:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، يونيو 23، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • كان بيتهوڤن يضع على مكتبه دائما كتباً لبلوتارك وهوميروس وأوفيد وأبيكتيتوس ويقضي وقتا في قراءتها. واستمرّ يفعل هذا حتى عندما كان على فراش مرضه الأخير. في عصره، كانت ڤيينا تعيش حالة من "الحضارة اليونانية". وكان من عادته عندما يكون لوحده أن يسلّي نفسه بقراءة اليونانيين القدماء. وكان مُلِمّا بالأدب والفلسفة الإغريقية منذ صباه، كما كان على علم بالفلسفة الرواقية القديمة، وبخاصّة كتابات أبيكتيتوس. وكان هذا الأخير يرى أن الأهواء لا تنشأ إلا من عدم تحقّق رغباتنا، ما يفسح المجال للاضطرابات والأمراض النفسية ويتسبّب في حزن الإنسان وشعوره بالاستياء من الغير، وبالتالي عجزه عن الاستماع إلى العقل.
    وكان حلّ بيتهوفن لمشكلة الأهواء يشكل تحديّا. وقد أدرك أن ضبط النفس هو أحد الجوانب التي يجب عليه تحسينها. كما رفض هوس الرغبات المادّية ونأى بنفسه عن الترف والبذخ. ذات مرّة ذهب مع بعض أصدقائه لتناول الغداء في مطعم. ولما لاحظ كثرة الطعام على المائدة قال: لماذا كلّ هذه الأطباق؟ هذا طعام كثير، من سيأكله؟! إن الإنسان لا يرتقي فوق مستوى الحيوانات الأخرى إذا كانت ملذّاته الرئيسية تنحصر في الطعام والشراب فقط".
  • ❉ ❉ ❉

  • أثناء محاضرة عن الغرب الأمريكي والأمريكيين الأصليين، ذكر الأستاذ أن الأوربّيين كانوا يصفون السكّان الأصليين "بالهمج" لأساليبهم "البدائية" في القتال وسرقتهم فروة الرأس. وتساءل: كيف يكون الاوربّيون أقلّ همجية وهم قادرون على قتل إنسان بإحداث ثقب صغير في جسده وإنهاء حياته؟!" في ذلك الوقت، كان رصاص البنادق يسبّب أضرارا داخلية مروّعة وتسمّماً للجسم.
    واستعاد الأستاذ كلاما بليغا للزعيم الهندي پونتياك عندما قال عن المستعمرين الأوربيين: لقد جاؤوا ومعهم الكتاب المقدّس، فسرقوا أرضنا وسحقوا أرواحنا. والآن يقولون لنا إنه يجب علينا أن نشكر الربّ على خلاصنا!".
    وشبيه بكلام پونتياك قول الزعيم الافريقي جومو كينياتا: عندما وصل المبشّرون الاوربيون الى بلادنا، كنّا نملك الأرض وكان لدى المبشّرين الكتاب المقدّس. وقد علّمونا كيف نصلّي وأعيننا مغمضة. وعندما فتحناها، وجدناهم تركوا لنا الكتاب المقدّس وأخذوا الأرض!". وفي كلا الحالتين، كان الاوربّيون يحملون الإنجيل بيد وبالأخرى البندقية. وحيث فشل الأوّل، أثبت الثاني فعاليته.
    وما يثير الفضول حقّا هو طريقة تعامل الڤايكنغ مع السكّان الأصليين عندما وصلوا الى القارّة لأوّل مرّة. يقول بعض هنود أمريكا الشمالية الذين تواصلوا مع الڤايكنغ لأوّل مرّة أن كلّ ما فعلوه هو مقايضة الأسلحة بلُباب الخشب، ثم رحلوا بسلام. كانوا أكثر سلميةً من الأوربيين الآخرين برغم ما يقال عن توحشّهم، أما من يُفترض أنهم متحضّرون فقد كانوا الأكثر قتلا وتدميرا.
