:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، أبريل 29، 2025

حِكَم تشوانغ تزو


سنّارة السمك موجودة بسبب السمك، فبمجرّد أن تحصل على السمكة يمكنك أن تنسى السنّارة. والكلمات موجودة بسبب المعنى، فبمجرّد أن تحصل على المعنى يمكنك أن تنسى الكلمات. أين يمكنني أن أجد رجلا نسي الكلمات حتى أتمكّن من التحدّث معه؟!
تشوانغ تزو

يصف المترجم وعالم الصينيات الراحل بيرتون واتسون شعور من يحاول تفسير أو فهم كتابات تشوانغ تزو (369 - 286) بقوله: كلّما جلست وحاولت أن أكتب بجديّة عن هذا الرجل، ظهر لي في مكان ما في مؤخّرة رأسي وهو يطلق ضحكة مكتومة ساخرا من غطرسة وعبثية هذا المسعى".
ويضيف: إن كتاب هذا الفيلسوف الصيني الذي يتضمّن مزيجا غريبا من الحكايات والقصائد والحوارات والأساطير والتأمّلات الفلسفية الساخرة هو مرآة مرحة لروحك، فهو يهاجم أعمق معتقداتك ويزعزع استقرارك ويجبرك على ألا تأخذ نفسك على محمل الجدّ".
وكون الكتاب مسليّا لا يجعله تافها، بل على العكس، فتشوانغ تزو مهرّج ومهمّته تحسين قرّائه، أو بالأحرى إفادتهم. وعلى الرغم من تفاهة المهرّجين، إلا أنهم كانوا ضروريين للحكومات التي توظّفهم. فبالإضافة إلى توفير الترفيه، كان لديهم ترخيص بانتهاك القواعد وتوفير وسيلة فريدة لتقييد الطغيان من جميع الأنواع. كانوا يتحدّثون بالحقيقة إلى السلطة مثلما يتحدّث بها تشوانغ تزو الى القرّاء. ضحكاته المُداوية تخفّف من حدّة المعتقدات المتحجّرة التي عاشت فترة طويلة دون أن تخضع للتشكيك أو السخرية.
هناك تاريخ موجز لحياة تشوانغ تزو وسيرة ذاتية قصيرة كتبها المؤرّخ الصينيّ العظيم "سيما تشان" بعد مرور حوالي 200 عام على وفاة المعلّم. ويبدو أنه عاش خلال فترة اتّسمت بالاضطرابات السياسية وسُمّيت بفترة الممالك المتحاربة. وقتها، كانت مئات المدارس الفلسفية والفكرية تتنافس وتزدهر في الصين. وكان تشوانغ تزو يتنقّل بين المناطق الهادئة في عقله باحثاً عن فلسفة تخدم زمنه المضطرب.
يقول كاتب صيني معاصر: بينما كان لاو تزو يتحدّث بالأمثال، كان تشوانغ تزو يكتب مقالات فلسفية مطوّلة ومنطقية. وبينما كان لاو تزو يعتمد كليّا على الحدس، كان تشوانغ تزو يعتمد كليّا على الفكر. كان لاو تزو يبتسم، وكان تشوانغ تزو يضحك. كان لاو تزو يعلّم، وكان تشوانغ تزو يسخر. كان لاو تزو يخاطب القلب، وكان تشوانغ تزو يخاطب العقل. كان لاو تزو مثل والت ويتمان، وكان تشوانغ تزو مثل ثورو. كان لاو تزو مثل روسو، وكان تشوانغ تزو مثل فولتير".
وعلى النقيض من كونفوشيوس الذي تتألّف تعاليمه من مجموعة من المبادئ الأخلاقية ونظام عملي للإدارة الجيّدة، فإن تشوانغ تزو كان شخصا مثاليّا. وبحسب سيما تشان، كان تزو يكتب من أجل متعته الشخصية، وقد ترك للأجيال التالية عملا يوفّر فيضا من الجمال الأدبي والأصالة الفكرية. وعلى الرغم من أنه يبدو أحيانا وكأنه تلميذ للاو تزو، إلا أنه قام بتوسيع الطاويّة ونقل تكهّناته إلى عوالم تجاهلها المعلّم لاو تزو.
من العبارات المشهورة المنسوبة لتشوانغ تزو قوله: نحتاج إلى الشجاعة لتغيير ما نستطيع تغييره وتقبّل ما لا نستطيع تغييره، وإلى الحكمة لمعرفة الفرق بينهما. إن الحكمة هي الأساس، واكتسابها رهن بمعرفة أنفسنا والعالم من حولنا والانتباه جيّدا لتجاربنا".
كان تشوانغ تزو يؤمن بأن احترام جميع أشكال الحياة ضروريّ للإنسان. يقول: جميع المخلوقات متساوية في الأهمية، وتستحقّ الاحترام". ويقول: إنه لقدَر مجيد أن يكون المرء عضوا في الجنس البشري، مع أنه جنس مكرّس للعديد من السخافات ويرتكب الكثير من الأخطاء الفادحة".
كان يرى أن محاولة السيطرة على الحياة والتحكّم بها "تُبعد الإنسان عن الانسجام والتوازن، وأنه لا يمكن العثور على السلام في خضم صراع السيطرة، لأن المنظور الروحي الحقيقي يُخبرنا أن الحبّ حرّية".
ومن أفكاره أيضا أن راحة البال لا تأتي من غياب الصراع، بل من تقبّله. "ستظلّ هناك دائما عقبات في طريق الحياة. ومعظمنا في صراع مع الواقع. ولو لم تكن هناك جبال نتسلّقها، لكان العالم صحراء قاحلة خالية من الحياة".
كان تشوانغ تزو مفكّرا جريئا ومضحكا، حادّا ولاذعا، حالما ومرحا، رصينا وجادّا. وقد دُرست المعاني الخفية لرموزه على مدى قرون. ومن آرائه أن الفرح الكامل هو "أن تكون بلا فرح، وإذا سُئلتُ ما الذي يجب فعله وما الذي لا يجب فعله على الأرض لتحقيق السعادة، أجيب بأن هذه الأسئلة ليس لها إجابة ثابتة تناسب كلّ حالة". كما رأى أنه ينبغي لنا أن نتبع طبيعتنا دون الخضوع للضغوط أو القيود الخارجية وأن ندع كلّ شيء يسير في مساره الطبيعي.
عندما توفّيت زوجته، جاءه أحد أصدقائه لتعزيته فوجده يغنّي! ولمّا لامه الصديق على تصرّفه متّهما إيّاه بعدم الوفاء، ردّ تشوانغ تزو: إن العملية التي أوصلت الزوجة إلى الميلاد هي نفسها التي أوصلتها إلى الموت مع مرور الوقت وبسلاسة، مثلما يتحوّل الخريف إلى شتاء والربيع إلى صيف".


