:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، أبريل 25، 2025

القدّيسة المنتقمة


في بدايات العصور الوسطى، سيطر الڤايكنغ على طرق التجارة الروسية وزوّدوا أوروبّا الغربية بالفضّة الإسلامية لقرنين من الزمان. ووفقاً لبعض المؤرّخين، قبلت مجموعة من الڤايكنغ بقيادة أمير حرب يُدعى ريوريك دعوةً من اتّحاد القبائل السلاڤية والفنلندية "للحضور وتولّي الحكم عليهم". كان السلاڤ والفنلنديون في حالة حرب فيما بينهم، واحتاجوا إلى طرف محايد لإحلال السلام والنظام في بلدهم.
وفي عام 862، وصل ريوريك وعشيرته إلى شمال غرب روسيا وأقاموا قواعد لسلطتهم في عدّة مدن. وبحلول عام 879، استولى أوليغ، أحد أفراد عشيرة ريوريك، على كييڤ معلناً أنها ستكون "أمّ المدن الروسية".
أمضى أوليغ وخليفته إيغور ولايتهما في إخضاع القبائل الواقعة على طول منابع الأنهار الرئيسية، فأخضعوا كلّ قبيلة لنظام جباية ضرائب بدائي، حيث كان أمراء كييڤ يجمعون "الجزية" على شكل فراء وشمع وعسل وعبيد من مختلف القبائل. وكانت الغنائم تُرسل إلى كييڤ، حيث تُحزم في زوارق كبيرة مصنوعة من جذوع الشجر وتُنقل كلّ ربيع عبر نهر الدنيبر إلى البحر الأسود.
كانت الوجهة النهائية للأسطول التجاري هي القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية. وبالطبع أدرك الأباطرة البيزنطيون خطر فتح أبواب عاصمتهم أمام حشود الڤايكنغ الذين كانوا بحاجة إلى إقناع القسطنطينية بفوائد التجارة السلمية معهم. وبناءً عليه، هاجم "الڤايكنغ الروس" القسطنطينية خمس مرّات (860 – 944) في أقلّ من قرن. ونتج عن هذه الحملات توقيع معاهدات تجارية بين كييڤ والقسطنطينية.
في تلك الفترة، كانت تعيش في بلاط كييڤ امرأة تُدعى "أولغا"، أو هيلغا في اللغة الإسكندنافية، وكانت شاهدة على بعض تلك الأحداث. وقد انضمّت هذه المرأة إلى عائلة ريوريك عندما تزوّجت من إيغور عام 903. وبينما لا يُعرف سوى القليل عن سنواتها المبكّرة، يُذكر أنها ولدت في بسكوف، وهي بلدة تقع على الحدود الإستونية الروسية. ولم يرد ذكر أولغا مرّة أخرى حتى عام 942، عندما أنجبت ابن إيغور، سفياتوسلاف.
لكن الأكيد أن حياة أولغا تغيّرت فجأةً بوفاة زوجها إيغور العنيفة على يد إحدى قبائله الخاضعة له. ففي عام 945، سعى إيغور ورجال حاشيته إلى مستوى معيشي أفضل، فابتزّوا جزيةً ضخمةً على غير العادة من قبيلة سلافية تُدعى الدريڤليان وتسكن منطقة مروج وغابات في شمال غرب كييڤ. وعندما لم يرضَ إيغور بالمبلغ الضخم الذي جُمع، قرّر العودة لأخذ المزيد من المال. ولمّا علم زعيم الدريڤليان بقرب وصوله، حذّر رجاله قائلاً: إذا تسلّل ذئب بين الغنم، فسيأخذ القطيع كلّه شاةً بعد أخرى، ما لم يُقتل. وإن لم نقتله الآن فسيُبيدنا جميعا".
ثم نُصب لإيغور كمين محكم وقُتل. كانت أفعال الدريڤليان ردّ فعل منطقيّا على تصرّفات إيغور، فقد كان قد جمعَ الجزية السنوية بالفعل. وعودته للحصول على المزيد من الجزية بهذه السرعة كانت انتهاكا للتقاليد أفقدَ إيغور شرعيّته عند رعيّته الخاضعين له.
كان خليفة إيغور، سفياتوسلاف، ما يزال طفلاً، ما استلزم تولّي أمّه الأرملة، أولغا، الوصاية على العرش. وكان لا بدّ من اتخاذ إجراءات فورية ضد الدريڤليان لأنهم هدّدوا المملكة والسلالة على حدّ سواء. ويُعدّ تعامل أولغا مع المتمرّدين، والمعروف بـ "انتقام أولغا"، أحد أكثر الأحداث إثارةً في تاريخ السلاڤ الشرقيين.
بعد دفن إيغور تحت تلّ كبير خارج عاصمة الدريڤليان، قرّر أميرهم التقدّم بطلب الزواج من أولغا بهدف السيطرة على الصغير سفياتوسلاف. والتقت أولغا بوفد الدريڤليان خارج أبواب كييڤ، وأجابت بأنها مهتمّة بالعرض، لكنها ترغب في تكريم الوفد في حفل عام في اليوم التالي، حيث سيُنقلون في قواربهم. وشعر الدريڤليان بالرضا، فانسحبوا إلى معسكرهم.