  • ❉ ❉ ❉

  • الملاك الجديد "أو أنجيلوس نوڤوس" هو اسم هذه اللوحة التي رسمها الفنّان السويسري الألماني بول كلي عام 1920. وقد اشتراها صديق الفنّان، الناقد والفيلسوف الألماني ڤالتر بنيامين. وعندما اضطرّ الأخير للفرار من ألمانيا عام ١٩٣٣، أخذ اللوحة معه إلى المنفى في باريس. وعندما غزا النازيون فرنسا، قرّر بنيامين الهرب من هناك مجدّدا وعهد باللوحة، مع أوراق مهمّة أخرى، إلى الكاتب جورج باتاي الذي أخفاها في المكتبة الوطنية في باريس حيث كان يعمل. وقد قُبض على بنيامين على الحدود الإسبانية، وانتحر في سبتمبر 1940.
    وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، سلّم باتاي الصورة طبقا لوصيّة بنيامين الأخيرة إلى باحث بارز في التصوّف اليهودي كان قد هاجر من ألمانيا إلى فلسطين عام 1923. وتُظهر اللوحة ما يُفترض أنه ملاك يحدّق بفم مفتوح في شيء مزعج محاولا الابتعاد عنه. وكان ڤالتر بنيامين قد استشهد باللوحة في مقالة فلسفية له، واصفا التاريخ باعتباره "دورة لا تتوقّف من اليأس والحطام".
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • لكلّ كاتب مسرحيّ رؤيته الخاصّة عن أوديسيوس بطل ملحمة "الأوديسّا". البعض يرونه بطلاً ذكيّاً فحسب. لكن يوريپيديس يقدّم عنه نسخة أكثر قتامة وتعقيداً ويميل إلى تصويره كشخصية ميكاڤيللية بدائية، بينما يميل سوفوكليس أكثر إلى ذكر عيوبه المأساوية.
    يبدو أن يوريپيديس كان أكثر تشكّكا في الطبيعة البشرية. وهو يرى المأساة شيئا إلهيّا تقريبا، بينما يراها سوفوكليس نتيجة ضعف بشريّ وأنظمة معيبة. سوفوكليس كتب في ذروة قوّة أثينا، بينما شهد يوريپيديس بداية انهيارها. وفي اليونان وحتى اليوم، تُدرّس الأوديسّا في الصف السابع، على يسار الكتاب النصّ الأصلي لهوميروس وعلى يمينه النسخة اليونانية الحديثة. دائما هناك شيء خالد في إعادة سرد الأساطير وإعادة صياغتها.
  • ❉ ❉ ❉

  • بعض المجتمعات تعتبر تمجيد الأسلاف طقسا قبوريّاً ووثنيّاً، ومع ذلك فهي مهووسة بعلم الأنساب والأصل والفصل، ويمكن لبعض العائلات في تلك المجتمعات أن تتعقّب تاريخ أسلافها إلى ما قبل مئات الأعوام، لكنها لا تستطيع أن تخبرك أين كان أطفالها الليلة الماضية! هذه المجتمعات تنكر تكريم الموتى وتأنف من كلّ ما يذكّر بهم، وفي المقابل هناك من يرى أن تذكُّر الأسلاف عمل مشرّف وواجب، وهو ممارسة قائمة منذ فجر التاريخ. لذا عندما تضع بعض المجتمعات الأزهار على قبور موتاها، لا غرابة أنها تشعر بالارتباط، ليس بهم فحسب، بل بأجيال من البشر الذين رحلوا عن هذه الحياة وعانوا من التجاهل والنسيان. يقول حكيم صيني قديم إن نسيان الأسلاف هو بمثابة "أن تكون جدولا بلا منبع وشجرة بلا جذور".
  • ❉ ❉ ❉

  • النقطة الأساسية في رواية "المحاكمة" لكافكا هي أنه لا يوجد سبب لاعتقال بطلها جوزيف ك، ولا سبب لمحاكمته، باستثناء جعله يذعن ويعاني. والرواية نفسها تبدأ بهذه العبارة: لا بدّ أن شخصا ما كان يلفّق الأكاذيب عن جوزيف ك، لأنه -دون أن يرتكب أيّ خطأ- قُبض عليه في صباح يوم جميل".
    وفكرة الكتاب هي أنه حتى لو لم تشعر بأنك مذنب، فربّما تصبح مذنبا حتى لو ثبتت براءتك في محكمة قانونية. فهذا لا يؤكّد إدانتك فحسب، بل يؤكّد أيضا إدانة النظام القانوني الذي وجدك بريئاً! كتابات كافكا تشير إلى الطبيعة التعسّفية لإساءة استخدام السلطة. فإن كنت تشعر بأنك مضطهد من قبل سلطة تكرهك ولا يقلقها أنها شرّيرة، فأنت تنتمي إلى عالم كافكا.