وأضاف: لو تجوّلتُ وأنا أبكي وأضرب على صدري على فقدها، لكان ذلك دليلا على أنني لم أفهم شيئا عن الحياة. لم يكن الإنسان في العصور القديمة يعرف شيئا عن حبّ الحياة أو عن كراهية الموت. كان يخرج من الحياة بلا سرور ويعود بلا ضجيج. يأتي بسرعة ويذهب بسرعة، وهذا كلّ شيء. لم ينسَ أين بدأ ولم يحاول معرفة الى أين سينتهي. لقد تلقّى شيئا واستمتع به، نسيه وأعاده مرّة أخرى".
وذات مرّة، عندما طلب منه اثنان من كبار المسؤولين لدى الملك أن يقبل منصب وزير قال لهما: أبلغوا جلالته تحيّاتي وأخبروه أنني سعيد هنا بالزحف في الوحل. إن الرجل الحكيم يعلم أنه من الأفضل أن يجلس على ضفّتي نهر أو بحيرة في جبل بعيد، بدلا من أن يكون امبراطورا على العالم".
وتشوانغ تزو يوصي قارئه بألا يسعى وراء رضا الناس وألا يعتمد على خططه وألا يتخذ قرارات وأن يدع القرارات تصنع نفسها. ويضيف: توقّف عن الرغبة في أن تكون مهمّا، ولا تترك آثار لخطواتك. إن الرجل العاقل يكره أن يرى الناس يتجمّعون حوله ويتجنّب الحشود، لا فائدة تُرجى من دعم الكثير من الحمقى الذين سينتهي بهم المطاف في قتال بعضهم البعض. يا لك من أحمق! بداخلك أعظم كنز في العالم، ومع ذلك تتجوّل طالبا المساعدة من الآخرين!".
يقول توماس ميرتون مؤلّف كتاب "طريق تشوانغ تزو": أحبُّ تشوانغ تزو لأنه على حقيقته، لا يهتمّ بالكلمات والصيغ، بل بالفهم الوجودي المباشر للواقع. فلسفته التي تغوص في صميم الأمور مباشرة أصيلة وعقلانية للغاية. كما أن طريقه غامض لأنه من البساطة بحيث يمكن أن يمضي المرء فيه دون حتى أن يعرف نهايته، فأنت تدخل هذا الطريق بعد أن تترك كلّ الطرق ثم تضيع فيه. أعتقد أنني معذور لمصاحبتي هذا المنعزل الصيني الذي يُشبهني ويشاركني عزلتي الهادئة".
ويضيف: بخيالاته الجامحة، ولغته الفكاهية وهرائه العذب، يُطلق تشوانغ العنان لروحه دون قيود، يختلط بالمجتمع التقليدي، لا يحتقر أمور الكون، ولا يجادل فيما يعتبره الآخرون صوابا أو خطئاً. الكثيرون يعتبرونه بمثابة أفلاطون بالنسبة لسقراط، وبولس بالنسبة ليسوع، ومنسيوس بالنسبة لكونفوشيوس، وأشوكا بالنسبة لبوذا. وتشوانغ تزو يسخر من المبادئ الكونفوشية الجامدة ويدافع عن المعنى لا عن الألفاظ، وعن الحكمة الحقيقية في الحياة اليومية".
ألّف تشوانغ تزو كتابا يحمل اسمه ويُعدّ اليوم أحد النصوص الأساسية للطاوية. كما تُعتبر قصّته "القارب الفارغ" من الكلاسيكيات المعروفة في العالم الطاوي، وهي استعارة رائعة لرسم خريطة لمياه الحياة.