وبناءً على أمر أولغا، أمضى الكييڤيون الليل في حفر خندق عميق في مدينتهم. وفي اليوم التالي، حضر وفد الدريڤليان بملابس فاخرة، مطالبين بنقلهم إلى المدينة على متن قواربهم الخشبية. ووفقاً للخطّة، أُلقيت القوارب في الخندق ودُفن الرجال أحياءً. ثم أرسلت أولغا إلى أمير الدريڤليان تطلب فرقة من أفضل رجاله لمرافقتها إلى عاصمة الدريڤليان.
ولم يكن أميرهم على علم بالمذبحة التي حلّت بوفده الأول، فامتثل لرغبات عروسه المستقبلية. وعندما وصل أفضل رجاله إلى كييڤ، دعتهم أولغا للاستحمام قبل رؤيتها. ولكن بمجرّد دخولهم الحمّام الكبير، أُضرمت فيه النار وأُحرق الرجال أحياءً. ثم انطلقت أولغا إلى عاصمة الدريڤليان، وبينما كانت تقترب من أبواب المدينة، طلبت الأرملة الحزينة إقامة "وليمة جنازة" عند التلّ الذي دُفن تحته إيغور.
وبينما كانوا لا يزالون غافلين عن مصير الوفود التي سبق أن أرسلت إلى كييڤ، انضم إليها الدريڤليان بسعادة في وليمة كبيرة تناولوا فيها كميّات وفيرة من المشروبات الكحولية. وعندما تمكن منهم السُكر، ذبحت أولغا وجيشها أكثر من خمسة آلاف دريڤلياني ثمل. لكن خطّتها بالانتقام منهم لم تنته بعد.
ففي العام التالي، غزت أرض الدريڤليان نفسها. وفي معركة أخيرة، حاصرت عاصمتهم. وبعد عام، عرض الدريڤليان دفع الجزية، لكن لم يكن لديهم عسل ولا فراء، فماذا عساهم يقدّمون لها؟ طلبت أولغا ثلاث حمامات وثلاثة عصافير من كلّ بيت. وعند استلامها، علّق رجالها خرقة مغمّسة بالكبريت على أقدام كلّ طائر. وعندما عادت الطيور إلى أعشاشها في البيوت، أشعلت النار في المدينة وهلك الدريڤليان في منازلهم، وبذا اكتمل انتقام أولغا.


كيف نفهم هذه الرواية التي تبدو خيالية وصعبة التصديق؟!
لا ينبغي أن تُؤخذ حكايات العصور الوسطى المبكّرة عن الأرامل الحزينات في طريق الحرب على محمل الجدّ، إذ أنها استُخدمت كأداة أدبية من اجل الترفيه. وفي حالة أولغا، كان الهدف إظهار التحوّل الأخلاقي الكبير الذي حدث لها بعد اعتناقها المسيحية فيما بعد. ومن خلال وصف وحشية أولغا الوثنية، أبرز الكُتّاب الرهبان القوّة الإعجازية للتحوّل، تماما مثلما نسب الكُتّاب البوذيون أعمال القمع الوحشية إلى الإمبراطور الهندي "أشوكا" قبل اعتناقه المسيحية وتثمينه اللاحق لفكرة "الأهيمسا" أو اللاعنف.
ومع ذلك، لا يعني هذا أن القصّة في أيّ من الحالتين أو كليهما محض خيال. إذ يوجد دليل مستقلّ على اغتيال إيغور الذي يُروى أنهم "أسروه ثم ربطوه بجذوع الأشجار ومزّقوه إلى نصفين". ومن المؤكّد أن الانتقام العسكريّ أعقب ذلك. ورغم هذا، تلعب قصّة انتقام أولغا دورا آخر كرمز أدبيّ يعيد تمثيل الطقوس الجنائزية الوثنية الإسكندنافية. فدفْن أفراد وفد الدريڤليان وهم أحياء في قواربهم، مثلا، يحاكي طقس الڤايكنغ في الدفن على متن السفن، حيث كان المتوفّى يُدفن غالبا في قارب مع قربان شعائري.
وإحراق الوفد التالي في الحمّام يمثّل طقوس التطهير بالنار. وقتل جيش أولغا خمسة آلاف من العدوّ وهم مخمورون يمثّل طقس الوليمة الجنائزية المصحوبة بقربان. ومن المعروف أن أرامل المحاربين الإسكنديناڤيين كنّ يمارسن "الساتي"، أي عادة إحراق المرأة لنفسها عند موت زوجها، لكن هذا لم يكن خيارا متاحا لأولغا بسبب صغر عمر ابنها على الحكم.