  • ❉ ❉ ❉

  • يشير الكاتب الإيطالي جيانلوكا ديدينو الى أن الرومانسية المبكّرة كانت فلسفة متطرّفة قامت على تمسّك شبه متعصّب بقيم الفرد وولاء لعالمه الخاص، وهو ما كان غالبا يودي بحياة أتباعها. وقد مات العديد من الرومانسيين الأوائل في سنّ مبكّرة، أو أظهروا ميلاً لتدمير الذات لم يشاهَد في حركات ثقافية مماثلة في أوروبّا. أمّا من نجوا، فقد عاشوا حياة صعبة. حتى الحبّ، كما اعتقدَ الرومانسيون الأوائل، لا بدّ أن يكون مؤلما كي يكون حقيقيّا.
    ويضيف أنه من أجل إضفاء طابع رومانسيّ على العالم، آمن الرومانسيون بأنه يجب أن تبقى الآفاق البعيدة بعيدة إلى الأبد، والرغبات غير المشبعة كذلك إلى الأبد. ولم يكن الموت في سنّ مبكّرة مجرّد حادث أو نتيجة حياة عاشها الإنسان بسرعة وشقاء، بل كان جزءا أساسيا من المشروع الرومانسي. فقد مات كيتس وبوليدوري في الخامسة والعشرين من عمرهما، ونوڤاليس في الثامنة والعشرين، وشيلي في التاسعة والعشرين، واللورد بايرون في السادسة والثلاثين.
    كان الرومانسيون، بحسب الكاتب، يؤمنون بأنه ما من سبيل أفضل ولا أسمى من الموت عندما تفشل في تحقيق آمالك أو تطلّعاتك البعيدة. وليس من قبيل الصدفة أن يضِلّ أولئك الذين لم يموتوا في شبابهم طريقهم وينتهي بهم الأمر إلى الجنون أو الفقر أو التعصّب أو انعدام الأهمية.

  • Credits
    beethoven.de
    paulklee.net

    السبت، يونيو 21، 2025

    معطف لشتاء هذا العالم


    ذات مرّة، وصف ناقد روسي قصّة "المعطف" لنيكولاي غوغول، المنشورة عام ١٨٤٢، بأنها أفضل قصّة كتبها إنسان على الإطلاق! وبالتأكيد هي أفضل ما كتبه غوغول". كما وصف الروائي الأمريكي الروسي فلاديمير نابوكوف "المعطف" بأنها "أعظم قصّة روسية قصيرة كُتبت على الإطلاق".
    كان غوغول يتمتّع بروح دعابة رائعة وذكاء حادّ، وكان له أسلوبه الخاص والمميّز والساخر في الكتابة. تولستوي ودوستويفسكي كانا يقدّران عمله كثيرا، كما كان هو المعلّم لجميع الروائيين الروس الذين أتوا بعده. وهناك عبارة أصبحت شائعة في الأدب الروسي تقول: لقد خرجنا جميعا من تحت معطف غوغول". وغالبا ما تُنسب إلى دوستويفسكي، إلا أن آخرين يعزونها الى تورغينيف.
    تروي "المعطف" قصّة حياة وموت أكاكي باشماشكين، وهو كاتب حكومي فقير يعمل في العاصمة الروسية آنذاك سان بطرسبورغ. كان أكاكي راضيا عن عمله البسيط وراتبه المتواضع. وعلى الرغم من تفانيه في وظيفته، إلا أنه لا يحظى سوى بالقليل من التقدير في قسمه. بل إن الموظّفين الأصغر سنّا يسخرون منه ويطلقون عنه النكات بسبب معطفه البالي والممزّق.