إن روح الدعابة الراقية والعبقرية الأدبية والبصيرة الفلسفية التي يتمتع بها تشوانغ تزو واضحة لأيّ شخص يطّلع على أعماله. ذات مرّة عبّر هايديغر عن إعجابه بالمقطع الذي يقول فيه تشوانغ تزو لمفكّر آخر وهما يسيران على ضفاف نهر: هل ترى كيف تصعد الأسماك إلى السطح وتسبح كما يحلو لها؟ هذا ما تستمتع به الأسماك حقّا". فيردّ صديقه: أنت لست سمكة، فكيف تقول إنك تعرف حقّا ما تستمتع به الأسماك؟!". فيردّ عليه تزو: أنت لست أنا، فكيف تعرف أنني لا أعرف ما الذي يستمتع به السمك؟!"
إن روح الدعابة الراقية والعبقرية الأدبية والبصيرة الفلسفية لتشوانغ تزو واضحة لأيّ شخص يتذوّق أعماله. كان ذا خيال واسع وشخصية نبيلة. ومثله مثل لافونتين الفرنسي، كان يزيّن تعاليمه بمفردات جميلة واستعارات غير عاديّة.
ذات يوم، رأى جمجمة فارغة بيضاء اللون، ولكنها ما زالت محتفظة بشكلها. فضربها بسوطه وقال لها: هل كنتِ ذات يوم رجلا طموحا أوصلته رغباته المفرطة إلى هذا المصير، أو رجل دولة أغرق بلاده في الخراب وهلك في معركة، أو بائسا ترك وراءه إرثا من العار؟! أم أنك وصلتِ إلى هذه الحال من خلال المسار الطبيعي للشيخوخة؟"
وبعد أن انتهى تشوانغ تزو من الحديث الى الجمجمة، أخذها ووضعها تحت رأسه كوسادة، ثم ذهب إلى النوم. وفي الليل، ظهرت له الجمجمة في الحلم وقالت له: لقد تحدّثت بشكل بليغ يا سيّدي، ولكن كلّ ما تقوله لا يشير إلا إلى حياة البشر ومتاعبهم. أما في الموت فلا يوجد شيء من هذا، لا يوجد سيّد أعلى ولا رعيّة أسفل. إن عمل الفصول الأربعة غير معروف. ولا يمكن لسعادة الملك بين البشر أن تتجاوز سعادتنا".
كان تشوانغ تزو يرى أن الناسك الذي يتمتّع بحالة ذهنية هادئة يستطيع أن يصبح واحدا مع الطبيعة، فيحلّق عاليا مع السحب العائمة والطيور. وإذا كان الرسّام يتمتّع بهذه الحالة الذهنية، فإنه يستطيع أن يضع شخصية بشرية صغيرة في منظر طبيعي مهيب ليُظهر اختلاط الأنا بالطبيعة. وإذا كان الفيلسوف يتمتّع بهذه الحالة الذهنية، فإنه يستطيع أن يتجاوز الزمان والمكان وأن يتماهى مع اللانهائية والخلود.
وإذا كان الإنسان العادي يتمتّع بهذه الحالة الذهنية، فإنه يستطيع أن يتحرّر من الهموم والرغبات والحبّ والخوف. ولأنه واحد مع العالم، فإنه لا يعلّق على نفسه أهمية أكبر من أهميّة حشرة أو حصاة أو نبات ضعيف، ويستطيع أن يتجاوز الحياة والموت. وإذا كان المرء يستطيع أن يعتبر الموت رحلة عودة إلى الوطن، فإن أيّ شيء في هذا العالم لا يشكّل له أهمية كبيرة.
يقال إن الورثة الحقيقيين لفكر وروح تشوانغ تزو هم بوذيّو الزِن الصينيون في فترة تانغ (من القرن السابع إلى القرن العاشر الميلادي). لكن تشوانغ تزو استمرّ في ممارسة تأثيره على الفكر الصيني المثقّف بأكمله، حيث اُعتُرف به كواحد من أعظم الكتّاب والمفكّرين في الفترة الكلاسيكية. وممّا لا شكّ فيه أن الطاوية المتطوّرة والصوفية لتشوانغ تزو ولاو تزو تركت بصمة دائمة على الثقافة الصينية بأكملها وعلى الشخصية الصينية نفسها.

