:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، يناير 30، 2014

محطّات

من مفكّرة ديلاكروا

في عام 1832، سافر الرسّام الفرنسيّ اوجين ديلاكروا إلى المغرب واسبانيا في بعثة دبلوماسية بعد وقت قصير من احتلال فرنسا للجزائر. وكان ذهابه إلى هناك، ليس لدراسة الفنّ، وإنما كي يهرب من حضارة باريس وعلى أمل أن يرى ثقافة أكثر بدائية.
ديلاكروا سجّل في مفكّرته بعض مشاهداته في تلك الرحلة التي حدثت قبل اختراع السيّارة، أي عندما كان الناس يسافرون على ظهور الخيل والجمال والبغال. هنا مقتطفات ممّا كتبه..
  • بعد مسيرة ساعتين، لاح لنا البحر. وفي القرب رأينا مجموعة من أشجار الصبّار والخيزران، ولمحنا بقعا من العشب البنّي على الرمال. عند عودتي، تذكّرت التباين المدهش بين أشجار الخيزران الصفراء والجافّة وبين بقيّة الأشجار الخضراء. في هذه الناحية، تميل ألوان الجبال إلى البنّي المشوب بخضرة، مع خطوط من الشجيرات الداكنة والضئيلة.
  • رأينا في الطريق مشهدا مثيرا لحصانين، رماديّ وأسود، وهما يتعاركان مع بعضهما البعض. منذ البداية، كانا يتوقّفان قليلا ثم لا يلبثان أن يواصلا قتالهما بضراوة، ما جعلني ارتجف. غير أن ما رأيته كان يستحقّ الرسم. وأنا على يقين من أنني رأيت أكثر الحركات روعة ورشاقة، بما لا يمكن أن يتخيّله حتى روبنز . الحصان الرماديّ لفّ عنقه حول الحصان الآخر لفترة بدا أن لا نهاية لها. كان من المستحيل أن يطلقه. لكن مورني تمكّن أخيرا من الفصل بينهما. وبينما كان ممسكا باللجام، تراجع الحصان الأسود بشراسة، بينما ظلّ الحصان الآخر يعضّه في الخلف بعنف.
    سمحنا بعد ذلك للحصانين بأن يمضيا. لكنّهما استمرّا يتقاتلان فيما هما متّجهان إلى النهر. ثم سقط الاثنان في الماء بينما واصلا عراكهما. وفي نفس الوقت كانا يحاولان الخروج من الماء، وكانت أقدامهما تنزلق في الوحل.
  • في طريق عودتنا، لاحت لنا طبيعة رائعة إلى اليمين: جبال إسبانيا وهي تكتسي بأجمل ألوانها، ثم البحر الذي بدا أزرق تشوبه خضرة داكنة.
  • في يوم الثلاثاء ذهبنا لحضور حفل زفاف يهودي. كان هناك عرب ويهود يقفون عند المدخل. وكان هناك أيضا موسيقيّان، احدهما عازف كمان. وإلى جواره جلست امرأة يهودية جميلة بسترة من القطيفة وأكمام مذهّبة. كان ظلّ المرأة يلوح في منتصف الطريق إلى الباب. وبالقرب منها جلست امرأة أخرى اكبر منها سنّا بملابس بيضاء بالكامل وتغطّيها تماما.
  • صحونا حوالي الثامنة صباحا. تسلّقنا تلّة، والشمس إلى يسارنا. الجبال واضحة المعالم جدّا، واحد وراء الأخر، وفوقها سماء صافية. وقد وجدنا في طريقنا قبائل مختلفة. الرجال يطلقون البنادق وهم يتقافزون في الهواء. وصعدت جبلا في لاكلاو. كان المنظر خلابا للغاية. وتوقّفت للحظات. المنظر رائع من أعلى قمّة الجبل. مشينا نصف ساعة إلى أن بلغنا المخيّم.
  • الجلابية هي زيّ عامّة الناس ولباس التجّار والأطفال. أتذكّر أنّني سبق وأن رأيت جلابية على شخص صغير في اللوفر. أطفال المدارس في هذه الناحية يكتبون دروسهم على ألواح. وفي لحظات الراحة، يذهبون في مجموعات حاملين معهم هذه الألواح على رؤوسهم.
  • في الحيّ اليهودي، رأيت بعض التصميمات الداخلية الرائعة أثناء مروري من هناك. وكانت امرأة يهودية تقف مرتدية قلنسوة حمراء وثيابا بيضاء وسوداء.
  • هذا هو اليوم الأوّل من رمضان. في اللحظة التي ظهر فيها الهلال، وكنّا ما نزال في وضح النهار، أطلقت المدافع نيرانها احتفاءً بالمناسبة. وفي هذه الليلة، كانت هناك ضوضاء رهيبة مع قرع طبول ونفخ أبواق مصنوعة من قرون الخراف. وبرز من بين الحشود رجل أخذ يطلق النار باتجاهنا من مسافة قريبة. لكن تمّ إلقاء القبض عليه فورا. كان غاضبا. ثمّ سُحب من عمامته وطُرح أرضا.
  • ❉ ❉ ❉

