:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، مارس 12، 2010

مدينة فوق تلّ

لماذا رسم إل غريكو مدينته "طليطلة" بهذه الطريقة المخيفة والمؤرّقة؟
ترى، هل كان يرسم ظاهرة طبيعية نادرة؟
ما سرّ الإحساس بالضيق والاختناق الذي يبعثه منظر المدينة في اللوحة؟
لماذا تعمّد الرسّام أن لا تتضمّن اللوحة صورا لبشر؟
هل من علاقة للوحة بمحاكم التفتيش وحملات التعذيب والقتل التي تعرّض لها المسلمون واليهود في اسبانيا آنذاك؟
ما الفكرة التي يحاول إل غريكو إيصالها إلينا من وراء أربعة قرون؟
"برايان اورد" يناقش هذه الأسئلة وغيرها في تحليله للوحة إل غريكو "منظر لـ طليطلة"..

وأنا أنظر إلى لوحة إل غريكو منظر لـ طليطلة، تذكّرت السطر الأول من حوار ورد في رواية قلب الظلام لـ جوزيف كونراد. "قال مارلو فجأة: انظر! هذا هو أكثر الأماكن إظلاما وعتمة على وجه الأرض".
إل غريكو لا يقصد أن يخيفنا. بعد أربعمائة عام، ما تزال نواياه غير معروفة. لكن يمكن أن نقول بما يشبه اليقين انه لم يرسم هذه الرؤية لمدينته التي حقّق فيها أعظم نجاحاته الفنية والمالية كي يثير في الناظر شعورا بالرعب. كانت طليطلة مدينة جيّدة بالنسبة لـ إل غريكو. ومن المؤكّد أنه كان ينوي ردّ بعض الجميل إليها.
إذن ما الذي حدث؟ لماذا رسم لها هذه اللوحة الغريبة والمقلقة التي تبدو فيها أشبه ما تكون بمدينة أشباح طاردة ومخيفة؟!
هل في الأمر ما يثير الاستغراب إذا علمنا أن هذه اللوحة تمّ توظيفها في ملصق أكثر من فيلم من أفلام الرعب؟!
لو أن إل غريكو أراد أن يُثني على المدينة ويمتدحها لكان رسمها في ضوء الشمس وليس في هذا الضوء الغريب الذي ينبعث من اللوحة.
لوحة يوهان فيرمير منظر لـ ديلفت هي النقيض الكامل لهذه اللوحة من عدّة وجوه. فهي تستدعي الحضور الجميل لأشعّة الشمس فوق المدينة. في حين أن لوحة إل غريكو تبدو ليلية كما لو أن المدينة أضاءها برق خاطف.
البرق كلمة كثيرا ما تأتي إلى الذهن عند الحديث عن إل غريكو. أحزمة البرق والغيوم المضيئة تتوهّج في سماء بعض مناظره. وميض البرق والشرر، بالنسبة لهذا الرسّام، لها دلالات مقدّسة وغامضة تتخلّل كل شيء.
أتذكّر أنّني كنت أقود سيّارتي ذات ليلة أثناء عاصفة رعدية. كان كلّ شيء حولي حالك السواد عدا مصابيح الإضاءة الأمامية التي انحنت لأسفل بسبب قوّة المطر. وفجأة أضاء نور برق خاطف الطبيعة من حولي. في تلك الثواني القليلة كان بإمكاني رؤية كلّ شيء: البيوت الريفية، الأشجار البعيدة والحقول الموحلة. أكثر التفاصيل دقّة بدت ظاهرة بشكل ساحر. لكن قبل أن استوعب ما حدث، كان كلّ شيء قد تحوّل إلى اسود مرّة أخرى واهتزّت السماء ثانية بفعل زئير الرعد.
هذه هي نوعية الضوء المنبعث في "منظر لـ طليطلة". الضوء المقدّس، الرؤية التي تكشف لك أكثر ممّا يمكنك أن تراه في ضوء الشمس الساطع، الضوء الذي يومض على غير توقّع ويرينا العالم لثانية أو ثوان قبل أن يختفي.