Credits
archive.org
plato.stanford.edu

الأحد، أبريل 27، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • في كتابه "الضوء الأخير"، يذكر ريتشارد لاكايو بعض الفنّانين الذين عاشوا طويلا وجعلوا من الشيخوخة مرحلة انتصار وابتكار. وكلود مونيه كان أحد هؤلاء. في العديد من لوحاته التي أنجزها في نهايات حياته، ومن بينها مجموعة من ثماني لوحات كبيرة الحجم لزنابق الماء، استطاع ان يكسر التقاليد المتّبعة في تصوير المناظر الطبيعية.
    في بعض هذه اللوحات تخلّى الرسّام عن المنظور ونقاط التلاشي، وركّز بدلا من ذلك على سطح بركته في بلدة جيفرني، ورسم مشهدا يُظهر الماء دون أيّ أرض تُضفي عليه طابعا محدّدا. ونتيجة لذلك، قد تبدو بعض هذه اللوحات محيّرة وتجريدية.
    كان مونيه يبتكر نوعا جديدا كليّا من الفضاء التصويري. فالبِركة مرآة تُرينا السماء والأشجار التي تعلوها، وفي نفس الوقت هي غشاء تطفو عليه زنابق الماء. كما أنها نافذة على الأعماق تنبض بالحياة وبخيوط طويلة من الطحالب والأعشاب المتموّجة. وكلّ ضربة فرشاة عليها أن تشير إلى بُعد أو أكثر من تلك الأبعاد المتشابكة.
    ونفس هذه الفكرة تنطبق على الإسباني فرانسيسكو دي غويا. فلو كان هذا الرسّام الكبير قد مات في أوائل الستّينات من عمره، لكان ما يزال يُذكر باعتباره فنّانا بارعا في رسم الصور الشخصية فحسب، ولكن ليس باعتباره واحدا من أكثر الفنّانين تأثيرا في جميع العصور.
    من نواحٍ عديدة، أسهم طول العمر في تعزيز استمرارية غويا. وبعض أروع أعماله وأكثرها شهرةً، كلوحاته السوداء الغريبة وسلسلة نقوشه المرعبة عن "كوارث الحرب"، أُنجزت في العقدين الأخيرين من حياته.
  • ❉ ❉ ❉

  • السمة المشتركة الأكثر شيوعا في القصص الخيالية هي انها تبدأ عادةً بالعبارة الافتتاحية "كان يا ما كان"، التي تتجاوز اللغة العربية واللغة الانغليزية (Once upon a time) الى عدد كبير من لغات العالم.
    ويُعزى أوّل ظهور لهذه العبارة في كتب القصص الى قصّة إنغليزية بعنوان" حياة وآلام القدّيسة جوليانا" التي يعود تاريخها إلى حوالي عام 1225.
    وحقيقة أن كلّ اللغات تقريباً لديها عبارة واحدة مثل هذه، تبدأ بها القصص الخيالية وتزيل من تلك القصص أيّ أثر للحاضر والماضي، ليست مصادفة. بل إنها في الواقع تخدم غرضاً مفيدا، لأنها بحسب الكاتبة ماريا كونيكوفا تخلق "مسافة وغموضاً" وتوفّر "دعوة للخيال والتخيّل" وتتيح للقرّاء أن يعرفوا على الفور أن القصّة ستزدهر بالخيال وستنتهي نهاية سعيدة.
    ومن الأسباب الأخرى لرواج العبارة أن بدء قصص الخيال بكلمات نمطية يجعل القرّاء يدركون على الفور نوع القصّة التي ستدور حولها الأحداث، تماما كالمعلومات التي يتلقّاها المشاهد في الثواني القليلة الأولى من مشاهدة فيلم للرسوم المتحرّكة.
  • ❉ ❉ ❉

  • "على شَفا الفناء التام في الله، هناك منطقة من الارتباك العذب، شعور بالتواجد في أماكن متعدّدة في آن واحد، ونطق لجمل متعدّدة، غموض مذاب وهشّ وشبه فارغ، وجهل عميق يبدو فيه السلوك التقليدي الهادئ ضرباً من الجنون".
    قصائد الرومي ليست حدائق مصغّرة وأنيقة، بل هي أشبه ما تكون "بلوحات على الطراز التركماني، مليئة بالحركة المفاجئة والزهور والشجيرات الغريبة والشياطين والحيوانات الناطقة"، على حدّ وصف المستشرقة الألمانية آن ماري شيمل.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • كان ذئب يلتهم حيوانا قتَلَه، وفجأةً علِقت عظمة صغيرة من اللحم في حلقه، فلم يستطع بلعها. شعر الذئب بألم شديد وراح يركض جيئةً وذهابا وهو يئنّ ويتأوّه باحثا عن شيء يخفّف الألم. وتوسّل لكلّ من قابلهم بأن يُخرجوا العظمة من حلقه قائلا: من يساعدني سأفعل له أيّ شيء يطلبه".
    وأخيرا وافق طائر "كرَكي" على المحاولة، وطلب من الذئب أن يستلقي على جنبه وأن يفتح فكّيه قدر استطاعته. ثم أدخل رقبته الطويلة في حلق الذئب، والتقط العظمة بمنقاره وأخرجها. ثم قال الكركي للذئب: والآن هل تتكرّم بإعطائي المكافأة التي وعدتني بها؟".
    ابتسم الذئب وكشّر عن أنيابه وقال: إرضَ بنفسك، لقد وضعتَ رأسك في فم ذئب وأخرجته سالما، فاشكر الله على ذلك". ومنذ ذلك الوقت والناس يستخدمون عبارة "من فم الذئب"، دلالةً على الشيء الذي ينطوي فعله على مخاطرة كبيرة.
  • ❉ ❉ ❉

