:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، أكتوبر 21، 2010

نوبل ونموذج فارغاس يوسا

بالنسبة للمعجبين بكتابات ماريو فارغاس يوسا، فإن فوزه الأسبوع الماضي بجائزة نوبل للأدب أعاد شيئا من المكانة والاعتبار لجائزة ظلّت تتجاهل دائما المرشّحين الأكثر استحقاقا كـ غراهام غرين وخورخي لويس بورخيس، على سبيل المثال لا الحصر.
وقد بدا الآن أن تلك الحفنة من الرجال الطاعنين في السنّ والقابعين في ستوكهولم تمكّنت أخيرا من اتخاذ قرار صائب. وعلى النقيض من الصيني ليو شياوبو الذي فاز بجائزة نوبل للسلام هذا العام والذي انفجر باكيا في زنزانته الصينية عند سماعه خبر فوزه، ضحك الأديب البيروفي السبعيني ماريو فارغاس يوسا عندما علم الأسبوع الماضي بنبأ فوزه بجائزة نوبل للأدب لهذا العام.
الالتزام العميق لـ يوسا بالأدب وكذلك حياته الشخصية المثيرة للجدل قد لا يناسبان، حسب قوله، النموذج المتوقّع لحائز على الجائزة في القرن الحادي والعشرين. ومن المؤكّد أن نموذجه الخاصّ هو فلوبير الذي بنى مكانته بألم عظيم وبالكثير من الصبر والعمل والعناد والاقتناع.
في فيلم وثائقي اُخرج عنه عام 1990، يقول ماريو فارغاس يوسا: بالنسبة إليّ، الأدب يعني ما كان يعنيه للكثير من كتّاب القرن التاسع عشر. انه ليس التخصّص وليس المهنة التي تضطرّ فيها لعزل نفسك. الأدب أسلوب حياة يفتح الباب أمام الكاتب كي ينهل العديد من الخبرات والتجارب".
روايات يوسا، من "العمّة جوليا وكاتب السيناريو" إلى "الطريق إلى الجنّة" إلى "موت في الانديز" إلى "حفلة التيس" وغيرها، تقدّم مجموعة متنوّعة وواسعة من التجارب التي تضرب بجذورها عميقا في مشاعر الكاتب وتناقضاته الحياتية. وقد قال ذات مرّة: كلّ شيء كتبته كان مبنيّا على تجربة شخصيّة".
"كان الرجل طويلا ونحيلا جدّا وكان يظهر دائما بهيئة جانبية. كانت بشرته غامقة وعيناه تحترقان بنار أبدية". بهذه الطريقة يبدأ ماريو فارغاس يوسا روايته "حرب نهاية العالم" التي يعتبرها أفضل رواياته. وقد قرأت هذه الرواية قبل أكثر من عشرين عاما وما تزال موضوعة فوق رفوف مكتبتي. وأتصوّر انه لا يمكنني أبدا أن أنساها لأنها أحرقت شيئا ما بداخلي. بل ويمكنني القول أيضا إنها تركت عليّ بصمات اكبر من تلك التي تركتها الرواية التي توصف عادة بأنها أهمّ عمل أدبي كُتب باللاتينية في القرن العشرين وهي رواية "مائة عام من العزلة" لـ غارسيا ماركيز.
في عام 1990، عندما رشّح ماريو فارغاس يوسا نفسه لمنصب الرئاسة في بلده بيرو، انتقده مستشاروه على تردّده في نبذ النظام السياسي القديم وإحجامه عن المواجهة المباشرة مع زعيم منظمة الدرب المضيء. وكان فشل يوسا في تلك الانتخابات مبعث ارتياح للكثيرين. الكاتب الكوبي غييرمو كابريرا انفانتي كان قد عبّر عن قلقه في أن يكرّر يوسا نموذج فاكلاف هافل التشيكي، عندما كتب يقول: بالتأكيد سيتمكّن ماريو فارغاس يوسا من توقيع اسمه على المراسيم والقرارات. لكنه لن يستطيع كتابة صفحة واحدة بعد أن يصبح رئيسا".