    ❉ ❉ ❉

    طبيعة من عالم آخر
    التلوّث الضوئي في المدن الكبيرة يُفقد الإنسان الإحساس بالدهشة وبجمال السماء الليلية. ولهذا السبب، لن تعدم أحيانا من ينصحك، ومعه حقّ، بأن تغادر المدينة باتجاه مناطق الأطراف يوما أو يومين في الشهر حيث الأفق المفتوح والأجواء الصافية، كي تنعم برؤية السماء وتستمتع بأنوار القمر والنجوم.
    وهناك اعتقاد بأن أجمل سماء ليلية في العالم هي تلك التي تعلو صحراء أتاكاما في شيلي. ففيها يمكن أن ترى ثلاثة آلاف نجم بوضوح، كما أنها تخلو من التلوّث الضوئي وتغيب عنها الغيوم طوال معظم السنة.
    في هذا الفيديو "فوق"، سترى طبيعة من عالم آخر وسماء ليلية صافية فوق أتاكاما، أي نفس المكان الذي اختاره المرصد الأوربّي الجنوبي ليبني عليه تلسكوباته المصفوفة الهائلة التي تسمح للفلكيين بالحصول على أفضل مناظر للكون من على الأرض.
    هذا المكان يُعتبر مثاليّا لمراقبة السماء والنجوم والظواهر الفلكية. طبيعة الليل ووتيرة حركة الأشياء مختلفة فيه عن أيّ مكان آخر من العالم. كما أن مناخه متطرّف للغاية، فهو حارّ جدّا نهارا وبارد جدّا ليلا.
    الفيديو قام بتنفيذه بطريقة الفاصل الزمني مصوّر يُدعى نيكولاس بور. وهو محصّلة لمجموعة من الصور التي التقطها على مدى 12 يوما وليلة. بور يصف هذا المكان المرتفع والمدهش بقوله إن أتاكاما صحراء معروفة جيّدا بأن سماءها هي الأكثر صفاءً والأشدّ ظلاما وحلكة على الأرض.
    الهواء الجافّ وصفاء الأفق والارتفاع، كلّها عوامل تتيح سماءً ليلية لا تشبهها سماء أخرى. وقد زارها المصوّر عندما كان كوكب الزهرة قريبا جدّا من مركز مجرّة درب التبّانة، وهو حدث فلكيّ لا يقع إلا مرّة كلّ 8 سنوات أو نحو ذلك.
    كما تزامنت زيارته لهذا المكان مع الاعتدال الخريفيّ الذي يُعتبر وقتا مناسبا لرؤية ظاهرة الضوء البروجي أو "الفجر الكاذب كما يُسمّى بالعربية"، وهو عبارة عن ضوء ينتشر في السماء في المناطق المظلمة وقبل شروق الشمس نتيجة تناثر الغبار الكوني المتناهي الصغر بين الكواكب في الفضاء بتأثير أشعّة الشمس.
    يمكن مشاهدة نسخة فائقة الوضوح من فيلم نيكولاس بور في موقع فيميو على هذا الرابط .