  • في العصر الذهبي للفنّ المادّي "أي اللارقمي"، كانت لوحة الموناليزا، بابتسامتها الغامضة، تجتذب الحشود من كلّ حدب وصوب. وكان الناس ينتظرون دورهم بصبر وقلوبهم تنبض بالإثارة لمجرّد الوقوف أمام تلك اللوحة الصغيرة الآسرة. وكانت ضربات ليوناردو دافنشي تحمل في طيّاتها قصّة تكشف عن دقّة الفنّان وإتقانه للعبة الضوء والظلّ.
    كان الفنّ تجربة حميمة تتفاعل معها كلّ الحواسّ. وكانت كلّ ضربة للفرشاة أشبه بضربة على قماش عقل الناظر. وكانت ضربات فينسنت فان غوخ الجريئة والمتموّجة يتردّد صداها في عالمه الداخلي المضطرب، في حين كانت ضربات فرشاة مونيه الدقيقة تدعونا إلى المناظر الطبيعية الهادئة التي يصوّرها خياله. وكان استخدام رمبراندت المعبّر للضوء والظلّ ينقلنا إلى أعماق المشاعر الإنسانية.
    عندما يقف المرء أمام لوحة، يدور حوار بينه وبين العمل الفنّي. حيث تتتبّع العين الخطوط والألوان وتنتبه للتفاصيل الدقيقة وتبحث فيها عن معنى وتتخيّل كيف تتدفّق الألوان المائية وتتداخل معا في تناغم رقيق وكيف يمتصّ الورق حيوية الألوان مثل روح عطشى تتشرّب الجمال، وكيف تنزلق الفرشاة بسلاسة على السطح فتخلق مناظر طبيعية خلابة وصورا آسرة تلتقط جوهر اللحظة.
    كانت زيارة المعارض الفنّية تجربة تتجاوز قطع الفنّ المعروضة لتمتدّ الى الهندسة المعمارية والجوّ الذي يحتضن العمل الفنّي. وأصبحت عظمة المتاحف وقاعاتها الأنيقة مسارح لسيمفونية من الإبداع، حيث الممرّات المقوّسة والأرضيات المبلّطة وغيرها من العناصر الفنّية الجاذبة.
    الآن تغيّرت تجربة الفنّ. فقد أصبحت المنصّات الرقمية مستودعات ضخمة لعدد لا يُحصى من الرسوم التوضيحية واللوحات والصور الفوتوغرافية. وبمجرّد تمرير إصبعك، تمرّ الصور أمام عينيك في تتابع سريع ويصبح تأثيرها عابرا وزائلا. ويضيع العمق والملمس وتَجسّد الفنّ في شاشات أجهزتنا البكسلية.
    لا شكّ أن اللوحات الرقمية تتمتّع بسحر خاص. فهي تتيح لك الاستمتاع الفوري، مع القدرة على تصحيح الأخطاء بنقرة زرّ واحدة واستكشاف مجموعة واسعة من الأدوات والتأثيرات. كما أنها جعلت الفنّ متاحا لجمهور أوسع. ولكن وسط هذه الراحة، فقدنا شيئا مهمّا، فقد ولّت أيّام التفكير في اللون المثالي وخلط الألوان بعناية لتحقيق اللون المطلوب. ولم يعد بوسعنا أن نتلذّذ بفوضى الإبداع الفنّي التي من شأنها أن تملأ الغرفة بالشغف. لقد حلّت الشاشات الأنيقة والأقلام محلّ التجربة الملموسة للعمل بالوسائط المادّية.
    وبينما نحتضن مزايا الفنّ الرقمي، يتعيّن علينا أن نتوقّف لنتأمّل الكنوز غير المحسوسة التي قد نتركها وراءنا. إن المادّية التي يتّصف بها الفنّ التقليدي، بما يتضمّنه من نسيج ملموس وضربات فرشاة دقيقة وحضور كبير، يتمتّع بجاذبية معيّنة لا يمكن تكرارها في عالم الفنّ الرقمي.
    في سعينا نحو التقدّم، يتعيّن علينا أن نسأل أنفسنا: هل نفقد شيئا ثمينا عندما ننتقل إلى عالم الرقمية؟ هل نضحّي بثراء الفنّ المادّي ولمسته الإنسانية المتأصّلة والارتباطات العميقة التي يمكن أن يثيرها؟ وبينما نتنقّل في المشهد الفنّي المتطوّر باستمرار، يجب أن نحقّق التوازن ونحافظ على جوهر أشكال الفنّ التقليدية مع احتضان الإمكانات التي يجلبها الفنّ الرقمي.