الأمر الذي يصعب تخيّله حتى الآن هو أن "منظر لـ طليطلة" تصوّر مشهدا نهاريا. أريد التأكيد على هذه النقطة لأنها نقيض للمزاج المظلم والعاصف في اللوحة. ذات مرّة، كتب مؤرّخ الفنّ جوناثان براون يقول: في عالم إل غريكو، لا تشرق الشمس أبدا". لكنّ هذه اللوحة هي استثناء عن القاعدة.
لاحظ الظلال المخيّمة على واجهة القصر الذي يطلّ على المدينة إلى اليمين. أشعّة الشمس الساطعة يمكن رؤيتها على العشب وكذلك على الحصن المقام على التلّ إلى اليسار. انه يوم عاديّ. هناك عواصف رعدية في الأفق وظلامها يعزّز النور المنعكس على مباني المدينة.
احد الأشياء الغريبة في هذا العمل هو انه يمكن أن يُفسّر باعتباره ظاهرة طبيعية. النوعية غير الواقعية للمدينة تعود إلى البروز المبالغ فيه لأيّ جسم يضيئه نور الشمس في مقابل خلفية السحب الداكنة.
لماذا اختار غريكو أن يجعل طليطلة تبدو غريبة جدّا وكأنها في حلم؟
اللوحة ليست منظرا، بل استحضار شاعري لـ طليطلة. ويصح القول أنها قصيدة حديثة تحوّلت من خلالها المدينة إلى بضع صور معلمية يسهل التعرّف عليها بسرعة مثل قصر الكازار وبرج الكاثدرائية.
لكن نظرة على أيّ صور أخرى لـ طليطلة تُظهر لنا أن إل غريكو ارتكب ما يشبه الانتهاك بتحريكه أهمّ رمز للمدينة، أي كاثدرائيّتها، من وسط المدينة إلى خارج نطاق الصورة، أي إلى الطرف الشرقيّ منها.
اللوحة تبدو مجزّأة وعشوائية، لكنها منمّقة ومتقلّبة وذات جمال غريب.
هذه اللوحة، مع ما فيها من اختلالات ولا مركزية، قد تكون إعلانا آخر من الرسّام عن استقلاليّته الفنية. في لوحاته الأخرى التي تصوّر أشخاصا، يتجاهل إل غريكو النسب الكلاسيكية كي يطيل أجساد وأطراف البشر باسم الأناقة والجمال. و"منظر لـ طليطلة" هي بيان جريء آخر يحاول الرسّام من خلاله أن يتحدّى المحاكاة الخانقة للواقع.
المفارقة الغريبة هي أن إل غريكو وجد هذه الحرّية الفنية في المدينة التي كانت عاصمة محاكم التفتيش. كانت طليطلة، زمن الرسّام، مدينة فخورة لكنها كانت تقف على حافّة الانهيار. فقد عانت ضياع جزء كبير من مجدها عندما نقل منها فيليب الثاني قصره الملكي إلى مدريد في العام 1560م. لكنّها بقيت مركز الكنيسة الاسبانية وظلّ رئيس أساقفتها يجلس على رأس الهرم الكنسي في اسبانيا.
المؤرّخ ريتشارد كاغان كتب عن رغبة رجال الدين جعل طليطلة أبرشية مثالية ونموذجا تقتدي به بقيّة الكنائس في اسبانيا. وأداتهم الأساسية لتحقيق ذلك كانت محاكم التفتيش التي نظّمت شبكة واسعة من الجواسيس مهمّتهم التأكّد من أن معتقدات كلّ شخص "ليست موضع شبهة".
ونتيجة لذلك، أصبحت طليطلة مدينة خالية من مظاهر التسامح وروحية المعارضة. هذه كانت طليطلة إل غريكو: مدينة كانت إلى ما قبل بضعة قرون مثالا في تعدّد وتنوّع الثقافات ومركزا فكريا ازدهرت فيه ترجمة مؤلّفات الإغريق والعرب إلى الاسبانية. كانت طليطلة مركز الإشعاع الفكري في أوربّا كلّها، والآن تحوّلت إلى مكان قاس ومعقل صارم للشمولية المسيحية.