    لذا قرّر أكاكي ذات يوم الذهاب الى خيّاط يُدعى بتروفيتش لإصلاح معطفه وترقيع الثقوب فيه، ليجنّبه سخرية زملائه المستمرّة منه، وفي نفس الوقت ليحميه من شتاء سان بطرسبورغ القارس. لكن الخيّاط أخبر أكاكي أن المعطف الرثّ أصبح عصيّا على أيّ إصلاح واقترح عليه شراء معطف جديد. لكن المشكلة أن تكلفة معطف جديد تفوق راتبه الضئيل، لذا قرّر أن يعيش بميزانية محدودة جدّا لتوفير ما يكفي لشراء المعطف. ومع إضافة مبالغ رصيد اجازاته المتراكمة، استطاع أخيرا ادّخار ما يكفي من المال لشراء معطف جديد.
    في النهاية، يظفر أكاكي بالمعطف الجديد فيرتديه ويصبح حديث مكتبه في ذلك اليوم. ويقرّر رئيسه إقامة حفل تكريما للمعطف الجديد. لكن أكاكي الذي اعتاد الوحدة يشعر بأنه في غير مكانه. وفي طريق عودته إلى المنزل من الحفلة في وقت متأخّر من الليل، يعترض سبيله لصّان يتعاركان معه ويركلانه في بطنه ويسلبان معطفه بالقوّة ويهربان.
    وعندما يعلم زملاؤه بما حدث، يتعاطفون معه ويجمعون بعض المال لمساعدته. وينصح أحدهم أكاكي بأن يستعين بالمسئولين لكي يساعدوه في استعادة معطفه. ويتوجّه أوّلا إلى الشرطي المناوب ويخبره بالواقعة، فيدّعي أنه لم يلاحظ أيّ شيء غير طبيعي في تلك الليلة. ثم يلجأ إلى مفتّش الشرطة الذي يلوم أكاكي على تأخّره في العودة الى بيته ويحمّله المسئولية عن سرقة المعطف. وبعد عدّة محاولات أخرى، لم يتلقَّ أيّ مساعدة من السلطات لاستعادة معطفه المسلوب. وأخيرا، وبناءً على نصيحة زميل آخر، بدأ أكاكي البحث عن جنرال يُعرف بـ"الشخصية المهمّة" كي يساعده. وكان ذلك الشخص قد رُقّي إلى منصبه مؤخّرا وعُرف عنه تقليله من شأن مرؤوسيه والصراخ في وجوههم، لا لسبب سوى تضخيم نفسه أمامهم وتعزيز أهميّته الشخصية.
    وعندما يصل أكاكي الى مكتب الجنرال، يأمر بإبقائه منتظرا لساعات. وحين يؤذن له بالدخول، يسأله عن السبب الذي جعله يتجشّم عناء المجيء الى مكتبه ليتحدّث عن "قضيّة تافهة". وهنا يخبره أكاكي عن معاناته. وأثناء حديثه يذكر ملاحظة عابرة عن تقصير أمناء الشرطة الذين طلب مساعدتهم. وهنا يُستفزّ "الشخصية المهمّة" فيثور ويوبّخ أكاكي بقسوة ويسخر منه لعدم اتباعه الإجراءات البيروقراطية الصحيحة قبل مجيئه إليه.


    كان تقريع الجنرال لأكاكي وإهانته إيّاه شديدين لدرجة أنه كاد أن يُغمى عليه في مكتبه من شدّة الخوف. وبعد أن يطرده من مكتبه، يمرض أكاكي في بيته وتنتابه حمّى شديدة مع هذيان، ويتخيّل نفسه واقفا مرّة أخرى أمام الجنرال، متحدّثا عن معطفه. في بداية مرضه بالحمّى الخطيرة، كان أكاكي يتوسّل الى "الشخصية المهمّة" أن يهدّئ غضبه ويسامحه، لكن مع اقتراب موته أخذ يلعنه. واستمرّت معاناته مع الحمّى والهلاوس أيّاما إلى أن مات أخيرا.
    وبعد موته بأيّام، سرعان ما انتشرت في سان بطرسبورغ أنباء عن ظهور جثّة، عُرف أنها شبح أكاكي، تذرع الشوارع وتخطف معاطف المارّة. الشرطة التي تلقّت بلاغات كثيرة من الأهالي عن تلك الحوادث الغريبة وجدت صعوبة في القبض على الجثّة الشبح. "الشخصية المهمّة" الذي سبق أن أذلّ أكاكي في مكتبه بدأ يشعر بالذنب منذ وفاته لإساءته معاملته. وبينما كان في طريقه لرؤية امرأة ذات ليلة، واجهه الشبح وتعرّف عليه على أنه أكاكي. وتجاوز رعب الجنرال كلّ الحدود عندما رأى فم الجثّة الملتوي وشمّ في ملابسه الممزّقة رائحة القبر الكريهة. وعندما طالبه الشبح بمعطفه، قام بخلعه فورا ورماه في اتجاهه قبل أن يلوذ بالفرار مذعورا.