  • Credits
    worldwidewords.org
    meer.com

    الجمعة، أبريل 25، 2025

    القدّيسة المنتقمة


    في بدايات العصور الوسطى، سيطر الڤايكنغ على طرق التجارة الروسية وزوّدوا أوروبّا الغربية بالفضّة الإسلامية لقرنين من الزمان. ووفقاً لبعض المؤرّخين، قبلت مجموعة من الڤايكنغ بقيادة أمير حرب يُدعى ريوريك دعوةً من اتّحاد القبائل السلاڤية والفنلندية "للحضور وتولّي الحكم عليهم". كان السلاڤ والفنلنديون في حالة حرب فيما بينهم، واحتاجوا إلى طرف محايد لإحلال السلام والنظام في بلدهم.
    وفي عام 862، وصل ريوريك وعشيرته إلى شمال غرب روسيا وأقاموا قواعد لسلطتهم في عدّة مدن. وبحلول عام 879، استولى أوليغ، أحد أفراد عشيرة ريوريك، على كييڤ معلناً أنها ستكون "أمّ المدن الروسية".
    أمضى أوليغ وخليفته إيغور ولايتهما في إخضاع القبائل الواقعة على طول منابع الأنهار الرئيسية، فأخضعوا كلّ قبيلة لنظام جباية ضرائب بدائي، حيث كان أمراء كييڤ يجمعون "الجزية" على شكل فراء وشمع وعسل وعبيد من مختلف القبائل. وكانت الغنائم تُرسل إلى كييڤ، حيث تُحزم في زوارق كبيرة مصنوعة من جذوع الشجر وتُنقل كلّ ربيع عبر نهر الدنيبر إلى البحر الأسود.
    كانت الوجهة النهائية للأسطول التجاري هي القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية. وبالطبع أدرك الأباطرة البيزنطيون خطر فتح أبواب عاصمتهم أمام حشود الڤايكنغ الذين كانوا بحاجة إلى إقناع القسطنطينية بفوائد التجارة السلمية معهم. وبناءً عليه، هاجم "الڤايكنغ الروس" القسطنطينية خمس مرّات (860 – 944) في أقلّ من قرن. ونتج عن هذه الحملات توقيع معاهدات تجارية بين كييڤ والقسطنطينية.
    في تلك الفترة، كانت تعيش في بلاط كييڤ امرأة تُدعى "أولغا"، أو هيلغا في اللغة الإسكندنافية، وكانت شاهدة على بعض تلك الأحداث. وقد انضمّت هذه المرأة إلى عائلة ريوريك عندما تزوّجت من إيغور عام 903. وبينما لا يُعرف سوى القليل عن سنواتها المبكّرة، يُذكر أنها ولدت في بسكوف، وهي بلدة تقع على الحدود الإستونية الروسية. ولم يرد ذكر أولغا مرّة أخرى حتى عام 942، عندما أنجبت ابن إيغور، سفياتوسلاف.
    لكن الأكيد أن حياة أولغا تغيّرت فجأةً بوفاة زوجها إيغور العنيفة على يد إحدى قبائله الخاضعة له. ففي عام 945، سعى إيغور ورجال حاشيته إلى مستوى معيشي أفضل، فابتزّوا جزيةً ضخمةً على غير العادة من قبيلة سلافية تُدعى الدريڤليان وتسكن منطقة مروج وغابات في شمال غرب كييڤ. وعندما لم يرضَ إيغور بالمبلغ الضخم الذي جُمع، قرّر العودة لأخذ المزيد من المال. ولمّا علم زعيم الدريڤليان بقرب وصوله، حذّر رجاله قائلاً: إذا تسلّل ذئب بين الغنم، فسيأخذ القطيع كلّه شاةً بعد أخرى، ما لم يُقتل. وإن لم نقتله الآن فسيُبيدنا جميعا".
    ثم نُصب لإيغور كمين محكم وقُتل. كانت أفعال الدريڤليان ردّ فعل منطقيّا على تصرّفات إيغور، فقد كان قد جمعَ الجزية السنوية بالفعل. وعودته للحصول على المزيد من الجزية بهذه السرعة كانت انتهاكا للتقاليد أفقدَ إيغور شرعيّته عند رعيّته الخاضعين له.
    كان خليفة إيغور، سفياتوسلاف، ما يزال طفلاً، ما استلزم تولّي أمّه الأرملة، أولغا، الوصاية على العرش. وكان لا بدّ من اتخاذ إجراءات فورية ضد الدريڤليان لأنهم هدّدوا المملكة والسلالة على حدّ سواء. ويُعدّ تعامل أولغا مع المتمرّدين، والمعروف بـ "انتقام أولغا"، أحد أكثر الأحداث إثارةً في تاريخ السلاڤ الشرقيين.
    بعد دفن إيغور تحت تلّ كبير خارج عاصمة الدريڤليان، قرّر أميرهم التقدّم بطلب الزواج من أولغا بهدف السيطرة على الصغير سفياتوسلاف. والتقت أولغا بوفد الدريڤليان خارج أبواب كييڤ، وأجابت بأنها مهتمّة بالعرض، لكنها ترغب في تكريم الوفد في حفل عام في اليوم التالي، حيث سيُنقلون في قواربهم. وشعر الدريڤليان بالرضا، فانسحبوا إلى معسكرهم.
    وبناءً على أمر أولغا، أمضى الكييڤيون الليل في حفر خندق عميق في مدينتهم. وفي اليوم التالي، حضر وفد الدريڤليان بملابس فاخرة، مطالبين بنقلهم إلى المدينة على متن قواربهم الخشبية. ووفقاً للخطّة، أُلقيت القوارب في الخندق ودُفن الرجال أحياءً. ثم أرسلت أولغا إلى أمير الدريڤليان تطلب فرقة من أفضل رجاله لمرافقتها إلى عاصمة الدريڤليان.
    ولم يكن أميرهم على علم بالمذبحة التي حلّت بوفده الأول، فامتثل لرغبات عروسه المستقبلية. وعندما وصل أفضل رجاله إلى كييڤ، دعتهم أولغا للاستحمام قبل رؤيتها. ولكن بمجرّد دخولهم الحمّام الكبير، أُضرمت فيه النار وأُحرق الرجال أحياءً. ثم انطلقت أولغا إلى عاصمة الدريڤليان، وبينما كانت تقترب من أبواب المدينة، طلبت الأرملة الحزينة إقامة "وليمة جنازة" عند التلّ الذي دُفن تحته إيغور.
    وبينما كانوا لا يزالون غافلين عن مصير الوفود التي سبق أن أرسلت إلى كييڤ، انضم إليها الدريڤليان بسعادة في وليمة كبيرة تناولوا فيها كميّات وفيرة من المشروبات الكحولية. وعندما تمكن منهم السُكر، ذبحت أولغا وجيشها أكثر من خمسة آلاف دريڤلياني ثمل. لكن خطّتها بالانتقام منهم لم تنته بعد.
    ففي العام التالي، غزت أرض الدريڤليان نفسها. وفي معركة أخيرة، حاصرت عاصمتهم. وبعد عام، عرض الدريڤليان دفع الجزية، لكن لم يكن لديهم عسل ولا فراء، فماذا عساهم يقدّمون لها؟ طلبت أولغا ثلاث حمامات وثلاثة عصافير من كلّ بيت. وعند استلامها، علّق رجالها خرقة مغمّسة بالكبريت على أقدام كلّ طائر. وعندما عادت الطيور إلى أعشاشها في البيوت، أشعلت النار في المدينة وهلك الدريڤليان في منازلهم، وبذا اكتمل انتقام أولغا.


