بالنسبة للمعجبين بكتابات ماريو فارغاس يوسا، فإن فوزه الأسبوع الماضي بجائزة نوبل للأدب أعاد شيئا من المكانة والاعتبار لجائزة ظلّت تتجاهل دائما المرشّحين الأكثر استحقاقا كـ غراهام غرين وخورخي لويس بورخيس، على سبيل المثال لا الحصر.
وقد بدا الآن أن تلك الحفنة من الرجال الطاعنين في السنّ والقابعين في ستوكهولم تمكّنت أخيرا من اتخاذ قرار صائب. وعلى النقيض من الصيني ليو شياوبو الذي فاز بجائزة نوبل للسلام هذا العام والذي انفجر باكيا في زنزانته الصينية عند سماعه خبر فوزه، ضحك الأديب البيروفي السبعيني ماريو فارغاس يوسا عندما علم الأسبوع الماضي بنبأ فوزه بجائزة نوبل للأدب لهذا العام.
الالتزام العميق لـ يوسا بالأدب وكذلك حياته الشخصية المثيرة للجدل قد لا يناسبان، حسب قوله، النموذج المتوقّع لحائز على الجائزة في القرن الحادي والعشرين. ومن المؤكّد أن نموذجه الخاصّ هو فلوبير الذي بنى مكانته بألم عظيم وبالكثير من الصبر والعمل والعناد والاقتناع.
في فيلم وثائقي اُخرج عنه عام 1990، يقول ماريو فارغاس يوسا: بالنسبة إليّ، الأدب يعني ما كان يعنيه للكثير من كتّاب القرن التاسع عشر. انه ليس التخصّص وليس المهنة التي تضطرّ فيها لعزل نفسك. الأدب أسلوب حياة يفتح الباب أمام الكاتب كي ينهل العديد من الخبرات والتجارب".
روايات يوسا، من "العمّة جوليا وكاتب السيناريو" إلى "الطريق إلى الجنّة" إلى "موت في الانديز" إلى "حفلة التيس" وغيرها، تقدّم مجموعة متنوّعة وواسعة من التجارب التي تضرب بجذورها عميقا في مشاعر الكاتب وتناقضاته الحياتية. وقد قال ذات مرّة: كلّ شيء كتبته كان مبنيّا على تجربة شخصيّة".
"كان الرجل طويلا ونحيلا جدّا وكان يظهر دائما بهيئة جانبية. كانت بشرته غامقة وعيناه تحترقان بنار أبدية". بهذه الطريقة يبدأ ماريو فارغاس يوسا روايته "حرب نهاية العالم" التي يعتبرها أفضل رواياته. وقد قرأت هذه الرواية قبل أكثر من عشرين عاما وما تزال موضوعة فوق رفوف مكتبتي. وأتصوّر انه لا يمكنني أبدا أن أنساها لأنها أحرقت شيئا ما بداخلي. بل ويمكنني القول أيضا إنها تركت عليّ بصمات اكبر من تلك التي تركتها الرواية التي توصف عادة بأنها أهمّ عمل أدبي كُتب باللاتينية في القرن العشرين وهي رواية "مائة عام من العزلة" لـ غارسيا ماركيز.
في عام 1990، عندما رشّح ماريو فارغاس يوسا نفسه لمنصب الرئاسة في بلده بيرو، انتقده مستشاروه على تردّده في نبذ النظام السياسي القديم وإحجامه عن المواجهة المباشرة مع زعيم منظمة الدرب المضيء. وكان فشل يوسا في تلك الانتخابات مبعث ارتياح للكثيرين. الكاتب الكوبي غييرمو كابريرا انفانتي كان قد عبّر عن قلقه في أن يكرّر يوسا نموذج فاكلاف هافل التشيكي، عندما كتب يقول: بالتأكيد سيتمكّن ماريو فارغاس يوسا من توقيع اسمه على المراسيم والقرارات. لكنه لن يستطيع كتابة صفحة واحدة بعد أن يصبح رئيسا".