في عام 954، سافرت أولغا إلى القسطنطينية، حيث اتخذت خطوة تاريخية بالغة الأهمية كأوّل امرأة من عائلة ريوريك تعتنق المسيحية. ووفقا لبعض المصادر، أُعجب الإمبراطور البيزنطي قسطنطين السابع بجمال الأميرة الكييڤية وذكائها، لدرجة أنه "أشار إلى أنها جديرة بالحكم معه في مدينته". وأجابت أولغا بأن هذا غير ممكن لأنها وثنية، "وإذا رغب في تعميدها فعليه القيام بذلك بنفسه، وإلا فإنها لن تقبل التعميد".
وأجرى بطريرك المدينة مراسم التعميد وكان الإمبراطور بمثابة العرّاب لأولغا. وبعد التعميد، ذكّر الإمبراطور أولغا بعرضه للزواج منها. ففكرت مليّا في الأمر ثم قالت: كيف تتزوّجني بعد أن عمّدتني وسمّتني ابنتك؟ هذا محرّم بين المسيحيين كما تعلم أنت بنفسك". وعادت أولغا إلى كييڤ بمباركة من البطريرك مع هدايا ثمينة من الإمبراطور على هيئة "ذهب وحرير وفضّة ومزهريات متنوّعة".
ويبدو أن أولغا كانت على علم بالتهديد المحتمل لاستقلال كييڤ خلال زيارتها للقسطنطينية. ويتضح تردّدها في رفضها الذكيّ لعرض الإمبراطور البيزنطيّ الزواج منها. وبهذه الطريقة، تجنبّت الغزو البيزنطي لكييڤ من خلال الزواج. وهذا كان واضحا من خلال سعيها الى مطالب محدّدة، مثل تعزيز الامتيازات التجارية، وربّما بناء كنيسة تتمتّع باستقلال ذاتي.
لم يتحقّق هدف أولغا في إنشاء مؤسّسة كنسية في كييڤ إلا في عهد حفيدها ڤلاديمير. لكن فشلها ساهم على الأرجح في الحفاظ على استقلال كييڤ عن القسطنطينية. ويبدو أيضا أن نخبة المحاربين في كييڤ قاومت الدين الجديد. إذ يُروى أن أولغا قدّمت المسيحية الى ابنها سفياتوسلاف بقولها: لقد تعلّمت معرفة الله وأنا سعيدة بذلك. وإذا عرفتَ هذا فستفرح". فردّ عليها بقوله: كيف لي وحدي أن أقبل ديناً آخر؟ سيسخر مني أتباعي".
في عام 962، بلغ سفياتوسلاف سنّ الرشد وبدأ حكمه في كييڤ. ومثل والده، كان الحاكم الشابّ محاربا، فدمّر دولة الخزر في منطقة الفولغا السفلى وحاول توسيع أراضي مملكته إلى بلغاريا في نهر الدانوب السفلي، ما أدخله في صراع مع الإمبراطور البيزنطي. وقد حكمت أولغا كييڤ في غياب ابنها الطويل، واهتمّت بأبنائه الصغار. وبعد ستّ سنوات، أثارت حرب سفياتوسلاف ضدّ الإمبراطورية هجوما شاملاً على كييڤ من قبل حلفاء البيزنطيين، أي الأتراك.
كان الحصار الذي تلا ذلك طويلا، وتحمّل شعب كييڤ، بقيادة أولغا، الكثير من المشاقّ بينما بقي سفياتوسلاف في بلغاريا. واضطرّت أولغا، التي كانت قد أصبحت مسنّة، إلى الفرار بالقارب عبر نهر الدنيبر مع أحفادها. ثم عاد سفياتوسلاف، الذي بدا نادما على ما حدث، إلى كييڤ وطرد الجيش التركيّ منها. وتوفّيت أولغا بعد ذلك بوقت قصير بسبب تقدّمها في العمر. وكانت قد أمرت بأن ترتَّب لها جنازة وفقا للطقوس المسيحية.
كان العقدان اللذان أعقبا وفاة أولغا فترة اضطرابات وعدم استقرار لابنها وأحفادها. ففي عام 972، قُتل سفياتوسلاف، بينما كان يواصل حروبه ضدّ الإمبراطورية البيزنطية، على يد الأتراك الذين احتفلوا بانتصارهم عليه بصنع كأس شرب مذهّب من جمجمته. وخاض أبناء سفياتوسلاف الثلاثة حربا أهلية طويلة فيما بينهم، أسفرت عن مقتل اثنين منهم وصعود الثالث، ڤلاديمير، حاكما أوحد على كييڤ.
كان ڤلاديمير في بداية حكمه وثنيّا متديّنا. وقد رأى فرصة لتعزيز مكانته بتقوية علاقته بالإمبراطورية البيزنطية في أواخر القرن العاشر، عندما كان الإمبراطور يخوض حربا أهلية واحتاج إلى قوّات تدعم حملته في شبه جزيرة القرم.