    كيف نفهم هذه الرواية التي تبدو خيالية وصعبة التصديق؟!
    لا ينبغي أن تُؤخذ حكايات العصور الوسطى المبكّرة عن الأرامل الحزينات في طريق الحرب على محمل الجدّ، إذ أنها استُخدمت كأداة أدبية من اجل الترفيه. وفي حالة أولغا، كان الهدف إظهار التحوّل الأخلاقي الكبير الذي حدث لها بعد اعتناقها المسيحية فيما بعد. ومن خلال وصف وحشية أولغا الوثنية، أبرز الكُتّاب الرهبان القوّة الإعجازية للتحوّل، تماما مثلما نسب الكُتّاب البوذيون أعمال القمع الوحشية إلى الإمبراطور الهندي "أشوكا" قبل اعتناقه المسيحية وتثمينه اللاحق لفكرة "الأهيمسا" أو اللاعنف.
    ومع ذلك، لا يعني هذا أن القصّة في أيّ من الحالتين أو كليهما محض خيال. إذ يوجد دليل مستقلّ على اغتيال إيغور الذي يُروى أنهم "أسروه ثم ربطوه بجذوع الأشجار ومزّقوه إلى نصفين". ومن المؤكّد أن الانتقام العسكريّ أعقب ذلك. ورغم هذا، تلعب قصّة انتقام أولغا دورا آخر كرمز أدبيّ يعيد تمثيل الطقوس الجنائزية الوثنية الإسكندنافية. فدفْن أفراد وفد الدريڤليان وهم أحياء في قواربهم، مثلا، يحاكي طقس الڤايكنغ في الدفن على متن السفن، حيث كان المتوفّى يُدفن غالبا في قارب مع قربان شعائري.
    وإحراق الوفد التالي في الحمّام يمثّل طقوس التطهير بالنار. وقتل جيش أولغا خمسة آلاف من العدوّ وهم مخمورون يمثّل طقس الوليمة الجنائزية المصحوبة بقربان. ومن المعروف أن أرامل المحاربين الإسكنديناڤيين كنّ يمارسن "الساتي"، أي عادة إحراق المرأة لنفسها عند موت زوجها، لكن هذا لم يكن خيارا متاحا لأولغا بسبب صغر عمر ابنها على الحكم.
    في عام 954، سافرت أولغا إلى القسطنطينية، حيث اتخذت خطوة تاريخية بالغة الأهمية كأوّل امرأة من عائلة ريوريك تعتنق المسيحية. ووفقا لبعض المصادر، أُعجب الإمبراطور البيزنطي قسطنطين السابع بجمال الأميرة الكييڤية وذكائها، لدرجة أنه "أشار إلى أنها جديرة بالحكم معه في مدينته". وأجابت أولغا بأن هذا غير ممكن لأنها وثنية، "وإذا رغب في تعميدها فعليه القيام بذلك بنفسه، وإلا فإنها لن تقبل التعميد".
    وأجرى بطريرك المدينة مراسم التعميد وكان الإمبراطور بمثابة العرّاب لأولغا. وبعد التعميد، ذكّر الإمبراطور أولغا بعرضه للزواج منها. ففكرت مليّا في الأمر ثم قالت: كيف تتزوّجني بعد أن عمّدتني وسمّتني ابنتك؟ هذا محرّم بين المسيحيين كما تعلم أنت بنفسك". وعادت أولغا إلى كييڤ بمباركة من البطريرك مع هدايا ثمينة من الإمبراطور على هيئة "ذهب وحرير وفضّة ومزهريات متنوّعة".
    ويبدو أن أولغا كانت على علم بالتهديد المحتمل لاستقلال كييڤ خلال زيارتها للقسطنطينية. ويتضح تردّدها في رفضها الذكيّ لعرض الإمبراطور البيزنطيّ الزواج منها. وبهذه الطريقة، تجنبّت الغزو البيزنطي لكييڤ من خلال الزواج. وهذا كان واضحا من خلال سعيها الى مطالب محدّدة، مثل تعزيز الامتيازات التجارية، وربّما بناء كنيسة تتمتّع باستقلال ذاتي.
