يكشف عن جسد امرأة حملت بالأطفال. لكنّ لها ثديي عذراء لم ترضع طفلا أبدا، وهو تقليد معروف في الفنّ الرومانيّ اليونانيّ. هذا التشويه أو التناقض لا يبدو أن له تفسيرا.
في الحقيقة هيئتها تبدو اقرب ما يكون إلى أمّ قويّة، متأرجحة وهائلة أكثر منها عاشقة. علماء الآثار الذين اكتشفوا أوّل تماثيل صغيرة لإلهة الخصوبة منذ العصر الحجريّ لا بدّ وأن تمثال فينوس دي ميلو كان في أذهانهم عندما أسموها الفينوسات.
وأكثر هذه التماثيل الصغيرة شهرة هو تمثال فينوس ويلليندورف الذي لا يختلف عن تمثال اللوفر كثيرا. ورغم أن التمثال يبدو صغيرا، إلا انه كبير في الواقع، إذ يتضمّن البطن والثديين والردفين، وكلّ ما في الأنثى.
فينوس دي ميلو، ورغم أنها اكبر ممّا تبدو عليه في الحياة الواقعية، مسجّلة كـ "شيء"، لأنها مكسورة، شيء ثقيل جدّا وغير رشيق، لكنّه كان في الماضي صنما يُعبد.
السورياليون تنبّهوا إلى هذا، فأعادوا تجسيد الإلهة كمعبودة غامضة، وهذا واضح في أعمال رسّامين مثل دالي وإرنست وديلفو. وقد تكون هذه التصاوير أسهمت في رواج أكثر السلع التي تركّز الرغبة على أجزاء من الجسد، كالعطورات والملابس الداخلية والمكياج والمجوهرات.
تَشوّه فينوس يبدو انه يضرب على وتر بدائيّ في أعماق لا وعينا الجنسي. وطبقا لـ "هسيود"، أوّل مصدر إغريقيّ للأساطير، فإن فينوس وُلدت من الأعضاء التناسلية المقطوعة لـ "ساتورن" التي ألقى بها ابنه "كرونوس" في البحر بعد أن قام بخصيه.
ولهذا فإن فينوس، الحبيبة المدلّلة في الفنّ الغربيّ وأكبر رمز لسحر الأنثى، لم تكن في الواقع امرأة. كما لم تكن ثمرة اتّحاد جنسيّ، بل كانت محصّلة جريمة جنسية بشعة. فينوس لم تكن سوى عضو ذكريّ مقطوع عاد إلى الحياة، وأصبحت رمزا للقلق والتوق الشهوانيّ ورمزا للقوّة الايروتيكية.
ومن الأشياء المثيرة للفضول أن فينوس، في أكثر صورها الخالدة، تعيد للأذهان ذكرى تلك الأسطورة المكبوتة. إنها تخرج من ثنايا ملابسها الغشائية، رائعة ولا مبالية وفاتنة ونائية وغير قابلة للاختراق.
ومن الأمور الغريبة كيف أن الفنّانين الغربيين قمعوا وأخفوا دائما هذا الجانب المشئوم من أسطورة الإلهة. فكّر في جميع الفينوسات في تاريخ الفنّ: كلّهن مخلوقات أثيريات ومن غير هذا العالم، قذف بهنّ الموج إلى الشاطئ مع صدفة بحر عملاقة وسط بتلات الأزهار.
اليوم بإمكاننا أن نرى فينوس دي ميلو كما رآها أهالي بلدة ميلو الإغريقية أثناء احتفالاتهم الطقوسية، فاتنة ومغطّاة بباقات الأزهار والمجوهرات وكاملة. لكن ربّما كانت تبدو اقلّ روعة وإغراءً مما تبدو عليه اليوم.
غير أن النظر إليها حيث هي اليوم في اللوفر، محاطة بحشد من الحجيج المفتونين من جميع أنحاء العالم، يوفّر فرصة للتأمّل والتفكير. بشرة فينوس اللامعة وهي تشعّ بالبريق تحت وابل من فلاشات المصوّرين تستثير في المخيّلة صور تلك الجماعة التي كانت تبجّلها وتقدّسها قبل أن تصبح اليونان هي اليونان وقبل أن يعرف العالم المتاحف.

Credits
crystalinks.com
smithsonianmag.com