وفي مقابل الدعم العسكري، عُرض على ڤلاديمير الزواج من أخت الإمبراطور البيزنطي، وهو شرف عظيم لم يُمنح إلا لقلّة قليلة من الأجانب. ولم يهتم الإمبراطور بحقيقة أن ڤلاديمير متزوّج من ثلاث نساء ولديه ثلاثمائة جارية. كما منحه الإمبراطور حرّيةً واسعةً في تأسيس كنيسة رسمية في كييڤ. ولا شكّ أن اعتناق ڤلاديمير للمسيحية الأرثوذكسية عام 988 واعتمادها دينا رسميّا لمملكة كييڤ قد كفّر عن خطيئة الأمير كونه "وثنيّا ضالّا".
رغم أن اولغا كانت قد فشلت أثناء حياتها في إقناع ابنها وأحفادها باعتناق المسيحية، إلا أن ذكرى إخلاصها للأرثوذكسية في سنواتها الأخيرة لعبت دورا لا يُستهان به في تحوّل العائلة في نهاية المطاف إلى المسيحية البيزنطية. وبعد قرون، ذكر كتّاب العصور الوسطى تقوى أولغا العميقة مرارا وتكرارا في كتاباتهم، فوصفوها بـ "أولغا القدّيسة" التي كانت "امرأة في الجسد، إلا أنها امتلكت شجاعة رجل" وبأنها "مشرقة بين الكفّار كلؤلؤة في الوحَل".

Credits
ebsco.com
oldnorse.org

الأربعاء، أبريل 23، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • كيف انتقل الناس، في فترة زمنية قصيرة نسبيّا، من الشعور برعب حقيقي من الجبال إلى شعور بالنشوة في المرتفعات الجبلية الشاهقة؟ وكيف انتقل الشعراء من وصف الجبال بـ "الأورام والبثور" إلى استخدام تشبيهات إيجابية للجبال واعتبارها من تجليّات المجد الإلهي؟
    تذكر مارجوري نيكلسون في كتابها "من كآبة الجبال إلى مجدها" أن معظم الشعراء الذين تغنّوا بالجبال لم يفعلوا ذلك عن تجربةً شخصية، بل ربّما كان تأثّرا بروح العصر الذي عاشوا فيه. ومن هؤلاء الشعراء الرومانسيون الذين نظروا الى الجبال بمزيج من مشاعر الرهبة والافتتان.
    وبالنسبة للشعراء والكتّاب الإنغليز في القرن السابع عشر، كانت الجبال عبارة عن نتوءات قبيحة تشوّه الطبيعة وتهدّد تناسق الأرض، كما كانت رموزا لغضب الله. لكن بعد أقلّ من قرنين من الزمان، تغنّى الشعراء الرومانسيون بجمال الجبال وارتفاعاتها الشامخة التي تسمو بالروح البشرية الى النشوة الإلهية.
    وتتناول المؤلّفة النهضة الفكرية في نهاية القرن السابع عشر التي أحدثت تحوّلا في النظرة الى الجبال من كونها عنصرا لا يجلب الا الكآبة والحزن الى عنصر يذكّر بسموّ الله وجلاله.
    كما تدرس أعمال كتّاب مختلفين من القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، وتتتبّع أسباب هذا التغيير الجذري في إدراك الجبال وعملية حدوثه. وتقتبس من كلام الناقد جون راسكين قوله: يبدو أن الإغريق، كفنّانين، لم يكونوا على دراية بوجود الجبال في العالم. لقد صوّروا بشرا وخيولا ووحوشا وطيورا وجميع أنواع الكائنات الحيّة، ولكن لم يرسموا جبلا واحدا".
    وبحسب نيكلسون، لم تصبح الجبال الرموز الروحية التي نعرفها اليوم إلا في القرن الثامن عشر بين الشعراء والرسّامين الإنغليز، عندما بدأت هذه التشكيلات الطبيعية العالية والمنحوتة في إثارة مشاعر الرهبة والإجلال. وقبل ذلك، كان الناس ينظرون الى القمم الضخمة بتجاهل وخوف ويعتبرونها خشنة وقبيحة ومثيرة للاشمئزاز وعائقا أمام حركة الانسان.
    وفي القرن الحادي والعشرين، بدأنا نستمتع بوفرة من الصور التي تحتفي بكلّ قمّة جبل على وجه الأرض وتصوّر الجبال وهي محاطة بسحب هائلة تتخلّلها أشعّة الشمس أو وهي مشبعة بألوان تثير البهجة والسرور.
    وتذكّر المؤلّفة أن الصينيين أدركوا القيمة الجمالية للجبال قبل الأوروبيين بزمن طويل، بل لقد ابتكروا فنّ رسم المناظر الطبيعية في القرون الأولى قبل الميلاد، كما طوّروا تقليدا يحتفي بالقمم الجبلية الوعرة والأشجار والمعابد فيها. وقد استقى شعراء وحكماء الصين المعرفة والإلهام من هذه المشاهد في مطلع الألفية الأولى، أي قبل أكثر من ألف عام من اكتشافات الكُتّاب الإنغليز.
    وخلال السبعة عشر قرنا الأولى من العصر المسيحي خيّمت ظلمة الجبال على أعين البشر بسبب ما تعلّموه في المدارس وما سمعوه في الكنائس وما قرأوه في الكتب، لدرجة أن الشعراء لم يروا الجبال ولو للحظة وهي بكامل تألّقها ومجدها الذي اعتادت عليه أعيننا الآن.