إل غريكو نفسه، وإنْ بنسبة صغيرة، كان جزءا من ماكينة الكنيسة للسيطرة وبسط النفوذ. وهو كان يفضّل ولا شكّ أن يلعب دورا أكثر أهميّة. غير أن أحلامه بالحصول على وظيفة في القصر، وهو ما أغراه بالمجيء إلى اسبانيا منذ البداية، لم تتحقّق أبدا.
وحتّى في طليطلة، فإن آماله في الحصول على أرباح وعقود فنية من الكنيسة الأمّ تبدّدت بعد الجدل الذي أثير حول بعض صوره الدينية. لكنّ أعماله العديدة التي نفّذها لكنائس ومؤسّسات دينية أخرى جعلته داعية ومروّجا للكنيسة الاسبانية. هذه الحقيقة لا يجب أن تدهشنا، كما أنها لا تقلّل من أهميّة إل غريكو الفنّية. فمعظم فنّاني أوربا الكبار كانوا يروّجون، بطريقة أو بأخرى، لأفكار رُعاتهم وأرباب نعمتهم.
المعاني التي تختزنها "منظر لـ طليطلة" متعدّدة وغامضة. فهذه المدينة، التي كانت مركزا للتعليم الإنساني وظلّت في أيام إل غريكو مكان جذب للكثير من المثقّفين وطالبي العلم، تبدو الآن كئيبة ومتمنّعة. لم تعد مدينة للإنسان، بل أصبحت مدينة لله بزهدها وصرامتها.
طليطلة التي تظهر في هذه اللوحة هي، دون شكّ، مدينة لا إنسانية. البشر فيها لا أهمّية لهم، بل هم ضئيلون كالنمل في لوحات سلفادور دالي. هذه المدينة لا يبدو وكأنها من صنع الإنسان. هي أقرب لأن تكون مكانا لغير البشر، وهي أكثر قربا إلى السماء ذات الألوان الغامضة منها إلى الطبيعة الرعوية أسفل منها.
إنها مكان لا يبالي بالاحتياجات الدنيوية للبشر العاديّين. مدينة أشبه ما تكون بمدن الأشباح التي جُفّفت من ألوانها وأصبحت بلا دماء.
والأكثر مدعاة للخوف انه يمكن فهمها كمدينة للتطهير والتصفية: تطهيرها ممّن بقي فيها من المسلمين واليهود ممّن كانوا قد تحوّلوا إلى المسيحية. كانت مهمّة محاكم التفتيش هي استئصال هؤلاء نهائيا لأن الدماء غير النقيّة لأسلافهم جعلتهم موضع شبهة.
فكرة النقاء العرقي وجدت صداها في لوحات إل غريكو عن العذراوات الطاهرات. وكانت تلك رمزا مناسبا لكنيسة مكرّسة للتطهير العرقي والديني.
هل يمكن اعتبار "منظر لـ طليطلة" رؤية عن مدينة تعرّضت للتطهير العرقي؟ الإجابة هي نعم.
عندما كان إل غريكو يعمل في طليطلة، كانت صورته صورة المهاجر اليوناني الكوزموبوليتاني المنفتح على العالم. لكنّ المفارقة هي انه أصبح يروّج لسلطة دينية كانت تمارس علنا منهجية التطهير العرقي والديني.
وكشخص متعلّم وله صداقات فكرية وطموحات، فلا بدّ وانه فكّر في ما ينطوي عليه موقفه ذاك من مفارقة وتناقض. حتّى الاسم المستعار الذي عرفه به العالم، أي إل غريكو الذي يعني اليوناني، كان علامة على وضعه كشخص أجنبي أتى من الخارج. عندما نظر إل غريكو إلى طليطلة رأى فيها مكانا كان يعرف انه لن يكون فيه مقبولا بالكامل. وربّما أراد أن يكرّم المدينة، لكنه لم يكن يستطيع الاحتفاء بها. هناك دائما شيء ما يتعلّق بالمكان الذي يظلّ، بالنسبة لشخص لا يربطه به رباط وجداني، مكانا يخصّ "الآخر".
"منظر لـ طليطلة" صورة مخيفة لمجتمع شمولي، لمكان يسيطر عليه المتعصّبون دينيا. وإل غريكو، الذي لم يكن تنقصه البراعة ولا الذكاء الفنّي، أخرج لنا من خلال هذه اللوحة رؤية مخيفة وغامضة وحقيقية عن اسبانيا في زمانه.
والنظر إلى هذه الصورة من الماضي البعيد بعيون معاصرة قد يعيننا على التنبّؤ بطبيعة المستقبل الذي ينتظرنا، خاصّة ونحن نرى المتطرّفين الدينيين يستجمعون قواهم ويبسطون سيطرتهم على أنحاء متفرّقة من العالم.
لا غرابة إذن أن ترعبنا الصورة وأن تثير مخاوفنا.