والغريب أن افتقار يوسا لـ "غريزة القاتل" في السياسة خدمه أكثر ممّا خدم خصومه السياسيين. والمهندس الزراعي الذي هزم يوسا ومن ثمّ فاز برئاسة الجمهورية، أي ألبيرتو فوجيموري، هو الآن نزيل السجن على خلفية اتهامه بالفساد وانتهاك حقوق الإنسان.
وعلى الرغم من أن يوسا يقيم اليوم في نيويورك، إلا انه يمارس في بلده سلطة حقيقية اكبر من تلك التي يمارسها الرئيس البيروفي الحالي آلان غارسيا. وبينما يحاول غارسيا بطريقة يائسة حماية نفسه من اتهامات بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، لا سيّما المذبحة التي راح ضحيّتها حوالي 250 عضوا في منظمة الدرب المضيء الماويّة، فإن ماريو فارغاس يوسا هو الذي يتحدّث ويعمل من أجل بيرو دون أن يؤثّر ذلك على نتاجه الأدبي.
في بعض الأحيان لا نتذكّر سوى بعض التفاصيل الصغيرة من كتب سبق وأن قرأناها منذ زمن بعيد. لكن عندما نعاود قراءة الصفحة الأولى من كتاب، فإن كلّ التفاصيل سرعان ما تبدأ في الكشف عن نفسها بطريقة آلية.
"الرجل النحيل والطويل القامة وذو العينين الحارقتين تشبه ملامحه ملامح المسيح وهو يتجوّل في القرى النائية التي يغطّيها الغبار. وهو يبكي عندما يرى الكنائس المهدّمة ويصلّي موليا وجهه نحو الأرض لمدّة ساعة أو اثنتين. وعندما يبكي فإن النار السوداء في عينيه تتحوّل إلى ومضات مضيئة ومرعبة".
هذا هو احد شخصيّات يوسا الروائية. لكن هذا الشخص الكاريزماتي يصبح في رواية أخرى معلّما شرّيرا من نوعية جيم جونز الذي يقود قطيعه نحو الدمار. وفي ما بعد يتحوّل نفس هذا الرجل إلى زعيم روحي لحركة تمرّد تهدف إلى توحيد وتعبئة الفقراء ضدّ القوى القمعية التي تحكم البرازيل .
إنها رواية تحكي عن ثورة حقيقية حدثت في القرن التاسع عشر. وقد كتبها يوسا بطريقة قاتمة، لكن جريئة ورائعة.
يوسا سبق وأن قال ذات مرّة أننا عندما نقرأ رواية، فإننا نتحوّل إلى كائنات مسحورة هي تلك التي يضعنا الروائي في خضمّها". وعندما تقرأ هذه الرواية، تشعر بأنك مسحور ومنجذب إلى عالمها المليء بالمعجزات والخطايا والدماء والمعارك والنزوات.
عاش ماريو فارغاس يوسا فترة من شبابه في باريس عندما كان يعتنق الفكر الشيوعي في أواخر الخمسينات. وكانت له نقاشات عنيفة دافع فيها عن سارتر ضدّ بورخيس مع أصدقاء مثل كابريرا انفانتي الذين كانوا يقولون بخلاف ذلك.
وأحد النقاشات الأخرى المشهورة هو ذلك الذي نتج عنه لكمة قويّة سدّدها يوسا إلى عين الروائي الكولومبي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز وتركت على وجهه أثرا لا يُمحى.
كانت زوجة يوسا، واسمها باتريشيا، تعبّر عن مخاوفها من احتمال أن يكون زوجها قد أضاع قلبه في مكان آخر. وقد نصحها غارسيا ماركيز بقوله: إذا كنت ترغبين في استعادة ماريو فلا يوجد سوى طريقة واحدة: يجب أن تتظاهري انك على علاقة برجل آخر يغار زوجك منه. وأنا اعرف انه لا يغار في هذا العالم سوى من رجل واحد فقط هو أنا". ويبدو أن باتريشيا طبّقت نصيحة ماركيز على زوجها. وعندما رأى فارغاس يوسا غارسيا ماركيز في المكسيك بعد ذلك بسنوات، بادر الأوّل إلى تسديد لكمة خاطفة إلى عين الثاني ما يزال أثرها باقيا إلى اليوم. وكانت تلك الحادثة سببا في إحداث القطيعة النهائية بين رجلين كان كلّ منهما يحترم الآخر ويودّه بعمق. بل إن يوسا كان قد اختار أدب ماركيز موضوعا لأطروحته للدكتوراة.