والغريب أن افتقار يوسا لـ "غريزة القاتل" في السياسة خدمه أكثر ممّا خدم خصومه السياسيين. والمهندس الزراعي الذي هزم يوسا ومن ثمّ فاز برئاسة الجمهورية، أي ألبيرتو فوجيموري، هو الآن نزيل السجن على خلفية اتهامه بالفساد وانتهاك حقوق الإنسان.
وعلى الرغم من أن يوسا يقيم اليوم في نيويورك، إلا انه يمارس في بلده سلطة حقيقية اكبر من تلك التي يمارسها الرئيس البيروفي الحالي آلان غارسيا. وبينما يحاول غارسيا بطريقة يائسة حماية نفسه من اتهامات بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، لا سيّما المذبحة التي راح ضحيّتها حوالي 250 عضوا في منظمة الدرب المضيء الماويّة، فإن ماريو فارغاس يوسا هو الذي يتحدّث ويعمل من أجل بيرو دون أن يؤثّر ذلك على نتاجه الأدبي.
في بعض الأحيان لا نتذكّر سوى بعض التفاصيل الصغيرة من كتب سبق وأن قرأناها منذ زمن بعيد. لكن عندما نعاود قراءة الصفحة الأولى من كتاب، فإن كلّ التفاصيل سرعان ما تبدأ في الكشف عن نفسها بطريقة آلية.
"الرجل النحيل والطويل القامة وذو العينين الحارقتين تشبه ملامحه ملامح المسيح وهو يتجوّل في القرى النائية التي يغطّيها الغبار. وهو يبكي عندما يرى الكنائس المهدّمة ويصلّي موليا وجهه نحو الأرض لمدّة ساعة أو اثنتين. وعندما يبكي فإن النار السوداء في عينيه تتحوّل إلى ومضات مضيئة ومرعبة".
هذا هو احد شخصيّات يوسا الروائية. لكن هذا الشخص الكاريزماتي يصبح في رواية أخرى معلّما شرّيرا من نوعية جيم جونز الذي يقود قطيعه نحو الدمار. وفي ما بعد يتحوّل نفس هذا الرجل إلى زعيم روحي لحركة تمرّد تهدف إلى توحيد وتعبئة الفقراء ضدّ القوى القمعية التي تحكم البرازيل .
إنها رواية تحكي عن ثورة حقيقية حدثت في القرن التاسع عشر. وقد كتبها يوسا بطريقة قاتمة، لكن جريئة ورائعة.
يوسا سبق وأن قال ذات مرّة أننا عندما نقرأ رواية، فإننا نتحوّل إلى كائنات مسحورة هي تلك التي يضعنا الروائي في خضمّها". وعندما تقرأ هذه الرواية، تشعر بأنك مسحور ومنجذب إلى عالمها المليء بالمعجزات والخطايا والدماء والمعارك والنزوات.
عاش ماريو فارغاس يوسا فترة من شبابه في باريس عندما كان يعتنق الفكر الشيوعي في أواخر الخمسينات. وكانت له نقاشات عنيفة دافع فيها عن سارتر ضدّ بورخيس مع أصدقاء مثل كابريرا انفانتي الذين كانوا يقولون بخلاف ذلك.

وأحد النقاشات الأخرى المشهورة هو ذلك الذي نتج عنه لكمة قويّة سدّدها يوسا إلى عين الروائي الكولومبي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز وتركت على وجهه أثرا لا يُمحى.
كانت زوجة يوسا، واسمها باتريشيا، تعبّر عن مخاوفها من احتمال أن يكون زوجها قد أضاع قلبه في مكان آخر. وقد نصحها غارسيا ماركيز بقوله: إذا كنت ترغبين في استعادة ماريو فلا يوجد سوى طريقة واحدة: يجب أن تتظاهري انك على علاقة برجل آخر يغار زوجك منه. وأنا اعرف انه لا يغار في هذا العالم سوى من رجل واحد فقط هو أنا". ويبدو أن باتريشيا طبّقت نصيحة ماركيز على زوجها. وعندما رأى فارغاس يوسا غارسيا ماركيز في المكسيك بعد ذلك بسنوات، بادر الأوّل إلى تسديد لكمة خاطفة إلى عين الثاني ما يزال أثرها باقيا إلى اليوم. وكانت تلك الحادثة سببا في إحداث القطيعة النهائية بين رجلين كان كلّ منهما يحترم الآخر ويودّه بعمق. بل إن يوسا كان قد اختار أدب ماركيز موضوعا لأطروحته للدكتوراة.
