:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، سبتمبر 12، 2009

محطّات

الكتابة ولزوم ما لا يلزم

ليس من عادتي أن أعيد قراءة موضوع سبق وأن كتبته من قبل. ومع ذلك، كسرت هذه القاعدة بطريقة لا إرادية عندما أعدت قراءة موضوعين كنت قد كتبتهما في هذه المدوّنة منذ أربع سنوات. واكتشفت أنني كنت اقرأ ما هو مكتوب وكأنّني اقرأه للمرّة الأولى. كما اكتشفت، وهذا هو الأهمّ، أن ما كتبته كان بحاجة إلى مراجعة وتعديل وتشذيب، ليس في المضمون، وإنّما من حيث الشكل والأسلوب.
الشاهد من هذا الكلام هو تبيان حقيقة أننا لا نكفّ عن التعلّم وتطوير أدواتنا وأساليبنا في الكتابة مع مرور الزمن. القراءة المستمرّة تفتح آفاقا واسعة أمام الكاتب، فهي تثري لغته وتعرّفه على المزيد من أساليب وصيغ الكتابة المختلفة، ما ينعكس في النهاية على أسلوبه الخاصّ في التعبير عن نفسه وعن أفكاره.
أتذكّر للمناسبة أنّني قرأت قبل سنوات مقالا لأحد النقّاد يدعو فيه إلى تعلّم فنّ الكتابة بإيجاز وتجنّب الإسهاب واستخدام الكلمات ذات المعاني المترادفة والتي لا تضيف إلى النصّ شيئا. وأورد ذلك الناقد اسم الروائي الراحل يحيى حقّي كنموذج للكتّاب القلائل الذين يكتبون ببلاغة وإيجاز لدرجة انك لو حذفت كلمة أو مفردة من احد نصوصه لتغيّر المعنى وأثّر ذلك في كامل النصّ.
الكتّاب الكلاسيكيون كانوا يتمسّكون بقاعدة صارمة في الكتابة مؤدّاها أن الكاتب الجيّد يجب أن يوجز قدر الإمكان، وأن الجملة أو الفقرة المكتوبة لا ينبغي أن تتضمّن مفردات غير ضرورية، مثلما أن اللوحة لا يجب أن تحتوي على خطوط وألوان زائدة، ومثلما أن الآلة لا ينبغي أن تتضمّن أجزاء غير ضرورية. لكن هذا الشرط لا يعني أن جميع الجمل يجب أن تكون قصيرة أو أن كافّة التفاصيل يجب إغفالها بالضرورة، بل أن تكون كلّ كلمة دالّة على شيء.
لكن هل هذا ممكن دائما؟ أقصد هل الإيجاز أمر متاح ومطلوب في كلّ الحالات؟ الناقد والعالم الأمريكي جيم ديفيز يرى أن الضرورة وحدها لا تصلح كمعيار للكتابة القويّة والجيّدة، وأن الاختصار أو الإيجاز قد يقيّد حرّية الكاتب ويخلّ بالمعنى الذي يريد إيصاله. ويوضّح رأيه بقوله: لو أخذت مجموعة ما من الكلمات، فإن كلّ كلمة لوحدها ليست ضرورية. لكن لو وضعت هذه الكلمات معا في سياق واحد فإنّها عند ذلك تؤدّي وظيفة مهمّة. ونفس الشيء ينطبق على اللوحة. فليس كلّ خط أو بقعة لون فيها ضروريّا، بل يمكن الاستغناء عنه. لكنّ كلّ الخطوط والألوان من المنظور الكلّي للوحة ضرورية ولا يمكن الاستغناء عنها كي تبدو اللوحة متماسكة ومتكاملة وذات معنى.

❉ ❉ ❉

تولستوي بريشة ريبين

جميل ومعبّر هذا البورتريه الذي رسمه الفنّان إيليا ريبين للروائيّ الروسيّ الكبير ليو تولستوي.
من المعروف أن ريبين رسم لـ تولستوي العديد من البورتريهات، لكنّ هذا يُعتبر أشهرها. وفيه يظهر الأديب الروسي في هيئة قريبة من هيئة الكهنة أو رجال الدين.
النظرات متأمّلة والملامح تشي بالجلال والهيبة، والملابس السوداء تخلع على الشخصية إهابا من الوقار والقداسة.
وجدتُ البورتريه في موقع الويكيبيديا، بعد أن كنت طالعت بعض صفحات من كتاب "آخر أيّام تولستوي" الذي ألفه فلاديمير تشيرتكوف سكرتير تولستوي الشخصيّ وأحد تلاميذه المقرّبين.
الغريب أن هذا البورتريه لم يعجب النقّاد في ذلك الزمان، فقد استنكروا على الرسّام تصويره لأكبر رمز ثقافيّ روسيّ بملامح شبيهة "بملامح أبناء الريف والفلاحين البسطاء"، كما قالوا.
تولستوي لم يكن مجرّد روائي كبير، بل كان أيضا فيلسوفا ومفكّرا حرّا ومصلحا اجتماعيا وداعية للسلام.
ولا بدّ وأنّ هذه السّمات الشخصية المتفرّدة كانت حاضرة في ذهن ريبين وهو يرسم هذا البورتريه الرائع الذي نفذ من خلاله إلى روح الكاتب والى مشاعره وانفعالاته الداخلية.
بالمناسبة، لا يمكن تبيّن جمال ألوان هذا البورتريه وروعة خطوطه ورهافة تفاصيله إلا برؤية اللوحة الكبيرة الموجودة في موقع ويكيبيديا على هذا الرابط ..