Credits
en.wikipedia.org

الأربعاء، مارس 10، 2010

شاعر البيانو

في موسيقى شوبان شاعرية وأصالة. سيولة وانسيابية ألحانه على البيانو لا يمكن وصفها. وقد بلغ من خلالها أعلى درجات الإبداع. لذا يقال إن شوبان فعل للبيانو ما فعله شوبيرت للصوت. شوبان متفرّد كعازف للبيانو. ومن هذه الناحية بالذات لا يمكن مقارنته بأيّ موسيقي آخر.
وصفته رفيقته الأديبة الفرنسية جورج صاند مرّة بأنه "كان يغلق باب غرفته على نفسه لأيّام ويكسر أقلامه ويكتب ويمحو مئات المرّات. وقد كتب شوبان قطعتين من نوع المازوركا أو الرقصات البولندية وهما تعادلان أربعين رواية وتتفوّقان على سائر ما كُتب من أعمال أدبية طوال قرن كامل.
عندما حضرته الوفاة وهو في سنّ التاسعة والثلاثين قال لمن حوله: اشعر أن الأرض خانقة. وهذا السعال يكاد يمزّقني. أتوسّل إليكم أن تتفحصّوا جسدي جيّدا كي لا ادفن حيّا. ولا تنسوا أن تعزفوا موزارت في جنازتي".
المعروف أن شوبان ولد في بولندا لأب فرنسي وأمّ بولندية. لكنه انتقل في ما بعد ليعيش في فرنسا. وبعد وفاته دُفن جثمانه في باريس بينما وضع قلبه في آنية كريستال وأودع داخل عمود بإحدى كنائس وارسو.
في المقال التالي تتناول آن ميدغيت جوانب من حياة شوبان وموسيقاه لمناسبة الاحتفال بمرور مائتي عام على ولادته.

موسيقى شوبان ما تزال إلى اليوم عصيّة على الفهم. المعروف انه لم يكتب سيمفونيات ولا أوبرا. لكن جميع قطعه التي ألفها للبيانو شاعرية وجميلة. مع أن الكثير منها معقّد وصعب من الناحية الهارمونية.
مجموعة معزوفاته المسمّاة بـ الاتيودات Etudes ليست سهلة أبدا. بل ومن الصعب تعليمها لطلاب الموسيقى. وقد بلغ من صعوبتها أن عازف البيانو الكبير والمتخصّص في موسيقى شوبان آرثر روبنسون كان يتجنّب عزف بعضها نظرا لعمقها وتعقيدها، مع أنها توفّر للسامع متعة كبيرة.
أسلوب شوبان فريد من نوعه وخاصّ، وقد كان دائما موضوعا لنقاشات لا تنتهي. موسيقاه ذات لمسة خفيفة وصافية وتعطي انطباعا واهما بأن الموسيقيّ يخلق خطّا لا ينكسر من الصوت يشبه صوت الإنسان. وهذا واضح جدّا في مجموعة موسيقاه التأمّلية والحالمة المسمّاة النوكتيرن Nocturnes والتي يشبّهها البعض بموسيقى أوبرا صديقه فينسينزو بيليني.
ويقال إن شوبان لم يكن حرّا تماما كعازف بيانو، فهناك من الدلائل ما يشير إلى أن اهتزازات مطّردة كانت تنتاب يده اليسرى طوال الوقت.
أحيانا توصف موسيقى شوبان بأنها موسيقى صالونات. أي أنها ليست جادّة. كما أنها ليست ألمانية تماما لأنها لا تلتزم بالتقاليد الموسيقية لمدرسة فيينّا الكلاسيكية العظيمة.
النظرية التي تقول بهشاشة موسيقاه تبدو مرتبطة بالفكرة الرائجة عن شوبان. فهو كان نموذجا للعبقريّ الرومانسي. كان شاحبا ورقيق الحال، كما قُدّر له أن يموت بطريقة مأساوية وهو بعد في سنّ صغيرة نسبيا بعد إصابته بالسلّ. كان يحتاج لعناية امرأة تقوم مقام الأمّ وقد وجدها في شخص الأديبة جورج صاند.
كان شوبان يتلقّى ومضة الإلهام المقدّسة وهو جالس أمام البيانو. ورغم انه كان بارعا في الارتجال، إلا انه كان يبذل جهودا مضنية في تأليف موسيقاه.
كان شوبان مختلفا عن الكثير من معاصريه في انه لم يكن متأثرا بـ بيتهوفن. ولطالما عبّر عن امتعاضه من بداية الحركة الأخيرة من السيمفونية الخامسة. ويبدو أن تأثّره الحقيقيّ كان بـ باخ، خاصّة في مراحل حياته المبكّرة.
ومثل باخ، كان شوبان يكتب موسيقاه في مجموعات، من قبيل استهلالاته الأربع والعشرين Preludes، وموسيقاه التأمّلية أو مجموعة النوكتيرن الحافلة بالتعبيرات الرومانسية.
لكنّه كان رائدا في تأليف الرقصات البولندية "البولونيز والمازوركا" التي تعتمد على أفكار مستوحاة من الموسيقى البولندية والتي كانت تعتبر مثالا على تمسّكه بالمشاعر الوطنية. كان شوبان يتعامل مع مشاعره القومية بجدّية. لكنه أيضا استوحى بعض الألوان الفولكلورية المحليّة مثل الكونشيرتو التركي لـ موزارت والرقصات الهنغارية لـ برامز.
عندما ذهب شوبان إلى فيينّا وهو شابّ، قبل أن يستقرّ في باريس، كان يأنف من موسيقى الفالس الراقصة ويعتبرها ضربا من الموسيقى الشعبية التي تعبّر عن ذائقة رديئة. ومع ذلك، فقد بدأ يكتب موسيقى فالس خاصّة به. صحيح انه ليس من نوعية الفالس الذي يمكن أن يرقص له الإنسان، لكنه مع ذلك يستدعي أجواء ساحات الرقص والفساتين الفضفاضة والملتوية.
وقد ظهر حديثا تسجيلان لـ فالسات شوبان لكلّ من اليس سارا اوت alice-sara-ott.com وانغريد فليتر ingridfliter.com، وكلاهما عازفتا بيانو موهوبتان. لكنّ سماع كلّ فالسات شوبان دفعة واحدة يشبه التهام علبة من الشوكولاته، إذ تتركك وأنت تشعر باعتلال في الكبد والمعدة، مع أن كلا منها له مواطن قوّته الخاصّة به.
إن التعامل مع فالسات شوبان ينطوي على الكثير من الصعوبة. وعزفها يشبه عبور الخط الفاصل بين العاطفة والانفعال، بين الإحساس بشيء ما والنظر إلى الوراء بتوق في محاولة لفهم طبيعة ذلك الإحساس.
الرقصات التي استخدمها شوبان هي نوع من التعليق الاجتماعي. ويقال الآن أن النوستالجيا تهدّد بتزوير كلّ شيء هذه الأيام. وأحد الأسرار الكبيرة في عزف موسيقى شوبان قد تكون، ببساطة، أن نتذكّر أن الموسيقى ليست بالجمال الذي تُعزف به.