اليوم وبعد مرور 28 عاما على فوز غارسيا ماركيز بجائزة نوبل للأدب، لا يبدو أن لـ فارغاس يوسا منافسين واضحين في عالم الأدب. ومع ذلك فإن دافعه للكتابة ما يزال هو نفسه. "في حالتي، الأدب هو نوع من الانتقام. إنه يمنحني ما لا تستطيع منحي إيّاه الحياة الحقيقية. كلّ المغامرات، وكلّ المتع، وكلّ المعاناة، وكلّ التجارب التي لا يمكن أن أعيشها إلا في الخيال". ينتمي ماريو فارغاس يوسا إلى جيل الطفرة من كتّاب أميركا اللاتينية الذين نضجوا في ستّينات القرن الماضي. كان يساريا في سنوات شبابه. وكان اليسار الأمريكي اللاتيني يحظى في بعض الأوقات ببريق خاصّ لدى بعض أعضاء لجنة نوبل الذين سبق وأن منحوا جائزة الأدب إلى شخصيات يسارية مثل الشاعر التشيلي بابلو نيرودا عام 1971 والروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز عام 1982م. ولم يكن منح الجائزة لـ ماركيز بسبب انه كتب تحفة أدبية نادرة هي "مائة عام من العزلة" فقط، وإنما أيضا لأن الرواية كانت تتحدّى الدكتاتوريات الوحشية اليمينية التي عاثت الخراب في المنطقة خلال سنوات الحرب الباردة.
عندما كان غارسيا ماركيز يمارس السباحة مع صديقه الرئيس الكوبي فيديل كاسترو، كانت تطلّعات ماريو فارغاس يوسا اليسارية تتبخّر بفعل ممارسات الفساد السياسي والاقتصادي التي كانت تترسّخ في الكثير من حكومات أميركا اللاتينية.
وعندما وجّه يوسا تلك اللكمة إلى عين ماركيز عام 1976، كان ذلك أيضا مؤشّرا على التوتّر السياسي والإيديولوجي الذي سينشأ مستقبلا ما بين الأديب البيروفي ومجموعة اللحى والقبّعات التي تُحكِم قبضتها على القارّة.
في حقبة الثمانينات، كانت أمريكا اللاتينية واقعة في شرك الإفلاس الناتج عن انتهاج سياسات اقتصادية فاشلة. وقد فقد أدباء المنطقة آنذاك جزءا من بريقهم أيضا. ومع ذلك ففي العام 1990، فاز بجائزة نوبل للأدب الكاتب المكسيكي اوكتافيو باث. وكان باث، مثل فارغاس يوسا اليوم، يدافع عن الأفكار الرأسمالية والديمقراطية في القارّة الأمريكية اللاتينية.
صحيح أن ماريو فارغاس يوسا لم يكن سياسيا جيّدا عندما جرّب العمل بالسياسة. لكن على الأقل، فإن الحكم في أمريكا اللاتينية يتحرّك الآن بعيدا عن الرمز الهمجي الذي تحدّث عنه يوسا في روايته "البيت الأخضر" والتي تصرّ إحدى الشخصيّات فيها على العيش في إحدى غابات البيرو "لأن الناس هناك أفضل وأجمل".
هذا التطوّر يمكن أن تدين به أميركا اللاتينية إلى كتّاب مثل فارغاس يوسا الذي وفّرت كتاباته التسجيلية عن أحداث الغابة السياسية اللاتينية رؤية يمكن للناس من خلالها أن يتلمّسوا بعضا من آمال القارّة ومخاوفها.


Credits
csmonitor.com
theguardian.com

الاثنين، أكتوبر 18، 2010

سجال فلسفي حول حذاء

الحذاء قد يكون أحيانا مجرّد حذاء. لكنه في بعض الحالات يمكن أن يتضمّن الكثير من المعاني والرموز.