❉ ❉ ❉

استراحة موسيقية



❉ ❉ ❉

أغنية البَجَعة الأخيرة

عندما يتقدّم الإنسان في العمر ويتجاوز سنّ الخمسين، ومن ثمّ الستّين، ويتقاعد أخيرا ولا يعود لديه المزيد من الوقت، فإنه يبدأ بالتفكير في كيفية استثمار ما بقي له من سنوات كي يحقّق قدرا من الصفاء الذهنيّ وراحة البال.
وفي هذه المرحلة بالذات يبدأ الإحساس بالتهاب المفاصل وتصبح مشاكل العينين والعظام والمفاصل حديث الطاولات. وأخيرا يدرك الإنسان أن من الأفضل له أن يختار أغنية بجعته الأخيرة.
والأمر في النهاية يشبه كتابة وصيّة أخيرة مقرونة بسؤال: كيف نريد أن يتذكّرنا الآخرون بعد أن تنتهي رحلة العمر؟
الفنّان الفرنسي إدوار مانيه واجه هذا السؤال الصعب في عمر اعتاد معظمنا هذه الأيّام أن لا يفكّروا فيه على الإطلاق.
كان قد بلغ الخمسين من عمره. ولسنوات طويلة كان يعاني من مرض مزعج في العظام. فلم يعد باستطاعته أن يقف لأكثر من بضع دقائق. ومع تقدّم المرض، اضطرّ أخيرا إلى الكفّ عن المشي بسبب الألم الشديد الذي كان يشعر به في ساقيه. وحاول العلاج بالماء والتدليك، ولكنه وجد ذلك أكثر تعذيبا من المرض نفسه.
وتحوّل إلى الرسم بألوان الباستيل في الكثير من أعماله المتأخّرة لسهولة التعامل معها ولأنها لا تتطلّب الكثير من الجهد. وحاول التقاعد في الريف، لكنه سرعان ما شعر بالملل. فعاد إلى المدينة بسرعة حيث ألقى بنفسه في خضمّ الحياة الاجتماعية التي لطالما استمتع بها في شبابه. وهناك رَسَم لوحات قليلة. وفي عام 1880 رسم لوحته "ديكور داخلي لمقهى". وهي لوحة حزينة إلى حدّ ما ومقفرة. ومن الواضح أنها من نتاج إنسان مريض ومنهك.
لكنها كانت مصدر إلهام للوحة أخيرة وعظيمة هي حانة في الـ فولي بيرجير التي رسمها في العام 1882م.
ورغم انه رسم لها اسكتشا في الحانة، إلا أن اللوحة نفسها رُسمت في محترفه حيث استأجر عاملة حانة حقيقية كي تقف أمام طاولة اصطفّت فوقها زجاجات نبيذ وفاكهة وأوان زجاجية. وخلفها مرآة تنعكس عليها البيئة الماجنة للنادي الليليّ ووجه امرأة.
وقد استطاع مانيه العمل على اللوحة لفترات متقطّعة وكانت محصّلة ذلك رائعة للغاية. غير أن الحانة لم تكن لوحته الأخيرة. ففي السنة التالية، عاد مرّة أخرى إلى الريف. ومن وقت لآخر انشغل برسم بضعة مناظر في الهواء الطلق على طريقته الانطباعية.
وكانت أعماله الأخيرة تصويرا لباقات الزهور التي كانت تُرسل له من قبل المهنّئين من جميع أنحاء البلاد. وفي أواخر أبريل من عام 1883، وصلت خادمة احد أصدقائه تحمل إليه مزيدا من الأزهار. وقد طلب منها أن تجلس ليرسم لها لوحة وهي تمسك بالأزهار. ووُجدت اللوحة التي لم تكتمل بعد يوم واحد من وفاته في الثلاثين من ابريل عام 1883 عن واحد وخمسين عاما.


Credits
manet.org