  • ❉ ❉ ❉

  • ذات مرّة، وقعت جريمة قتل في بروكلين بأمريكا تسبّبت في إنهاء حياة رجل وغيّرت حياة رجل آخر إلى الأبد. الرجل الذي غيّرت حياته يُدعى ديريك هاميلتون. كان عمره 17 عاما عندما أُلقي القبض عليه بتهمة القتل. وكان هذا مرعبا بالنسبة له، لأنه لم يرتكب أيّ جريمة في حياته. وظنّ أن الحقيقة ستظهر في المحاكمة، لكن هذا لم يحدث.
    فقد رفض القاضي شهادة الشخص الوحيد الذي كان بإمكانه إثبات براءته. وأُدين هاميلتون وحُكم عليه بالسجن 25 عاما. ثم استأنف القضية وتمّت تبرئته. لكن بعد ثمانية أشهر فقط، أُلقي القبض عليه مجدّدا بتهمة القتل وحُكم عليه ظلما بالسجن المؤبّد.
    وفي السجن، بدأ هاميلتون دراسة المحاماة وقرأ ما استطاع من كتب القانون. ثم درس قضيّته وقضايا عشرات السجناء الآخرين الذين أُدينوا ظلماً. ورغم أن 30 عاما سُرقت من حياته بلا مبرّر، إلا أنه استطاع مساعدة عدد لا يُحصى من الآخرين بخبرته القانونية التي اكتسبها بالعزيمة والمثابرة. وهو اليوم حرّ طليق.
    معظم الناس الذين يكملون محكوميّاتهم يذهبون الى المجهول وينشغلون بمداواة جروحهم. لكن ديريك لم يفعل ذلك. وهو معروف اليوم بأنه أكثر محامي السجون نشاطا وأحد أهمّ الأشخاص الذين يحاولون إصلاح العدالة الجنائية في أمريكا. وبفضل جهوده، تمكّن من إطلاق سراح ما يزيد على 100 شخص أُدينوا ظلما.
    وفي مقابلة معه، سُئل هاميلتون كيف تجاوزَ شعوره بالغضب والإحباط فقال: لا أظنّ أنني تجاوزت ذلك الشعور، إلا أنني قرّرت تحويله إلى شيء آخر".
    قصّة ديريك هاميلتون تعكس أحد المفاهيم الأساسية في الرواقية، وهو فنّ الرضوخ الذي يعلّم الإنسان تقبّل الأمور الخارجة عن سيطرته بدلا من مقاومتها. والرضوخ لا يعني قبولا سلبيّا ولا استسلاما، بل يعني تَقبُّل الوضع والبحث عن طريقة ما للتغلّب عليه.
    كان الرواقيون يعتقدون أن الكون يحكمه نظام عقلاني وإلهي يُشار إليه عادة باسم "لوغوس" أو القدَر. وأنه بينما لا نستطيع التحكّم في الأحداث الخارجية عندما تُلقي بنا الأقدار في مهبّ الريح، إلا أننا نستطيع ضبط ردود أفعالنا تجاهها وخوض تحدّيات الحياة بصبر وحكمة وأناة.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • ينتمي إرنست لودڤيك كيرشنر إلى مجموعة من الفنّانين الألمان الذين استخدموا الإمكانيات التعبيرية للألوان والأشكال والتوليفات ووظّفوا هذه العناصر في الرسم لتصوير الحياة الحضرية الحديثة في أوائل القرن العشرين.
    وُلِد كيرشنر في ألمانيا عام 1880 وقضى معظم طفولته في فرانكفورت. وعندما تخرّج من المدرسة الثانوية حصل على جائزة أفضل طالب فنون. ثم بدأ دراسة الهندسة المعمارية في دريسدن ولاحقا في ميونيخ. درس أعمال الانطباعيين ثم أسّس مع زملائه الطلاب في دريسدن جمعية الفنّانين التعبيريين المسمّاة "الجسر" عام 1905.
    كان فنّانو هذه المجموعة يسعون إلى أصالة التعبير التي أحسّوا انها فُقدت بسبب ابتكارات الحياة العصرية. وقد تأثّر هؤلاء الفنّانون بالمدرسة الوحوشية وبالرسّام النرويجي إدڤارد مونك في تركيزهم على استكشاف الإمكانيات التعبيرية للألوان والأشكال والتوليف وتوظيفها في رسم صور الحياة المعاصرة.
    كان العديد من الفنّانين أعضاء "الجسر" يشعرون بالنفور من التصنيع ويرون أن الحياة العصرية تُبعد المجتمع عن السلوك الأصيل للعصور السابقة وأنه ينبغي تناول هذا الأمر في لوحاتهم. وقد ألهم التعبيريون الألمان نظرائهم في أوربّا الذين كانوا يحتقرون السلع المصنّعة التي حلّت مكان التقنيات التقليدية، ما أدّى إلى انخفاض الجودة والإبداع لصالح انخفاض الأسعار.
