:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، يونيو 23، 2009

إدوارد هوبر: شاعر العُزلة

من الصعب أن نتذكّر أين ومتى رأينا لوحة لـ إدوارد هوبر لأوّل مرة. ربّما تكون الأماكن والشخصيات التي يصوّرها في لوحاته مألوفة، لأنها موجودة بالفعل في مكان ما من الذاكرة. وهوبر لا يفعل أكثر من أنه يدفع بها مرّة أخرى إلى منطقة الشعور وعتبات الوعي. قطار آخر الليل، مكتب في ناطحة سحاب، أشكال الظلام المخيّم على المدينة، غرف الفنادق. هذه كلّها أجزاء من عالم ادوارد هوبر الغامض ومن الطبيعة الميثية لما عُرف في بعض الأوقات بالحلم الأمريكي.
ولوحات هوبر لا تدعوك للدخول إليها، فهي مليئة بالظلال الداكنة والأماكن المظلمة وببقع من الضوء الساطع وأحيانا المزعج. ويصحّ أن يقال إنها ليست لوحات مضيافة أو ودودة. إنها تدفعك إلى الوراء، تردّ نظراتك وتطلب منك أن تتفحّص مشاعرك وأنت تحاول فهم ما تراه أمامك.
والنظر إلى بعض تلك اللوحات يشبه إلى حدّ كبير النظر إلى صورة ثابتة مقتطعة من احد أفلام الفريد هيتشكوك.
في لوحته "منزل بجوار سكّة الحديد"، يصوّر هوبر منزلا وحيدا في عزلة مزعجة. وباستثناء سكّة الحديد لا توجد بيوت أو مساكن في الجوار. وفي اللوحة، كما في لوحات هوبر الأخرى، إحساس عميق بالتخلّي والفقد والعزلة. كما أن الظلال تعمّق الحضور المشئوم للظلام الذي يخيّم على المكان. وعند التمعّن في اللوحة أكثر، يبدو المنزل الحزين أقرب ما يكون إلى مكان للموت أكثر منه مكانا للحياة.
لذا لم يكن مستغربا أن تصبح هذه اللوحة بالذات مصدر إلهام لمخرجي أفلام الرعب. والواقع أن لوحات هوبر تتضمّن مختلف الحالات المزاجية التي تركّز عليها الأفلام السينمائية المظلمة من حزن واغتراب وخوف وإحباط وتوتّر.. إلى آخره.

إن كلّ لوحة من لوحات ادوارد هوبر هي عبارة عن لحظة متجمّدة في الزمن تترك للناظر حرّية نسج الحكاية التي تناسب جَوّها الخاص.
ورغم أن اللوحات تشبه مقاطع من فيلم ساكن، فإنه يمكن اعتبارها أيضا صُوَرا تعكس، مجتمعةً، طبيعة الحياة التي كان يعيشها الأمريكيون في منتصف القرن العشرين.
كان هوبر يكشف عن نفسه كمراقب عن كثب للناس وللأمكنة. وكان يرصد التغيير الاجتماعي الذي بدأ يعيد صياغة الحياة الحضرية في أمريكا أثناء وبعد فترة الكساد الكبير وما رافقه من انخراط نساء الطبقة الوسطى في سوق العمل وما أحدثه ذلك من تغيير في القيم العائلية والاقتصادية والاجتماعية.
وقد نشأ الفنان وعاش في نيو إنغلاند التي كانت دائما تتمتّع بمكانة مهمّة في الوعي الوطني للأمريكيين بقيمها الطهرانية وبكتابات رالف ايمرسون. بل لقد كانت توصف أحيانا بأنها التجسيد الكامل للشخصية الأمريكية النموذجية.
في ما بعد، زار هوبر باريس. حدث هذا في نهاية العام 1882 م. لكن لم يجذب انتباهه رسّاموها الطليعيون بل وأنكر في ما بعد انه سمع بـ بيكاسو. غير أن لوحاته تذكّر بمونيه وبيسارو وسيزان.
ويقال إن اللوحة التي ألهمته أكثر من غيرها كانت الحرَس الليلي لـ رمبراندت.
مع مرور الأيام، أصبحت مناظره بشخصيّاتها المنعزلة في الفنادق والنزُل والمطاعم والشقق ذات النوافذ المفتوحة من أكثر الأعمال الفنية شعبية ورواجا وتأثيرا في الثقافة الشعبية.
ويقال إن جزءا من جاذبية مناظره يكمن في نكهة التلصّص التي تميّزها. في إحدى اللوحات تظهر امرأة تجلس ساكنة في غرفة الغسيل وهي تحدّق في الفراغ.
وفي "شمس الصباح" نرى امرأة، هي زوجة الفنان، تجلس جانبيا على سرير وهي ترتدي فستانا برتقاليا وتثني يديها حول ساقيها بينما راحت تحدّق خارج النافذة التي تتسلّل عبرها خيوط الضوء لتطبع وجهها ويديها باللون الأرجواني.
وفي لوحة "وقود" تبدو محطّة الوقود على وشك أن تغلق. المضخّات حمراء أمام خلفية مظلمة وقاتمة. والأشجار صلبة، جامدة ولا يمكن اختراقها. بينما يختفي الطريق وراء المبنى دون أن يترك إشارة تدلّ إلى أين يقود.
وهوبر لا يخبرنا فيمَ تفكّر شخصيّات لوحاته ولا ما الذي يجب أن يفكّر فيه الناظر وهو يتأمّلهم.