في احد الأيّام زار فان غوخ احد الأسواق الشعبيّة في باريس. وهناك رأى زوجا من الأحذية الخشبية البالية. وقرّر أن يشتريهما واحضرهما معه إلى محترفه في حيّ مونمارتر.
وليس من الواضح لماذا اشترى الحذاءين. لكن يمكن أن يكون السبب ببساطة انه كان بحاجة إلى زوج جديد من الأحذية.
وبعد فترة قصيرة قام برسمهما. وسرعان ما أصبح هذان الحذاءان أشهر حذاءين في تاريخ الفنّ الحديث، بالنظر إلى الدور الكبير الذي لعبته هذه اللوحة في الفلسفة الحديثة وعلاقتها بعالم الأفكار.
فرانسيس ليكارت يتناول في هذا المقال المترجم خلفيات هذه اللوحة والطريقة التي استُقبلت بها.

لم يكن فان غوخ يتوقّع أن تثير فردتا حذاء رسمهما في باريس عام 1886م نقاشا فلسفيا ساخنا. وحتّى هذا اليوم، ما يزال الفلاسفة ومؤرّخو الفنّ ينظرون إلى هذه اللوحة ويثيرون من خلالها أسئلة تتمحور حول وظيفة الفنّ وطبيعة الأشياء.
وقد بدأ كلّ هذا الجدل في عام 1936 عندما رأى الفيلسوف الألماني مارتن هايديغر اللوحة في معرض بـ أمستردام. وفي ما بعد، تحدّث عنها في مقال حمل عنوان "أصل العمل الفنّي".
وفي السنوات التالية، كتب علماء ومفكّرون مثل ماير شابيرو وجاك ديريدا وإيان شو وستيفن ميلفيل وجهات نظرهم حول حذاء فان غوخ.
في العام 1886 انتقل فان غوخ إلى العاصمة الفرنسية. كان عمره في ذلك الوقت ثلاثة وثلاثين عاما، وكان يتمنّى أن يصبح جزءا من مشهد الفنّ الطليعي في باريس. وقد رسم هذه اللوحة في محترفه، وفيها يصوّر زوجا من الأحذية القديمة والرثّة.
عندما رأى زملاؤه اللوحة، كان ردّ فعلهم غريبا. بعضهم رأى فيها شيئا عبثيا، بينما تساءل آخرون عن السبب الذي دفع فان غوخ لرسم هذا الموضوع الساذج وما إذا كانت لوحة مثل تلك تصلح لتزيين جدران غرفة الطعام مثلا.
لكن فان غوخ لم يشرح أبدا ما الذي قصده من اللوحة. وبالنسبة للعديد من مؤرّخي الفنّ، كانت اللوحة مجرّد دراسة. وهذا أمر ممكن طبعا. وكان هناك احتمال أن فان غوخ كان يحاول من خلال اللوحة تجريب بعض الألوان. واختياره الحذاء كموضوع سمح له ولا شكّ بالعمل مع الألوان البنّية وتدرّجاتها. وقد مزج فيها اللون البنّي بالأخضر مع ظلال خفيفة من الكريمي. كما وظّف فيها الألوان الزيتية بطريقة سميكة وخشنة إلى حد ما مع ضربات فرشاة واضحة.
لكن يبدو انه كان لهذه اللوحة الصغيرة معنى أعمق بكثير مما يظهر على السطح. وبعد خمسين عاما على رسمها، أي بعد أن مات فان غوخ بزمن طويل، بدأ نزاع بين الفلاسفة ومؤرّخي الفنّ ما يزال مستمرّا إلى اليوم. وقد امتدّ النقاش وتفرّع ليتناول بعض القضايا الكبرى مثل وظيفة الفنّ وطبيعة العمل الفنّي.
الفكرة التي طرحها هايديغر في حديثه عن اللوحة ترتكز على حقيقة أننا نستخدم الأشياء في حياتنا اليومية ونستطيع أن نعرف الغرض من استخدامها. لكنّ جوهرها يظلّ مخفيّا أو مغيّبا عنّا. وهذا الجوهر هو ما يكشف عنه الفنّ. لذا فإن وظيفة العمل الفنّي من وجهة نظره هي أن يكشف لنا عن الجوهر الحقيقي للأشياء.