    للوهلة الأولى، تبدو قصّة "المعطف" بسيطة. فبطلها شخص "تافه وصغير"، ولذلك لا يلحظ وجوده أحد، كأنه لم يولد قط ولم يكن له وجود. وهو يطمح في خياطة معطف جديد. وبعد جهد جهيد يحقّق حلمه. لكن في الليلة الأولى يُسرق المعطف. وفي محاولته طلب المساعدة، يواجَه بلامبالاة الجميع، وأحيانا وحشيتهم وفظاظتهم. وكلّ هذا يُفضي به إلى نهاية مأساوية: الموت. لكن بعد وفاته، لا يجد ذلك الشخص البسيط والتعيس الراحة، فينهض من قبره ويتجوّل شبحه في أرجاء المدينة.
    في الواقع، أكاكي رجل طيّب وخيّر، لكنه لا يجد السعادة في هذه الحياة. وغوغول يقارن ببراعة ما بين عالمين: المتكبّرون وعديمو الرحمة من علية الناس والأثرياء. ومن جهة أخرى، المظلومون أصحاب القلوب النبيلة الذين لا يتدخّلون في شؤون أحد ولا يريدون إلا أن يعيشوا حياتهم بأقلّ قدر من الشروط والمتطلّبات.
    الرجل والمعطف في القصة وفي الحياة لا ينفصلان، المعطف يساوي حياة أكاكي، بل هو رهانه على حياته. وسرقة المعطف تصبح سرقة لحياته نفسها. وعبثية هذه المساواة بين المتاع والبشر، كما يرى غوغول، هي إشارة إلى نزع الصفة الإنسانية عن العالم. فالبطل لا يلفت انتباه زملائه إلا عندما يأتي إلى العمل مرتديا المعطف الجديد، وعندها فقط يدعونه لأوّل مرّة لقضاء وقت ممتع معهم. وعندما يُسرق، يتعاطفون معه ويجمعون المال لمساعدته. يبدو أن المعطف الجديد منحه شيئا من الكرامة والأهميّة.
    لا يمكننا إلقاء اللوم على "الشخصية المهمّة" في كلّ ما حدث، فهو لم يجعل أكاكي صغيرا وبلا قيمة، كما أنه لم يسرق معطفه. هو فقط رفض المساعدة في تحقيق العدالة. وقد رفض، ليس لأن ذلك سيضرّ بمصلحته، بل لأن القانون يسهّل تجاهل "الصغار والتافهين" كي يعرفوا مكانتهم. و"الشخص المهمّ" و"الرجل الصغير" هما تماما "حجر الأساس" في القصّة وفي الحياة، حيث لا يملك أيّ شخص مسكين أو فقير سوى أن يضرب رأسه في الجدار إذا ما حاول المطالبة بحقّه. والمشكلة لا تكمن في كون الجنرال شرّيرا وبيروقراطيا، بل في وجود جدار يحوّل البعض إلى "شخصيات مهمّة" والبعض الآخر إلى "بشر صغار".
    من جهة أخرى، تبدو "المعطف" قصّة بسيطة عن معاناة انسان عادي يستعيد كرامته الإنسانية، وينتقم من كلّ الإهانات والشتائم التي لحقت به في حياته، ويعاقب النظام الاجتماعي والسياسي الذي دمّر حياته ويهزمه في حياته الثانية الغامضة. وعند التعمّق في القصّة أكثر، سنرى فيها ملخّصا لوضع روسيا في أوائل القرن التاسع عشر ومثالا على قسوة النظام الإقطاعي وبنيته الاجتماعية والاقتصادية وكيف سحق الانسان الفرد.