اليوم وبعد مرور 28 عاما على فوز غارسيا ماركيز بجائزة نوبل للأدب، لا يبدو أن لـ فارغاس يوسا منافسين واضحين في عالم الأدب. ومع ذلك فإن دافعه للكتابة ما يزال هو نفسه. "في حالتي، الأدب هو نوع من الانتقام. إنه يمنحني ما لا تستطيع منحي إيّاه الحياة الحقيقية. كلّ المغامرات، وكلّ المتع، وكلّ المعاناة، وكلّ التجارب التي لا يمكن أن أعيشها إلا في الخيال". ينتمي ماريو فارغاس يوسا إلى جيل الطفرة من كتّاب أميركا اللاتينية الذين نضجوا في ستّينات القرن الماضي. كان يساريا في سنوات شبابه. وكان اليسار الأمريكي اللاتيني يحظى في بعض الأوقات ببريق خاصّ لدى بعض أعضاء لجنة نوبل الذين سبق وأن منحوا جائزة الأدب إلى شخصيات يسارية مثل الشاعر التشيلي بابلو نيرودا عام 1971 والروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز عام 1982م. ولم يكن منح الجائزة لـ ماركيز بسبب انه كتب تحفة أدبية نادرة هي "مائة عام من العزلة" فقط، وإنما أيضا لأن الرواية كانت تتحدّى الدكتاتوريات الوحشية اليمينية التي عاثت الخراب في المنطقة خلال سنوات الحرب الباردة.
عندما كان غارسيا ماركيز يمارس السباحة مع صديقه الرئيس الكوبي فيديل كاسترو، كانت تطلّعات ماريو فارغاس يوسا اليسارية تتبخّر بفعل ممارسات الفساد السياسي والاقتصادي التي كانت تترسّخ في الكثير من حكومات أميركا اللاتينية.
وعندما وجّه يوسا تلك اللكمة إلى عين ماركيز عام 1976، كان ذلك أيضا مؤشّرا على التوتّر السياسي والإيديولوجي الذي سينشأ مستقبلا ما بين الأديب البيروفي ومجموعة اللحى والقبّعات التي تُحكِم قبضتها على القارّة.
في حقبة الثمانينات، كانت أمريكا اللاتينية واقعة في شرك الإفلاس الناتج عن انتهاج سياسات اقتصادية فاشلة. وقد فقد أدباء المنطقة آنذاك جزءا من بريقهم أيضا. ومع ذلك ففي العام 1990، فاز بجائزة نوبل للأدب الكاتب المكسيكي اوكتافيو باث. وكان باث، مثل فارغاس يوسا اليوم، يدافع عن الأفكار الرأسمالية والديمقراطية في القارّة الأمريكية اللاتينية.
صحيح أن ماريو فارغاس يوسا لم يكن سياسيا جيّدا عندما جرّب العمل بالسياسة. لكن على الأقل، فإن الحكم في أمريكا اللاتينية يتحرّك الآن بعيدا عن الرمز الهمجي الذي تحدّث عنه يوسا في روايته "البيت الأخضر" والتي تصرّ إحدى الشخصيّات فيها على العيش في إحدى غابات البيرو "لأن الناس هناك أفضل وأجمل".
هذا التطوّر يمكن أن تدين به أميركا اللاتينية إلى كتّاب مثل فارغاس يوسا الذي وفّرت كتاباته التسجيلية عن أحداث الغابة السياسية اللاتينية رؤية يمكن للناس من خلالها أن يتلمّسوا بعضا من آمال القارّة ومخاوفها.
csmonitor.com
theguardian.com