Credits
study.com

الأحد، مارس 07، 2010

اللوحات العشر الأكثر ترويعاً وعُنفاً


اللوحات القاتمة والعنيفة في تاريخ الفنّ كثيرة، بل أكثر من أن تُعدّ أو تحصى.
هناك مثلا بعض لوحات بيتر بريغل وإيغون شيلا وتجيسلاف بيشينسكي وجون هنري فوزيلي، وكلّها جديرة بأن تحتلّ مكانا بارزا في قائمة تتناول مثل هذا النوع من الأعمال الفنّية.
في هذه القائمة يستعرض آرثر ويندرمير اللوحات العشر الأكثر ظلمةً ورعباً في تاريخ الرسم العالمي.


كان وليام بليك فنّانا وشاعرا رومانسيا ابتكر أساطير استند فيها إلى الإنجيل وضمّنها رؤى وأفكارا مخيفة كان يزعم انه تلقّاها منذ الصغر.
كان بليك يرسم أشعاره ويزيّنها بصور مائية رائعة حينا ومزعجة أحيانا. كما كُلّف برسم الصور الإيضاحية لكلّ من الإنجيل والكوميديا الإلهية.
من أشهر رسوماته التي وضعها للإنجيل السلسلة المسمّاة التنّين الأحمر العظيم.
في إحدى تلك اللوحات، واسمها التنّين الأحمر ووحش البحر، يرسم بليك تنّينا بملامح إنسان له جناحان هائلان منقوش عليهما نجوم، ربّما في إشارة إلى القوّة الكونية للشرّ.
التنّين الضخم ذو الرؤوس المتعدّدة التي يبرز منها قرون ينظر إلى أسفل حيث يظهر وحش آخر في البحر ممسكا بيد سيفا وبالأخرى ما يشبه الصولجان. هذا الوحش له، هو أيضا، رؤوس كثيرة لكن هيئته اقلّ بشرية من هيئة التنّين.