    قصّة غوغول هي أكثر من مجرّد حكاية اجتماعية سياسية عن ضحيةٍ مظلوم يبحث عن العدالة. فهي تخاطبنا اليوم أيضا. وربّما نسأل أنفسنا: كيف نحاول أن نرتدي ملابسنا لمواجهة برد شتاء هذا العالم، أكان المعنى حرفيّا أم مجازيّا؟ كيف نتصرّف عندما تُنزع عنا أغطيتنا "شعورنا بالأمان والراحة"؟ ومتى يصبح السعي وراء الأشياء، حتى تلك الجيّدة والضرورية، نوعا من عبادة الأصنام؟ وهل يمكن أن يصبح تمسّكنا بها جزءا لا يتجزّأ منّا لدرجة أنه يستمرّ إلى ما بعد الموت؟!

    Credits
    fountainheadpress.com

    الخميس، يونيو 19، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • في القرن السادس الميلادي، أبحر الراهب الآيرلندي بريندان وثمانية عشر من رفاقه عبر المحيط، في رحلة استغرقت سبع سنوات بحثا عن جنّة أرضية ذُكرت في بعض الكتب القديمة. وتذكر الأساطير الكلتية المبكّرة أن تلك الجزيرة لم تكن تظهر إلا عند غروب الشمس في ضباب المحيط الأطلسي، وقد أُطلق عليها "الجزيرة المباركة الخالية من العواصف، حيث جميع الرجال فيها صالحون وجميع النساء طاهرات".
    وأثناء رحلة بريندان ورفاقه، عثروا على جزيرة جرداء، فقرّروا التخييم فيها ليلا وأشعلوا نارا. ثم بدأت الجزيرة تهتزّ فجأة، ففرّ الرهبان مذعورين إلى قواربهم وتركوا الطعام والنار خلفهم. لكن القديّس حثّهم على عدم الخوف، مؤكّدا أن ما حدث سببه أن "سمكة كبيرة تجاهد ليل نهار لتضع ذيلها في فمها، ولكن لا تستطيع".
    وقد وصل الراهب ورفاقه إلى جزر الكناري التي كانت آنذاك نهاية حدود العالم المعروف. وفيما بعد وصلوا، ليس فقط إلى جزر هيبريدس وجزيرة فارو "أو جزيرة الخراف"، بل وحتى إلى شواطئ أمريكا التي يقال إنهم وصلوها قبل كولومبوس بوقت طويل.
    وليس من الواضح حتى اليوم أين تقع الجزيرة أو الأرض الموعودة التي كانوا يبحثون عنها. وهناك إشارات إلى بِرك طينية دافئة وبلّلورات قد توحي بطبيعة آيسلندا. ويشير السياق اللاحق إلى "جزيرة منوّمة" قد تكون إحدى جزر الأزور. وغير بعيد عنها جزيرة أخرى واسعة جدّا و"مغطّاة بفاكهة بيضاء وأرجوانية ولم تكن فيها أشجار أو أيّ شيء يتحرّك مع الريح". وبعد ستّة أيّام من الإبحار، نزلوا في جزيرة خصبة بها "عنب كبير كالتفّاح وعطر كرائحة بيت مليء بالرمّان".
    ويذكر كتاب "بريندان الملّاح" الذي يحكي وقائع رحلة القدّيس ورفاقه أنه كان من بين المخلوقات الغريبة التي قابلوها في رحلتهم حوت لطيف تظاهر بأنه جزيرة حتى يتمكّنوا من إقامة قدّاس الفصح على ظهره. "لم يكن ذلك الحوت يحمل لنا أيّ ضغينة. وفي زيارتنا الأخيرة، أظهر بعض المشاعر الرقيقة عندما اصطحبنا في رحلة وداع قصيرة!"
    لم يكن الكلت وحدهم من آمنوا بوجود جنّة أرضية في المحيط الغربي، بل تخيّل الإغريق أيضا هذه "الجزيرة المباركة" وراء أعمدة هرقل. وزعمت أساطيرهم أنها "مأهولة بالبشر الذين منحتهم الآلهة الخلود"، وأنها معروفة باعتدال مناخها ووفرة الثمار والخيرات فيها.
