الشاهد من هذا الكلام هو تبيان حقيقة أننا لا نكفّ عن التعلّم وتطوير أدواتنا وأساليبنا في الكتابة مع مرور الزمن. القراءة المستمرّة تفتح آفاقا واسعة أمام الكاتب، فهي تثري لغته وتعرّفه على المزيد من أساليب وصيغ الكتابة المختلفة، ما ينعكس في النهاية على أسلوبه الخاصّ في التعبير عن نفسه وعن أفكاره.
أتذكّر للمناسبة أنّني قرأت قبل سنوات مقالا لأحد النقّاد يدعو فيه إلى تعلّم فنّ الكتابة بإيجاز وتجنّب الإسهاب واستخدام الكلمات ذات المعاني المترادفة والتي لا تضيف إلى النصّ شيئا. وأورد ذلك الناقد اسم الروائي الراحل يحيى حقّي كنموذج للكتّاب القلائل الذين يكتبون ببلاغة وإيجاز لدرجة انك لو حذفت كلمة أو مفردة من احد نصوصه لتغيّر المعنى وأثّر ذلك في كامل النصّ.
الكتّاب الكلاسيكيون كانوا يتمسّكون بقاعدة صارمة في الكتابة مؤدّاها أن الكاتب الجيّد يجب أن يوجز قدر الإمكان، وأن الجملة أو الفقرة المكتوبة لا ينبغي أن تتضمّن مفردات غير ضرورية، مثلما أن اللوحة لا يجب أن تحتوي على خطوط وألوان زائدة، ومثلما أن الآلة لا ينبغي أن تتضمّن أجزاء غير ضرورية. لكن هذا الشرط لا يعني أن جميع الجمل يجب أن تكون قصيرة أو أن كافّة التفاصيل يجب إغفالها بالضرورة، بل أن تكون كلّ كلمة دالّة على شيء.
لكن هل هذا ممكن دائما؟ أقصد هل الإيجاز أمر متاح ومطلوب في كلّ الحالات؟ الناقد والعالم الأمريكي جيم ديفيز يرى أن الضرورة وحدها لا تصلح كمعيار للكتابة القويّة والجيّدة، وأن الاختصار أو الإيجاز قد يقيّد حرّية الكاتب ويخلّ بالمعنى الذي يريد إيصاله. ويوضّح رأيه بقوله: لو أخذت مجموعة ما من الكلمات، فإن كلّ كلمة لوحدها ليست ضرورية. لكن لو وضعت هذه الكلمات معا في سياق واحد فإنّها عند ذلك تؤدّي وظيفة مهمّة. ونفس الشيء ينطبق على اللوحة. فليس كلّ خط أو بقعة لون فيها ضروريّا، بل يمكن الاستغناء عنه. لكنّ كلّ الخطوط والألوان من المنظور الكلّي للوحة ضرورية ولا يمكن الاستغناء عنها كي تبدو اللوحة متماسكة ومتكاملة وذات معنى.
❉ ❉ ❉
جميل ومعبّر هذا البورتريه الذي رسمه الفنّان إيليا ريبين للروائيّ الروسيّ الكبير ليو تولستوي.
من المعروف أن ريبين رسم لـ تولستوي العديد من البورتريهات، لكنّ هذا يُعتبر أشهرها. وفيه يظهر الأديب الروسي في هيئة قريبة من هيئة الكهنة أو رجال الدين.
النظرات متأمّلة والملامح تشي بالجلال والهيبة، والملابس السوداء تخلع على الشخصية إهابا من الوقار والقداسة.
وجدتُ البورتريه في موقع الويكيبيديا، بعد أن كنت طالعت بعض صفحات من كتاب "آخر أيّام تولستوي" الذي ألفه فلاديمير تشيرتكوف سكرتير تولستوي الشخصيّ وأحد تلاميذه المقرّبين.
الغريب أن هذا البورتريه لم يعجب النقّاد في ذلك الزمان، فقد استنكروا على الرسّام تصويره لأكبر رمز ثقافيّ روسيّ بملامح شبيهة "بملامح أبناء الريف والفلاحين البسطاء"، كما قالوا.
تولستوي لم يكن مجرّد روائي كبير، بل كان أيضا فيلسوفا ومفكّرا حرّا ومصلحا اجتماعيا وداعية للسلام.
ولا بدّ وأنّ هذه السّمات الشخصية المتفرّدة كانت حاضرة في ذهن ريبين وهو يرسم هذا البورتريه الرائع الذي نفذ من خلاله إلى روح الكاتب والى مشاعره وانفعالاته الداخلية.
بالمناسبة، لا يمكن تبيّن جمال ألوان هذا البورتريه وروعة خطوطه ورهافة تفاصيله إلا برؤية اللوحة الكبيرة الموجودة في موقع ويكيبيديا على هذا الرابط ..
❉ ❉ ❉