    في مراسلاته مع بعض أصدقائه، كتب كيرشنر أنه وجد دريسدن مكانا مثيرا للاهتمام ويزخر بشخصيات غير عادية تناسب تماما تصويره لحياة المدينة. وقد وجد هذه المدينة مزدحمة وشعر بأنه مضطرّ للسماح لها بأن تغمره وتأخذه في أيّ اتجاه تختاره.
    في الفترة من 1913 إلى 1916 رسم كيرشنر سلسلة من المشاهد لمدينة برلين، ولكن هذه اللوحة لشارع في دريسدن مكتظّ بالمشاة وبعربة ترام هي أحد أعماله الايقونية والمهمّة. ومن الواضح أن موضوعها هو الحشود الصاخبة والأضواء النابضة بالحياة في المدينة الحديثة.
    الشارع في الصورة مزدحم ويشعّ توتّرا. والجميع فيه منعزلون ووجوههم شبحية وأشبه ما تكون بالأقنعة وعيونهم فارغة. ضربات الفنّان الجريئة والمعبّرة والتجسيد المشوّه للشخصيات تثير شعورا بالاضطراب والحركة والطاقة المحمومة للحياة الحضرية في أوائل القرن العشرين.
    وبعض الشخصيات في اللوحة تبدو وكأنها تتقدّم باتجاه الناظر بوجوه تخلو من التعبيرات، بينما يبدو آخرون وكأنهم يبتعدون مديرين ظهورهم. وتحت أقدام المشاة يظهر شارع "ورديّ"، ولأنه لا يوجد ضوء أو ظلال في اللوحة، فإن الشارع يضيف الى المشهد شعورا بالاختناق.
    واختيارات الرسّام للألوان تعزّز الانطباع بأن الحياة في المدينة يمكن أن تكون مزدحمة ومزعجة ومليئة بالقلق. هكذا يرى كيرشنر الحياة العصرية في المدينة: لهاث لا يهدأ وبشر بتعابير شبحية ونظرات تائهة. وبإمكانك أن تجد شيئا مثل هذا في لوحات مونك التي صوّر فيها حياة المساء في شوارع أوسلو.
    في عام 1913، وبعد مشاجرة بين أعضائها، حُلّت جمعية الجسر. وبعدها بعامين أدّى كيرشنر الخدمة العسكرية التطوّعية، وأثناء ذلك أصيب بانهيار عصبي، ثم عانى مرارا من الاكتئاب، ما ترك آثارا على فنّه. وفي عام ١٩٣٣، صنّف النازيون لوحاته بأنها "فنّ منحط"، ثم باعوا أو أتلفوا المئات منها. وفي عام ١٩٣٨، انتحر بإطلاق الرصاص على نفسه.
  • ❉ ❉ ❉

  • عند الزاوية، لديّ صديق
    في هذه المدينة العظيمة التي لا نهاية لها
    ومع ذلك، تمرّ الأيّام والأسابيع سريعا
    وقبل أن أنتبه، يمرّ عام.
    ولا أرى وجه صديقي القديم أبدا
    فالحياة سباق سريع ومرعب
    هو يعلم أنني أحبّه كثيرا
    كما في الأيّام التي كنت فيها اتّصل به ويتّصل بي.
    كنّا أصغر سنّاً وقتها
    والآن نحن مشغولان ومتعبان.
    سئمنا من هذه اللعبة الحمقاء
    سئمنا من محاولة صنع اسم.
    "غداً" أقول "سأزور "جيم"
    فقط لأُظهِر له أنني ما زلت أفكّر فيه.
    لكن الغد يأتي ويذهب
    والمسافة بيننا تتّسع وتكبر.
    عند الزاوية، على بعد أميال
    "هذه برقية يا سيّدي"
    "توفّي جيم اليوم".
    هذا ما نناله ونستحقّه في النهاية.
    عند الزاوية، صديق فقدناه.
    هينسون تاون

  • Credits
    archive.org
    en.henze-ketterer.ch

    الاثنين، أبريل 21، 2025

    شبَكة بينيلوبي


    في لوحة "بينيلوبي والخاطبون"، يصوّر الفنّان جون وليام ووترهاوس مشهدا داخليّا لمنزل في إيثيكا القديمة باليونان، حيث تجلس "بينيلوبي" زوجة أوديسيوس، مرتديةً ملابس حمراء أمام نولها. وتظهر معها خادمتان تساعدانها في نسجها، كلّ منهما ترتدي لباسا زاهي الألوان. وبينيلوبي تدير ظهرها لنافذتين مفتوحتين يطلّ منهما مجموعة من الرجال الذين يتنافسون على كسب ودّها للزواج منها. وأربعة من هؤلاء يقدّمون لها قيثارة وباقة زهور وصندوق مجوهرات وقلادة عنق.