الفنّان الألماني البريخت ديورر عُرف بلوحاته المذهلة.
من بين أشهر أعماله سلسلة لوحاته عن القيامة والتي تتكوّن من خمسة عشر رسما صمّمها لسفر الرؤيا.
اللوحات تتحدّث عن بعض قيم وأفكار القرون الوسطى التي تتمحور حول الفضيلة وأبعادها الدينية والفكرية والأخلاقية.
من أكثر تلك اللوحات إثارة للخوف والرهبة اللوحة المسمّاة "الفارس والموت والشيطان".
فارس ديورر يمتطي حصانا شاحبا ويمرّ من أمام الموت الذي يأخذ شكل مخلوق متعفّن ومشوّه يمسك بساعة رملية، في إشارة إلى تسرّب وقصَر الحياة.
في اللوحة أيضا أشجار ميّتة وعلى طول الطريق مجموعة من الأهوال والعقبات التي تحاول إعاقة الفارس وإخراجه عن مساره.
الشيطان يتربّص وراء الرجل متّخذا هيئة مخلوق مشوّه، هو الآخر، له قرن طويل ويحمل رمحا ويبتسم ابتسامة ماكرة.
هناك أيضا في اللوحة جمجمة، وسحلية تسير في الاتجاه المعاكس للفارس. معاصرو ديورر ذهبوا إلى انه كان يحاول في اللوحة تصوير فكرة الراهب ايراسموس روتردام عن الفارس المسيحي الذي يجب أن لا يكتفي بتأدية الطقوس الدينية بل أن يلتزم أيضا بقيم الدين وأخلاقيّاته.


في روايته "رحلة إلى نهاية الليل" يصف الروائي الفرنسي لوي فرديناند سيلين بطنا مفتوحا وممزّقا لأحد القادة العسكريين بقوله: كلّ ذلك اللحم كان ينزف بغزارة".
شخصية القائد البديلة تهرع عائدة إلى المعسكر وتصف ما تراه عندما يتمّ تغذية الجنود باللحم. اللحم منتشر في كلّ مكان، في الأكياس وعلى فراش الخيمة وعلى العشب.
كانت هناك أمعاء وأحشاء كثيرة، قطع من الشحوم البيضاء والصفراء، أطراف في كلّ مكان. كان الجنود يتنافسون بضراوة على الظفر بالأجزاء الداخلية وكانت هناك أسراب كثيرة من الذباب تحوم حول المكان.
كانت تلك بعض الفظاعات الجديدة التي أتت بها الحرب. في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، حاول الفنانون والمثقفون أن يعثروا على وسيلة للتعامل مع صدمة الحرب.
وظهرت نتيجة لذلك الفلسفة الوجودية التي حاولت أن تجد للبشر مكانا في هذا الكون العبثي.
الرسّام الانجليزي فرانسيس بيكون ربّما يكون احد أفضل الأمثلة عن فنّ ما بعد الحرب. لوحاته تصوّر بشرا يتعذّبون ويصرخون. وقد حوّل كلّ الرعب الذي تمتلئ به رواية سيلين إلى صور. ورغم انه يستلهم مواضيع بعض لوحاته من أعمال كبار الرسّامين مثل فيلاسكيز، فإنه يلوي الشخصّيات ويلطّخ وجوهها ويترك عليها خطوطا كأنها آثار أنياب ومخالب كما لو أن الرسّام يريد أن يمزّق العالم نفسه.
إحدى أكثر لوحاته المذهلة هي هذه اللوحة "شخص مع لحم" التي يستعير فيها بورتريه الرسّام الاسباني الكبير فيلاسكيز عن البابا اينوسنت العاشر. البابا في لوحة بيكون يتخلّى عن عرشه المجيد وعن ملابسه المخملية الحمراء التي خلعها عليه فيلاسكيز ليبدو جالسا على كرسيّ من الخشب وبعينين فارغتين وفتحات مشوّهة وجلد متعفّن وفم يصرخ، بينما تبدو خلفه قطعتان كبيرتان من اللحم النيئ.


كان رودولف بريسدن فنّانا غير ناجح كما عُرف عنه غرابة أطواره.
في لوحاته بعض من نكهة بليك. وكان يعتبر اوديلون ريدون من بين تلاميذه، ومن هنا تأثيره على الحركة الرمزية.
وقد أعجب بلوحاته بعض أشهر معاصريه مثل شارل بودلير وفيكتور هيغو وغيرهما.
أكثر لوحات بريسدن ذات طابع بشع ومظلم. لوحته "كوميديا الموت" اعتُبرت تتويجا لانجازاته الفنّية.
وفيها يرسم ناسكا جالسا على باب كهفه ومنشغلا بالصلاة والتأمّل.
وعلى طرف المستنقع القريب منه يظهر رجل آخر يبدو في حالة احتضار.
الطبيعة في اللوحة تأخذ شكل شياطين وأشباح وطيور.
وكلّ تفصيل فيها تكتنفه الأهوال والكوابيس: جماجم، عظام متناثرة وهياكل عظمية في أفرع أغصان الأشجار الملتوية.
وفوق المشهد إلى اليسار يظهر المسيح طافيا في الهواء وغير بعيد منه تبدو طيور لها رؤوس أشبه ما تكون برؤوس الفئران.
الروائي الفرنسي شارل ماري هويسمان استوحى هذه اللوحة في روايته "ضدّ الطبيعة" ووصفها بقوله: اللوحة تشبه عمل شخص بدائي، كما أن فيها بعضا من البريخت ديورر. ولا بدّ وأن الفنان رسمها تحت تأثير الأفيون".