وفي أعماله المتأخّرة، أصبح الفنان نفسه هو المتلصّص عندما رسم سلسلة ممّا يمكن وصفه بالتهويمات الجنسية. والمعروف انه كان يرسم زوجته فقط لأنها لم تكن تسمح له برسم نساء أخريات. وهي تظهر في لوحاته إمّا متكشفة أو مرتدية ملابس موحية جنسيا.
وأسلوب هوبر السينمائي يعكس شغفه بالأفلام وهوسه بالضوء والظلّ.
ويمكن القول إن لوحاته ليست بورتريهات بالمعنى الشائع، بل لقطات خاطفة لشخصيات غامضة: امرأة تجلس أمام ماكينة الخياطة وأفكارها في مكان بعيد؛ أبعد من النافذة المفتوحة التي تجلس قبالتها. وامرأة متجردة تقف إلى جوار السرير بينما تحدّق عيناها في ما وراء الستارة المفتوحة.
والأشخاص في لوحاته توّاقون، منعزلون وأحيانا مأساويون. وهم يتصرّفون كما لو أنهم أجسام من ظلّ وضوء.
وفي كل لوحاته كان هوبر يركّز على العزلة. حتى دور السينما والمسارح في مناظره تبدو شبه مقفرة إلا من بضعة أشخاص ينتظرون رفع الستارة أو بدء العرض.
وقد كتب أحد معاصريه يقول: إن نسيج لوحات ادوارد هوبر يبدو متداخلا بالكامل مع شخصيّته وأسلوب حياته الخاص. وعندما ينكسر الرابط بين العالم الخارجي الذي يلاحظه وبين عالمه الداخلي الشعوري فإنه سرعان ما يفقد قدرته على الرسم".
في لوحته المسمّاة "غرفة في فندق"، تجلس امرأة لوحدها في غرفتها وهي تمسك كتابا. إنها منطوية على ذاتها، وكتفاها المنحنيان وطريقة جلوسها يوحيان بالاعتكاف واليأس.
وفي "يوم الأحد"، نرى رجلا يجلس لوحده على كرسي وخلفه متاجر مغلقة. لا أحد يعرف من أين أتى أو ما هويّته أو ما الذي جاء يفعله هنا.
غير أن من الواضح أن العالم في الخارج لا يقدّم لهؤلاء الأفراد العاديّين والمجهولين سوى القليل من الراحة والسلوان. لكنْ من المؤكّد أن لكلّ واحد منهم وجوده الذاتي والخاصّ.

إن عالم هوبر هو عالم المدينة بتعقيداتها ونظمها وقيَمِها. وهو يقدّم رؤية عن مدينة مليئة بالحيوات المنعزلة والمتشظية. وكلّ إنسان لا يعرف شيئا عن الآخر، تماما مثل قطع صغيرة رُكبّت في ماكينة ضخمة.
وفي بعض اللوحات يبدو الأشخاص منعزلين عن بعضهم حتى عندما يجمعهم نفس المكان. إنهم حتى يتحاشون النظر إلى بعضهم وكأن كلّ واحد يريد أن يعيش لوحده في كونه الخاصّ به.
بعض النقّاد يشيرون إلى أنه رغم ما تختزنه مشاهد هوبر من حزن وألم، فإنها لا تخلو أحيانا من بعض العاطفة والأمل. فالشخوص المنعزلون في غرَفهم نصف الفارغة لا يبدون في هيئة الضحايا. إن كلا منهم يبحث عن شيء ما من خلال النظر إلى النافذة أو إلى داخل الذات أو التأمّل في الظلام أو في العالم من حوله.
وكلّ واحد ما يزال يحتفظ بحلم ما، بتوق، وبإحساس أن هذه اللحظة ستعبُر إن آجلا أو عاجلا وأن ثمّة شيئا ما مجهولا، شيئا ليس له اسم ويصعب التنبّؤ به، على وشك أن يقع.