    ترى ماذا يفعل المرء بعد غياب عشرين عاما عن موطنه وبيته؟ أوديسيوس، زوج بينيلوبي، قضى عشر سنوات مشاركا في حصار طروادة وعشرا أخرى في تجواله. هل يقضي ليلته الأولى بعد عودته في النوم مع زوجته أم في سرد قصّة رحلاته الطويلة عليها؟ طلبَ أوديسيوس مشورة الإلهة أثينا، فنصحته بكلا الأمرين ومنحته وقتا طويلا ولم تكن هناك ليلة كتلك من قبل.
    النظر إلى الحياة البشرية بعيني رجل يحاذر الوقوع في المخاطر أمر مأساوي. لكن النظر إلى الحياة بعيني آلهة جبل الأوليمب لا يخلو من لمسة فكاهية. ومن بين جميع الشعراء، استطاع هوميروس أن يرى الأمر من كلا الزاويتين.
    الأوديسّا قصّة مغامرة، وهي أيضا قصّة حقيقية وعميقة عن البشر وعلاقاتهم؛ العلاقة بين الابن وأمّه والابن وأبيه وبين الرجل وزوجته.. وهكذا. وكلّ هذه الروابط الإنسانية يتناولها هوميروس بتحليل مكثّف قلّما رأينا مثله منذ ثلاثة آلاف عام.
    هوميروس يدرك أن الفوز في أصعب المغامرات البشرية يتطلّب من الإنسان أن يخوض أعتى المعارك. وأثناء تلك المعارك، يسترخي الآلهة الخالدون في قمّة جبل الاوليمب على مقاعدهم الوثيرة، يشربون من كؤوسهم الذهبية، ويبتسمون لغرور وطموح هذه المخلوقات البشرية الصغيرة أسفل منهم، متأمّلين حبّهم وكرههم ورغباتهم ومخاوفهم.
    لعشرين سنة، وبينيلوبي زوجة أوديسيوس الوفيّة تنتظر عودته، راجيةً أن يكون ما يزال على قيد الحياة وأن تتاح لها رؤيته من جديد. لكن ما يزال على أوديسيوس أن يتصالح معها ومع أثينا. الإلهة تحبّه وتعتبره إنسانها المفضّل. ولحسن حظّ أوديسيوس، فإن حبّ أثينا له لا يخالطه غيرة أو كراهية.
    غاب أوديسيوس طويلا وعاد الى موطنه متنكّرا في زيّ رجل متسوّل رثّ الثياب، ليجد أن أكثر من مائة شخص قد استولوا على منزله وأخذوا يتنمّرون على زوجته، وكلّ منهم يخطبها لنفسه ويريدها أن تتزوّجه.
    وخلال فترة غيابه الطويل، بدأ الخاطبون يشكّون في أنه قد مات في طروادة أو أثناء عودته الى الوطن. وتحت ذريعة التودّد إلى بينيلوبي، اتخذوا مقرّ إقامتهم في منزل أوديسيوس وتنافسوا على طلب يد زوجته للزواج. وكانت ملزمة، بموجب قوانين الضيافة في أثينا، بإطعام هؤلاء الأوغاد وتسليتهم. كانوا يتسكّعون حولها ويأكلون في منزلها.
    وبدلا من رفضها لهم، وضعت بينيلوبي خطّة لتأخير قرارها، فزعمت أنها ستختار زوجا بعد أن تنتهي من نسج كفن لتقديمه إلى والد أوديسيوس. ولمدّة ثلاث سنوات، كانت تغزل الكفن نهارا ثم تنكث غزلها ليلا بانتظار عودة زوجها.
    كانت تلعب أمام الخاطبين الثقلاء دور العروس المحتملة والمطيعة، بينما ترسّخ نفسها سرّا في قصّتها الخاصّة. وهي في اللوحة تنحني فوق عملها، لا لتختبئ، بل لتُخفي سعيها للحفاظ على نفسها. كما أنها تدرك ما يحيط بها، لكنها تواصل خداعها المحفوف بالمخاطر. وعندما يعلم الخاطبون من إحدى خادماتها أنها تماطل وتخدعهم، يلحّون عليها باختيار زوج من بينهم على الفور.
    أوديسيوس، من ناحيته، احتاج إلى بعض الوقت ليضع خطّة تمكّنه من التغلّب على أولئك المتطفّلين دون أن يَلحق به أو بأهله أذى. ولو كشف عن هويّته لزوجته، لربّما حدثت عواقب غير متوقّعة، لذا أبقى بمكرٍ هويّته سرّا. كان أيضا يريد أن يتأكّد من أن بينيلوبي ما تزال تريده وأنها لا تخطّط للزواج من أحد أولئك الخاطبين المزعجين.
    نسجُ بينيلوبي كان هِبة من أثينا وكانت له معان متعدّدة في الأوديسّا. فمن ناحية، يمكن فهمه من منظور السرد الشعري للملحمة، لأن أيّ قصّة عظيمة هي في الواقع حكاية منسوجة بالكلمات كالخيوط. وكان نسجها رحلة عبر الزمن وحتى اللحظة التي يعود فيها أوديسيوس. وبتنقّلها ذهابا وإيابا على خيوط النول وفكّها تلك الخيوط نفسها كلّ ليلة، كانت تنسج طريقها إلى الأمام.