وعندما نظر هايديغر إلى حذائي فان غوخ توصّل إلى استنتاج مؤدّاه أنهما يخصّان امرأة فلاحة.
لكن كلام هايديغر ووجه بمعارضة من المؤرّخ الأمريكي ماير شابيرو الذي أكّد على انه يستحيل فهم معنى ودلالة اللوحة ما لم نعرف أوّلا نوايا فان غوخ من وراء رسمه لها.
شابيرو، الذي غرق عميقا في مراسلات فان غوخ وأشيائه الخاصّة وكتابات أصدقائه، قال إن العيب في تفسير هايديغر يكمن في انه اسقط مفهومه عن البدائية والترابية على اللوحة. وأضاف إن المشكلة بدأت عندما افترض هايديغر أن الحذاء يخصّ امرأة ريفية. وهو استنتاج خاطئ. وأشار شابيرو أيضا إلى أن الحذاءين يخصّان الفنّان نفسه وأنه عندما رسمهما كان يقطن المدينة. كما رجّح افتراض أن ما اجتذب فان غوخ للموضوع هو الطبيعة الشخصية للحذاءين والشكل الخاصّ الذي اكتسباه بسبب لباسهما أو استخدامهما، في إشارة إلى آثار البلى والتجاعيد الظاهرة على الحذاءين.
بالنسبة لـ فان جوخ، الذي كان يمشي حافي القدمين معظم حياته، كان للحذاء معنى خاصّ. فهو يرمز لفكرة الحياة باعتبارها رحلة روحية. وطبقا لـ شابيرو، فإن فان غوخ عندما رسم الحذاءين فإنه إنما كان يرسم بورتريها رمزيا لنفسه. والتوقيع الظاهر في أعلى يسار اللوحة والمكتوب بأحرف حمراء يرجّح احتمال انه عنوان اللوحة الأصلي.
"زوج من الأحذية" هي واحدة من عدّة لوحات رسمها فان غوخ في فترات مختلفة من حياته. وقد رسم الأحذية وأضفى عليها "شخصيّة" وأولاها اهتماما لا يقلّ عن اهتمامه بلوحاته الأخرى عن الأشخاص والطبيعة.
كان فان غوخ يجد الجمال في كلّ شيء في الحياة اليومية، بما في ذلك الأشياء التي قد لا ينتبه لها معظم الناس، واعتبرها دائما تستحقّ الرسم.
وهناك من النقّاد من أكّدوا على القيمة التأويلية للوحة فان غوخ عن الأحذية. ورأوا أن العمل الفنّي، مهما بدا موضوعه خاملا أو بالغ الشيئية، يمكن فهمه كدليل أو كفكرة مجازية عن واقع اكبر أو حقيقة نهائية.
والآن لنتمعّن قليلا في كلّ هذا الذي قيل عن الحذاءين. بالنسبة لـ هايديغر، فإن اللوحة تعبّر عن حقيقة خاصّة وغير منظورة في الحياة اليومية. وبالنسبة لـ شابيرو، يمكن قراءة اللوحة على أنها بورتريه رمزي للفنّان الذي رسمها. وهايديغر يقول إن الحذاءين لامرأة فلاحة، بينما يؤكّد شابيرو أنهما لرجل من قاطني المدينة هو فان غوخ نفسه.
لكن ما الذي يمكن أن نتعلّمه أو نستفيده من كلّ هذا الجدل؟ أليس من الأفضل أن نتوقّف عن الحديث عن الصورة ونكتفي بالنظر إليها؟
في مرحلة تالية من حياته، كتب فان غوخ إلى أخيه ثيو يقول: أعتقد أن هذه اللوحات يمكن أن تقول لك ما لا استطيع التعبير عنه بالكلمات".
ولهذا السبب بالتحديد، يستحقّ فان غوخ أن نتحدّث عن صوَره. وكلّما تحدث الإنسان عن صورة ما، كلّما تكلّمت الصورة بوضوح أكثر.