    لم يتحقّق هدف أولغا في إنشاء مؤسّسة كنسية في كييڤ إلا في عهد حفيدها ڤلاديمير. لكن فشلها ساهم على الأرجح في الحفاظ على استقلال كييڤ عن القسطنطينية. ويبدو أيضا أن نخبة المحاربين في كييڤ قاومت الدين الجديد. إذ يُروى أن أولغا قدّمت المسيحية الى ابنها سفياتوسلاف بقولها: لقد تعلّمت معرفة الله وأنا سعيدة بذلك. وإذا عرفتَ هذا فستفرح". فردّ عليها بقوله: كيف لي وحدي أن أقبل ديناً آخر؟ سيسخر مني أتباعي".
    في عام 962، بلغ سفياتوسلاف سنّ الرشد وبدأ حكمه في كييڤ. ومثل والده، كان الحاكم الشابّ محاربا، فدمّر دولة الخزر في منطقة الفولغا السفلى وحاول توسيع أراضي مملكته إلى بلغاريا في نهر الدانوب السفلي، ما أدخله في صراع مع الإمبراطور البيزنطي. وقد حكمت أولغا كييڤ في غياب ابنها الطويل، واهتمّت بأبنائه الصغار. وبعد ستّ سنوات، أثارت حرب سفياتوسلاف ضدّ الإمبراطورية هجوما شاملاً على كييڤ من قبل حلفاء البيزنطيين، أي الأتراك.
    كان الحصار الذي تلا ذلك طويلا، وتحمّل شعب كييڤ، بقيادة أولغا، الكثير من المشاقّ بينما بقي سفياتوسلاف في بلغاريا. واضطرّت أولغا، التي كانت قد أصبحت مسنّة، إلى الفرار بالقارب عبر نهر الدنيبر مع أحفادها. ثم عاد سفياتوسلاف، الذي بدا نادما على ما حدث، إلى كييڤ وطرد الجيش التركيّ منها. وتوفّيت أولغا بعد ذلك بوقت قصير بسبب تقدّمها في العمر. وكانت قد أمرت بأن ترتَّب لها جنازة وفقا للطقوس المسيحية.
    كان العقدان اللذان أعقبا وفاة أولغا فترة اضطرابات وعدم استقرار لابنها وأحفادها. ففي عام 972، قُتل سفياتوسلاف، بينما كان يواصل حروبه ضدّ الإمبراطورية البيزنطية، على يد الأتراك الذين احتفلوا بانتصارهم عليه بصنع كأس شرب مذهّب من جمجمته. وخاض أبناء سفياتوسلاف الثلاثة حربا أهلية طويلة فيما بينهم، أسفرت عن مقتل اثنين منهم وصعود الثالث، ڤلاديمير، حاكما أوحد على كييڤ.
    كان ڤلاديمير في بداية حكمه وثنيّا متديّنا. وقد رأى فرصة لتعزيز مكانته بتقوية علاقته بالإمبراطورية البيزنطية في أواخر القرن العاشر، عندما كان الإمبراطور يخوض حربا أهلية واحتاج إلى قوّات تدعم حملته في شبه جزيرة القرم.
    وفي مقابل الدعم العسكري، عُرض على ڤلاديمير الزواج من أخت الإمبراطور البيزنطي، وهو شرف عظيم لم يُمنح إلا لقلّة قليلة من الأجانب. ولم يهتم الإمبراطور بحقيقة أن ڤلاديمير متزوّج من ثلاث نساء ولديه ثلاثمائة جارية. كما منحه الإمبراطور حرّيةً واسعةً في تأسيس كنيسة رسمية في كييڤ. ولا شكّ أن اعتناق ڤلاديمير للمسيحية الأرثوذكسية عام 988 واعتمادها دينا رسميّا لمملكة كييڤ قد كفّر عن خطيئة الأمير كونه "وثنيّا ضالّا".
    رغم أن اولغا كانت قد فشلت أثناء حياتها في إقناع ابنها وأحفادها باعتناق المسيحية، إلا أن ذكرى إخلاصها للأرثوذكسية في سنواتها الأخيرة لعبت دورا لا يُستهان به في تحوّل العائلة في نهاية المطاف إلى المسيحية البيزنطية. وبعد قرون، ذكر كتّاب العصور الوسطى تقوى أولغا العميقة مرارا وتكرارا في كتاباتهم، فوصفوها بـ "أولغا القدّيسة" التي كانت "امرأة في الجسد، إلا أنها امتلكت شجاعة رجل" وبأنها "مشرقة بين الكفّار كلؤلؤة في الوحَل".

    Credits
    ebsco.com
    oldnorse.org