من الملاحظ أن المباني في لوحات هوبر ذات طبيعة كاريزماتية خاصّة بها بمعزل عن الناس الذين يستخدمونها.
إنه يصوّرها كبُنى تجريدية لها حياتها الخاصة. كما أن حيويّتها اكبر من تلك التي للناس الذين يسكنونها.
والمباني في لوحاته كثيرا ما تقزّم البشر وتصيبهم بعدوى فقدان الهويّة والضآلة والعزلة وتحيلهم إلى كمّ لا قيمة له. وفي بعض اللوحات، تبدو جدران البيوت والغرف أكثر حميمية وحيوية من البشر أنفسهم.
ودائما فإن معمار الرسّام له حضور اكبر من حضور البشر، ليس فقط لأن المعمار خالد والبشر عابرون، بل لأن البشر يبدون ضيوفا مؤقتين بلا منازل دائمة.
وعندما تتمعّن في بعض مناظره، تشعر أنها لا تتضمّن أي إحساس بالماضي أو المستقبل. والأشخاص غالبا ما ينظرون للخارج توقّعا لشيء ما أو للهرب من الغرفة أو المنزل أو انتظارا لحبيب أو صديق قد يأتي لينقذهم من عزلتهم. وهم في النهاية جزء من الفراغ الهندسي الهائل الذي يمكن أن يوجد بدونهم.
إن هوبر وهو يرسم لا ينسى التأثير المدمّر للبيئة التجريدية على الإنسان الحديث الذي أوجدها. ولا بدّ للناظر إلى لوحاته أن يكتشف خلوّها إلى حدّ كبير من مناظر الطبيعة المألوفة. فناطحات السحاب والشوارع التي تتلوّى بينها حلّت مكان الجبال والوديان في هذا الواقع الجديد.
وهناك ملمح آخر في لوحات هوبر. ففيما يبدو الرجال خاملين عاطفيا، فإن النساء يظهرن حيوية ايروتيكية، كما يوحي بذلك اللون الأحمر الذي غالبا ما يرتدينه عندما لا يكنّ عاريات.
غير أن حضور النساء القلقات والمثيرات لا يفعل الكثير لكسر شؤم المباني القاتل. فاللامبالاة والإحساس بالخواء والعزلة والهشاشة عناصر تقع في صلب هويّتهن الضائعة ووجودهن المستلب.
وإجمالا فإن شخوص هوبر، سواءً كانوا من الرجال أو النساء، هم مجرّد دُمى اجتماعية. على الرغم من أن النساء يَظهرن أحيانا وكأنهنّ يحاولن بيأس قطع الخيوط والتمرّد على الواقع.
لوحة "صقور الليل"، وهي أشهر أعماله، تعتبر نموذجا بليغا حاول هوبر من خلاله تصوير جدب الحياة ووحشتها في ضواحي المدن الكبيرة. والبعض يشبّهها بالمقهى الليلي لـ فان غوخ وبطرقات دي كيريكو المقفرة والموحشة.
في هذه اللوحة، يظهر أربعة أشخاص وهم يجلسون في مطعم في آخر الليل. لقاؤهم هنا عارض. علاقتهم ببعضهم محض مصادفة. وهم لا ينظرون إلى بعضهم ولا يحسّون بوجود بعضهم البعض. إنهم مسجونون داخل قضبان إحساسهم بالغربة وفقدان الانتماء. الضوء الصارخ يوحي بالانكشاف والأشخاص عالقون في مكان ما بين الظلمة والنور. وجودهم يشبه وجود من نجا من عالم عدائي وفاسد. والأشخاص الأربعة أشبه ما يكونون بفصيلة من الكائنات التي تطفو في وعاء من الضوء. والسقف المثلّث المعلّق فوقهم ساطع وحادّ مثل سكّين. والنافذة الزجاجية تعمّق الإحساس السوريالي بالاختراق.

على الجانب الشخصي، كان هوبر يوصف بأنه رجل هادئ جدّا ومتحفّظ للغاية. لم يكن بوهيمياً ولا فوضوياً. حتى عندما كان في باريس، لم تجتذبه مقاهيها ولا صخبها وأضواؤها. وقد نُقل عنه انه قال ذات مرّة: أن تعشق العزلة، هذا يعني أن العالم ليس مكانا جيّدا بما فيه الكفاية بالنسبة لك".
والحقيقة أن هناك شلالا لا ينقطع من الكلمات والأوصاف التي تُطلق على لوحاته: صمت مميت، يأس جنسي، غموض مخيف، رغبات خفيّة، رؤى غيبية.. إلى آخره.
وغالبا فإن الكتّاب والنقّاد والفنانين يرون في لوحاته عزلة ووحدة واغترابا. لكنّ هوبر يفسّر الوحدة بأنها الإحساس بالذات باعتبارها مختلفة عن ذوات الآخرين. وهو شعور قد لا يقتصر على الأمريكيين وحدهم.
إن ميزة هوبر الأساسية هي أنه جعل العزلة والاستبطان ليس فقط ثيمة مهمّة في لوحاته، بل وموضوعا مقبولا لدى الناس، وهو ما يفسّر شعبية لوحاته الكبيرة واحتفاء الناس بها وإقبالهم على اقتنائها على الرغم من مرور عشرات السنين على رحيله.

Credits
edwardhopper.net
smithsonianmag.com