    ❉ ❉ ❉

    راسكن: الفنّان والمعلّم

    إن كنت تبحث عن معلومة أو فكرة يمكن أن تضيف شيئا إلى معرفتك عن لوحة أو رسّام معيّن من القرن التاسع عشر خاصّة، فسيصادفك اسم جون راسكن كثيرا. وهذا حدث معي أكثر من مرّة. لكن مع مرور الوقت اكتشفت أن راسكن لم يكن ناقدا فنّيا فحسب، بل كان أيضا رسّاما وشاعرا ومفكّرا اجتماعيا بارزا وراعيا للفنون وشخصا مُحسنا.
    صحيح أن اهتمامه كان مركّزا، خاصّة، على أمور الفنّ والأدب، لكنّ اهتماماته امتدّت لتشمل مواضيع وفروعا معرفية أخرى كالجيولوجيا والأساطير وعلم الطيور والمعمار وعلم النبات والاقتصاد السياسي والتعليم. باختصار، كان راسكن يتمتّع بثقافة موسوعية.
    وقد توقّفت لبعض الوقت عند آرائه عن التعليم والتي تستحقّ التأمّل. فهو يرى مثلا أن وظيفة التعليم الحقيقية ليست فقط جعل الناس يتعلّمون ويفعلون الأشياء الصحيحة، وإنما أيضا أن يحبّب إليهم المعرفة ويزرع في نفوسهم تعطّشا دائما للحبّ والعدل والحرّية.
    كان راسكن ينظر إلى التعليم باعتباره جزءا لا يتجزّأ من الحياة والسياسة والأخلاق. وكان يَعتبر أن تعليم الأطفال الصدق والنزاهة هو بداية أيّ تعليم، وأننا إذا أصلحنا المدارس فلن نجد سوى القليل مما يتعيّن إصلاحه في السجون.
    ولد جون راسكن وعاش في انجلترا الفيكتورية في القرن التاسع عشر. وقد عمل طوال حياته على تعميق تقدير الناس للفنون والآداب، وهذا بدوره قرّبه من هموم وشجون التعليم. كان يحبّ الرسم كثيرا، ولطالما حرص على تزيين صفحات رسائله وكتبه برسومات توضيحية من عمله هو. كما رسم اسكتشات ولوحات مفصّلة عن الصخور والنباتات والطيور والمناظر الطبيعية والهياكل المعمارية. وكان يشدّد دائما على الربط ما بين الطبيعة والفنّ والمجتمع.
    كتابه بعنوان "الرسّامون المعاصرون" قالت عنه الأديبة المعروفة تشارلوت برونتي انه أزاح عصابة كانت على وجهها ومنحها عينين جديدتين، وهذا أعظم ما يمكن أن يفعله إنسان في هذا العالم.
    وأخيرا تُنسب إلى جون راسكن عبارات مأثورة كثيرة تتناول آراءه في الحياة والناس مثل قوله: من الأفضل أن تخسر كبرياءك من اجل شخص تحبّه على أن تفقد ذلك الشخص بسبب كبريائك العديمة الفائدة".
    وقوله: إن شروق الشمس جميل، والمطر منعش، والرياح تجعلنا متأهّبين، والثلج يبهجنا. ليس هناك شيء اسمه "أحوال جوّية سيّئة". هناك فقط أنواع مختلفة من الطقس الجيّد".
    وقوله: تذكّر أن أجمل الأشياء في هذه الحياة هي تلك التي يعتبرها الناس، عادة، عديمة المنفعة؛ الطاووس والزنبق مثلا".