الفنّان الفرنسي وليام بوغرو، صاحب اللوحات الجميلة والبريئة غالبا، رسم لوحة مرعبة وحيدة.
كان رسّاما تقليديا ركّز اهتمامه على المواضيع الكلاسيكية.
من بين تلك المواضيع دانتي وكتابه الكوميديا الإلهية.
والغريب أن بوغرو اختار من بين جميع مشاهد الكوميديا الإلهية ذلك المكان من الجحيم الذي يُحكَم فيه على الغاضبين أن يتقاتلوا إلى الأبد على ضفاف نهر ستيكس الأسطوري.
في "دانتي وفرجيل في الجحيم" يرسم بوغرو هذه الحادثة بأدقّ تفاصيل يمكن تخيّلها.
السماء القرمزية للجحيم تتوهّج في الخلفية، بينما يبدو رجلان عاريان في مقدّمة اللوحة وهما مشتبكان في قتال شرّير فيما يقضم احدهما رقبة الآخر كما يفعل مصّاصو الدماء. والى يسار المنظر يبدو كلّ من دانتي وشبح الشاعر فرجيل وهما يتفرّجان على المتصارعَين وقد علت وجهيهما علامات تأفّف ورعب. وتحت السماء الحمراء في الخلفية يبدو شيطان مجنّح قبيح الملامح ومهلك النظرات وهو يراقب ما يحدث بابتسامة راضية وربّما يكون فخورا بنتيجة عمله.


كان اوديلون ريدون رسّاما فرنسيا رمزيا أنجز أفضل أعماله باستخدام الباستيل.
وفي نهايات حياته أبدع لوحات فاتنة بالألوان.
غير أن أعماله المبكّرة كانت الأكثر إثارة للاهتمام. ويصعب الحديث عن لوحة معيّنة من لوحاته، فأعماله كلّها، تقريبا، عبارة عن صور غريبة وأحيانا مخيفة: عنكبوت يبتسم، وآخر يأخذ ملامح وجه إنسان، وأسنان تظهر على مجموعة من الكتب، وعين عملاقة تطلّ على منظر ريفي، وشجرة صبّار لها وجه، ونباتات بأغصان كرؤوس البشر .. إلى غير ذلك.
"الأشباح" تعتبر واحدة من أكثر أعمال ريدون إثارة للرهبة.
وهي تُظهِر امرأة ترتدي ملابس بيضاء وتقف في مكان يسيطر عليه ظلام حالك.
وحول المرأة تظهر أرواح شيطانية وأفاعي وأقنعة تترصّد في الظلام.
ويُحتمل أن لوحة ريدون تصوّر كابوسا، ويمكن أن تكون تصويرا لتوجّس الإنسان من الظلمة وخوفه من المناطق الخفيّة والغامضة.


كانت الرمزية حركة أدبية وفنّية فرنسية. وكانت تركّز غالبا على الأشياء والظواهر المروّعة. الأدباء الرمزيون، مثلا، كانوا مفتونين بالشاعر الأمريكي ادغار الان بو. كما اظهروا اهتماما بلوحات الرسّام الفرنسي غوستاف مورو.
في إحدى لوحاته، واسمها الظهور أو التجلّي، يرسم مورو الرأس المقطوع لـ يوحنّا المعمدان وهو يتراءى لـ سالومي في قصر الملك هارود.
الدم يتدفّق من عنق المعمدان بينما تحدّق فيه سالومي بفم مفتوح ودموع منهمرة.
بقع الدم تغطّي الأرضية بينما يقف الجلاد إلى يمين اللوحة مستندا على سيفه. وسالومي، كما قد يتخيّل الإنسان، تقف وجلة مرعوبة.
الروائي جوريس هويسمان كتب باستفاضة عن هذه اللوحة في إحدى رواياته وقال واصفا إيّاها: في هذه الصورة الوحشية والمؤلمة تمتزج البراءة بالخطر والايروتيكية بالرعب. كانت زهرة اللوتس الطويلة قد اختفت والإلهة قد تلاشت. والآن ثمّة كابوس رهيب يمسك بخناق المرأة بعد أن أصابها الرقص بالدوار وأقضّ مضجعها الرعب.