    عندما نتأمّل الأساطير الأوربيّة، لا ينبغي أن نشكّك في أن الناس في الماضي كانوا يعتبرون تلك القصص مقبولة، بل إنها مثّلت قضايا حيوية للغاية. وقد تأثّر الفكر الأوروبّي بشدّة بالإيمان بمملكة بريستر جون وجزر التوابل السبعة آلاف التي زعم ماركو بولو أنه عثر عليها في الشرق الأقصى، وبإمكانية وجود نهر نيلٍ ثانٍ في أفريقيا.
    واليوم، بعد أن أصبح العالم قرية صغيرة يسهل بلوغ أبعد نقطة فيها خلال ساعات فقط، ربّما يصعب تصوّر الحماس الشديد الذي كان يبديه العلماء والجغرافيون لإمكانية الإبحار حول العالم دون خطر "الضياع على الحافّة" كما كانوا يتصوّرون. كان التغلّب على الخوف من العالم المجهول هو الدافع الحقيقي للإنجاز في عصر الاكتشافات الطويل في أوربّا.
  • ❉ ❉ ❉

  • من أحبّ الأشياء إلى نفسي قراءة الكتب في الأماكن التي وقعت فيها أحداثها. قرأت رواية "الموت على ضفاف النيل" لأغاثا كريستي أثناء إبحاري في النيل، ورواية جين أوستن في باث، ورواية "أغنية القبّرة" لـ ويلا كاثر أثناء وجودي في منزل متنقّل بين كولورادو ونيويورك، ورواية "قطار الليل إلى ممفيس" لإليزابيث بيتر وأنا على مقربة من هناك "في مصر وليس تينيسي".
    كما قرأت رواية "روميو وجولييت" أثناء نومي في قصر من القرن السادس عشر حُوِّل إلى نُزل للشباب في ڤيرونا. ويوما ما، أودّ أن أقرأ رواية "الموت في كينيا" على سهول وادي ريفت، ورواية "رومانس" لسوزان نابير أثناء تجوالي في نيوزيلندا. وهذا الأسبوع قرأت رواية "هذه كلماتي: مذكّرات سارة براين، أراضي أريزونا" أثناء تخييمنا على حدود ولاية يوتا وأريزونا مع والديّ.
    فكرة قراءة كتاب في الموقع الذي جرت فيه الأحداث جديدة عليّ. في الواقع، بدأتُ بقراءة رواية "منتصف الليل في حديقة الخير والشر" عندما كنّا في سافانا جورجيا. لكن ما إن هبطت الطائرة في يوتا، حتى اكتشفت أنني لم أُكمل قراءة نصف الكتاب.
    أظنّ أنه عندما تتاح للبشر آلات السفر عبر الزمن، سيكون هناك عصور لا تُحصى أرغب في زيارتها بسبب الروايات. إن جمال الكتب يتمثّل في أنها تستطيع أن تنقلنا إلى مكان وزمان مختلفين دون الحاجة إلى مغادرة مقاعدنا المريحة. لورا مونكور
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • بعض الاقتباسات..
    ◦ المدارس لا تهدف إلى مساعدتك في أن تصبح مواطنا مثقّفا، بل إلى مساعدة البلاد على تحسين اقتصادها وقدرتها التنافسية وتعزيز الابتكار وتشجيع التنمية الاقتصادية وتدريب الموظّفين لسوق العمل. ف. ميشيل
    ◦ كلمة الله المقدّسة تتردّد على شفاه الجميع. لكنّنا نرى كلّ شخص يقدّم نسخته الخاصّة من كلمة الله لغاية وحيدة، هي استخدام الدين كذريعة لجعل الآخرين يفكّرون مثله. سبينوزا
    ◦ الكتاب شيء مادّي، وفي عالم الأشياء المادّية، الكتاب ليس سوى مجموعة من الرموز الميّتة. ثم يأتي القارئ المناسب والكلمات، أو بالأحرى الشعر الكامن وراء الكلمات. وبقدر ما أعرف، لم يكن للكتاب أيّ فائدة عند الإغريق. إنها حقيقة بالفعل. ومعظم كبار معلّمي البشرية، من فيثاغوراس الى سقراط والمسيح ومحمّد وبوذا لم يكونوا كتّابا بل متحدّثين. بورخيس