    ❉ ❉ ❉

    إيقاعات موسيقية

  • من القصائد الكلاسيكية المغنّاة التي تغريك بسماعها مرّة بعد أخرى هذه الأغنية للمطرب الكبير الراحل عوض الدوخي. ورغم أنها ليست بمستوى شهرة بعض أغاني الدوخي الأخرى مثل صوت السهارى ويا ساهر الليل ويا من هواه وصبا نجد، إلا أنها تتميّز، هي أيضا، بجمال كلماتها وأصالة لحنها الذي يذكّرك بموسيقى الملحّنين الكلاسيكيين العرب الكبار.
    عوض الدوخي بالمناسبة أدّى كافّة أشكال الغناء. كما تغنّى ببعض ألحانه كبار المطربين العرب مثل فايزة احمد التي غنّت له صوت السهارى والمطربة العراقية مائدة نزهت التي غنّت له لا باس يا ترف الحشا وصبا نجد. صوت الدوخي فيه شجن وتوق وحزن شفيف، يذكّرك برائحة البحر ومناظر المراكب والغوص وبالأيّام الخوالي.
    وإذا أعجبتك "طال الصدود" فقد تجد في هذه الأغنية أيضا ما يطربك أو يثير بعض اهتمامك بإيقاعها المرح وموسيقاها البديعة. لاحظ أيضا التداخلات والحركات الرائعة لآلة الأكورديون فيها..
  • أحيانا تستمع إلى بداية أغنية ما فتُعجَب بالموسيقى ويشدّك أداء المطرب. لكن بعد قليل، سرعان ما تلاحظ أن اللحن لا ينمو بشكل طبيعي ولا يتناغم بالضرورة مع الكلمات.
    هذه الأغنية للفنّان الكبير أبو بكر سالم هي مثال على الأغاني التي تبدأ بداية قويّة وواعدة ولكنها لا تلبث أن تأخذ مسارا آخر مختلفا بعد المقطع الأوّل. الأغنية، أيّة أغنية، عادة ما يتعثّر لحنها ويتوه عندما يحاول المغنّي مجاملة الشاعر وإرضاءه بتلحين كلّ ما يكتبه من كلام حتى لو كان بعضه مجرّد حشو لا معنى له.
    "لا تنادي" أغنية جميلة، لكن جمالها لا يتجاوز المقطع الأوّل. وكان بالإمكان اختصارها لأربع دقائق بدلا من هذا التطويل المملّ والعكّ الشعريّ والموسيقيّ غير اللازم.
    ومع ذلك يظلّ أبو بكر سالم واحدا من الأسماء اللامعة في سماء الأغنية الخليجية والجزيرية. وأتذكّر الكثير من جمله اللحنية الرائعة التي لا يمكن أن يتوصّل إليها سوى فنّان على قدر عال من الإبداع والحساسية. استمع إلى هذه الأغنية كمثال.
  • لطالما اكتشفت أننا، أبناء هذا الجيل، منقطعون إلى حدّ كبير عن تراثنا الموسيقيّ والغنائي في منطقة الخليج والجزيرة العربية، في حين أن هذا التراث يحوي ثروة هائلة من الموسيقى والمقامات وأشكال الغناء المختلفة والمتعدّدة.
    المشكلة أننا أحيانا لا نتذكّر مطربي الماضي إلا على سبيل تذكّر زمن أبائنا ومقارنته بزمننا، وليس من باب محاولة تذوّق أعمالهم ونقدها وكيف تبدو في سياق زمني مختلف.
    الرعيل الأول من مغنّيي الخليج والجزيرة معظمهم كانوا مناضلين بامتياز، خصوصا النساء، لأنهم أصرّوا على الاشتغال بالفنّ والموسيقى فنشروا الجمال وارتقوا بمشاعر الناس وحاولوا ترويض العنف الكامن في النفوس، متحدّين أفكار التطرّف الديني والأعراف الاجتماعية البالية، ولقوا في سبيل ذلك صنوف العنت والمشقّة.
    من هؤلاء المطربان الراحلان عبدالله فضالة وحمد الطيّار. اسمع الأوّل وهو يؤدّي هذه القصيدة الجميلة من شعر الياس فرحات. واستمع إلى الثاني في هذه الأغنية التي تُعتبر أشهر أعماله.
    على فكرة، عبدالله فضالة ينتمي لعائلة كويتية متديّنة. وكان أبوه يريده أن يصبح رجل دين، لكنه فضّل دراسة الموسيقى. وقد قرأت منذ أيّام مقابلة صحفية قديمة أجريت معه عام 1967، أي نفس العام الذي توفّي فيه. ولفتني قوله: كنت اذهب إلى حفلات السمر وأغنّي فيها. تلك الأيّام أحسن من أيّامكم هذه. كلّ شي عندكم الآن ما يجوز وحرام"!
    هذا الكلام قاله الفنّان قبل أكثر من أربعين عاما. ترى ما الذي يمكن أن يقوله لو بُعث إلى الحياة من جديد ورأى كيف أصبحنا اليوم بفضل أفكار المتشدّدين الظلاميين الذين يعادون كلّ قيمة جميلة وراقية في الحياة؟!
    تأمّل آخر صورة في الرابط الأخير واشكر الله على نعمة العقل!