الفنّان الهولندي يان لويكن يمثل حالة مثيرة. فقد كان شخصا مسيحيا متعصّبا بعد أن عايش تجربة دينية حدثت له في صغره.
كان معتادا على الصلاة والقراءة الدينية إلى حدّ الوسوسة.
ثم أصبح يكتب الشعر الأخلاقي وامتلأ عقله بقصص معاناة المسيح وشهداء المسيحية.
وقد كُلف بعمل الرسوم الإيضاحية لكتاب ديني بعنوان "مرآة الشهداء" يحكي عن حياة الشهداء وتضحياتهم.
بالنسبة لعقل لويكن التقيّ وربّما المشوّش، كان هذا يعني وابلا من صور التعذيب والرعب وأحداث الموت الرهيبة التي عاناها الشهداء على مرّ التاريخ: رجل نصف مطبوخ يُقذف به إلى الحيوانات كي تلتهمه، نار تأكل قدمي رجل، صَلب، طعن بالرماح.. إلى آخره. هذه المشاهد البغيضة والمليئة باللحم البشري المشوي الذي يتصبّب منه الدم، مع كثافة الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة، تجعل من صور لويكن بعض أكثر اللوحات ترويعا وقسوة في تاريخ الفنّ.


قد لا يحتاج هيرونيموس بوش إلى تعريف.
كان هذا الرسّام الهولندي شخصا فريدا من نوعه. كان احد السورياليين الكبار وقد رسم عدّة صور مخيفة لمشاهد مليئة بالبشر والرعب.
في لوحته "إغراء سانت انتوني" يرسم راهبة محبوسة داخل سمكة عملاقة ورجلا يقود كائنا من الزواحف.
وفي لوحته الأشهر حديقة المباهج الأرضية يصوّر بوش في يمين اللوحة تفاصيل من الجحيم يظهر في احدها وحش له رأس طائر وهو يفترس إنسانا بينما يجلس على كرسي مرتفع.
صور هيرونيموس بوش كانت دائما مصدر افتتان الكثيرين. وفي القرون المبكّرة كان الناس ينظرون إلى لوحاته على سبيل التسلية، بينما اسماه البعض رسّام الوحوش والغيلان. في القرن العشرين رأى بعض المؤرّخين والنقّاد في فنّه دلالات عميقة. والبعض يرى فيه رسّاما سورياليا حتى قبل ظهور السوريالية بصورتها الحديثة. وهناك اليوم محاولات كثيرة لتقصّي جذور ومعاني لوحاته الغريبة .


الرسّام الاسباني العظيم فرانشيسكو دي غويا صدَمه مرض فتاك جعله يخشى الموت. كما عانى من الإحساس بالمرارة نتيجة تدهور الأوضاع في بلده وفي العالم.
ونتيجة لذلك شرع في رسم لوحاته السوداء المشهورة على جدران منزله.
وقد أودع في لوحاته تلك العديد من مشاهد الشرّ والحروب وظواهر ما وراء الطبيعة.
لوحته "الماعز" تصوّر مجموعة من الساحرات يتجمّعن حول شيطان اسود له رأس ماعز.
لكن أشهر تلك اللوحات والتي يمكن اعتبارها اللوحة الأكثر رعبا في تاريخ الرسم هي لوحته المسمّاة "زحل يفترس ابنه".
في الأسطورة، يبدأ زحل بافتراس جميع أطفاله مدفوعا بخوفه من أن يُخلع عن عرشه.
هذا الفعل المزدوج، أي التهام الأطفال وأكل لحوم البشر، يصوّره غويا بأكثر الطرق ترويعا وعنفا. زحل العملاق بأطرافه العنكبوتية والبرونزية يقف في الظلام ممسكا بجسد ابنه. وبإمكان المرء أن يرى أصابعه وهي تحفر في الجزء الخلفي من جسد الابن. وقد أكل للتوّ الرأس وأحد الذراعين. فم زحل مفتوح على اتساعه بينما يفترس الذراع الثانية. عيناه تلتمعان بالوحشية والجنون.
هذه البدائية وهذا الرعب قد لا نجد لهما نظيرا في تاريخ الرسم كلّه.


Credits
barnebys.com