    ◦ إذا استطعت أن تقترب من تعقيدات العالم، سواءً أمجاده أو أهواله، بموقف من الفضول والتواضع، مدركا أنه مهما كان عمق ما رأيته فأنت لم تخدش سوى السطح، عندها ستجد عوالم داخل عوالم وجمالا لم تكن تتخيّله من قبل، وستتقلّص انشغالاتك الدنيوية إلى حجمها الطبيعي، وستكتشف أنها ليست مهمّة على الإطلاق في المخطّط الأكبر للأشياء. دانيال دينيت
    ◦ لطالما كانت البرّية ملاذي وسلواي منذ صغري. وكان الناس دائما يثيرون حيرتي. لذلك، اعتمدت على ما يريحني وقصدت أماكن بعيدة عن المدن والطرق السريعة وفوضى المجتمع البشري التي لا تطاق. لديّ أصدقاء أحبّهم بالطبع، وهم أكثر من مجرّد بشر؛ أقصد الكلاب والقطط وأشجار الحور، بالإضافة إلى أماكن ساعدتني على التعافي من الألم والحزن. وبالنسبة لي ليست تلك مجرّد "أماكن" مثل التي في القصص، بل شخصيات فاعلة. وقد توصّلت إلى أن الإنسان الكامل هو الذي يحبّ بلا تمييز، سواءً البشر المعيبين الذين نشاركهم حياتنا أو عجائب الحياة والجمال الذي يشاركنا نفسه. سوزان مارش
    ◦ عبر فترات التاريخ، كان وجود الغابات ضروريا لإنشاء قوّة بحرية حقيقية. ولو ذهبت إلى إنغلترا اليوم، فلن تجد الكثير من الغابات فيها. وإذا ذهبت إلى تركيا، فستجد هناك غابات، لأنه أعيد زراعتها قبل 40 عاما. كان الرومان قد أزالوا الغابات من كامل المنطقة الممتدّة من الشرق الأوسط إلى أوروبّا كي يبنوا بخشبها أسطولهم البحري الضخم.
    وفي بعض الأماكن، ومع الوقت، عادت بعض تلك الغابات المقطوعة الى طبيعتها، وفي أخرى لم تعد أبدا. نقص الأشجار في أرض العرب حال دون امتلاكهم قوّة بحرية معتبرة. لكنهم تمكّنوا من ذلك أخيرا، عندما أصبح لهم إمبراطورية. وما أن ترسّخت امبراطورتهم حتى ذهبوا الى بعض الأراضي التي كانت مليئة بالأشجار والغابات كلبنان وبلاد الفرس. وقد استفادوا من وجود تلك الغابات التي أمكن قطعها وتحويلها إلى سفن. روي كاساغراندا
    ◦ القمر رفيق وفيّ، لا يفارقنا أبدا. إنه موجود دائما، يراقبنا. كما أنه ثابت، يعرفنا في لحظات نورنا وظلمتنا، ويتغيّر إلى الأبد كما نتغيّر نحن. كلّ يوم، هو نسخة مختلفة من ذاته. أحيانا يكون ضعيفا وشاردا، وأحيانا قويّا ومشرقا. القمر يدرك معنى أن تكون إنسانا: متردّدا ووحيدا ومثقلا بالعيوب. طاهرة مافي
    ◦ الحياة أشبه برحلة بحرية. ماذا أفعل؟ أختارُ القبطان والمركب والتاريخ وأفضل وقت للإبحار. وإذا هبّت عاصفة أفعل الشيء الوحيد الذي أستطيعه: الغرق، ولكن بلا خوف أو صراخ، لأني أعلم أن من يُولد لا بدّ له أن يموت. إبيكتيتوس
    ◦ أعرف خبيرا بارزا في زراعة البساتين، تذوّقَ ثمار أشجار عديدة: مانغو الهند والأفوكادو الأمريكي والدوريان التايلاندي والبرسيمون الصيني وطماطم نيوزيلندا وفاكهة الخبز من هاواي. وأظنّ أنه لو شاء، لاستطاع تحديد هل الفاكهة التي أكلها أسلافنا العُصاة في الجنّة كانت موزة أم سفرجلة أم مشمشة أم رمّانة؟ يبدو أن التفّاحة هي الأقلّ احتمالاً. فيسلافا شيمبوريسكا

  • Credits
    dailystoic.com
    szymborska.org.pl/en