    كانت تسافر كلّ يوم على أصابعها متحدّية فكرة أن الحياة تحدث فقط في العالم الخارجي وأنه لا يحدث شيء ذو قيمة خارج أنشطة البشر الجماعية. الكثير من الأرواح العظيمة ازدهرت في زنزانة أو سجن أو ضاحية، لكن يجب أن تكون هناك رؤية لما يحدث وأفكار عميقة لخلق التجربة.
    ونسجُ بينيلوبي ونقضها الصبور يمثّلان مفارقة في رحلاتها. فإلغاء ما فعلته يعني العودة إلى الوراء والبدء من جديد. وفكّ الخيوط هو ما يُبقي القصّة مستمرّة لأنه يتطلّب غزل خيوط جديدة. كما أنه يمثّل استعارة لمواقف وعادات وأُطر ذهنية قديمة. وعمل بينيلوب على النول يعني السفر إلى أعماق الذات حيث تتلاقى الخيوط بطريقة تُشعل نور التجربة العميقة.
    وبينيلوبي تستخدم مهارتها في النسج لغايتين، الأولى إبعاد أولئك الخاطبين المزعجين والثانية خلق شيء ما: نسيج خاص لغرض محدّد؛ كفن مخصّص لقبر حماها. إنها تنسج الموت في الحياة، وبنقضها الكفن كلّ ليلة، فإنها أيضا وبطريقة ما، ترفض احتمال الموت. ووراء كلّ هذا أمل، ورفض بأن تتقبّل فكرة موت زوجها رغم غيابه الطويل.
    وكلّ كشف ليليّ للكفن يعكس حالتها النفسية، فهي ممزّقة بين الرجاء واليأس، لكنها لا تستسلم للهزيمة الكاملة. وبهذا التبديل بين الخيوط، خيطا تلو آخر، تعيد تأكيد ذاتها ووفائها باستمرار. في النهار، كانت تضيف إلى نسيجها بدقّة، وفي الليل، تُفكّ خيوطها، محافِظةً على توازن يجسّد ذكاءها وحكمتها. وهذا الاجتهاد والخداع الذكي يتماشى مع حبّ الإغريق للذكاء والمكر الشديدين.
    في هذه الملحمة الخالدة، تضع بينيلوبي خطّة ماكرة للبقاء على طبيعتها دون أن تنكسر، وفي نفس الوقت تبدع أسلوبها الخاص في سرد قصائد البطلات. وفي حين يُحتفى بأوديسيوس بسبب صراعه مع العالم، يجب الاحتفاء بالقوّة الهادئة لبينيلوبي التي تسخّر الفنّ كاحتجاج وتعلّم الآخرين درسا ثمينا في كيفية العيش بين واقعين والتمسّك بموقفها في حرب نفسية طويلة.
    كثيرا ما تثير الارتباطات الأنثوية بالزينة ونسج الأقمشة مخاوف من الأقنعة والحِيَل. كما أن ارتباط النساء بالقماش يستحضر ارتباطات النسيج كفنّ للخداع. وفي قصّة بينيلوبي، لم يكن النسج مجرّد هواية، بل كان أداة استراتيجية في سعيها نحو الاستقلالية والقوّة الداخلية. وبراعتها تشكّل أساسا للنقاشات حول القدرة على التأثير والمرونة والإيمان في مواجهة تحدّيات الحياة المتقلّبة وإثبات أن البطل الأضعف يمكن أن يقلب الموازين أحيانا دون أن يرفع سيفاً؛ فقط بكرة خيط.
    في لوحته، يحتفي ووترهاوس بـ بينيلوبي كرمز للإخلاص والبراعة. ولأن الفنّان رسم الصورة في انغلترا خلال الحرب العالمية الأولى، يمكن اعتبارها ذات صدى في سياق الحرب. فربّما تشير الى تحوّل الأدوار المنزلية مع إرسال الرجال إلى المعركة، وقد ترمز الى احتفاء الرسّام بصمود النساء ووفائهنّ على الجبهة الداخلية.
    بقيّة قصّة بينيلوبي معروفة، إذ يتصل أوديسيوس الماكر بأبيه العجوز وابنه تيليماكوس ويخطّطوون معا للانتقام من الخاطبين وينتصر أوديسيوس أخيرا عليهم بقتلهم. هل أخطأ أم أصاب في قراره بقتلهم؟ هذه مسألة نسبية وتعتمد على تفسير المرء للعدالة والأخلاق والقيم الثقافية السائدة في ذلك العصر.
    بحسب الأوديسّا، بعد أن يموت الخاطبون، وعند وصولهم إلى هيديز أو العالم السفلي، فإنهم لا يشتكون من أوديسيوس وسيفه العظيم، بل يشتكون من شبَكة بينيلوبي وخداعها لهم.

    Credits
    johnwilliamwaterhouse.net
    thearchetypaleye.com